يكشف الناقد المغربي من خلال تناوله لكتابين أحدهما تنظيري نقدي، والآخر سردي إبداعي لحسام الدين نوالي الذي يكشف عن موهبته في الجانبين معا عن العلاقة الخصبة بين الوعي بإواليات النظرية وتطبيقها بشكل إبداعي في أعماله القصصية ولعبها على إرباك القارئ بتجريب لا ينتهي، والرهان على التكثيف بدل التنحيف.

من العقل الحكائي إلى العقل المدبر للحكي

قراءة في كتابي «العقل الحكائي"» و«احتمال ممكن جدا»

محمد أبو العلا

 

بإصدار كتاب (العقل الحكائي، دراسات في القصة القصيرة بالمغرب) عن دار فاليا بني ملال سنة 2017، و(احتمال ممكن جدا) الضام لأربع عشرة قصة والصادر حديثا عن مؤسسة الموجة الثقافية بالفقيه بن صالح السنة نفسها، يكون الناقد والقاصّ حسام الدين نوالي قد أقفل بإحكام مثلث التنظير والنقد بضلع التخييل السردي الذي يعد من الضالعين والمتضلعين فيه بامتياز، ونوالي بهذا البسط  لتفاصيل مشروعه السردي المراوح بين عقل جمعي حكّاء وعقل فردي منشط لعمليتي النقد والسرد، يكون قد أولج قارئه إلى مطبخه السرّي من باب حكي واسع، جاهرا بما خفي من بهارات قصّ على قلته مبهر.

  1. سؤال التنظير/ أسئلة النقد:
    في البداية، ومن باب الاحتراز النقدي وجب تنبيه قارئ (العقل الحكائي) وهو يعبر عتبة التنظير الإمعان في ما ثبّته المؤلف من علامات تشوير/ عناوين فرعية، احتراسا من آفة نقد متسرّع غير مكترث بالتوقف عند الانعطافات الكبرى التي قطعها الحكي الجمعي قبل أن يستوي حكيا ذاتيا ممهورا بأسماء سرّاد منتخبين لنقده، أو موقعاّ باسمه (احتمال ممكن جدا)، حيث تحيلنا المرجعيات الشفاهية والمكتوبة في مقدمة كتاب "العقل الحكائي "بما تكتنزه من أسئلة وإشكالات لافتة على جنوح المباحث الميتاسردية عن هامش خطاب مقدماتي نحو خطاب تنظيري قائم الذات وساند لتجربة الكاتب النقدية والتخييلية. وهو ما يؤشر على أن تنصيص نوالي لحكيه الخاص لم يأت من فراغ، بل هو حكي موصول بوعي مسبق بالنسق الثقافي الحاضن للمادة الحكائية منذ البدايات الأولى لتشكلها، ثم مسارات هذه المادة في سياق التجاذب الأزلي بين النثر والشعر،  قبل المرور في الشق التطبيقي من الكتاب إلى مقاربة تجارب سردية مغربية، حيث سينتقل خطاب التنظير من خلفية متصدرة إلى متخللة لمباحث الفصل النقدي.

وسؤال البدء بالتنظير في كتاب نوالي يعود بنا إلى بدايات التنظير في الثقافة العربية الحديثة الذي كان محكوما من حيث آليات اشتغاله بسياق متوتر بين الأنا والآخر، وبمحفل التلقي الذي عمل من داخل المؤسسة الثقافية على تكييف الإنتاج الروائي وتوجيهه وفق الذوق العام(1)، إلا أن الحاجة إلى هذا الخطاب تعود كلما عاد هذا السياق إلى الواجهة مفكرا فيه على ضوء أسئلة جديدة موصولة بإبدالات الراهن القصصي، وبأوعاء سُرّاد منهم نوالي،  ممن سعوا إلى تمنيع تجاربهم الفردية أمام هشاشة قصّ تفرق دم العديد من مقترفيه بين قبائل النقد.

ويؤشر مبحث داخلي موسوم ب"تشكيل العقل السردي" على استعارة عنوان محمد عابد الجابري العريض "تكوين العقل العربي"، الذي انتقل نقده للتراث من إعادة إنتاج تكراري إلى نقد للعقل، وإلى تحليل للإبيستيمات المنتجة للمعرفة التراثية(2). حيث حذو هذا النقد سيجترح الباحث حسام الدين نوالي أفقا بحثيا مداره تجاوز الاشتغال على شعرية السرد، إلى مساءلة العقل السردي باعتباره أداة منتجة له، وقد كان من توابع الارتدادات التي خلّفها ثقل مقذوف الباحث في بركة التراث السردي العديد من الأسئلة القلقة التي لا حصر لها، منها ما يلتقي فيها مع أسلاف صالحين لبناء تصوره النقدي، ومنها ما يتقاطع فيها مع عاقّين لمؤسسة الشعر كالجاحظ والغدامي، ومنها ما وجب أن ُيحَفّظُ باسم نوالي لسبقه إلى إثارتها، في إشارة  إلى تجاوز فرضية حضور السرد إلى جانب النظم في حياة الجاهلي إلى اختراقه له، حيث لم تبرح المتواليات الحكائية أغلب القصائد السيّارة، وهو بهذا الطرح لا يعزو رجحان التلقي الشعري إلى العقل غير المنتج للسرد؛ بل إلى العقل المُدوّن له، والمنحاز إلى نص منسوب لقائل/ أب شرعي، على خلاف غريمه الحكي الذي "تعاورت عليه الألسن."

وإن بدا المُحصّل من النتائج  تتويجا لنبش جينيالوجي مكلف في التراث السردي، فقد شكلت استراتجية التأويل للنص القرآني إسنادا قويا لأطروحة الباحث، انطلاقا مما خلص إليه من نتائج داعمة، منها أن النص القرآني الكريم المُفحم للقول الشعري بقصّ نثري إعجازي، قد حسم في هذه التراتبية فأنزل القص منزلته اللائقة به في زمن لم يبلغ فيه القصّاصون درجة الشعراء في الاعتراف والتداول، كما ذهب إلى ذلك الباحث وزكّاه تصريحا على الغلاف ب"كون القرآن الكريم قد استند إلى الحكي والقصّ في إعادة تشكيل جديد للعقل السردي، تشكيل ارتبط بمدار الوحي وفلكه، منتقلا بذلك من الشفاهي إلى الكتابي، ومن البداوة إلى المدينة".

وقد سبق للباحث والناقد عبد الفتاح كليطو أن تطرّق لمعضلة التدوين هاته، رابطا تبعات التنكر لبعض المرويات بشروط التنصيص المجحفة الموصولة بالثقافة العربية الكلاسيكية ككل، وبالتالي فالحيف الذي لحق سرودا كبرى كألف ليلة وليلة التي لم تعتبر حينها نصا، مردّه حاجة هذا السرد إلى تنظيم داخلي، إضافة إلى عوامل أخرى محددة للنص منها نسبة القول إلى مؤلف معترف بقيمته كشرط للتدوين(3). وقد شكّل المبحث المعنون بـ"مدنية السرد، فتنة النحافة" محطة لاسترداد الباحث أنفاسه بين فصلين، فصل تشخيص مُكلّف لأعطاب بنيوية متصلة بما سمّاه بالماكرو حكي؛ صلب خطاب التنظير، وفصل تشخيص دور ناقد لم يزغ تأمله - في المرآة الاسترجاعية -عن المتواري من محكي تراثي وهو يقف على مشارف المدينة، راصدا مدارات حكيها الحداثي المدموغ على تنوع سُرّاده بطابع التكثيف الذي بات مقياسا جماليا لقوام القصة الراهن، وشرط خطبة ودها نقدا، إلا أنه لم يكن وهو يفتحص سروده المنخولة بعناية معنيا بإبدالاتها وبنياتها السردية، بقدر ما كان مهتجسا باقتفاء مجرى الحكي من معينه الشفوي الهادر إلى صبّه في قوالب صارت تَضيق فتُضيق من جموح السرد.

هكذا؛ وارتباطا بفضاء مديني لم يعد الرهان في محكيه - كسالف العهد - على الفائض، بل على تقتير سردي معيب، من خلال ما اصطلح عليه ببعض التقليعات القصّية كا"لقصة القصيرة جدا" و"القصة الومضة" و"القصة الإشارة "، في إشارة لبيبة لنحافة شائهة آل من خلالها جسد القصة إلى "مانكان" لا أثر لحضوره السردي غير عبور خاطف، لا يسمح للنقاد إلا بافتحاص آثار الشفط الحثيث على جسدها الناتئ. وهو ما يعني أن زمرة القاصّين موضوع نقده قد استوعبوا جيدا مفهوم القصّ القصير بالعمل على تكثيفه، بدل تنحيفه كما فهمه البعض الآخر.

سؤال المنجز السردي واحتمالاته في «احتمال ممكن جدا»
ترسم فاتحة كتاب (احتمال ممكن جدا) تخوم المحكي بنص دال منتقى من "البيان والتبيين" للجاحظ، ومداره احتفاء الأخير تنظيرا بما سيحتفي به الكاتب سردا، وهو نوسان لغة الكتابة بين ما يُمتع من "اللفظ العامي السوقي" و"بين الشريف من المعاني"، بين "السخيف في بعض المواقع" و"الجزل الفخم من الألفاظ "، وإذ يرسم نوالي من داخل خطاب حجاجي مستعار حدود لغة وسطى لمحفل سرد متوقع، يبدو محفل سارده بلا حدود، سارد على تعدده واحد، لا وازع يفرمله من الداخل إلا كوابح الخارج و"خالو المعطي".

أولى علامات هذا الملمح ما يشير إليه العنوان الداخلي "جمافوعليك أليام" من إشارات التحلل المطلق من إكراهات اللغة وقيود الواقع، مقابل العنوان الخارجي المحدد بحدود بلاغة السرد "احتمال ممكن جدا"، مادام الحكي في جوهره هو احتمال مفارق للواقع، ينضاف إليه التباس العلاقة بين محمول اللفظ الفرنسي je m en fou  "جمافو" المدرّج، واللفظ أعلاه "تقديم" المحيل على الميتاسرد، ثم علاقته بما يليه من سرد آل بفعل التجاذب والتذويت المضاعف إلى نص برزخ واصل وفاصل بين ذات السارد، وتقديم ذات الكاتب المدخول بالسرد.

تقديم:

   "جمافو عليك أليام"

    "حين ولدت كان عمري ثلاثة عشر سنة تقريبا،

ولم يكن في البيت الذي أكبر فيه بيانو كبير.." ص:07.

ويشكل احتلال النصوص لمواقع بعضها البعض، جزءا من التدبير للفضاء النصي للمجموعة القصصية، يسري هذا على النص المركزي: "احتمال ممكن جدا" الذي حظي بالحضور في المتن، كما تبوأ وسم المجموعة القصصية عنوانا، وعلى ظهر الغلاف نصا مستقلا عن نصوص الداخل.

وفق هذه الوتيرة ستتواتر العناوين الداخلية، متجذرة في لغة  اليومي: "قد قد"، "بغلة رجب" أو متعالية عنه ببلاغة بائنة: "فراشة بارسولينا الملونة"، "احتلام ممكن جدا"، "احتمال ممكن جدا". كما تشكل العناوين ذاتها علامات صغرى دالة على ما يعتمل تحتها من نصوص تتقابل فيها لغة محكي أنيق كنص "أغلب قوت أهل البلد"، وآخر مغرق في واقعيته حد الامتياح من معجم لا يغادر كلمة عامية أو إشارة "سوقية"، إلا وساقها للتبليغ عما يقترفه سارده في حق باقي الشخوص المُتحمّلة لجناياته أو المُمعنة في إيلامه، في انسجام مقصود مع نص الجاحظ وما يحيل عليه من بينية بائنة، بين لغة متعالية عن الواقع وأخرى مغرقة فيه.

من هنا فالقسم الذي ما فتئ يقسم به السارد في خضم السرد أو عند التوقيع به أسفله، "والله العظيم"، "أقسم لكم"، "صدقوني" ،"أقسم لكم أيها الكرام" .. وجب أخذه بمحمل النقد، بالنظر إلى هذه الألفاظ كقرائن نصية لتصديق القارئ لعبة اقتحام الكاتب المتواتر حياة السارد،  وبالنظر أيضا إلى تقاطع وقائع محكي ذات الكاتب والمحكي التخييلي التي يعززها الميثاق المربك لنص "التقديم" المسرود، وأخرى نصية يشار إليها بإشارات تعود إلى محيط الكاتب لا السارد كنص "يوم الجمعة":

"نرقب الصف الطويل يعبر القنطرة الخشبية على واد صغير جف الآن يسميه أهل البلدة "ثيط أغلياس".... وعند باب منزل "آيت أداني" كانت كف خشنة غليظة تخبط، وصوت جهوري متين ينادي".

فالسرد وفق هذا المنحى يكون عرضة للتذبذب - من منظور الناقد رشيد بنحدو، وهو هنا يفكر في الرواية -  بين استيحاء موضوعاته وشخصياته من مرجع ملموس، أو استيلاد هذه وتلك من عالم مفارق لا يوجد إلا من خلال الكتابة، هذا إذا لم يعمد إلى التوليف بينها.(4) بناء على هذا فملمح التوليف بين الواقعي والمحتمل في "احتمال ممكن جدا" هو احتمال ممكن جدا. في ضوء هذا التجاذب أيضا سيُقسّم الكاتب غنيمة سرده بين السارد وأقاربه: "الجد" والخال "المعطي" الذي سينفرد بحكيه الخاص في نص "العيادة"، أو يقتسم مع السارد كعك القصّ حال "قصة البهلوان"، حيث بدا السارد في حماقاته اليومية شبيها بشارلي شابلن، يقع وينهض نافضا ما علق به من إهانات الخصم، سواء كان قريبه "المعطي" الذي نكّل به بعد أن لم يظفر برؤية الأستاذة "نعمة "في أمسية البهلوان:

"ماتقريكومش الشهبة اليوم؟ وقبل أن أفتح فمي كي أقول لا، ركلني بقوة فسقطت ونظر إليّ مقطبا وقال: "فين غادي بهذيك المحفظة أبوخنونة ملي ماعندكش القراية، ثم خبط علي محفظتي وصرخ: سر رجع للدار، الله يعطيك الجهل أنت والبهلوان". نهضت مسرعا أنفض الغبار وأعرج راجعا إلى الدار، وفي الطريق أتخيل البهلوان سوسو يجري في الساحة وقد أصابه الجّهل، وأسر الضحكة في نفسي. ص21. 22.

أو حين فاجأ بنت الجيران بركلة بالرجل المعقودة، التفتت معها مذعورة لا تعي ما الذي حدث لتفاجئه بصفعة على الوجه. فيما هي كانت تصيح منادية أخاها المفتول الذي يشبه صومعة الكتبية، حيث شلظه في التراب في رمشة عنف. ص:10.

وبقدر ما سيدمن نوالي باقي الحكايات" على هذا النحو، سيدمن سارده نزقيته من جديد سواء في علاقته مع بني جلدته، أو حين اختلي بالدواجن التي اصطفى لشخصياته من فصيلتها  دجاجتين، إضافة إلى أرنب يحمل من نزق السارد الشيء الكثير، بل يمكن القول إنه هو ذاته يتأرنب: "هل ستفهم أمي أني أقصد كون الأرنب قد بلغ سن الحلم؟ وهو الآن مراهق متهور يقفز هنا وهناك، ويحرك شاربيه." ص15.

موازاة مع هذا لم يخل الحكي الموصول بخلوات السارد من نزواته أيضا التي تعدى إسقاطها على ما يدب ويسير إلى ما يطير، والشاهد "حناجر القصدير"، القصة الضاجّة بصخب الجوج/ طيور الدوري التي أمعن نكاية في تعكيرها صفو نومه في أنسنة تزاوجها الصاخب، بافتراض حفل زواج عبثي، ساخرا من غنج إناثها الذي كان سببا في ما اقترفه البلداء من ذكورها إن على نافذته في الحكاية الأصل، أو في الحكاية داخل الحكاية/ عرس الدم.

للإشارة؛ شكّل نص "عظمة تمر" بشخوصه وبحواراته وايماءاته مادة سردية جاهزة للعرض، وهو ما أسعف نوالي في عرضها بحس تشخيصي بائن في ملتقى القصة القصيرة جدا، جمعية الأنصار للثقافة بخنيفرة/ دورة فاتحة الطايب. وللحقيقة فجُل نصوص الكاتب قابلة للتمسرح انطلاقا مما يطبعها من سرد ملعوب، يضفي عليه نوالي فرجة مائزة من خلال طقوسية خاصة، ابتداء من خلع نعليه تقديسا للسرد، وانتهاء بتلوين الحوارات عبر محاكاة نقنقة الدجاج وضبح الأرانب، أو تنغيم المقاطع، كما يشهد على ذلك مشهد حوار السارد مع أمه  في نفس القصة:

مّي ...وامي ..واااامي

حتما لن تجيب.

وامّي خدوج..

واانعاااام

خاصنا نذبحو الأرنب.

مافيه والو آوليدي.

مافيه والو؟ الأرنب فيه الروح آلواليدة. ص:15

وجب التذكير في الأخير أن الإحاطة بإواليات تخلق نصوص القاص المبدع حسام الدين نوالي تبدو صعبة التحقق، أمام اللعب على إرباك القارئ بتجريب لا ينتهي، ابتداء من التنافذ بين نص المعيش ونص التخييل، مرورا بالتباس محفل السارد، وانتهاء بالرهان على التكثيف بدل التنحيف مدار تنظيره السردي ووعيه الناضج جدا بالكتابة نقدا في "العقل الحكائي"، وتخييلا في "احتمال ممكن جدا".

هوامش:

  1.  احمد اليابوري – في الرواية العربية(التكون والاشتغال)، شركة النشر والتوزيع والمدارس، ط:1، 2000، ص:14.
  2. د.عبد الإله بلقزيز ، نقد التراث، العرب والحداثة 3 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الثانية، شباط/ فبراير 2016 ص:335.
  3. عبد الفتاح كليطو، الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الآدب العربي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية الدارالبيضاء، 2006 ص: 19
  4. رشيد بنحدو، جمالية البين بين في الرواية العربية ، منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب،الطبعة الأولى 2011، ص:61