ربطتني بالفقيد صداقةٌ ممتدّة منذ تعرّفتُ به في سنوات التّسعينيّات في بيروت. شدّتني إليه أشياءٌ كثيرة نَضَحَتْ بها شخصيّتُه: مبدئيّتُه، صِدقُه، حماستُه، صفاءُ ذهنه، وعيُه النّقديّ، ثمّ تلقائيّتُه وبساطتُه والتّواضُع المتدفِّق منه من غير تصنُّع. هكذا كان سماح إدريس الذي لم يتنكب طريق الحق لقلة سالكيه حتى اللحظة الأخيرة.

سماحُ الحيُّ بما تَرَك

عبد الإله بلقـزيـز

 

ما كان سماح إِدريس ليستصعب، يوماً، التّنقُّل السّلس بين المكتب والشّارع أو أن يستَهْوِلَه؛ كانا فضاءين مألوفين لديه يرتاد الواحدَ منهما كارتيادِهِ الثّاني. ومِن شدّةِ إلْفِه لهما، ما عاد يَمِيز الفارقَ بين هذا المَأْلَفَ وذاك؛ بين هَدْأةِ الأوّل وصَخبِ الثّاني؛ بين فَرْدنةٍ يفرضها الأوّل وجَمْعَنَةٍ يَصْهَر فيها الثّاني الذّواتَ ويُجرّدها من التَّعيُّن؛ فالمائز بين ما لا يتميّز للعقل أو للشّعور عادةً ما يتبدّد في علاقات التّماهي. هو، فيهما، هو: لا يتغيّر، ولا يأتي على مزاجه ازدواجٌ؛ لأنّه أمسك- منذ وقتٍ مبكّر- بسِرّ الصّلة بين المكانين فما ذَهَل – بعدها- عن الرّوابط: كلاهما سبيلٌ مفتوح إلى الثّاني، ولا تطيب الإقامةُ في أحدهما بمعزلٍ عن الآخر؛ يسْكُن إليهما ويَسْكُنانه وفي داخلته يتجاوران، وبين جدران صَدْره تتردّد أصداءُ نداءاتهما المنهمرة.

فَقُه سماح في استكناه سِرّ تلك الصّلةِ بين فُسطاطيْن يَبْدُوان متجافييْن أو متنافريْن فقَاهَةَ من يَسْبُرُ غَوْرَ المختلِف ليعْثُر في دَخَائِله على المؤتَلِف. لعلّه تحصَّل الدّرس من والده، سهيل إدريس، الرّوائيّ والكاتب والأديب و، في الوقت عينِه، المناضل العروبيّ التّقدّميّ الصّلب. ولعلّه يكون تَعَلّمه بالتِّلقاء، وربّما من احتذاء نماذجَ بعينها (كان إدوارد سعيد، قطعاً، من بينها). في كلّ حال، ربّما كان سماح، بعد إدوارد سعيد، من آخر المثقّفين العرب الذين تمسّكوا بالمفهوم السّارتريّ للالتزام- الذي لا شكّ في تأثير والدته، الشّغوفة بسارتر، فيه- بل الذين فاض عندهم معنى الالتزام عن حدوده السّارتريّة تلك وبلغ من الضّفافِ الأَبْعَدَ. تشهد لذلك سيرتُه في الكتابة والنّشر وفي ميدان الحَرَاك النّضاليّ الذي انغمس فيه حتّى بات من أظْهر رموزه في لبنانَ والوطن العربيّ.

أكثر المثقّفين في لبنانَ والبلاد العربيّة في وادٍ آخر يهيمون. المعظمُ منهم طَلَّق السّياسةَ والشّأن العامّ، لا فقط في ساحاتها والميادين حين تندلع قضاياها ويتحزّم لأمْرِها الفاعلون، بل في الأوراق أيضاً، حيث اختفت أو هي توشك على أن تختفيَ وراء مسائلَ أخرى أزاحتها من المشهد. وهي إذا ما حضرت في هواجس الكتّاب – وقلّما تحضُر- تحتلّ زمناً بُرْهويّاً في الوعي ثمّ تتلاشى. أمّا الذين تُلِحّ عليهم من أهل القلم، ممّن كانوا في قبيلة اليسار يوماً، فأكثرهم يَحْملهم على الكتابة فيها عملُهم كموظّفين في الصّحف ومراكز الدّراسات، لا كمندمجين في مَعَامع الشّأن العامّ. والغالب على نصوصهم التّدبيجُ على مقاس معتَقَد المؤسَّسة التي تشتري قوّة عملهم. دَعْك هنا من جحافل الكُتّاب الذين قدّموا التّوبةَ والاعتذارَ عن ماضٍ يساريٍّ أَثْقَل ظَهورَهم حمْلُه، فطفِقوا يَقْدحون فيه ما وسعتهم قواميسُ القَدْح والذّمّ، فأولئك أمرهُم مختلف: طلّقوا سياسةً بعينها – كانت لهم مَشْرَباً وامتياحاً – وأَنْكَحُوا لأنفسهم أخرى أجزلَ عائداً للنّفس وأَدْعى إلى طمأنينةٍ من سابقةٍ تَضيق بها أسبابُ المَعيش!

لكنَّ سماحاً، الذي لا يشبه هذه الجحافلَ من الكُتّاب البُرْمِ بالسّياسةِ اللاّئذينَ بغيرها في ما يكتبون، لا يشبه مَن يرادِفهم من أهل السّياسة من ذوي الزِّرايَةِ بالثّقافةِ والمعرِفة والفكر، ممّن يحسبون أنّ السّياسة تستكفي بذاتها وأنّها عن غيرها في غَناء. هؤلاء يُفْقِرون معنى النّضال حين يجرّدونه ممّا به يكون بصيراً ورشيداً؛ ممّا يَعْصِمه من الشَّطْح والشّطط ومَزِلّة القدم. وهؤلاء لا يشفع لهم نضالُهم في شيء إنْ هو أخذهم إلى رذيلِ النّتائج وفادحِ العقابيل على القضيّة/ القضايا التي عنها يناضلون.

سماح سليلُ مدرسةٍ، غزيرةِ الرّوافد، تقول بجدليّةٍ لا تنقطع بين العقل والإرادة، المعرفة والممارسة، الثّقافة والنّضال. تقيس الأشياء بمقياس المصلحة العامّة؛ مصلحة الأمّة والشّعب والوطن، وتعتصم بمبادئ التّحرّر الوطنيّ، والعدالة الاجتماعيّة، والدّيمقراطيّة، والنّهضة والتّقدّم ولا تساوم على مرجعيّتها المعياريّة. صحيحٌ أنّ أتباع هذه المدرسة في لبنانَ والوطن العربيّ باتُوا في حكمِ القُلِّ، مع كثرةِ مَن يقعون خارج أسوارها، بل أضحوا أشبه ما يكونون بديناصورات جديدة في طور الانقراض. مع ذلك، ما رفعوا رايةً بيضاء ولا فقدوا ثقَةً بالتّاريخ ولا أَيِسَ منهم أحد، حتّى من ظلّ يحفر منهم منذ نصف قرن ويزيد أملاً في الظّفر ببعضِ البُغية. وقضايا هذه المدرسة كلٌّ واحدٌ لا يتبعَّض، لذلك ترى أتباعَها يخوضون- تأليفاً ونضالاً- على جبهاتٍ عدّة من غير كَلَلٍ أو كسل، ومن غير حسبان ما يدفعونه من أنفسهم ومن أبدانهم من جسيمِ الأَكلاف. ومع قلّتهم في الزّمن الرّديء هذا، يحسب لهم خصومهم ألف حسابٍ لقوّةٍ فيهم كامنةٍ في رأسمالٍ أخلاقيّ يحْتازونه ولا يَشْرَكُهم فيه غيرُهم.
بهذه العُدّة من المبادئ والقيم التي مَتَحها سماح من هذه المدرسة، وتَسَرْبَل بها، كنتَ تجده يعمل؛ حين يكتب ويخطّط للمجلّة ويُشرِف، أو حين ينشط في حلقات المناضلين وفي ساحات الحَرَاك المَدنيّ. مقالاته في «الآداب» أكثرُ من رأيٍ أحياناً؛ تكاد أن تكون «مانفستو» حين تقارب أمّهات القضايا وكتبُه، ودراساتُه تشهد موضوعاتُها على نوع انحيازاته العامّة: المثقّف، السّلطة، العروبة، فلسطين والمقاومة، الحركات الاجتماعيّة والانتفاضات المدنيّة، مقاومة الثّقافة الذّكوريّة، مقاومة الاحتلال والتّسلّط والاستعمار الجديد، مقاومة الطّائفيّة في النّظام والمجتمع، الدّفاع عن قيم النّهضة والحداثة وعن التّثاقُف، تطوير التّعبير الأدبيّ والجماليّ…إلخ. ولم يكن، في خضمّ ذلك كلّه، لينسى المسألةَ الأساس: التّخطيط للمستقبل؛ إذِ المستقبلُ ليس معطًى موضوعيّاً يمكن ابتداهُه، بل هو ما نَزْدَرِعُه اليوم من مقوّمات تحصدها مجتمعاتنا غداً. هذا، مثلاً، ما كان في أساس عنايته الشّديدة بأدب الطّفل، وجَهْده المشهور في توفير مادّة هذا الأدب. كان يعرف، من تجربته طفلاً في بيت والدٍ أديبٍ مثقّف، ما الذي يعنيه أن يتلقّن الطّفل، باكراً، المعارفَ واللّغات، وأن يتَّقفّى أثر الوالد ويَأْتَسي به ائْتسَاءً، ويأتثِرَهُ ائتثاراً في شغفه بالقراءة والكتابة والتّرجمة، وحتّى في الكتابة السّرديّة (شأن تقفّي أثر والدته الكاتبة والمترجمة السّيّدة عايدة مطرجي). ولأنّه تهيّأت له الأسباب ليكون ما كانَه على مثال أبيه الكبير، عَنَّ له أن يُفرِغ الوُسع لِنقل هذه التّجربة إلى أجيال جديدة من الأطفال، خاصّةً في زمنٍ شَحَّ فيه أدبُ الطّفل في التّأليف العربيّ، حتّى ضَؤُل عددُ من ينصرفون إلى الكتابة في هذا الباب!

وليس يختلف اثنان في أنّ سماحاً تنزّلَ، في جِيله من المثقّفين والمناضلين، في منزلة الرّمز الذي اقترن اسمُه بقضيّة فلسطين ونضال شعبها من أجل التّحرُّر الوطنيّ اقترانَه بالمقاومة في لبنان ضدّ الاحتلال الصّهيونيّ. وهـو في هـذا ما اكتفى بأن ينخرط في العمل التّضامنيّ الشّعـبيّ في لبنانإنْ في التّحركات الشّعبيّة التّضامنيّة أو في «حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان» – فحسب، بل نقل فعاليّاته التّضامنيّة إلى السّاحة الأمريكيّة أيضاً، وإلى منظّمات مدنيّة دوليّة تربطه علاقات صلةٍ بالعاملين فيها.ظلّت فلسطين رائزَهُ الذي يَرُوزُ به الأشياءَ والأشخاصَ والمواقف وفيْصَلَ التّفرقة بين الحلفاء والخصوم والأَعداء. لم يَحِد عن نصرة شعبها تحت الاحتلال وفي مخيّمات البؤس حتّى حين تُلِمُّ بلبنانَ المُلمّات، وينشغل عنها النّاس بمُدْلَهِمّ الأزمات. استمرّ لها عنواناً بين الرّجال نظيرَ ما استمرّتِ «الآداب» منبراً ينتبر فيه لسانُ فلسطين.

وهو، مثل أيّ لبنانيٍّ نقيِّ الوعي والسّريرة، وعصيٍّ على الاستدراج إلى فِخاخ الاعتصاب، لَدَغَتْهُ حُمَةُ الطّائفيّة والفساد التي بهما خَرِبتْ وانْتَهَبَتِ البلاد. وما كان له تَرَفُ الاختيار في هذا بين أن يَفْرُغ له أو أن يعْرِض عنه؛ فالطّائفيّة والفساد والاحتلال أضرابٌ لبعضها، وليس بينها ما يَقبل الهدنةَ أو الإرجاء. هكذا ألفى نفسه – هو المثقّف الوطنيّ الدّيمقراطيّ المؤمن بالحداثة السّياسيّة ودولة القانون والعدالة الاجتماعيّة – منغمساً في الحركات الاحتجاجيّة المدنيّة اللّبنانيّة ضدّ النّظام الطّائفيّ وطبقته السّياسيّة الحاكمة، وضدّ شريعة الهدر والفساد المطبّقَة فيه والمحْميّة بقاعدةٍ شعبيّة منهوبة الإرادة والوعي. ولم يكن ليتخلّف، يوماً، عن أيّ معركةٍ اجتماعيّة في لبنان ضدّ الطّائفيّة والفساد من أجل استرجاع الوعي المنهوب، والمال المنهوب ومعهما الوطنُ المنهوب، فكان يحتلّ مكانه في الصّفوف الأولى ممارساً واجباً اجتماعيّاً ووطنيّاً كان في عُرفه مقدّساً.
وحين انْتَكَبَت سوريّة في نكبتها الكبرى وأَكْلَحَها السّلاحُ المأجورُ وصوْلاتُه في الأرواح والبنى والمقدّرات، واقتلاعُه النّاسَ من مدنهم وقُراهم، والقذْفُ بقسمٍ منهم في اللّجوء، انبرى سماح مدافعاً عن السّوريّين اللاّجئين كَرْهاً إلى لبنان، وأخرسَ ألسنةً مقيتَةً تَنْضَج بالعنصريّة والحقد تجاه السّوريّين، و»اكتساحهم» بيروتَ والحَمْرا على زعم القائلين، مذكِّراً كَتَبَةَ تلك التّخرُّصات بأنّ لبنان كان أبهى، دائماً، بالسّوريّين وبالفلسطينيّين والعرب، وبأنّ العنصريّة لم تكن، يوماً، محضَ وجهة نظر تَلْقى الحقَّ في النّشر الصِّحفيّ تحت عنوان التّعدّديّة في الرّأي! ويَرُدّ موقفُه هذا المدافعُ عن سورية والسّوريّين إلى تقليدٍ عريقٍ ربيَ عليه في بيت آلِ إدريس يُحِلُّ العروبة محلّ القلب في الفكر والسّلوك، وتَعَهَّدَهُ هو بالتّنميّة والصّقل والتّرسيخ، وأَوْسَعَ له أَفْسَح المساحات في مكتوبه كما في المجلّة.

أيُّ مَرْزِئةٍ هذه، إذن، التي رُزِئ بها لبنانُ والثّقافةُ العربيّة وحركاتُ نصرة شعب فلسطين برحيل إدريس. وأيُّ عزاءٍ لنا، في هذا الفَقْد الموجِع، غيرُ ما قدَّم من صنيعٍ ثقافيّ، وغيرُ ما استمسك به من قيمٍ فلم يبارحها تحت أيّ ظرف؟ تلك خسارةٌ ثقيلةٌ لا سبيل إلى احتواء أَعْجَازِها وكَفِّ وبيلِ قسوتها في النّفوس، وامتحانٌ لمدى قدرةِ مجتمعٍ وبيئةٍ ثقافيّة على إنجاب نظائرَ وأَضْرَاب للفقيد، وامتحانٌ لِمَن بقيَ من ذوي الهِمَم والإرادات الحيّة ولمدى قدرتهم على أن يَأتَنِفُوا ائتنافاً ما بدأهُ سماح وطينةٌ من أَتْرابه، فَيَبْنُوا عليه لتعظيم حصيلة المكاسب وتَوْسعة مساحةِ تأثيرها في المجتمع والنّاس.

ربطتني بالفقيد صداقةٌ ممتدّة منذ تعرّفتُ به في سنوات التّسعينيّات في بيروت. شدّتني إليه أشياءٌ كثيرة نَضَحَتْ بها شخصيّتُه: مبدئيّتُه، صِدقُه، حماستُه، صفاءُ ذهنه، وعيُه النّقديّ، ثمّ تلقائيّتُه وبساطتُه والتّواضُع المتدفِّق منه من غير تصنُّع. اتّصلتِ العلاقةُ أكثر منذ العام 1999 حين أصبحتُ شبهَ مقيمٍ في بيروت. كان، حينها، رئيساً لتحرير «الآداب». كنّا نلتقي، بين فينةٍ وفينة، في مقاهي الحمرا: المودكا والويمپي ثمّ، بعدها، في السّيتي كافيه وليناس، أو كان يزورني في مقرّ مركز دراسات الوحدة العربيّة فنطيل الجلسةَ والحديث، وتتدرّج الموضوعات من الثّقافة والفكر إلى السّياسة والشّؤون العربيّة والدّوليّة. انتبهتُ، كثيراً، إلى روح التّفاؤل في تفكيره ومواقفه ولم أَدَعْها تستوقفني كثيراً، لأنّ حيويّته تبدِّد كلَّ استفهام، ولأنّه من غير تفاؤلٍ لا مستقبل في الأفق غير الانسداد المُطْبِق، ولا مبْعَثَ للهمّةِ والعمل في الحاضر.
لم أرَهُ يوماً إلاّ مبتسماً؛ حتّى في النّوائب المُطْلَخِمّات لا تفارِق الابتسامةُ محيّاه. كأنّه ينتقم من الوطأة بافْتِرار الثَّغر عمّا يستهين بها؛ كأنّه يرسُمها – متقصّداً- عنواناً لاستسهاله المَعْسُورَ، أو كأنّها تَخْرُج من داخله عفواً من غير ترتيبٍ إلاّ ما أودعَتْهُ الطّبيعةُ والجِبِلّة فيه مَن سَمْتٍ لا يَمَّحي أو يَدْرُسُ رسْمُه. والأَبْدَهُ عندي أنّ ابتسامتَه صنعتْ له جوازَ مرورٍ سَلِس إلى قلْب كلِّ مَن عَرَفه، وأنزلتْه في الشَّغَاف، ولعلّها أَظْهَرَتِ النّاسَ على معدنِه النّفيس، ومتَّنت لديهم عُرى الثّقة به: بما يقول وما يفعل. وأنا لست إلاّ واحداً من كثيرين عثروا في ابتسامته على نوع شخصيّته، فاطمئنّوا إلى بِشارتها.

في أكثر من مناسبةٍ استكتبني للكتابة في المجلّة؛ وكلّما استكتبني أتذكّر فأتذكّر ما قاله لي، يوماً، والدُه الرّاحل سهيل إدريس في صيغة سؤال: «أليس لـِ «الآداب» حقٌّ فيك مثل ما لـِ«المستقبل العربيّ»»؟ تجاوبتُ أحياناً فنشرتُ مقالات فيها، لكنّي اعتذرتُ في أخرى لازدحام برنامج التزاماتي. لستُ أدري إنْ كانت مبرّراتي – حين الاعتذار- تَلْقى تفهُّماً من سماح، لكنّي كنتُ أشعر بأنّ أسَفه الذي يبديه تجاه اعتذاري لم يقترن عنده بشعور خيبة. آيُ ذلك أنّه ظلّ يعاود الكرّة كلّما عنّ له أنّ من المناسب أن تكون لي مساهمةٌ في عددٍ مّا. وكم كان يعتني بما ينشره لي من موادّ في المجلّة- على قلّتها- وبمناقشتي في بعض ما يَرد فيها أو في غيرها ممّا أنشره في منابر أخرى. وأذكرُ أنّه حين صدر كتابي «من العروبة إلى العروبة»، في العام 2003، واطّلع عليه اتّصل بي، بعد سنوات قليلة من صدور الكتاب، فـ«استأذنني» في استعارة عنوان كتابي ليكون عنواناً لملفٍّ في الموضوع تُصدِرُه المجلّة. كان «الاستئذان» إخباراً لي فحسب- لعدم حاجته إلى «استئذان»- لكنّه ساقه لي من باب سخاء أخلاقه الرّفيعة. وقد صدر ملفّ العدد، فعلاً، تحت العنوان عينِه بعد تنكيره: «من عروبةٍ إلى عروبة".

ولقد كان الفقيد سماح هو نفسُه مَن ألحَّ عليَّ لنشر يوميّاتي عن الحرب الإسرائيليّة على لبنان (حرب تمّوز 2006) في «دار الآداب». وكنتُ قد دوّنتُها في بيروت أثناء العدوان يوماً بيوم. وقد صدرت، فعلاً عن «دار الآداب» تحت عنوان: «حالة الحصار». وكانت المرّة الأولى لي التي أنشر فيها كتاباً في هذه الدّار العريقة التي أشعر حقّاً بتقصيرٍ منّي في حقّها، مع أنّي أزعُم بأنّي من أكثر مستهلكي إصداراتها من الكتب: دراساتٍ وروايات، ناهيك بيقيني بأنّ أدوارها الثّقافيّة ظلّت رائدةً وحازمةً في التّجديد الثّقافيّ في لبنانَ والوطن العربيّ.

لم أكن أدري، حين التقيتُه صدفةً في شارع الحمرا ربيع العام 2016، أنّها المرّة الأخيرة التي سأراهُ فيها. كان ينضح شباباً ونضارةً، وما كان يبدو عليه مرضٌ أو مسحةٌ من تعب. حدّثني عن تجربة النّشر الإلكترونيّ للمجلّة، الذي بدأ قبل أشهر؛ ولأنّ بيروت – حينها- كانت تضجّ بروائح النّفايات، تحدّثنا عن منازل حركات الاحتجاج على النّفايات داخل الحركة الاجتماعيّة- المدنيّة العامّة في البلد. وطال حديثُنا أشياءَ أُخَر. لم أرهُ بعدها، وسمعتُ بمرضه في أجواء وباءٍ وحَجْرٍ صحيّ منعاني من زيارة بيروت. لكنّ سماحاً ظلّ في القلب كواحدٍ من أنبل مَن عرفتُ من الأصدقاء. وبعد رحيله القاسي، صارت صورتُه أَبْهى في الذّاكرة.