تكشف الباحثة المصرية هنا عن رحلتها مع النقد، وكيف استطاعت الولوج إليه من خلال النصوص الأدبية التي تتسم بالدقة في التعبير والجمال اللفظي والأسلوبي، وتخلص من هذه الرحلة إلى مجموعة من التوصيات التي تناشد أقسام الأدب في الجامعات المصرية العمل بها.

النقد في رواية أحدهم

ثــناء محمود قاسم

 

عندما تم تعييني معيدة بكليتي كنت أرغب بشدة في قسم التاريخ والحضارة الإسلامية؛ ذلك لأن التاريخ - عندي - بما ينطوي عليه من قصص السابقين، وبما يسجل من أحداث ويبرز من شخصيات كان لها إسهامات في نهضة الشعوب أو تخلفها، وبما يحمله من مدونات لوقائع حقيقية لا أسطورية، هو الركيزة الأساسية لثقافة الحاضر والمستقبل، وهو الداعم الفكري لحركات التغيير والتطوير لبناء الحضارات، وهو المنظار الذي يكشف لنا الخريطة الكبرى لحركة الحياة السابقة في المجتمعات المختلفة في ظل أنظمة متعددة ومتقلبة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً. وهذا وحده يمثل مخزوناً من المعرفة لا يمكن تجاهله عند المضي نحو عتبات المستقبل. لهذا ولغيره كانت رغبتي، لكني فوجئت - وقد رُفعت أقلام التخصيص - أنهم قد سجلوني في قسم البلاغة والنقد الأدبي. وعندما سألت عن الأسباب قيل لي أن درجاتي خلال الأربع سنوات دراسة كانت الأعلى في هذا التخصص، فلم أجزع – كعادتي - على الرغم من أني لم أستطع تجاهل إحساسي بالغربة في هذا التخصص الذي رأيت أنه كان يكفيني منه حبي للأدب واهتمامي بمطالعته لا أن يكون تخصصي الأكاديمي الذي أنتمي إليه وينتمي إلى طوال حياتي، وأفني فيه وقتي وعمري. ولا أن أجعل من المادة الأدبية وما يتعلق بها من دراسات وحدها محوراً أساسياً لعملي البحثي والعلمي.

فقد كنت أشفق على نفسي من هذا الطريق الذي رأيت أنني حتماً سأستوحش السعى فيه، وسيضمر عطائي ويتوارى طموحي، ثم أضل. وها أنا ذا قطعت في صحبة البلاغة والنقد بحثاً ودراسة وتدريساً وتأليفاً زمناً طويلاً، وخرجت من هذه التجربة بأمرين: أولهما تخطيط معاكس لتصوري الأول. فقد قنعتُ بأن التاريخ يمكن أن يكفيني منه حبي له واهتمامي بمطالعته، وقد منيت نفسي - وعاهدتها - بالعكوف عليه دراسةً وتأليفاً بعد بلوغ درجة الأستاذية في تخصصي الأكاديمي بإذن الله. فأنا لا أستطيع التخلي عن إشباع ولعي الشديد به. وثانيهما تعديل مسار العشق والتحيز العقلي إلى البلاغة والنقد الأدبي؛ أما البلاغة ففيها استقامة الكلام وإرسال أغراضه بسلاسة تُظهر سلامة الفكر واللسان، وأما النقد الأدبي فقد فتح لي أفاق الحياة رحبةً ممتدةً، تعكس أجمل صورها وأبدعها. فقد تشبعت نفسي بعملية النقد تشبعاً ملأ حياتي ووجداني وعقلي، وعرفت أنه هو النافذة إلى الثقافة والفكر والعلم والتعايش وتجديد المشاعر والإحساس بالأشياء حولي، هو عالم لا متناهٍ من العطاء الوجداني والفكري والمعرفي.

والنقد في التعريف اللغوي – أو في مفهومه العام - هو تمييز الدراهم ومعرفة الزائف منها، ليتسع إلى فحص الأشياء لكشف المزايا والعيوب. أما في الاستعمال – أو المفهوم الدقيق - فهو تمحيص العمل جيداً بشكل متكامل، ومعرفة وجوه القصور فيه أو الجودة، وتقييمه والحكم عليه بناءً على أسس ومعايير. وقد خلصت من طول المصاحبة إلى القول بأن النقد يصح ألا يستهدف غير التقويم، والتوجيه إلى تجويد العمل وتقديمه في أحسن صوره، حين يُقَدِّم لمبدع العمل - وجمهوره - مسوغات الرأي والتقييم، التي يجب أن تؤسس على الموضوعية لا على الأهواء أو الدوافع الشخصية، بجانب إظهار وجوه الجمال والمزية في العمل. ويوصف النقد هنا في مهمته بأنه مرشد للمبدع، ودليل للمتلقي.

وقد استفدت كذلك أنه يجب عند تمحيص العمل الفصل بينه وبين صاحبه من النواحي الخلقية والشخصية، وأن الحكم على العمل في ذاته يكون باعتباره قيمة وموهبة قائمة بنفسها، غير متأثرة بعوامل أخرى. ثم زاد من طول المصاحبة تعلمي انتقاء النص والإحساس به والتفاعل معه، قبل إخضاعه لعملية النقد، فنقف بذلك على اكتشاف وجوه الجمال والتماسها وإبرازها، وإضاءة جوانب النص وتقديمه بعد - هضمه - إلى المتلقي في صورة لا تقل إبداعاً عن العمل الأدبي نفسه. حتى سرى في نفسي الانطباع بعملية النقد في ذاته دون تخصيصه أو ارتباطه بعمل أدبي، أصبح مفهومه – عندي - هو البحث، والقدرة على الانتقاء، والتذوق، والاكتشاف، اكتشاف الجمال من حولنا، والإحساس به، والاهتمام بتصديره للأخرين. وأدركت – بعد طول الأمد - أن النقد – بهذا المفهوم الواسع – كان مركوزاً في نفسي وخاطري منذ صباى، حين كنت أدون ملاحظاتي وتحليلي وآرائي وانطباعاتي في أمور كثيرة في أوراق (كراسة)، عندما عرضتها على أمينة المكتبة في مدرستي الإعدادية وقتها، آثرت أن تضعها في معرض المكتبة السنوي، بعد أن زينتْها بشريط ملون، لفتت أنظار الضيوف وكانوا لفيفاً من كبار مسؤولي التعليم في محافظتي. ولم يصدقوا أن من كتب هذه الخواطر والآراء الفلسفية طالبة في المرحلة الإعدادية إلا بعد أن استدعوني من فصلي، ومثُلتُ أمامهم يسألونني مختبرين صدق ما بلغهم. وقد توقفوا عند بعض الجمل التي كتبتها، مثل: إن الموت يمثل شعرة بين الكفر والإيمان. وبعد أن أجبتهم شهدوا بأنني فعلاً صاحبة الكلام، ثم أخذوا يسألونني عن أسرتي وعن الكتب التي أقرأها، ثم سجلوا لي على الكراسة إعجابهم بتوقيع فيه استشراف لمستقبل متميز ومرموق لي.

أدركت أن النقد مركوز في نفسي وخاطري منذ صباي حين كنت أقرأ الواقع من حولي وأتفحصه، فيدفعني هذا – مرات - إلى الأوراق والقلم أهم بتسجيل انطباعاتي عن حقيقة الكون والوجود والخلق، تبصيراً للناس بالخير والشر، إلا أن هذا كان يتطلب إمكانات معرفية وفكرية وثقافية لم تكن قد نبتت عندي وقتئذٍ. أدركت أن النقد مركوز في نفسي وخاطري منذ صباي حين كنت أنصت إلى أفعال الناس من حولي تخبرني بحقيقة أشخاصهم ودخائلهم، فأحاول تمييز الخبيث من الطيب. وحين كنت صاحبة ذوق خاص بي، أنتقي ما أشاهده في الدراما السينمائية والتليفزيونية في سن مبكرة، وقد يعجبني ما لا يعجب غيري والعكس. تجذبني الفكرة و المضمون. كنت أقف - مثلاً -عند بعض الأعمال السينمائية المأخوذة عن نص أدبي أقارن بينهما، كما فعلت في رواية (دعاء الكروان) للدكتور طه حسين، فقد وجدت أن النص الأدبي تجاهل دقائق شخصية المهندس التي انطوت على الفسق والمجون وهتك الأعراض دون وازع. فلم يجلِ الكاتب أسباب التغير الجذري في سلوكه، ليتحول إلى إنسان محب. ولم يكشف - كذلك - عن أسباب تبدل مشاعر (آمنة) الأخت المكلومة تجاه المهندس، وبخاصة ورود ما يفيد بأن (آمنة) قد اطلعت سراً على كتاب "ألف ليلة وليلة" في الدار التي كانت تعمل فيها قبل الانتقال إلى بيت المهندس، بما يستدعي هذا الربط بينها وبين شخصية (شهر زاد) التي روضت (شهر يار) وأخضعته لها بدهاء المرأة.

في حين أن الفيلم السينمائي قد فسر كل هذا تفسيرات نفسية ومنطقية. وكنت - أيضاً - أرى أن قراءة روايات (نجيب محفوظ) أكثر إمتاعاً من مشاهدتها على شاشات العرض السينمائي. أدركت أن النقد مركوز في نفسي وخاطري منذ صباي حين كنت - ولا أزال - أنزل الكلمات منازلها، وأرقب في إعجاب كيفية صياغتها، وما تعبر عنه من معانٍ جميلة تمس القلب والروح وتسمو بالنفس، وإن كان مصدرها أغاني المطربين، الإحساس بالكلمة أينما كانت، وكيفما جاءت، وبأى تصنيف تكون، يلفتني فيها ما يأتي في صورة قصة درامية بين المحبين؛ قصص العشق والوله،  قصص الهجر والفراق، قصص الشكوى والألم، وما يمكن أن تطرحه الأغنية من أفكار غير مسبوقة. مثل فكرة (فات الميعاد) التي تغنت بها أم كلثوم، وهى فكرة تعبر عن كثرة الجروح والانكسارات التي تحمل المحب إلى تخطي التجربة القاسية، وإسدال الستار عليها، وإعلانه انتهاء القصة، وأنه لم يعد هناك أى مجال للعتاب والمراجعة، فقد فات أوان ذلك وقضى الأمر.

ولقد عرض مرسي جميل عزيز هذه القصة  بما عرف في السينما بتقنية (الفلاش باك)، حيث بدأ بالنهاية وبالقرار الحاسم: فات الميعاد، ليعود إلى بداية الأحداث  للوقوف على مفردات ودواعي تلك النهاية التي كانت من معطيات المشهد الأول. ثم يسرد دواعي هذا القرار الراسخ مسوغاً تلك النهاية المريرة القاسية بأحداث أكثر مرارة وأشد قسوة: الليل ودقة الساعات تصحي الليل، الليل وحرقة الآهات في عز الليل. إلى آخره. وهذه فكرة جديدة جعلت من جملة (عايزنا نرجع زى زمان، قل للزمان ارجع يا زمان) مثلاً وحكمة طارت شهرتها على ألسنة العامة. وكذلك فكرة (الوسيط) بين المحبين، أو المرسال الذي تُروَى الكلمات بلسانه؛ كما في أغنية  فيروز (وقف يا أسمر في لك عندي كلام)، وكذلك الفكرة غير المسبوقة في معاني كلمات حسين السيد (بافكر في اللي ناسيني، وبانسى اللي فاكرني).

إن كُتاب الأغنية - غير المبتذلة - لا يعوزهم الإبداع ولا تنقصهم الموهبة الفنية. فلديهم من الخيال والإلهام ما يصنعون به إنتاجاً من التراكيب مموسقاً وموزوناً، يحمل معان مؤثرة في الوجدان، وهل يتاح لغير الموهوب أن يكتب مثلها مهما توافرت له الظروف، وتهيأ له المناخ؟ إن الكلمة والنغمة هما مَنْ صَنعَ عمالقة الغناء والطرب لا أصواتهم فحسب. ولعلنا نعلم كيف كانت أم كلثوم تبحث عن الكلمة، وتجد وتكد في ذلك، بوصفها لبنة نجاح ما تقدمه. وكذلك نعلم ما كان يفعله عبد الحليم حافظ عند الإعداد لحفل جديد مثلاً، أو ما يفعله عند الإعداد لفيلم غنائي،  فقد كان- في بعض الأحيان - يأخذ الكاتب بعيداً في شبه عزلة عن الآخرين، ويهيئ له المناخ المناسب في سبيل الحصول على عمل بديع يعجب الناس. وأظل أتأمل بهذا الصدد مثل هذه الإجراءات المحسوبة بوقت محدد كيف استطاع الكتاب إنتاج  أجمل الأعمال؟ وكيف استطاعوا العثور على الفكرة والمعنى والكلمات المعبرة في صورة من الموسيقى الداخلية والنغمات التي تحملها تلك التراكيب؟ إنه الإبداع والموهبة.

أتأمل دقة التركيب في جملة (فين راح الشوق من قلبه؟) التي كتبها مأمون الشناوي ضمن كلمات أغنية (في يوم من الأيام) أتأمل دقتها في الوفاء بالمعنى المطلوب، والفارق إذا ما قال (الشوق راح فين من قلبه؟) فالمعنى في التركيب الأول يفيد الاهتمام والتأثر بذهاب الشوق أو اختفائه والتعجب من ذلك بعد الذي كان في يوم من الأيام، لا الشوق في ذاته وفق ما يعبر عنه التركيب الثاني. بالإضافة إلى الاتساق الموسيقي، وخفة الإيقاع فيه. ويمكن – بهذا الصدد – التطرق إلى الإحساس بالكلمة في الشعر المغنى، لكن الإحساس هنا مصدره المغني نفسه، حين يقوم باختيار النص الشعري الذي يتغنى به، ويحوله من كلمات مقروءة إلى كلمات مغناة مسموعة. فيغير ويعدل في بعض الكلمات لتناسب سياق الغناء والاستماع، وتوافق أيضاً جمهورا مختلفا. من هذا قصيدة نزار قباني:

 متى ستعرف كم أهواك يا رجلاً

لتعدل إلى: متى ستعرف كم أهواك يا أملاً 

أبيع من أجله الدنيا وما فيها

وكذلك في قوله:

يا من يدخن في صمت

لتعدل إلى: يا من يفكر في صمت

وهذا مثال في التغيرات التي يجريها الفنان الذي يمتلك حساً مرهفاً واستثنائياً تجاه الكلمة، على نص صنعه الشاعر. وفي الحقيقة إن هذه التغييرات تأتي استجابة للسياق الغنائي، والقالب الجديد الذي تقدم فيه كلمات القصيدة، ولها - حين تنتقل من دفتر الشاعر إلى حنجرة المغني - معايير خاصة.

وهذا الرصيد الضخم من قصائد الشعر التي تم تغيير مجراها ولونها وجمهورها، يحتاج إلى دراسة تجلي وجوه الجمال في مواضع التغيير والتعديل. تلك التعديلات التي كان يوافق عليها مبدع النص الشعري نفسه بل و يستحسنه . وقد تناولتُ واحدة من هذه النماذج في دراسة بعنوان (الانتقاء والمخالفة في القصائد المغناة - دراسة أسلوبية (أم كلثوم نموذجاً). تم نشرها بمجلة كلية دار العلوم، جامعة الفيوم، إصدار خريف 2013م، العدد34.

ولقد عنيت هذه الدراسة بمواضع التعديلات في النص المغنى، والموازنة بينها وبين النص الأصلي، ودراستها من الوجهة الأسلوبية والبلاغية. وكذلك دراسة آليات الانتقاء والإعداد لهذه القصائد المغناة ودواعيه الجمالية والفنية. فقد كانت السيدة أم كلثوم في مختاراتها الشعرية، وما أجرته عليها من تغييرات وتعديلات تؤدي دور المتلقي والشاعر معاً. حين كانت تستقبل النص الأصلي بوصفها متلقياً يمنح الأسلوب بدائل أسلوبية أخرى، فتعيد بناءً على ذلك تشكيل النص لتنقله في صورة تتسق مع هذا المتلقي بما يحقق عنصري الفهم والمتعة، لتصبح بذلك مبدعاً ثانياً للنص الشعري. وهى بذلك تطبق -عملياً - نظريات علم الأسلوب القائمة على إشراك المتلقي في عملية الإبداع. إن قدرة السيدة أم كلثوم على التذوق الأدبي، والإحساس بالكلمة منحها القدرة على تغيير كلمات الشاعر وانتقاء بديلاً لها. إن عملية النقد - في رأيي - مؤسسة على الإحساس والانفعال، وتصدير الذوق والجمال للآخر بما يساعد على تنمية الذائقة الفنية والأدبية. ونحن في حاجة ملحة إلى استعادة الجمال والإحساس بالكلمة وهى أهم ما ميز الله عز وجل به الإنسان.

إن هذا الخوض رجع بكاء على الحالة المتردية التي بلغها كل من الأدب والنقد في محيطنا العربي، إنهما ماضيان إلى هوة سحيقة، إن لم يلقيا مصرعيهما، فإنهما على الأقل لن يجدا جمهور المتلقين الذين يمنحانهما الحياة والبقاء. فهل توارى الشعر أو تراجع أم تراني يخيل لي؟ هل لا تزال هناك النصوص الشعرية التي تكبح سأم الأيام والليالي وتداعب الخيال، وتبهج القلوب وتسحر الألباب بجمالها، وبراعة صياغتها وتراكيبها، ودقة صنعتها؟ هل لا تزال هناك حركة نقدية ناضجة تقوم بمهامها؟ أين النقد الذي يزيد الجمال جمالاً، والحسن حسناً، والسحر سحراً. إننا في حاجة إلى طباعة العالم من حولنا بطابع الحسن والجمال، في حاجة إلى استعادة الروح لقلوب ماتت بروداً وقسوة وتحجراً من صخرية الشواغل المادية، والصراع على متطلبات العيش. فيجب علينا الآن التحرك نحو الإصلاح أو فلنقل التحرير، تحرير الشعر من الجمود والإغلاق والسباحة ضد الحس والقلب والعقل بكلمات تولد ميتة لا حياة فيها ولا روح. وتحرير النقد من اتباع مسارب الشعر الضالة، وتعديل مساره المتجه بحماس صوب الإغلاق بالتعالي على المتلقي بلغة عصية مبهمة جافة من الفن والإبداع .

إن الاهتمام بالمتلقي بوصفه ضلعاً مهماً في عملية الإبداع هو نقطة الانطلاق، فعلينا العمل على تنمية الذائقة الأدبية، والنقدية، وبخاصة في المعاهد والكليات المتخصصة. وذلك من خلال استحداث مقررات تفي بهذا الغرض. وليس يمنع التخصص في اللغة العربية وآدابها الالتفات إلى الرصيد المغنى بالعامية والعناية بدراسته من النواحي الفنية والبلاغية. وذلك لعدة أسباب منها؛ أن هذه الأغاني التي كتبها عمالقة الكلمة المغناة أمثال أحمد رامي، وحسين السيد، ومرسي جميل عزيز، ومأمون الشناوي، وعبد الرحمن الأبنودي أسهمت في تزكية الجوانب العاطفية وترقية الإحساس بالكلمة وتذوقها لدى العامة والخاصة من الناس، فهى تجربة متكاملة موجودة وناجحة على المستوى الشعبي، وحققت قاعدة جماهيرية عريضة من كل الأطياف على اختلاف ثقافتها وأنماطها الاجتماعية. ولأن اللهجة المكتوبة بها هى اللهجة الأكثر شيوعاً واستخداماً، ويمكن الارتقاء بها عن مستويات مبتذلة قد تنزلق بنا. وإذا  كان هذا الرصيد من فن الكلمة المغنى غير مستساغ وغير لائق في حروف اللغة الفصحى حين نحاول كتابته، فإنه نص مسموع أبدعته موهبة أدبية وهو في رأيي مثل شعر العرب الفصيح خُلق للأذن لا للعين. فإذا ما قمنا بتحليل مقوماته الفنية، فإننا بذلك نكون قد مضينا خطوة في إزالة نثرات الغبار من على الأذواق والقلوب والأفهام. ويمكن الاتساع في مساحة التعلم والتدرب إذا ما تبنت الصحف والمجلات هذا التوجه والمساهمة في هذا الأمر، وهى تمتلك فرص الانتشار والوصول إلى العامة وغير المتخصصين في الأدب والنقد.  وهذا الرصيد من الأغاني فيه من البلاغة الكثير مما يمكن فهمه واستيعابه وتذوقه، وتزداد الفائدة إذا ما طعمت مختاراتها ببعض أبيات من الشعر السائغ والقريب، وهذا قد يسهم في تنمية الذائقة اللغوية والأدبية وتكوين الحس النقدي لدى الناشئة. و يمكننا بهذا الصدد تنبيه أولي الأمر من أهل البلاغة والأدب إلى إعادة النظر في طريقة تدريس مادة العروض وبحور الشعر في المعاهد المختصة. فالطالب يُلقن معلومات نظرية عن أوزان الشعر دون أن يتدرب لسانه وأذنيه على هذه الموسيقى تدريباً كافياً. بل ويمكن إقامة ورش لتدريب الطالب على صناعة الشعر وفق ما يتعلمه من بحور، وما تلقفه أذناه من موسيقاه ونغماته، فيتمكن من المعرفة النظرية والتطبيقية، وربما واتته القدرة على التأليف الشعري الرصين، فنسهم بذلك في تنشئة أجيال إن لم يغلب على لسانها الشعر، فسيسري في وجدانها الإحساس بالكلمة.

 

أستاذ مساعد بقسم البلاغة والنقد الأدبي/ كلية دار العلوم/ جامعة الفيوم