يكشف هذا المقال عن الدور التأسيسي الذي لعبته الناقدة المصرية الكبيرة، وعن حفرها لطريق جديد للنقد الأدبي العربي، وتأسيس أدواته المنهجية الرصينة، وكيف أدى ذلك إلى أن نصوصها النقدية تشق طريقا فريدا ومتشعبا يكشف عن جوهر الإضافات الفنية والسردية لمن تتناولهم من الكتاب.

سيزا قاسم.. وتأسيس نقد أدبي جديد

الناقدة التى نَبشت «الأساطيــر» المؤسسة للرواية العربية

محمود خيرالله

 

على الرغم من أن الناقدة الدكتورة سيزا قاسم قدَّمت من الأعمال النقدية المهمة ـ خصوصاً فى نقد الرواية العربية وتشريحها ـ ما يضعها فى مصاف كبار النقاد الآن فى العالم العربي، وعلى الرغم من أنها تنتمى إلى بيئة أكاديمية مصرية مرموقة ـ تربَّت على يدى الراحلة العظيمة الدكتورة سهير القلماوى  لكنها لم تحصل حتى الآن على شىء مما تستحقه ناقدة بارعة مثلها من اهتمام إعلامى وصحافى فى بلدها مصر، كما يبدو مدهشاً أن طابور تكريمات الدولة الطويل، والذى طال من قبل ـ على الأقل ـ أغلب أبناء جيلها من النقاد الرجال، لا يزال قادراً على تجاهل ناقدة بحجم وانجاز سيزا قاسم..!!

الأرجح أن أحداً لن يجيبك على هذا السؤال، كما أن أحداً لن يصدق استبعاد ناقدة مثلها كانت صاحبة الفضل الأكبر فى الاهتمام بالنقد "السيميوطيقي" عربياً، بالإضافة إلى أنها كانت من أوائل من اهتموا بقراءة أدب نجيب محفوظ بشكل علمي، وقبل أن يحصل على نوبل، بسنواتٍ طويلة، حين قدمت رسالتها للدكتوراه "بناء الرواية" دراسة مقارنة لـ "الثلاثية"، وعلاقتها بروايات رائد الواقعية الفرنسى أونوريه دى بلزاك (1799 ـ 1850)، ولم تكتفِ بذلك؛ بل أخذت على عاتقها مهمة قراءة الجيل اللاحق لمحفوظ، وهو جيل الستينيات فى الرواية العربية؛ حيث اعتبرت دائماً واحدةً من أهم النقاد الذين قرءوا أعمال هذا الجيل، وأسهموا بمشروع نقدى متكامل عنه.

الحق أننا لا يجب أن نندهش من استبعاد سيزا قاسم من حظوظ التكريم والاهتمام الإعلامى فى مصر، إذا تذكرنا أنها صاحبة أراء صادمة إلى حد ما؛ حيث اشتبكت بالرأى مؤخراً ـ فى الخلاف على درجة شجاعة نجيب محفوظ، إبان مصادرة روايته الأشهر "أولاد حارتنا"، وخلال تفاصيل منع طباعتها فى مصر، مطلع الستينيات من القرن العشرين؛ فقد اعتقدت سيزا أن محفوظ كانت تنقصه الشجاعة فى مواجهة المؤسسة الدينية، وهو رأى لا يخلو من وجاهة فى ضوء تفاصيل تلك اللحظة الملتبسة؛ لكننا لا يمكننا ـ بحال من الأحوال ـ أن نهيل الترابَ على تراثٍ نقدىّ مُمتد لناقدةٍ كبيرة، بسبب هذا الرأي، أو لأى سبب آخر، فى الوقت الذى تُثبت فيه الأيام كم نحتاج إلى ناقدة قديرة مثلها، توزَن أعمالها بميزان من الذهب، بين الدارسين والمتخصصين فى "النقد الأدبى الحديث".

لقد سبق لسيزا قاسم أن انتقدت نجيب محفوظ فنياً، حين اعتبرته قد فشل فى التعبير عن الجوانب الروحانية عند الأنبياء، فى روايته "أولاد حارتنا"، وبدا رأيها وجيهاً جداً حين قارنته بروحانيات قدمها الروائى اليونانى العظيم "نيكوس كزتنزاكيس"، فى روايته المذهلة: "المسيح يُصلب من جديد"، وهو رأى صائب يصدِّقه كل من قرأ الروايتين؛ لكنها قدمت للنقد الأدبي الحديث ما هو أكثر من ذلك بكثير، سواء من جانبه النظري أو من جانبه التطبيقي، بدأتها برسالة الماجستير: "طوق الحمامة فى الألفة والألاف" لابن حزم الأندلسي.. تحليل ومقارنة"، وواصلت العطاء بعد حصولها على الدكتوراه، بأن أصدرت منتصف الثمانينيات من القرن العشرين كتابا مكونا من ترجمات ودراسات بإشرافها مشاركة مع المفكر الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد، وفيه دراسات وترجمات لها ولنصر حامد أبو زيد، وفريال غزول، وعبد المنعم تليمة، وعبد الرحمن أيوب، وكاظم الحلفي، وأمينة رشيد، وأحمد الإدريسي؛ بعنوان "أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة.. مدخل إلى السيميوطيقا"، الصادر عن دار الياس العصرية بالقاهرة عام 1986، ليكون الأول فى هذا التخصص، فيما قدمت بعد ذلك مؤلفات مهمة جداً، مثل كتاب "القارئ والنص: العلامة والدلالة" أو كتاب "جماليات المكان" بالإضافة إلى الكتاب الذى نقرأه اليوم، بعنوان "روايات عربية قراءة مقارنة"، فى مناسبة صدوره مؤخراً فى طبعة شعبية عن سلسلة "كتابات نقدية"، التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، ويرأس تحريرها الدكتور حسين حمودة.

فك إشارات التراث:

تنتقى سيزا قاسم الروايات العربية التي تقوم بقراءتها فى هذا الكتاب من بين عشرات؛ بل من بين مئات الروايات، معتمدةً على عدة آليات، أهمها قدرة الرواية على طرح أسئلة جذرية فى ثقافتنا العربية، وأن يكون مؤلفها اختار طريقاً فنياً متميزاً لطرح هذه الأسئلة، لا يكشف فيه فقط عن معرفة بآليات كتابة الرواية الحديثة، بل يمتلك من الفهم العميق للتراث الذى شكل وجدانه، سبلاً لصياغة أشكال جديدة فى الكتابة، وعلى هذا الأساس اختارت رواية "البحث عن وليد مسعود"، للفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا، (1920 ـ 1994)، لكى تعيد طرح السؤال الإشكالي فى الثقافة العربية، بشأن "قضية العلاقة بين الموروث والوريث"، كما اختارت رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للسوداني الطيب صالح (1929 ـ 2009)، لتعيد تفكيك قضية علاقة الشرق بالغرب، واختارت "حكايات للأمير حتى ينام" ليحيى الطاهر عبدالله (1938 ـ 1981)، لتكشف عن تلك البنية المعكوسة للحكاية الشعبية، التى استلهمها الكاتب، ليقدم بها قراءة أخرى للتراث، وهكذا فعلت الناقدة مع كل من تناولتهم بالدرس في هذا الكتاب، ومنهم: صنع الله إبراهيم ومحمد برادة وإدوار الخراط، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ الذى قارنت روايته "ميرامار" برواية ـ الفرنسى من أصول تشيكية ـ ميلان كونديرا: "المُزحة"، والروايتان كُتبتا فى العام نفسه تقريباً، ليشير كاتباهما إلى ضغوط المناخ السياسي المُغلق الذى يعانى منه أبطال الروايتين، الذين يعيشون فى بلدين مختلفين أفريقي و أوروبي.

تشير الناقدة ـ التي لا ترضى عن كثيرٍ من الاستخفاف الحاصل فى الأعمال التي تنتسب زوراً إلى فن الرواية ـ إلى ما تعتبره "مجموعة من المعوقات" التي تقف فى سبيل استيعاب الفنان العربي لعملية الثقافة، سواء كانت غربية أو عربية، وأهم هذه المعوقات من وجهة نظرها هو "عدم استيعاب الكتاب لتراثهم "الكتب الصفراء"، و"الانفصام بين الثقافة العربية الكلاسيكية والثقافة الغربية الشعبية"، وبالتالي اختارت نصاً توسمت فيه أن يضيفَ جديداً إلى الفهم العربي للتراث، وهو رواية "البحث عن وليد مسعود" للكاتب جبرا إبراهيم جبرا "المولود في بيت لحم"، الذى أشارت إلى أنه استفاد فيها كثيراً من حكايات "ألف ليلة وليلة"، كما أنه عكس فيها غياب واستتار الفدائي الفلسطيني الذى يعمل فى الخفاء، فلا توجد ذريعة ولا وسيلة لإعلان هويته، لافتة إلى تناصها مع ملامح أسطورة عربية قديمة، هى أسطورة "الإمام الغائب" أو "المهدى المنتظر".

وعلى كثرة ما طالعنا من إجابات فلسفية عن سؤال التراث والهوية في الثقافة العربية؛ فإن موقف سيزا قاسم المتسائل والمتشكك بشأن التراث يستحق منا قدراً من التأمل والفهم، لأنه الموقف الذى لا يُقدس الماضي، ولا يتجاهله فى الوقت نفسه، على الرغم من رفضه للكثير مما جاء في هذا التراث، وسيزا تحاول هنا أن تتعرف إلى الطرائق الجمالية والأسلوبية التي يوظف بها الروائي العربي تراثه، لافتةً إلى أن ارتباط النص الروائي بالتراث ينبع من مجموعة من المتطلبات، بعضها جبري وبعضها اختياري.

تحاول الكاتبة أن تساعدنا على رؤية أن التراث العربي هو هذا الكيان المزدوج الذى يعيش في نفس الوريث، بين تراث بعيد مجيد وتراث قريب متخلف، كما تحاول أن تجيب على السؤال: كيف استطاع الفنان العربي أن يتعامل مع هذه الحقيقة المزدوجة التي يحملها في نفسه وواقعه، تقول: "العرب اليوم يشعرون أن تراثهم مجيد، وأنه أسهم فى صنع الحضارة الغربية الحديثة السائدة، ولكنه في نفس الوقت مُنفصم عنها؛ حيث ما يعرف بالعصر الحديث بدأ فى الغرب فى عصر النهضة، في الوقت الذى أفَلَت فيه الحضارة العربية".

الحكاية الشعبية "المعكوسة":

منذ وقت مبكر جداً انتقدت سيزا قاسم موقف المثقف العربي من تراثه ومن حاضره، وأعلنت رفضها أن يتجه الفنان العربي إما نحو الآخر، أو ما يسمى الاستغراب "أي الانتماء للغرب"، أو الانتماء إلى "الفكر السلفي"، أي الانتماء إلى الماضي"، معتبرة الأمرين خيانة. لقد قدمت قراءة لامعةً لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، للكاتب السوداني الراحل الطيب صالح، تجاوزت بها تلك القراءة التقليدية المعروفة عن الرواية وكاتبها، نافية إمكانية الاعتماد على النظرة التقليدية لعلاقة الشرق بالغرب في هذه الرواية، وهى النظرة المعروفة باسم "الثنائية الضدية"، التي كتبها جيل الرواد، مقترحة وجود "طرف ثالث"، هو الذى يحكم ويؤثر فى علاقة الشرق بالغرب، هذا الطرف هو "الوهم"، وربما يكون هذا الوهم هو النسق المهيمن على نص الطيب صالح على جميع المستويات، على المستوى الدلالي الكلي، والمستوى القصصي، والمستوى الأسلوبي أيضاً.

حرصت سيزا قاسم على التأكيد على أن الطيب صالح كان واعياً حين أدخل "الوهم"، أي ما يتوهمه العرب عن أنفسهم وعن الآخر، وما يتوهمه الطرف الآخر "الغرب" عن نفسه وعن العرب، في العلاقة الثنائية بين الشرق والغرب، وبالتالي أدخل "الوهم" طرفاً ثالثاً لتفسير هذه العلاقة التي ظلت ثنائية، منذ رواية "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، ورواية "قنديل أم هاشم"، ليحيى حقي؛ حيث تتضح في هاتين الروايتين تلك "الثنائية الضدية" القائمة على المفاضلة بين الشرق الروحي والغرب المادي، الأمر الذى حوّره الطيب صالح إلى نسق ثلاثي، بحيث يدخل "الوهم" ليصنع "النسق المثلث" أو المبدأ التنظيمي للرواية كلها.

تقول سيزا عن رواية "موسم الهجرة إلى الشمال": "من اللافت للانتباه أن هذه الرواية من أكثر الروايات العربية نجاحاً في الغرب، لأنها تثير في نفوس الناس هناك كل التوقعات الوهمية، التي أرستها العلاقة المغلوطة بين الشرق والغرب، على مستويين خياليين، الأول مستوى الشرق الساحر الخارق الغريب، والثاني مستوى الشرق البسيط الدافئ".

فى قراءتها لـ "حكايات للأمير حتى ينام"، أعادت سيزا قاسم اكتشاف واحد من أصحاب المواهب الاستثنائية فى الرواية العربية، وهو يحيى الطاهر عبدالله، الذى قرأت مجموعته القصصية بوصفها استفادة قصوى من حكايات "ألف ليلة وليلة" في بنيتها العامة، خصوصاً نمط "الحكايات الإطار"، بحيث يحاول الفنان أو الراوي أن يساعد الأمير في العثور على النوم، فإذا نظرنا إلى وظيفة القص هنا ووظيفة القص فى "ألف ليلة وليلة" سنجد أن وظيفة القص هنا معكوسة، لأن "شهرزاد" كانت تحكى الحكايات للملك "شهريار"، في النص القديم، لكى يظل مستيقظاً حتى الفجر، بينما يقوم القص في مجموعة يحيى الطاهر عبدالله على فكرة "التهويدة" التي تسبق النوم، وفى حين كانت وظيفة القص في الليالي هي الخلاص من الموت، يقوم القص عند يحيى الطاهر عبدالله بوظيفة الهروب من الحياة.