يرى الناقد المصري أن الإحالات المرجعية التجريبية في سيرة الكاتب الروائية تشكل جزءا أساسيا من استنتاج وجهة نظر الخطاب، والعلاقة بين الفضاءات الذهنية المتداخلة، وطرائق الربط والمزج الإدراكية، وإنتاجيتها للتكوينات المتداخلة في فضاءات الكتابة، أو إعادة تشكيل الشخصية ضمن العوالم الممكنة التي تقع فيما وراء حقيقتها الواقعية.

الغرابة، والاحتجاب، ووفرة التمثيلات

في بنى الشخصيات الواقعية والفنية في السيرة الروائية «قلم زينب» لأمير تاج السر، مقاربة تداولية – إدراكية

محمد سمير عبدالسلام

 

«قلم زينب» سيرة روائية حديثة للروائي السوداني المبدع د. أمير تاج السر؛ صدرت عن منشورات الاختلاف بالجزائر، وضفاف ببيروت سنة 2014؛ فالسارد – إذا – في الرواية هو المؤلف/ الطبيب، والكاتب؛ وهو يمارس أيضا وظائف السارد في فعل الكتابة من حيث درجة العلم بالذات والآخر/ الشخصية الفنية، أو الشخصية الواقعية، أو الشخصية الواقعية الملتبسة بتاريخ الفن، أو نماذج الذاكرة الجمعية؛ ويقوم السارد – عبر منظور الشخص الأول - بسرد خبرات المؤلف ضمن بنى سردية وظيفية، أو وسائطية لها منطق تأويلي يربط الأجزاء المتفرقة من المواقف الاجتماعية في بنى وتمثيلات ذهنية، ووجهة نظر متضمنة في الخطاب؛ ومن ثم فالتوثيق المتصل بالشخصية، أو الحدث، يأتي مختلطا بالسرد التفسيري، وتمثيلات السارد – المؤلف الذهنية، ودلالات الإحالات المرجعية، والسياق بمستوياته الاجتماعية، والثقافية، والإدراكية، والنصية.

وأرى أن الإحالات المرجعية التجريبية في سيرة د. أمير الروائية/ قلم زينب تشكل جزءا أساسيا من استنتاج وجهة نظر الخطاب، والعلاقة بين الفضاءات الذهنية المتداخلة، وطرائق الربط والمزج الإدراكية، وإنتاجيتها للتكوينات المتداخلة في فضاءات الكتابة، أو إعادة تشكيل الشخصية ضمن العوالم الممكنة التي تقع فيما وراء حقيقتها الواقعية؛ وتطرح آن ريبول – في القاموس الموسوعي للتداولية – إشكالية تعددية الإحالات؛ ومظاهرها اللسانية، والتداولية، وعلاقتها بالتأويل التداولي، وبالفضاءات الذهنية، والعوالم الممكنة في الوقت نفسه. (1)؛ ومن ثم فالإحالة المرجعية – بحد ذاتها – ليست لسانية مباشرة، وإنما تتداخل العلاقات المتشابكة والتمثيلية بين الفضاءات الذهنية، وكذلك إمكانية وجود السارد أو الشخصية في عوالم يعتقد أنها ممكنة أو صحيحة؛ ويستدل عليها من الخطاب.

يقوم نص د. أمير تاج السر – إذا – بدرجة رئيسية على التعددية في الإحالات المرجعية إلى الشخصيات؛ مثل الطبيب – المؤلف / الذات، والآخر / إدريس علي، وزينب، وهويدا الشاطئ، وسماسم، والفضاءات الواقعية التجريبية؛ مثل العيادة، وقسم الشرطة، والصحراء؛ والأشياء؛ مثل قلم زينب؛ ولا يمكن فهم هذه الإحالات المرجعية التجريبية إلا من خلال وجهة النظر المتضمنة في الخطاب السردي الذي يوجهه السارد – المؤلف للمروي عليه في نموذج التواصل الأول في السيرة الروائية؛ فالسارد يحيلنا إلى هويته التي تتجلى في المنطق التفسيري للسرد؛ أي انتظام السرد في بنى متصلة لها علاقة بوجهة النظر التي يطرحها الخطاب بالدرجة الأولى، ثم يحيلنا إلى هوية المؤلف، وتاريخه؛ فهو يمارس الطب، والكتابة معا؛ ويعيد قراءة الشخصيات وفق علاقات التشابه، والتداخل بين الفضاءات الذهنية من جهة، ويومئ إلى إمكانية انتشار الانطباعات، والمرايا، والتمثيلات الذهنية البصرية المولدة عن الحقيقي في عوالم الكتابة الممكنة؛ ومنها الكتابة السيرية / السردية؛ أما هوية المروي عليه، وأدواره فتبدو في استنتاج وجهة النظر، وأفعال الكلام؛ وما تنطوي عليه من تضمينات، ومضمرات، وأثر داخلي قد يتجلى في قوة فعل الكلام المعرفية، أو تحقق لازم فعل الكلام في الحياة المحتملة للمروي عليه.

وأرى أنه يمكننا قراءة دلالات نموذج التواصل الأول – في سيرة د. أمير الروائية / قلم زينب – من خلال آليات المقاربة التداولية الإدراكية للأدب؛ والتي تبدأ من النوايا، والخبرات المعرفية المشتركة، والتمثيلات الذهنية، حتى تحقيق مبدأ الصلة، والتفسير الإدراكي الدينامي لمؤثرات السياق، وأفعال الكلام؛ فضلا عن بناء الاستنتاجات، والحجاج، ومدى تحقق المبدأ التعاوني طبقا لبول غرايس في بنى المحادثات، ودرجة التناغم فيها.

يحيلنا السارد – المؤلف – في مكونات الخطاب الأولى – إلى وفرة الشخصيات كمدخلات بصرية، وسمعية، ولسانية مع وجود قدر كبير من الاحتجاب في تكوينها الواقعي الملتبس بالفن؛ ومن ثم فهو ينتخب مؤثرا سياقيا يتصل بوفرة الصور، والتمثيلات في السياق الثقافي الواسع الذي يربطه بالمروي عليه؛ ومن ثم فكل منهما يدرك وفرة الصور، وتمثيلاتها عبر الكمبيوتر، والإنترنت، فضلا عن بعض الأماكن الواقعية المتضمنة للصور، والحكايات العابرة الوفيرة؛ مثل المتاحف، والعيادات، والكهوف، والفضاءات التي مازالت تحتفظ بالطابع الفولكلوري، وفضاءات الألعاب الإلكترونية، ومواقع التواصل، وغيرها؛ والتي تتدرج في التصاعد في القرن الواحد والعشرين؛ وهو سياق نشر السيرة الروائية، وتحقق نموذج التواصل بين السارد، والمروي عليه؛ ولأن المروي عليه يقع ضمن دائرة السياق نفسه الذي يحتفي بالصور العابرة المؤقتة، والأصوات الشبحية الحلمية، والأسماء / المراجع الشخصية التي لا تمنح هويتها، أو تاريخها بالكامل؛ فكل منهما يقر بحقيقة الوفرة مع الغرابة، ووجود قدر من الاحتجاب قد يكون جزئيا مثل حالة الشخصية الرئيسية / إدريس علي، أو كاملا مثل المدخل اللساني / الاسم / زينب؛ ولا يمكن بناء هوية كل من إدريس، وزينب إدراكيا في موقف التواصل التداولي بين السارد، والمروي عليه إلا ببناء الخبرة الإدراكية المشتركة حول وفرة الصور والأصوات، والمدخلات اللسانية الراهنة والتي تحتمل الإكمال دائما وفق منطق الحكاية؛ ومن ثم فحضور الشخصية الواقعي هو تعددي بالأساس وفق أسس الإحالة المرجعية التي أشارت إليها ريبول، وملتبس بفعل إكمال حكائي محتمل، أو بفعل تمثيل ذهني محتمل أيضا؛ ومن ثم فالصور الواقعية المؤقتة الوفيرة، والطيفية لا يمكن فهمها إلا من خلال التباسها بالصور الفنية الطيفية أيضا؛ ولهذا سيبدو احتجاب شخصية إدريس علي المؤقت، واحتجاب زينب منطقيا ضمن سياق التواصل الثقافي.

يبدأ السارد سيرته الروائية بالإحالة إلى هويته ككاتب، وطبيب وإلى احتجاب إدريس المؤجل، وتجليه الأول كمدرك بصري غريب – مؤقت؛ وسنري أن هذا التجلي قد أزيل الإبهام عنه – في العمل – واقعيا فقط ضمن بنية الحدث، وهوية إدريس الاجتماعية، بينما ظلت غرابته التكوينية محتجبة، وكذلك احتجب تاريخه، وعلاقته بزينب، وحضوره الآخر في مستويات الحلم، والعوالم الممكنة؛ ومن ثم فحضوره كمدرك بصري، وأقواله المبهمة ستظل قابلة للتأويل الحكائي في سياقات متنوعة، وسيظل حضوره الغريب الأول قابلا لإعادة التشكيل السردي، والسيميائي في التداخل بين الفضاءات الذهنية من جهة، وفي صيرورة فعل الكتابة المنتج للشخصيات الفريدة، والمتكرر في مشروع د. أمير الروائي من جهة أخرى.

يقول السارد – المؤلف في بدايات خطابه:

"أول مرة رأيت فيها إدريس علي؛ ذلك النحيل الذي سيربكني أشهرا طويلة بعد ذلك، كان في حي النور الشعبي في الجانب الشرقي من مدينة بورتسودان الساحلية". (2)

تبدأ الإحالات المرجعية التجريبية – في الخطاب – بالإشارة إلى الذات في الفعل رأيت؛ وهذه الإحالة المرجعية تجريبية لأنها تحيل المروي عليه إلى الطبيب، والروائي؛ أي أنها محملة بقدر من الإنتاجية الخيالية الملازمة لإدراك الواقع، وخصوصية شخصياته؛ وتتأكد هذه الإنتاجية عبر الإحالة المرجعية إلى اسم إدريس علي؛ وهو طبقا لوقائع النص، وتطور الحدث اسم مستعار لمحتال اسمه محمود حامد؛ ومن ثم يفضل السارد – المؤلف الاسم الموحي باحتجاب حقيقة الشخصية الواقعية؛ ليوسع من قابلية تمثيلاتها، وتحولاتها السردية، والحلمية في تضمينات الخطاب، ثم يحيلنا إلى المرجع المكاني؛ وهو حي النور ببوتسودان، ليس الحي نفسه، وإنما العيادة الطبية الخاصة التي ظهر فيها إدريس؛ وأرى أنها أيضا إحالة تجريبية للمرجع المكاني؛ لأن الهويات، والتواريخ لا تكون ذات أهمية كبرى في فضاء العيادة التي تعزز من توالي الشخصيات، ووفرة المدركات البصرية، والسمعية، والحكايات المؤقتة إذا كثر العدد؛ ومن ثم يوحي الخطاب – في تضميناته – بالسؤال عن وجود الشخصية الواقعية ضمن حضور واقعي مؤقت، او طيفي ضمن الحدث الواقعي نفسه، والذي يشبه ولادة الشخصية الفنية في الفضاءات الخيالية التي قد تحاكي الواقع، أو تتصل بالفانتازي والممكن، والحلمي.

ويوحي خطاب السارد أنه يعلم بداية قصة إدريس، ونهايتها؛ وأنه قد كون استنتاجا منطقيا عنها قبل أن يكتب المقتطف السابق من سيرته الروائية؛ ولكنه يومئ أيضا إلى ما وراء القصة، والحدث من دلالات، وتضمينات؛ مثل اقتران الحكايات الخيالية باحتجاب الشخصية، ولو كانت واقعية، والتداخل بين الشخصيات الواقعية، والحلمية، والفنية؛ وبخاصة في الحضور المؤقت، والغياب المتكرر، وغرابة التكوين الجسدي، وتمثيلاته الذهنية، ودوره في لسانيات الخطاب كحجة، واتصال هذه الغرابة ببعض الأماكن الشعبية، والفولكلورية؛ وكل هذه التضمينات يؤكدها الخطاب؛ فتجلي إدريس الأول – في الوعي - كان مكانيا بدرجة كبيرة؛ ومصيره – في نهايات الخطاب السردي ارتبط بإعلاء المؤلف من وظيفة الكتابة في مكان شعبي سحري آخر في السودان؛ وهو منطقة طوكر التي انتقل إليها بعد واقعة إزالة الإبهام الواقعي المبدئي عن شخصية إدريس بوصفه محتالا ينفذ عقوبة السجن.

وتشير آن ريبول – في القاموس الموسوعي للتداولية – إلى تحليل ديكرو للألفاظ، أو الصفات ذات الطابع الذاتي في الخطاب عند ديكرو؛ فليس لألفاظ مثل ذكي، ولطيف، وجميل معنى في أنفسها، وإنما تستمد دلالتها من ضروب الاحتجاج التي يمكن أن تنشئها (3).

ولا يمكننا إذا قراءة صفتي نحيل، أو مسبب للارتباك؛ وهما الصفتان الواردتان عن إدريس في المقطع السابق، دون معرفة دور كل منهما في حجاج السرد؛ فنحافة إدريس تؤكد عمليات التخفي، والظهور المراوغ، والملتبس بالغياب في العلاقات المكانية، والمواقف الاجتماعية، وتجعله قريبا من الشخصيات الفنية في مراوحاتها بين الولادة، والظهور، والغياب؛ أما إحداثه للارتباك فهي صفة متعلقة بهويته المؤجلة؛ والتي أزيل الإبهام عنها لاحقا.

إن الإحالة المرجعية إلى إدريس بوصفه شخصية مبهمة في الخطاب تتكشف تدريجيا، وجزئيا في مستواها الواقعي الاجتماعي فقط، يؤكد ارتكاز الخطاب - بدرجة رئيسية - على التأشير اللاحقي؛ أو الكتافورا Cataphora  في الدراسات التداولية المعاصرة؛ إذ يؤكد جورج يول – في كتابه التداولية – أن الضمير قد يستعمل أولا، ويصعب تفسيره إلى أن نصل إلى العبارة الاسمية في الجملة اللاحقة، فيتحقق التأشير اللاحقي / الكتافورا؛ ويتم فهم القصد من خلال الاستدلال، وإيجاد رابط تداولي (4)؛ هكذا يزيل التأشير اللاحقي إبهام بعض الضمائر، أو يستدل من خلاله على مقاصد الخطاب وفق عمليات الاستدلال في وحدة الخطاب؛ ويتصل الخطاب كذلك بالتأشير العائدي الأنافورا Anaphora بدرجة أقل؛ لأن التباس الشخصية الواقعية بشخصيات الرواية تبدو ضمن هوية السارد – المؤلف ومعتقداته الإدراكية الأسبق من مقابلة إدريس، والتي يؤكدها الاستدلال على النية المستقرة، وتاريخ المؤلف، وأعماله الأسبق مثل صائد اليرقات، وانحياز أفعال الكلام المتضمنة في المقطع السابق للتداخل بين الفن، والواقع في تكرار تمثيلات الحضور المؤقت للشخصيات في المكان؛ وهي تتجلى بمجرد ذكر تاء الفاعل الدالة على المدرك في بدايات الخطاب، واتصال المرجع الشخصي بتاريخه السابق؛ ومن ثم فالتأشير العائدي موجود في الخطاب، ولكن التأشير اللاحقي / الكتافورا سيتكشف تدريجيا عبر إزالة الإبهام الجزئية عن إدريس؛ وإن كان وصفه بالمحتال المسجون سينشئ إشكالية أخرى تتمثل في تكرار نموذج المحتال الذي ورد في الليالي، والمقامات، أوحكايات كانتربري لتشوسر، وغيرها؛ ومن ثم فكل من الفن، والواقع يتضمن هذه الشخصية وفق مستويات مختلفة من الحضور؛ ولهذا فهي شخصية تقبل إعادة التمثيل في سياقات تجريبية أوسع من سياق المصير الواقعي؛ وربما استخدم السارد الاسم التمثيلي بصورة دائرية حتى بعد إزالة الإبهام المؤقتة عنها ضمن خطابه المؤكد للتشابه، والتداخل بين الفضاءات الذهنية؛ مثل التداخل بين إدريس، وشخصيات الرواية الخيالية، والتداخل بين فضاء العيادة، وفضاءات الرواية، والتداخل بين الشيء / قلم زينب، والشيء بوصفه مفتتحا للحكي الخيالي.

وقد تضمن خطاب السارد - بصورة رئيسية - فئة التمثيلات أو التاكيدات من الأفعال الكلامية، ولكنه يوحي في التضمينات - بوجود فعل كلامي تعبيري ينحاز للشخصية الواقعية التي تشبه نظائرها الفنية، وتمثيلاتها الخيالية، وكذلك يضمر فعلا كلاميا يوحي بالسؤال عن ذلك الحضور المؤقت الملتبس بالغرابة للشخصيات وتجلياتها البصرية والسمعية واللسانية في الواقع؛ ويحقق المروي عليه قوة فعل الكلام ليس حين يعلم حقيقة إدريس فقط، وإنما حين يدرك التداخل بين شخصيات الواقع، والرواية، ويحقق لازم فعل الكلام حين يكتشف ضمن صيرورته الحياتية مثل هذه التداخلات، وهذا الظهور المؤقت الملتبس بجماليات الفن في الفضاء الواقعي نفسه.

يقول السارد – المؤلف، وقد علم حقيقة إدريس الاجتماعية جزئيا بينما ظلت شخصية زينب مقترنة بالقلم، والحكاية، وصيرورة دوال الكتابة، وتمثيلاتها:

"كانت جلسة طويلة استمرت ساعتين تقريبا، تطرقت فيها إلى كل شيء ماعدا موضوع المحتال إدريس، لم أخبره برؤيتي له معتقلا ضمن مرضى قدموا من مدينة سواكن، واستحالة إثبات أي تهمة عليه، وهو في السجن ...

في الصباح كانت العربة الحكومية التابعة لمستشفى طوكر الريفي تقلني في الصحراء بعيدا وسط خلاء جاف، ورمال متشعبة في شكل تلال عالية، أراقب السراب الذي أخاله ماء ... كان بحوزتي أكثر من عشرين قلما من ماركة قلم زينب، اشتريتها من سوق شعبي مررنا به قبل مغادرة المدينة، وأنوي استخدامها في الكتابة" (5)

يؤكد الخطاب – إذا – التداخل بين الشخصية الفنية، والواقعية عبر إخفاء السارد لمصير إدريس الواقعي في لقائه الأخير مع الشاويش خضر؛ وقد حقق إزالة الإبهام عن هوية إدريس الاجتماعية بوصفه محتالا سابقا، ربما هرب ليرتكب جرائم استغلال باسمه؛ مثل استيلائه على أموال زوار الكعبة وإقامتهم ببيت عائلة السارد، أو استغلال السيارة، أو المولد الكهربائي، أو مطعم فضل الله قريب السارد الذي توفي بجلطة عقب حادثة إدريس، وكان مريضا سابقا، أو القبيلة التي أتت لتعالج مجانا بدعوى أنهم أقارب إدريس صديق الطبيب؛ لم تكن جرائم إدريس – إذا – ذات نتائج كارثية ضخمة، أو مدمرة؛ ولكنها سببت للسارد إرباكا يختص بفكرة الاحتيال نفسها باعتبارها فكرة مضادة لمبدأ التعاطف الإنساني الطبيعي، وذات نتائج سلبية منذ بداية التاريخ البشري، وسببت إرباكا يختص بإزالة الإبهام عن ذلك الشخص الذي يدعي الصداقة؛ ولكن المقطع السابق من الخطاب حقق التأشير اللاحقي جزئيا عن إدريس في سياق نية السارد أن يخفي حقيقته عن الشاويش خضر، وأن يستخدم في مونولوجه الداخلي اسم إدريس التمثيلي؛ وهو ما يؤكد أن التمثيلات السابقة تتضمن انحيازا لاحتجاب الجوانب الأخرى من وجود إدريس في الذاكرة، والخيال؛ ومن ثم ينشئ الخطاب فعلا كلاميا تعبيريا ينحاز لتوليد الحكايات المحتملة من مراوغات الظهور، والغياب، ومن زيف التاريخ الواقعي لإدريس، أو من سلب تاريخ زينب بعيدا عن وقائع الاحتيال المذكورة ضمن المنطق التأويلي للسرد؛ وقد اقترن إدريس - في سياق إزالة الإبهام اللاحقة لظهورة الشبحي الأول - بظهور واقعي آخر في المستشفي؛ وهي أيضا مرجع مكاني يحتمل وفرة المدخلات البصرية، والسمعية، واللسانية المؤقتة التي تشبه الكتابة، والحلم في مراوغاتها بين الظهور، والغياب؛ ومن ثم فحضور إدريس المكاني هو حضور تجريبي بغض النظر عن حقيقته الاجتماعية؛ وهو حضور يشبه سماسم التي أشاعت أن الطبيب يرغب في الزواج منها، وكان ظهورها المتكرر مقترنا بغياب مؤقت في المكان أيضا؛ وهو ما يوحي بأن المكان الواقعي – التجريبي يسهم في الحضور المؤقت للصور، والشخصيات، وما يتولد عنها من انعكاسات، وانطباعات، وتمثيلات ذهنية وفيرة، وبنى تفسيرية منطقية تنشأ عن التواصل، والنظام المركزي في دماغ السارد.

ويوحي استخدام القواعد النحوية في الخطاب بدلالات السلب التي اقترنت بإدريس بينما يوحي أيضا بنية إخفاء إدريس الحقيقي، وإعادة كتابته في استخدامه كمستثنى من الحديث "ماعدا موضوع المحتال إدريس"، ولكنه اتصل بالسلب في "لم أخبره برؤيتي له" ويتعلق النفي هنا بصورة إدريس السلبية كمسجون أو مريض أو محتال، بينما يظل الجزء الخاص بالغرابة، والاحتجاب في حالة من التصاعد الإيجابي حين أسند مجموعة من أقلام زينب إلى ذاته عبر استخدامه لصيغة الدلالة على الملكية في مستوى القواعد النحوية في الخطاب "كان بحوزتي أكثر من عشرين قلما ..."؛ مما يدل على نيته في الكتابة بذلك القلم الذي اتصل بالغموض الإبداعي، أو الاحتجاب، أو الغرابة في ظهور إدريس الأول كصديق، وافتتاح القلم لانطباعات عديدة عن شخصية زينب المبهمة، والتي لا يمكن إزالة إبهامها الواقعي بأية تأشيرات لاحقية ممكنة سوى فعل الكتابة؛ ونلاحظ أن قلم زينب تجلى في البداية كهدية، بينما تجلى هنا كشيء مملوك باختيار السارد، وقد اشتراه بنفسه؛ وهو ما يؤكد أن القلم قد اكتسب حضورا جماليا آخر تعدديا من جهة، وأنه سيستخدم في بنية الحضور، وفي المستقبل في كتابة الشخصيات ذات الحضور الوفير المؤقت والتي يتوقع وفرتها في منطقة طوكر السحرية من جهة أخرى؛ ولهذا جاء شراء قلم زينب ضمن ماض قريب لا حق على كشف حقيقة إدريس بينما جاءت نية الكتابة ضمن جملة المضارع "أنوي استخدامها في الكتابة"؛ وهو ما يدل على زيادة توقعات التداخل بين شخصيات الواقع، والرواية في فضاءات واقعية جديدة منتجة للشخصيات ذات الحضور المؤقت، والحكايات التي تستدعي الإكمال دائما في فضاء تجريبي يؤكده الخطاب عبر انتخاب السارد للسراب، والصحراء، والإحالة المرجعية إلى السيارة؛ وهي فضاء يبدو فيه الإدراك البصري للعالم الخارجي مؤجلا، ومحتملا، ويقبل المزيد من التمثيلات؛ وهو ما يؤكد تحقيق مبدأ الصلة وفق سبيربر، وويلسون في نموذج التواصل بين السارد، والمروي عليه؛ فالسارد ينتخب من المؤثرات السياقية في الموقف الفعلي ظاهرة السراب، وصورة الرمال المتموجة، ويمزجهما بفضاءاته الذهنية الأسبق عن الشخصيات الغريبة المؤقتة التي تشبه الحلم؛ ليعيد بناء خبرة عمله في منطقة طوكر منطقيا بصورة تعلي من الكتابة في فضاء واقعي تجريبي متعلق أيضا بمهنة الطب.

وأرى أن الخطاب يتضمن شبكة من التداخلات الإدراكية بين إدريس، وانعاكاساته في الفضاءات الخيالية، والواقعية التي قد تكمل صورته، بينما يضمر إمكانية إعادة إنتاجه وفق سياق مغاير، وتاريخ آخر قد يتصل بالنماذج المشابهة، أو بشخصيات فنية لها تكوين مختلف، أو ميول مضادة لإدريس الأول؛ فهي صور قد تنبع بدرجة أكبر من التمثيلات؛ مثل التي يمكن توليدها من حكايات زينب المحتملة.

وتؤكد جوليا سمورتشيكوفا في دراستها مع مايكل موريز، والمعنونة ب الأنواع التمثيلية، أو أنواع التمثيلات الذهنية – ضمن كتاب ما هي التمثيلات الذهنية؟  – أن التمثيلات الذهنية تلعب دورا في العمليات العقلية بما في ذلك العمليات الحسابية، والاستنتاجات، وكذلك العمليات غير الحسابية، أو الاستنتاجية؛ وقد تتلاعب الصور المرئية بالتمثيلات نفسها في الإدراك البصري، ويميل التمثيل المرئي، أو الخطابي إلى أن يكون أيقونيا، أو حقيقيا حسب من يقوم بفعل المعالجة. (6)

توسع سمورتشيكوفا – إذا – من اتصال التمثيلات الذهنية بالعمليات العقلية، وتعزز من طابعها الإدراكي الدينامي؛ وبخاصة في الإدراك البصري؛ وطرائق تمثيل العلامات حسب المدرك؛ وسنعاين طرائق إدراك السارد – المؤلف للآخر في سيرة د. أمير تاج السر الروائية وفق تلك الدينامية في بنية التمثيلات الذهنية المرئية، أو الخطابية؛ فهو يلاحظ الغرابة ابتداء في شعر إدريس علي، وبنيته الجسدية النحيلة، وملابسه التي تعكس حالة الصراع، كما يرتكز السارد بصريا على صورة أخرى معلقة لأحد المسؤولين القدامى يكرم فيها ممرضه؛ وهي صورة توحي بالحضور الطيفي للشخصية التي تشبه - من بعض الوجوه - ظهور إدريس البصري المبتور المفاجئ والغريب في المشهد؛ ومن الممكن أن تتصل هذه الصورة المرئية الدينامية بأخيلة روائية أخرى في فضاء ممكن آخر تتجلى فيه وفق مراوحات الظهور والغياب المتكررة؛ أما شخصية زينب فتخضع لتمثيل آخر يقوم على تفسير الخطاب، وبناء الاستنتاجات المتعلقة بتواريخ ممكنة في أزمنة، وأماكن مشابهة، أو خيالية؛ وأي تمثيلات بصرية ستكون أقرب للجانب التصويري منها إلى الجانب الحقيقي الذي تحقق جزئيا في تمثيلات إدريس البصرية؛ وقد قاربت استنتاجات السارد على الاكتمال حين عرف من هويدا الشاطئ الفتاة التي وضعت مولودا عن قصة حب، وكذب إدريس عليها حين ذكر أنه صديق الطبيب؛ ومن ثم التقت غرابة إدريس بكذبه في وعي السارد، واستنتاجاته؛ وإن ظلت الغرابة باقية في مستويات حضوره الأخرى، وفي عبارة زينب الخطابية.

ويمكننا قراءة التداخل بين الفضاءات الذهنية – في وحدة الخطاب – وفق نموذج مارك تيرنر الإدراكي الذي تطور عن استعارة لاكوف الإدراكية، وتداخل الفضاءات عند فوكونير؛ فالنموذج قد أضاف فضاء للمزج والتداخل ينتج عن شبكة التداخلات، والتماثلات بين فضاءات الإدخال المتنوعة، وتشابه عناصرها الجزئية، أو سماتها، فضلا عن الفضاء العام.

ويقترح مارك تيرنر – في كتابه أصل الأفكار، وطرائق بناء الروابط، الإبداع، ووهج تكوين الفضاءات الذهنية – استخدام المرايا، والظلال، والانطباعات، والأصداء، والصور الشخصية، وآثار الأقدام في تعزيز المزج بين الفضاءات الذهنية، وعلاقات التداخل، والتشابه بين فضاءات الإدخال؛ فحين تنظر امرأة إلى نفسها في المرآة، تتوسع في إنتاج مزيج من ذاتها المستقرة، وذواتها الأخرى في الشبكة العقلية؛ وهي تقيم حوارا مع ذاتها بطريقة مشابهة لإجراء الأفراد المختلفين لمحادثة حول موضوع مشترك مثل الهوية. (7)

يقدم مارك تيرنر – إذا – منظورا تجريبيا إدراكيا حول الهوية عبر التداخل، والتشابه بين الذات وانعكاساتها، وصورها الأخرى، وتمثيلاتها، وآثارها من جهة، والتداخل بين الحوارية الداخلية، وبنية المحادثة من جهة أخرى؛ فضلا عن إنتاجية المزيج بين الذات المستقرة نسبيا، والصورة، أو الانعكاس؛ ولهذا يمكننا قراءة علاقات التداخل، والتماثل في الشبكة العقلية بين إدريس علي كشخصية واقعية، والشخصية الفنية الروائية في مستويين من مستوى الإدخال؛ وسيكون الفضاء العام هو الشخصية الواقعية الملتبسة بالغرابة، والاحتجاب؛ أما فضاء الإدخال الأول فهو شخصية إدريس الواقعية بما تتضمنه من غرابة، واحتجاب، ووفرة الأشباه مثل الطفل الفقير إدريس، والمرأة التي تريد أن يكون اسمها إدريس، وغيرها؛ أما فضاء الإدخال الثاني سيكون الشخصية الفنية في الرواية؛ وتتشكل العلاقات بين العناصر، والسمات الجزئية وفق علاقة كل عنصر بما يشابهه في الفضاء الآخر؛ فالظهور الواقعي المؤقت الملتبس بالاحتجاب في الشخصية الواقعية، يماثل الظهور الإبداعي غير الحتمي للشخصية الفنية، وتتصل الشخصية الواقعية أحيانا بنماذج الماضي مثل نموذج المحتال، بينما تسهم الشخصية الفنية في الإضافة للنماذج، وتنشئ تمثيلاتها المضافة في الآخر، وتقبل الشخصية الواقعية التحول الخيالي في سياق فني، بينما نجد الشخصية الفنية أقرب للاندماج في أي سياق جمالي محتمل، ويعاد إنتاجها في غير زمنها الخاص، وتزداد تعددية التفاسير في الشخصية الواقعية المحتجبة، بينما تنتشر التفاسير، والتمثيلات الذهنية بدرجة أكبر في فضاء الشخصية الفنية؛ لاتصالها بوعي، ولاوعي الذات، والآخر، وبفعل القراءة، ومصيرها غير محسوم بدرجة نهائية؛ لأنه تمثيلي؛ وسيتكون فضاء المزج من الشخصية الواقعية التي تقبل الإحالة المرجعية الإبداعية أو الحضور في سياقات أخرى تكمل حضورها الأول.

أما التداخل الثاني - في بنية الخطاب - فيقع بين فضاءي العيادة، والفضاء الروائي المتخيل؛ فالفضاء العام فيه هو المكان الواقعي المؤقت؛ وسيكون فضاء الإدخال الأول هو العيادة بوصفها مكانا للحضور المؤقت للشخصيات كمدخلات بصرية وسمعية وخطابية؛ أما فضاء الإدخال الثاني فهو فضاء الرواية أو الحكاية المتخيل؛ وتتشكل شبكة الروابط والتماثلات بين وفرة الشخصيات، وتوليدها للتمثيلات الذهنية في العيادة، ووفرة الشخصيات ذات الحضور المؤقت، وتمثيلاتها المضاعفة في الفضاء الخيالي، وتأتي الشخصية الواقعية ملتبسة بالغياب، أو احتجاب قسم كبير من تاريخها في الفضاء المؤقت / العيادة، بينما تتعلق بتمثيلات السارد، وتحولات السرد، وصيرورته السيميائية في فضاءات الرواية؛ وتقبل الشخصية الواقعية بناء الاستنتاجات التفسيرية وفق ما هو معروف من سلوكها، وخطابها، وتاريخها، وحضورها في المكان، بينما تتداخل التفاسير أو تتنازع في بنية الشخصية الفنية وفق تمثيلاتها لدى المبدعين والقراء، وقابليتها للتجدد في سياق آخر، وفي مراجع مكانية مغايرة؛ أما فضاء المزج فيتشكل من فضاء تجريبي فني توليدي للشخصيات المؤقتة، وآثارها، ويقع بين العيادة، ومنطقة طوكر بطبيعتها الخيالية، وفضاء الرواية التجريبي أو الفانتازي، أو الوقعي السحري، أو الحلمي المنتج لمراجع مكانية خيالية متجددة.

أما قلم زينب فيتجلى في الفضاء العام كعلامة واقعية / هدية ملتبسة بوجود نظائر، وحكايات واقعية أو خيالية محتجبة؛ وهو كعلامة واقعية يتداخل مع قلم زينب الآخر المستخدم في فعل الكتابة، والمرتبط ارتباطا وثيقا بأخيلتها الإبداعية، وتوليدها للشخصيات الفريدة؛ فقلم زينب الواقعي يتصل بصورة غير مباشرة بفعل الكتابة عبر الإحالة المرجعية إلى شخصية لا يمكن فهمها بصورة حقيقية إلا عبر التخييل؛ أما قلم زينب المملوك للسارد – المؤلف فيتصل مباشرة بالكتابة وإنتاجية الشخصية وحكايتها ومصيرها الخيالي المحتمل؛ وسنجد أن قلم زينب الواقعي يزيد من درجة غرابة الشخصية الواقعية عبر حضوره كمدرك بصري هامشي، ولكنه ذو أهمية كبيرة في الخطاب، بينما قلم زينب المملوك للسارد – المؤلف يعيد إنتاج تلك الغرابة الفنية، ويسعى للقائها في فضاء واقعي، أو فضاء ممكن آخر؛ وقلم زينب الواقعي يفكك الشخصية، ويؤجل اكتمالها الواقعي، بينما يحتفي قلم زينب الآخر بفعل الإكمال، أو يعيد بناءها في سياق خيالي / واقعي متجدد.

لقد نشأ إدريس علي كمدرك بصري يحمل تمثيلات الغرابة الفنية في وعي، ولاوعي المؤلف؛ ومن ثم فحضوره الأول في الخطاب يقترن بحالة التداخل بين الواقعي، والفني في فضاء العيادة، ولكن حقيقته الواقعية أيضا تتصل بالنماذج الحكائية عن المحتال، وتتصل بتكرار الحضور المؤقت؛ وكلها حالات تتدرج في القوة الحجاجية حتى نصل إلى النتيجة؛ وهي إمكانية الإكمال الفني للشخصية الواقعية؛ وذلك وفقا للسلم الحجاجي عند ديكرو؛ ويشير جاك موشلر في توصيفه لسلم ديكرو الحجاجي – في القاموس الموسوعي للتداولية – إلى أن القسم الحجاجي يتم تحديده بالنسبة إلى مفهوم النتيجة من جهة، والمتكلم من جهة ثانية؛ فإذا انتمى قولان أو أكثر إلى باب حجاجي واحد فذلك يعني أنهما يؤكدان النتيجة نفسها، واختيارات المتكلم الواحد عبر التدرج في القوة الحجاجية. (8)

وتتدرج الحجاج، والفرضيات في قوتها في - عمل د. أمير – وفق القسم الواحد الدال على الاتصال بين إدريس علي، والشخصية الفنية في الحضور المؤقت الغريب، وعالم السارد / المتكلم بوصقه روائيا، وتبدأ من الحضور المؤقت ق 1، ثم تكرار مراوحة الظهور والغياب المفاجئ في لحظة الكشف، واتصالها بنماذج حكائية قديمة ق / الحجة الأقوة، وصولا إلى إمكانية الإكمال الفني الجمالي للشخصية الواقعية / ن.

وإذا قمنا بتحليل المحادثة الرئيسية في السيرة الروائية سنكشف عن وجود بعض التناغم غير المباشر في بنية المحادثة بين السارد – المؤلف، وإدريس وفق مبدأ بول غرايس التعاوني، والألعاب السلوكية، وأفعال الكلام، ونظرية الصلة طبقا للتداولية الإدراكية لدى دان سبيربر، وديردري ويلسون.

يقول السارد:

"قال أنه رجل أعمال بسيط يتاجر في بضائع شتى، يجلبها من العاصمة وبلاد الخليج العربي، وتايوان، ولا يقيم في حي النور، لكنه يأتي بشكل شبه يومي، يزور أقاربه العديدين الذين يقطنون في الحي، ويروج لتجارته ...

أخرج من جيبه قلما سائلا أسود اللون، بلا ماركة محددة من ذلك النوع الذي تعثر عليه في الأسواق الشعبية ...، وضعه أمامي على الطاولة، وهو يردد:

-هدية بسيطة ستتبعها هدايا أخرى في المستقبل، أرجوك اقبلها من أجل زينب .. من أجل زينب.

ثم انفلت خارجا من دون أن يترك لي فرصة الرفض، أو يخبرني عن زينب التي يجب علي أن أقبل هديته الرخيصة من أجلها". (9)

ونلاحظ أن السارد – المؤلف قد انتبه لغرابة تكوين إدريس علي، وتصرفه، وظهوره المفاجئ المؤقت ضمن نية مستقرة تدرك التداخل، أو التشابه المنطقى بين الشخصيات الواقعية في فضاء العيادة المؤقت، وبزوغ شخصيات الفن وتطورها، وحضورها المؤقت أحيانا في فعل الكتابة، بينما يؤكد الخطاب أن سلوك إدريس علي يتضمن – بصورة غير مباشرة – نية مخططة ومنظمة لادعاء الصداقة بهدف الاستغلال، والإرباك؛ ومن ثم تنفصل النوايا والأمزجة في بنية المحادثة؛ ولكننا قد نجد نوعا من التناغم والتوافق في بناء المعارف، والخبرات الإدراكية المشتركة؛ ولكنه تناغم مؤجل أيضا؛ فالسارد بحكم دوره ككاتب يميل لإكمال الغموض، والاحتجاب في بعض الشخصيات الواقعية، وتمثيلاتها المحتملة؛ فهو يعزز من ذلك الاحتجاب، ومن غرائبية بعض الشخصيات الواقعية، بينما نجد أن إدريس علي يعزز من الاحتجاب فيما يخص استطراده عن هويته، والاقتصاد فيما يتعلق بزينب؛ ولكن بغرض المراوغة المكانية، والاجتماعية التي تمكنه من إحداث وقائع مربكة غير مباشرة؛ ولهذا تزدوج إيماءات الاتصال والانفصال في بنية المحادثة.

ويعزز برانو ج. بارا - في كتابه التداولية الإدراكية - من دور الألعاب السلوكية في حدث التواصل، والتي تمكن الفاعلين من تنسيق أفعالهم، وتستخدم لانتقاء المعنى المناسب من بين معان عديدة محتملة في الكلام وتتصل ببناء خطة عمل مشتركة، وبالتمثيلات الصريحة أو الضمنية، والحالات الذهنية، وخصوصية موضوع التواصل. (10)

وسنجد أن محادثة السارد مع إدريس قد جاءت بدون بناء خطة مشتركة، وإن تصادف أنهما قد اتفقا حول التعزيز من خصوصية الموضوع / الاحتجاب، والغرابة، في سياقين تفسيريين متعارضين؛ ومن ثم يقرر السارد أن يبدأ في تتبع إدريس بعد وقائع الاحتيال، ولكنه يجده أيضا مرة أخرى بصورة غامضة مفاجئة كسجين سابق مريض، وذي تاريخ شخصي محتجب أيضا، وفي حالة من الصمت؛ وقد قام كل منهما بإدراك موقف التواصل الفعلي بصورة مغايرة؛ فهو موقف يحتمل وفرة حضور الشخصيات المؤقتة التي يمكن الاستدلال من خلالها على تأويل وجودي للشخصيات الواقعية، والفنية لدى السارد – المؤلف؛ وهو موقف يبني فيه إدريس علي هوية متخيلة تقوم على المراوغة المكانية، والاجتماعية؛ لتحقيق المنفعة المربكة للآخر.

وسنلاحظ أن خطاب السارد عن إدريس يراوح بين التمثيلات، أو التأكيدات التي تتضمن فعلا كلاميا تعبيريا ينحاز لغرابة الظهور الأول للشخصية في المكان، والانحياز لبنية الاحتجاب في تكوين إدريس وخطابه، وفي شخصية زينب، والشيء / القلم؛ أما خطاب إدريس فقد غلبت عليه التوجيهات حين أمر السارد بأن يقبل الهدية / القلم، والوعديات؛ حين وعده بهدايا أخرى؛ ويبدو أن الوعد كان يضمر وعيدا في نوع من السخرية، وكذلك تمثيله لهويته المتخيلة كتاجر بسيط، وصديق ممكن للسارد؛ ولهذا فخطاب إدريس متعلق – بدرجة كبيرة - بالآخر في الموقف الاجتماعي؛ فأفعاله الكلامية تتطلب فعلا آخر، أو استجابة؛ مثل قبول الهدية، وقبول الصداقة في المستقبل؛ أما أفعال السارد التمثيلية، والتعبيرية فتتعلق بإدراكه للوجود، والشخصيات الفريدة، وإعادة إنتاجها في فعل الكتابة؛ فهو أكثر قربا من الشخصية الفنية، أو تمثيلات الشخصية الواقعية ضمن تحققها الواقعي غير المكتمل، والملتبس بالغياب، وحضور الانعكاسات، والانطباعات، والتشبيهات.

وإذا قرأنا المحادثة وفق مبدأ بول غرايس التعاوني المتضمن للكم، والجودة، والصلة، والأسلوب، سنعاين استطراد إدريس في كم المعلومات عن هويته، وعلاقته بالحي، واقتصاده فيما يتعلق بزينب، أو بالمبرر الحقيقي لحضوره؛ أما السارد فقد اقتصد في فعل التواصل إلى أن تتكشف هوية إدريس؛ ولأن كم البيانات التي ذكرها إدريس غير مطابق لهويته فقد انفصل عن السارد فيما يتعلق بالجودة / مطابقة الواقع، وإن بدت جملة من أجل زينب المكررة مطابقة لغرابة الشخصيات الفنية أو الواقعية في تجلياتها الأولى في الفضاءات المؤقتة؛ مثل العيادة، والسيارة، والمستشفى، والسجن، والصحراء، أو في صيرورة الرواية، وتعددية طرائق الإدراك، ووجهات النظر فيها.

ويرى كل من دان سبيربر، وديردري ويلسون – في دراستهما نظرية الصلة – أن المدخلات التي قد تحقق مبدأ الصلة قد تتسع؛ لتشمل الألفاظ، والظواهر المرئية، والأفكار، والاستنتاجات، واستنتاجات الاستنتاجات، وقد تبدو في مشهد، أو صوت، أو كلام، أو صورة من الذاكرة، وتعلو درجة الصلة، والأهمية حين يتصل بالخلفية المعرفية، ومؤثرات السياق معا. (11)

وسنجد أن السارد قد انتخب من موقف التواصل الفعلي غرابة تكوين إدريس، واتصلت تلك الغرابة بذاكرته الأدبية، والشخصيات الأسبق في تاريخ الفن، وفي كتاباته الروائية، وفي بعض الأماكن الشعبية، أو المؤقتة المنتجة للشخصيات ذات الحضور المفاجئ المؤقت؛ ولهذا قد يتشابه مصير هويدا الشاطئ الغريب  مع غرابة حضور إدريس الأول، يتصل حضوره بغرابة المرأة التي ترغب أن يكون اسمها إدريس، أو بحضور المسئول السابق الطيفي في الصورة الفوتوغرافية التي وجدت في المشهد كمؤثر سياقي يعزز من انحياز السارد للتداخل الممكن بين الشخصية الواقعية، وتمثيلاتها الفنية الممكنة؛ وقد يكون مثل هذا التداخل وجد كاستنتاج سابق في معتقدات السارد، وخبراته الإدراكية، فهو يأتي هنا كاستنتاج متولد عن الاستنتاج السابق في وحدة الخطاب؛ وقد انتخب السارد أيضا تكرار إدريس لشخصية زينب المحتجبة في خطابه؛ وهي تتجلى كمدخل لساني يقبل التمثيلات الحكائية التأويلية المتنوعة، أو المتعارضة، ولهذا نجد السارد قد حقق لازم فعل الكلام حين اشترى أقلاما مماثلة ونوى الكتابة، واستحضر زينب / الشخصية الواقعية / الفنية المؤجلة.

ويستحضر السارد – المؤلف شخصية إدريس ضمن بنية حكائية تفسيرية تالية لمعرفته بحقيقة إدريس الواقعية؛ ومن ثم فحضور إدريس الآخر في الحكاية يدل على مزج السارد بين توثيق الحكاية، ومنحها تمثيلات، وتأويلات مضافة وفق اتصال احتجابها بالإكمال، أو بوفرة الشخصيات الطيفية المثيلة، أو بدائرية اللقاء المباغت، والتاريخ غير المكتمل، والتجلي المكاني غير المستقر، وما يتضمنه من دلالات تختص بمفهومي الوجود، والكينونة؛ ولهذا فقد انتظمت وظائف حكاية إدريس ضمن الإخبار، والانحياز التعبيري للتصوير الإبداعي معا.

وأرى أخيرا أن شخصيات مثل إدريس، وزينب، وهويدا، وشخصيات الأحياء الشعبية الملهمة؛ مثل حي طوكر - في النص - تقبل المزج، والتمثيل، والإكمال بين الواقع، والفضاء الممكن، وفضاءات الحلم والكتابة، وتعزز من ذلك التداخل بين الفن والواقع، وتمثيلاتهما الإدراكية في مسيرة السرد العربي المعاصر.

*هوامش الدراسة:

(1) راجع، آن ريبول، وجاك موشلر، القاموس الموسوعي للتداولية، ت: بإشراف د. عز الدين المجدوب، دار سيناترا، المركز القومي للترجمة بتونس، ط2، 2010، ص 161.

(2) د. أمير تاج السر، قلم زينب، منشورات الاختلاف بالجزائر، وضفاف ببيروت، ط1، سنة 2014، ص 4.

(3) راجع آن ريبول، وجاك موشلر، السابق، ص 423.

(4) راجع، جورج يول، التداولية، ترجمة: د. قصي العتابي، الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت، ودار الأمان بالرباط، ط1، سنة 2010، ص 47، 49.

(5) د. أمير تاج السر، السابق، ص-ص 128، 129.

(6) Read, Joulia Smortchkova and Michael Murez, Representational Kinds in What are Mental Representations? , Editid by: Joulia Smortchkova, Krzysztof Dołęga and Tobias Schlicht, Oxford University Press, 2020 p. 213: 241.  

(7) Read, Mark Turner, The Origin of Ideas: Blending, Creativity, and the Human Spark, Oxford University Press, 2014, p.67.

(8) راجع جاك موشلر، وآن ريبول، السابق، ص 298.

(9) د. أمير تاج السر، السابق، ص-ص 11، 12.

(10) Read, Bruno G. Bara, Cognitive Pragmatics: The Mental Processes of Communication, Translated by John Dauthwaite, : A Bradford Book, 2010. P-p 96, 97.

(11) Read, Dan Sperber and Deirdre Wilson, Relevance Theory, in L. Horn and G. Ward (eds.) Handbook of Pragmatics, Oxford, Blackwell, 2006, p-p 250, 251.

 

msameerster@gmail.com