يكشف الشاعر المصري في تحليله للفص النوحي من «فصوص الحكم» على ضوء منهج هيجل الجدلي، عن أن الفيلسوف العربي الكبير قد بنى تصوره لوحدة الوجود فيه، ولمسيرة النبوة حتى اكتمالها المحمدي، على منهج جدلي متكامل قبل هيجل بستة قرون، لوعيه مثله بفكر أفلاطون وأفلوطين، دون أن يسميه بذلك.

بين هيجل وابن عربي

الدياليكتيك في الفص النوحي

عـمرو البطَّـا

 

لماذا دافع ابن عربي عن قوم نوح الذين أُغرقوا بالطوفان؟ للإجابة على هذا السؤال علينا أن نستعرض أولا نظريته في وحدة الوجود، والتشبيه والتنزيه، ووحدة الأديان، فعلى ضوء تلك النظريات وحدها يمكن فهم ذلك الطرح الغريب.

وحدة الوجود
تختلف وحدة الوجود عند ابن عربي والمتصوفة الذين نحوا نحوه عن وحدة الوجود عند غيرهم، كالبراهمة مثلا. فوحدة الوجود عند الآخرين – على اختلاف مذاهبهم – توحد بين الطبيعة والإله بصيغ مختلفة، فالكون هو الله، والله هو الكون، هما وجهان للشيء ذاته. أما وحدة الوجود عند ابن عربي فهي تندرج ضمن تراث المثالية الفلسفية الواحدية الممتد من بارمينيدس حتى العصر الحديث، والقائم على رد الوجود إلى مبدأ واحد، دون أن يعني ذلك بالضرورة التوحيد بين الله/ المطلق والكون. لم يزل الإله إذن عند ابن عربي هو إله الديانات الإبراهيمية المفارق للكون، لكن ابن عربي أوضح جانبا آخر لذلك الإله، جانبا باطنا غفل عنه من يسميهم بأهل الظاهر، يتجلى في كل الكون، وبذلك يكون الحق سبحانه مفارقا للكون ومتجليا فيه في آن.

وفي بيان ذلك يوضح ابن عربي أن الوجود الحق هو وجود الحق سبحانه، وما لسوى الحق وجود، وهذا لا يعني بالطبع أن كل الكائنات هي الله، فكل كائن له وجود مستقل، لكن ذلك الوجود الأخير زائف غير حقيقي، لأنه عارض حادث غير قائم بذاته، يعتمد في كل لحظة على وجود الله القديم في قيامه. فوجود الكائنات بالنسبة لوجود الله كوجود الظل بالنسبة إلى الجسم، فالظل ليس جزءا من الجسم، وإنما هو شيء مستقل، بيد أنه يعتمد في وجوده على الجسم الذي هو ظل له، لذلك فوجود الظل زائف غير حقيقي، ووجود الجسم حقيقي. كذلك وجود الكون بالنسبة إلى وجود الحق زائف، فوجود الكون معتمد على وجود الحق، ومن تجليات صفات الحق يستمد الكون وجوده. لذلك فالوجود الحق هو وجود الله، وما لسوى الحق إلا وجود مجازي.

وفي بيان تجلي الحق في الوجود يفرق ابن عربي بين ذات الحق وصفاته، فالله عز وجل مفارق للكون بذاته، منزه بها عن الشبه والمثل، لا تدركه الأبصار ولا يستطيل إليه الخيال، بيد أن صفات الله عز وجل تتجلى في كل الكون، وبدون هذا التجلي لا يكون للكون وجود. فالشمس بهية لأن بهاء الله يتجلى فيها، والسيف قوي لأن قوة الله تتجلى فيه "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". وهذا لا يعني أن الشمس والسيف أصبحا هما والله شيئا واحدا، فلكل من الشمس والسيف وجود خاص، لكنه وجود زائف عارض يعتمد في قيامه على الوجود الحق لله، فلا يستأهل ذلك الوجود الناقص أن نسميه وجودا، ولا يصح أن ننشغل به عن الوجود الحق. يقول ابن عربي "إن للحق في كل خلق ظهورا، فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم، إلا فهم من قال إن العالم صورته وهويته".

ويتضح الفارق بين الوجود الحق المقصود من وحدة الوجود والوجود المادي العارض الزائف للكائنات الحادثة في قول ابن عربي "فنسبته (أي الحق سبحانه) لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة"، وإن "الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق إنسانا، ولكن يقال فيها إنها صورة إنسان، فلا فرق بينها وبين صورة من الخشب والحجارة، ولا ينطلق عليها اسم إنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة"، وهذا هو المعنى المقصود بوحدة الوجود؛ أي وحدة الوجود الحقيقي الذي يعطي للكائنات صورتها ووجودها كما تعطي الروح للجسد وجوده الحقيقي، دون التفات إلى الوجود المادي العارض والزائف للموجودات الجزئية.

ولا يخفى وجه الشبه الواضح في العلاقة بين الكون وصفات الحق عند ابن عربي مع العلاقة بين الموجودات والمثل الكلية لدى أفلاطون؛ فالموجودات لدى أفلاطون ليست هي المثل، لكن وجودها مستمد من المثل، ووجود تلك المثل هو الوجود الحق الذي يتعين على الفيلسوف دراسته ملتفتا عن الموجودات الجزئية. بل يمكننا القول باطمئنان إن نظرية ابن عربي تكاد تتطابق مع نظرية الفيض الإلهي لأفلوطين رائد الأفلاطونية المحدثة.

التشبيه والتنزيه:
طالما أن الله عز وجل مفارق للعالم بذاته التي لا تدركها الأبصار، متجل في الكون بصفاته الظاهرة في كل شيء، فالله عز وجل إذن منزه ومشبه في الوقت نفسه، منزه عن الشبيه بذاته، متشبهة كل الموجودات بصفاته المتجلية في كل العالم، صفاته التي يقوم عليها وجود العالم الحقيقي. ولا يقوم التوحيد عند أهل الحقيقة في نظر ابن عربي إلا بالجمع بين هذين الاثنين؛ التشبيه والتنزيه، فهما جناحا التوحيد الذي لا يستقيم إلا باجتماعهما. فمن نزه الله دون أن يشبهه أساء الأدب لأن التنزيه "عين التقييد والتحديد"، ومن ارتكن إلى التشبيه دون التنزيه سقط في الوثنية التي هي أيضا تقييد وتحديد، وسوف نبين تفصيل ذلك فيما يلي. ويرى ابن عربي أن التشبيه والتنزيه اجتمعا في قوله تعالى "ليس كمثله شيء"، فهذه الآية، بل النصف آية، فيها نفي للمثل وإثبات له في الوقت نفسه، ويمكننا فهم مقصود ابن عربي من ذلك أن خبر "ليس" الذي هو موضع النفي في الآية إنما هو حرف التشبيه "ك" في "كمثله"، أما "مثله" فهو ثابت بمفهوم المخالفة، وذلك الجمع هو جوهر الدعوة المحمدية في نظر ابن عربي، أي التنزيه في التشبيه والتشبيه في التنزيه.

وحدة الأديان:
بالبناء على ما تقدم تقوم نظرية وحدة الأديان؛ فكل معبود عبده الناس منذ الأزل إنما هو الحق سبحانه، ولو كان الظاهر أنهم يعبدون الأصنام. فمن يعبد الصنم لا يعبد الحجر، وإنما يعبد تجلي صفة الله البادية في الحجر، ومن يعبد النجم لا يعبد الجرم المشتعل، وإنما يعبد تجلي صفة الله في النجم، بل يمكننا إضافة أن من يعتنق فكرة عدم وجود إله إنما يعبد تجلي الله في منطق تلك الفكرة، ومن يعتنق اللا أدرية إنما هو ساقط في الحيرة بين تجليات الله المتقابلة "زدني فيك تحيرا". ولذا يقول ابن عربي "ما عُبِدَ غيرُ الله في كل معبود". فكل الديانات إذن تعبد الله، ولكنها عبادات ناقصة، فأرباب تلك الديانات – وإن أدركوا تجلي الله في معبودهم – جهلوا تجلي الله في باقي الكائنات فضلا عن الذات المنزهة. فمن يعبد الشمس غاب عنه تجلي الله في القمر والنجوم، ومن يعبد الصنم غاب عنه تجلي الله في الشجر والجبال، بل وفي نفسه أيضا.

إذن فكل هذه العقائد ناقصة لأنها عبدت الله بوجه وأنكرت باقي الأوجه، والدعوة الوحيدة في نظر ابن عربي التي شملت عبادة الله في كل تجلياته فضلا عن ذاته المنزهة هي الدعوة المحمدية، وهي قائمة على التنزيه في التشبيه والتشبيه في التنزيه على نحو ما أسلفنا. إذن فعلاقة الإسلام من الديانات الأخرى ليست علاقة النقيض بنقيضه، وإنما علاقة الكل بأجزائه، أو هي علاقة المركب بين النقيضين بالنقيضين اللذين تركب منهما في نموذج المثلث الجدلي الهيجلي.

الدياليكتيك عند هيجل:
لم يكن المنهج الجدلي "الدياليكتيك" اختراعا هيجليا من الفراغ، وإنما هو منهج قديم مستخدم منذ أفلاطون، وربما قبله، وما فعله هيجل هو أنه أعاد اكتشافه وبلورته وأضاف إليه بصمته المميزة، ثم بنى عليه فلسفته كلها وجعله هو الحاكم للوجود بأسره. وأعتقد أن الدياليكتيك هو أدق منهج يمكننا على ضوئه قراءة نص ابن عربي المميز "حكمة سبوحية في كلمة نوحية" ضمن كتابه البديع (فصوص الحكم).

لنلق أولا نظرة سريعة على المنهج الجدلي عند هيجل قبل أن نشرع في تطبيقه على الفص النوحي. يقوم المنهج الجدلي عند هيجل على المبدأ القائل بأن كل قضية تحوي في داخلها نقيضها، فأي قضية تنطوي في داخلها على تناقضات ذاتية يمكن من خلالها استنباط القضية المناقضة لها والتي تنفي ما أثبتته، بيد أن تلك القضية الأخيرة تحمل أيضا في داخلها نفس تناقضات القضية الأولى، ومن ثم لا يلبث العقل أن يستنبط من القضيتين معا قضية ثالثة عبارة عن المركب بين القضيتين، وذلك حتى يتلافى هذا المركب التناقضات التي وقعت فيها القضيتان السابقتان. لكن هذا المركب بدوره – وإن تلافى التناقضات السابقة – يحمل داخله تناقضات من نوع آخر ستؤدي بنا إلى نقيضه، ومن ثم سنعيد الكرة مرة أخرى، فنستنبط من ذلك المركب نقيضه، ثم نركب بين هذين النقيضين كما فعلنا أول الأمر، وهكذا، ولن تتوقف هذه العملية الجدلية إلا ببلوغ التحقق الكامل المطلق.

كان هذا المنهج ضروريا لدى هيجل للحفاظ على مبدأ الواحدية، إذ بواسطته استطاع استنباط المعرفة والوجود من مبدأ واحد، ولا يمكن تحقيق هذا منطقيا إلا إذا كان الواحد متضمنا الكثرة، والكثرة متضمنة الوحدة، أي أن تكون النقائض متحدة بشكل ما. ولقد كانت هذه الفكرة هي الباعث أيضا لدى الصوفية في القول بوحدة الوجود، فهي بالنسبة إليهم ضرورة منطقية لتوحيد الله ولا تناهيه. يمكنك، بالطبع، الاعتراض على تطبيق هيجل لهذا المنهج تطبيقا مطلقا على كل شيء، وربما أيضا تختلف مع هيجل في نتائجه، لكن لا شك أن المنهج الجدلي له الكثير من التطبيقات الهامة، لا سيما على مستوى التطورات الاجتماعية والسياسية.

جدلية التشبيه والتنزيه في الفص النوحي:
تقوم الوثنية التي اعتنقها قوم نوح على مقولة تجسد الإله في الصنم، فالإله ليس هو إله الديانات الإبراهيمية المفارق للكون، المنزه عن الشبيه والمثل، وإنما هو ذلك الصنم الذي يلمسونه بأيديهم وله يسجدون. وليس ذلك – في نظر ابن عربي – إلا استجابة لما ظهر لهم في الصنم المعبود من تجليات صفات الله، غير أن عقولهم القاصرة لم تدرك إلا تجلي الله في الصنم، وعميت عن تجليه في باقي الموجودات التي لا تقوم إلا على وجود الحق.

إذن فالوثنية تقوم على مقولة التشبيه المطلق، وهذه هي عقيدة قوم نوح حسبما يوضح ابن عربي. بيد أن تلك القضية، أي التشبيه المطلق، تحمل في داخلها تناقضات تؤدي بنا إلى نقيضها، أي التنزيه المطلق. فالتشبيه المطلق يؤدي بنا إلى القول بأن الموجود الجزئي، أي الصنم، هو علة الصفات المطلقة المتجلية فيه، فكيف يتضمن الجزئي المطلق؟ وكيف يكون ذلك الكائن الجزئي – بوصفه إلها – علة للكون وهو جزء منه؟ وكيف تكون تلك القطعة الحجرية المحدودة بالزمان والمكان علة للزمان والمكان المحدودة بهما؟ بل كيف تكون علة لذاتها من الأساس؟ لذلك يقول ابن عربي "من شبَّهَه وما نزَّهَه فقد قيَّده وحدَّده وما عرَفه"، لأنك إن شبهته بالموجودات قلت إنه محدود بحدودها، وهو سبحانه لا يحده حد ولا يقيده قيد بمقتضى مفهوم الألوهية ذاته.

هذه القضية إذن، أي التشبيه المطلق، تحمل في جوفها نقيضها، وهو التنزيه المطلق، نظرا لما حوته من تناقضات داخلية قوضتها. لكن هذا النقيض (التنزيه المطلق) يحوي أيضا في داخله التناقضات ذاتها، ومن ثم فهو يحمل بدوره القضية الأولى في جوفه. وبيان ذلك أن فكرة التنزيه المطلق، أي تصور إله واحد وحدانية مطلقة، لا متناه لا حد له، ومفارق للعالم، تنطوي على تناقض؛ إذ إن استبعاد الكائنات الجزئية المتناهية من اللامتناهي يعتبر في حد ذاته حدا ينقض لانهائيته التي تتأبى بتعريفها على أن تُحدَّ بحد. كما أن الأخذ بفكرة التنزيه المطلق يؤدي إلى نقض التوحيد المطلق بإثبات وجود للكون مغاير لوجود الحق، وعزو الصفات الإلهية المطلقة المتجلية في الكائنات الجزئية إلى ذواتها المحدودة لا إلى النور الإلهي، وهي نتائج متناقضة يأباها أهل التوحيد الحق وفقا لما يمكننا استنباطه من ابن عربي. لذلك يقول ابن عربي "التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد، فالمنزِّه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب"، وهو "كمن آمن ببعض وكفر ببعض".

بناء على ذلك، تشكل سردية نوح عليه السلام كما عرضها ابن عربي في الفص النوحي مواجهة جدلية بين القضية ونقيضها؛ التشبيه ممثلا في قوم نوح، والتنزيه ممثلا في نوح ومن آمن معه. وتتجلى تلك الجدلية فيما يظهر في سرد ابن عربي للمجادلات الدائرة بين نوح وقومه من احتواء أقوال كل فريق في داخلها على القضية النقيضة التي تمثل موقف الطرف الآخر، فيأخذ نوح عليه السلام جانب ظاهر القول، بينما يأخذ قومه جانب الباطن والحيرة والالتباس، وكلاهما، أي: الظاهر والباطن، يحمل داخله الآخر المناقض له. فعندما يدعوهم نوح إلى الله بلسان الظاهر يتصاممون عن دعواه لعلمهم بما ينطوي عليه باطن تلك الدعوة، فدعواه لهم فرقان "والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه".

كما أن "الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعوِّ، لأنه ما عَدِم من البداية فيُدعى إلى الغاية". وحين يدعوهم بلسان الظاهر "ليغفر لهم"، يجيبون دعواه بمفهوم الباطن بأن "جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها، فأجابوا دعواه بالفعل لا بلبيك"، "والغفر: الستر". وحين يردون على دعواه بظاهر الإنكار لتوحيد الحق في قولهم "لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا" إنما يقصدون بلسان الباطن أنهم "إذا تركوها (أي أصنامهم) جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله". وما يخبره نوح عن أصنام قومه أنهم "قد أضلوا كثيرا" يفهم من الباطن بمعنى أنهم "حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب"، ودعوة نوح عليهم "ولا تزد الظالمين إلا تبارا" تعني بمفهوم الباطن ألا يزيدهم إلا حيرة بين تجليات الحق "زدني فيك تحيرا"، والتبار هو الضلال.

لا شك أن هذا الجدل قد يبدو لمن اعتاد التفكير الأحادي مجرد لغو أو تلاعب بالألفاظ، لكنه – على العكس – مبرَّر جدا، بل وضروري إذا ما ما نظرنا إليه على ضوء المنهج الجدلي، فتلك هي التناقضات الداخلية التي تنطوي عليها بالضرورة كل قضية، والتي يعتني المنهج الجدلي بالكشف عنها في ظل إهمال الحس المشترك لها. على هذا المنوال استمر الجدل بين الطرفين كما يعرضه ابن عربي إلى أن تحقق نوح من استنفاد ذلك الجدل لكل إمكاناته، فكان لا بد للطوفان (طوفان الاستنباط الجدلي) أن يجرف القضية القديمة (التشبيه) ومن تجمدوا عندها بعد ظهور تناقضاتها، لتفرِض الفكرة الجديدة (التنزيه) نفسها وتأخذ حقها في الحياة بدورها قبل أن تتبدى تناقضاتها.

لكن ذلك لا يعني أن قوم نوح كانوا على باطل مطلق، فمقولتهم في التشبيه مقولة صحيحة، وإن كانت ناقصة، مثلها مثل مقولة التنزيه المطلق، وكل ما هنالك أن الجدلية قد استنفدت إمكاناتها، وحان وقت أفولها والانتقال إلى نقيضها. لذلك أثنى ابن عربي على قوم نوح إذا قال إن "نوحا مدحهم بلسان الذم"، وإن هلاكهم بالطوفان كان غرقا في "بحار العلم بالله" لما عاينوه من تجليات الله في جانب التشبيه. إذن فقوم نوح (وربما يخص منهم المؤمنين بالأصنام بصدق، المبصرين تجليات الله فيها) مصيبون في موقفهم ولو جزئيا، ولن ينالوا نظير تمسكهم بالتشبيه إقصاء عن الله (على العكس يغرقون في بحار العلم بالله)، لكن ذلك لن يبرر لهم البقاء بعد أن تجاوزهم الزمن، فلا بد أن يجرفهم طوفان التاريخ كأي يمين سياسي واجتماعي يتشبث بالماضي متحديا الزمن.

ولا بد أن تفرض الفكرة المناقضة ثورتها على كل قديم، حتى ولو حوت التناقضات نفسها، فإن تلك التناقضات لن تتكشف بحال إلا بعد أن تُفرض الفكرة أولا. تلك العملية الثورية هي من النتائج اللازمة عن المنهج الجدلي، فلا غرابة إذن أن يخرج من عباءة جدلية هيجل أكثر المفكرين الثائرين في التاريخ، أي كارل ماركس، وإن اختلف الأخير مع أستاذه في نتائج فلسفته.

هذا عن الصراع بين القضية (التشبيه) ونقيضها (التنزيه)، أما المرحلة الثالثة والأخيرة في هذا المثلث الجدلي (أي المركب بينهما) فلن تتحقق إلا بعد أن تستنفد فكرة التنزيه المطلق إمكاناتها وتفصح عن تناقضاتها الداخلية، عندئذ يتم استنباط التركيب بين القضيتين، وهو الحل الذي أتت به الدعوة المحمدية، أي التشبيه في التنزيه والتنزيه في التشبيه كما تضمنته الآية "ليس كمثله شيء" حسبما أسلفنا بيانه، وهذا هو التحقق الكامل للمطلق الذي ينتهي عنده الجدل عند ابن عربي. وعلى ضوء ذلك لا يُفهم من كلام ابن عربي أنه يلوم نوحا أو ينتقده في اقتصار دعوته على التنزيه، فنبي الله بلَّغ الدعوة التي كُلِّف بها كما هي، حتى وإن كانت تلك الدعوة ناقصة، ذلك أن الدعوة الكاملة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم ما كان لها أن تخرج دفعة واحدة، وإلا ما استوعبها البشر، وإنما يلزمها مراحل سابقة من التطور الجدلي، ومن بينها دعوة نوح عليه السلام.

ويُفهم من إشارة ابن عربي في قوله إن نوحا كان يقصد بدعائه على قومه "الثناء عليهم بلسان الذم" أن نوحا كان عالما بحقيقة قضية التشبيه التي يتشبث بها قومه، كما يُفهم من قوله بشأن دعوة نوح "رب اغفر لي" "أي استرني واستر من أجلي فيُجهل قدري ومقامي كما جُهل قدرك ومقامك في قولك وما قدروا الله حق قدره" أن نوحا مدرك للدعوة المحمدية الكاملة للتشبيه في التنزيه والتنزيه في التشبيه، ولكنه كان يخاطب أهل عصر،ه كما أمره الله على قدر ما بلغه العقل الجمعي في تطوره الجدلي وما يمكن لعقولهم استيعابه، ومن ثم فإن وصف ابن عربي لقصور دعوة نوح هو مجرد تقرير لحقيقة واقعة. وبناء على ذلك لا نفهم من قول ابن عربي "لو أن نوحا عليه السلام جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه (أي دعوتي التنزيه والتشبيه)" إلا أنه يقصد المقارنة بين دعوة نوح الناقصة والدعوة المحمدية الكاملة لبيان خصائصهما لا أكثر، ذلك أن نوحا عليه السلام ما كان له أن يفعل خلاف ما فعل، فالاستحالة المنطقية تحول بينه وبين القفز بغتة إلى دعوة نبي آخر الزمان.

ملاحظة ختامية:
رأينا من خلال ما سبق أهمية المنهج الجدلي في قراءة الفص النوحي لابن عربي وقدرته على تفسير ما انطوى عليه من إشكالات. وليس ذلك قاصرا على الفص النوحي فحسب، فالمنهج الجدلي يكاد يكون المنهج المعتمد في فكر ابن عربي، بل والفكر الصوفي (المولع بالجمع بين المتناقضات) بصفة عامة. فليس الترقي الروحي للمتصوف إلا تطورا جدليا بين المقامات المتناقضة؛ الخوف والرجاء، القبض والبسط، الفناء والبقاء ... إلخ. كذلك يمكن بناء النظرة الأنطولوجية لدى ابن عربي على تصور انبثاق العالم وتطوره عبر جدلية صفات الله المتقابلة؛ الأول والآخر، الظاهر والباطن، القابض والباسط ... إلخ.

كما يمكننا- على ضوء قراءتنا السابقة للفص النوحي- استنباط نظرية لتاريخ الأديان تعتمد الجدلية الصوفية أساسا لها. فالبين أن ابن عربي لا يقول بتماثل رسالات الأنبياء جميعا، وإنما يذهب إلى ظهور فكرة التوحيد النقية عبر تطور جدلي بين التشبيه/ الوثنية والتنزيه/ التوحيد في اتساق مع تطور التفكير البشري وتمثلاته للألوهة، إلى أن اكتمل تأهيل العقل البشري لاستيعاب فكرة التوحيد المطلقة في الدعوة المحمدية، وهو بهذا يقترب من النظرة الحديثة لعلماء الأديان المقارنة خلافا للنظرة التقليدية للفقهاء التي تميل إلى تماثل رسائل الأنبياء في جوهرها العقدي واختلافها فقط في أحكام الشريعة الفرعية. وربما لا نعدم ما يؤيد تلك النظرية بين الأدلة النقلية في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مَثَلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لَبِنَةٍ من زاوية، فجعل النَّاسُ يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هَلَّا وُضِعَتْ هذه اللَّبِنَة!"، قال: "فأنا اللَّبِنَة، وأنا خاتم النبيين".