ومع كل راحل.. تتجدد الذكريات.. ويعود الحنين إلى براءة الصبا، وحلم الطفولة. فتملا الأيام كشريط السنما فيترجمها الكاتب صفوت فوزى، إلى لغة القصة القصيرة، ونبضها.

الذين مروا من هنا

صفوت فوزي

 

كل الذين تحبهم رحلوا. مع كل راحل منهم تغادرك قطعةٌ من روحك. يموت بداخلك الشغف بما هو آت. يتركونك تعاقر الوحدة والضجر. تترى صورهم المعلقة على جدران ذاكرتك المتربة. تخايلك أطيافهم، يزدحم القلب بالمواجع، فتحن إليهم، وأنت تبصر بعينيك الزمن يضمحل، فماذا تنتظر؟

ليل كثيف الظلمة، شديد البرودة. ريح عاصفة تعوى بالخارج، وروائح الشتاء تسيل بداخلي. سكنت الحارة والبيوت مكفنة بالظلام أغلقت أبوابها. انقطعت أرجل العابرين فبدت الحارات والأزقة تحت سماء الليل كامرأة وحيدة، مهجورة. همدت كلاب الحي حراس الشوارع. وحده القط الأسود ساكن الأقبية الخربة والسارح في الحارات وفوق السطوح، انفرد بالحارة في فضاء الليل. يموء مواءً متوحشًا. تلمع شواربه الفضية في دكنة العتمة، فيما تبرق عيناه اللوزيتان المليئتان بالأسرار.

فراشي دافئ، وأنا أحكم الغطاء حول جسدي المنهك من شقوة النهار.

هي جدتي، ضئيلة الجسم حتى يمكن صرُّها في طرحتها. كليلة البصر، واهنة القوى، بجلبابها الأسود وطرحتها الحائلة تسف التراب. معصوبة الرأس تلقي بطرف الطرحة على كتفها الأيسر، يظهر من تحتها شعرها الناعم المسرح ينتهي بضفيرتين بلون الفضة. تستند بظهرها على جدار الفرن الطيني فاردة قدميها العجفاوين، أضع رأسي الصغير فوقهما. تهدهدني وتطبطب عليَّ. أرفع عيني أتأمل وجهها العجوز القديم. متطلعًا للسماء، أرى سرب حمام يطير نشوانًا بالبراح، وقمرًا مخنوقًا، وجهه مليء بالندوب والحفر، ونجوم الله العالية ترنو خافتة. بيدها الحانية المعروقة تمسح على شعري المجعّد الخشن. تميل عليَّ فيميل نهداها الضامران. تحكي لي عن العم داود حين راح يروي زرعته -إذ حانت دورته في الري- في جوف الليل، عابرًا الغيطان والمساقي الصغيرة وحفيف شجر الكافور العالي. لم يكن الضوء الرصاصي للفجر قد أضاء الدنيا بعد، والقمر في الأعالى يطل على الدنيا بنصف وجه. شجرة الجميز العتيقة، في الضوء الشحيح، تقف ساكنة بجوار القنطرة الخشبية، تلقي بظلالها الكثيفة على المياه السارية في صمت السكون. يسير على الجسر الترابي الموازي للترعة الكبيرة حاملًا فأسه على كتفه، حين لمح مدهوشًا على البعد مجموعة من الأرانب الشاهقة البياض تلمع في الظلمة الكثيفة وتتقافز مرحة. يتلفت حوله محاذرًا عله يرى أحدًا تخصه هذه الأرانب. لا شيء سوى الظلام والسكون وصوت خرير الماء في الغيط البعيد. أمسك بطرفي جلبابه وراح يجمع الأرانب المستسلمة في هدوء غريب. أحكم ربط جلبابه حول وسطه. فكر أن يعود للبيت ويوقظ امرأته الغارقة في سابع نومة، لكنه آثر أن يمضي إلى حقله. على رأس الغيط تنتصب الجميزة الجسيمة، عمرها من عمر الجدود، تميل فروعها على الترعة في غبشة الفجر. بجوارها تقع تعريشة البوص المنصوبة لقيلولة الظهيرة وعمل الشاي الثقيل على الراكية. فك جلبابه لينزل صيده الثمين فانطرحت على الأرض كرات ورقية بيضاء. يتراجع للخلف مذعورًا، يضرب الدم في يافوخه. يرسم علامة الصليب على صدره متمتمًا ببعض الآيات، وإذ يستبد به الحنق يصيح لاعنًا: ياولاد الكاااالب، عملتوها فيَّ، ويستغرق في ضحك أسيان. يرش وجهه بالماء، ويحزم جلبابه حول وسطه تافلًا في باطن يديه قائلًا: استعنَّا على الشقاء بالله.

تستقر في قلبي حكاياها، ويجافيني النوم. وكنت في ليالٍ كثيرة أنام متأخرًا. تفزِعُني أصوات غريبة تأتيني مختلطة مع ضحكات شريرة. وكنت أرى أمي -سيدة الدار- تجلس وحيدة على عتبة الدار مطرقة، ترتل عديدها الذي يصعد بالدموع إلى عينيّ، فأفر هاربًا كاتمًا بكائي. أستجدي النوم، لكنه لا يجيء. مصباح له زجاجة مدخنة وشريط مغموس في الجاز، ينفث النور الباهت في فراغ الحجرة المحبوس. تتماوج الظلال على الجدران الحائلة اللون، تتشكل في هيئة عفريت مخيف ذي عين واحدة مشقوقة بالطول يطق منها الشرر، وخصلة شعر نافرة تتدلى من مؤخرة الرأس. تنبجس النار من فمه الواسع ويضحك ضحكة مجلجلة مرعبة شامتة. أهرع مندسًّا تحت الغطاء شادًّا إياه حتى لا يبيِّن شيئًا من وجهي المرعوب. يأتيني صوت الناي ورجع المواويل المنطلقة من مدارات السواقي ليلًا وعلى جسور الترع وبراح الغيطان.

هأنذا أعود مدثرًا بالحنين والذكريات التي تبيت في منازل الريح. أنتظر وسط تراتيل من ألوف السنين. أخوض في الحواري والأزقة التي لم تعد. أطرق أبوابًا خشبية عتيقة آلفها وأحن إليها. لكنها انتزعت من أماكنها وحل محلها أبواب حديدية صدئة جهمة وجافية. أسأل -أنا ذلك الصبي الذي تحيِّرُني أبجدية الأشياء- عن العم داود ورفاق كانوا هنا، يملأون الليالي بالونس والألفة. أستمع إلى غناء عتيق يضنيني إلى حد البكاء، وأظل أتأمل الصوت وأتذكر الملامح تكتمل في ذهني جزءًا جزءًا وأتساءل عن معنى الحنين، وعن الشموس التي أشرقت يومًا في سمائي لكنها مضت. أسمَعُني أردِّد بفحمة البكاء: ماذا جرى؟ الناس غير الناس، والأرض غير الأرض. اختفى البراح، وحلت محله بنايات الأسمنت القبيحة. انقضى زمن كومة العيش بفوحه الأليف، وصار الناس يشترون رغيفهم. كان الناس يعرفون كيف يستلون أفراحهم عنوة من عين المواجع. أما الآن فليس في البيوت من يضحك من قلبه. الرجال يجترون مرارة الخذلان، والنساء يمسحن بقايا الصهد والمكابدة عن أجسادهن المجهدة. كبرت وعاصرته. كنت أجالسه أوقاتًا طويلة. أستمع مسحورًا إلى حكاياته الشائقة. كان يملك مخزونًا لا ينفد من الحكايات، أخبار الأولين، جذور العائلات وأصولها، والأهم حكاياته مع العفاريت. هأنذا أعود وأسأل عنه، فتجيبني عيون منطفئة باردة، ليس فيها لهفة الأحبة. كبر العم داود. شاب شعره وانطفأ بريق عينيه. لم يعد من يذكر حكاياته وكرمه ونبله الأثير. صار قعيد المصطبة. رحل رفاق الزمن القديم . غابوا ونأى الزمن بهم فلم يعد يذكرهم أحد .ارتفع من البعد نباح كلب، وخفقت في السماء نجوم. تراب السكك الناعم يلسع قدمي، والعرق يتفصد من جسدي، وأنا ألهث بصوت مسموع، وبقبضة الطفل الذي كان، أدق على الباب ذي الضلفة الواحدة. يئن أنينًا رفيعًا مشروخًا إذ ينفتح. في الداخل جسد العم داود وقد أسجى داخل تابوته الخشبي مسربلًا بالضياء. جهزوه لرحلته الأخيرة، الرحلة الأبدية التي لم يعد منها مسافر ليخبرنا كيف حالهم هناك. وقتها عرفت أنه لا يدوم سوى وجه الله، وتأكدت أيضًا أن لا شيء يضيع، لا شيء يذهب.