قصائد هذا الديوان تبدو كما لو كانت آلية دفاعية ضد الفناء أو العدم، فلا جدوى من أي شيء إذا لم يقف الإنسان كي يرمم ذاته المخدوشة والمجروحة وينجح في التخلص من "الفراغ الوجودي"، ذلك الشعور بأن الحياة بلا معنى".

«العدم أيضا مكان حنين»: حول إرادة المعنى بالشعر

نجاة علي

 

لعلي أشعر بفرح خاص كلما أصدر الشاعر المصري علاء خالد ديوانًا جديدًا، لأنه برأيي أحد أهم التجارب الشعرية الفريدة في كتابة قصيدة النثر المصرية، وقد تمكن من أن يتجاوز بكتابته فكرة الأجيال الشعرية التي عادة ما تريح النقاد في تنميط كل كتابة جديدة. أصدر الشاعر علاء خالد من قبل عددًا من الدواوين الشعرية الفارقة: مثل "الجسد عالق بمشيئة حبر"، "وتهب طقس الجسد إلى الرمز"، "حياة مُبيّتة"، "خطوط الضعف"، "تصبحين على خير" وغيرها، وها هو يصدر مؤخرًا ديوانه "العدم أيضًا مكان حنين" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

وأظنني توقفت حائرة في البداية أمام عنوان هذا الديوان الذي ينطوي على مفارقة لافتة، إذ كيف يمكن أن ينظرَ المرءُ للعدم أو للفناء باعتباره مكانًا للحنين!! فمفهومنا عن الحنين أنه مراجعة الماضي وفتح الدفاتر القديمة ومراجعتها بكل الحب والرغبة، وقد يكون الحنين أيضًا لأماكن قمنا بزيارتها في الماضي ونرغبُ بزيارتها مرة أخرى. ويبدو العدم في هذا الديوان بمثابة استعارة مركزية عن الحياة بكل آلامها وصراعاتها الوجودية العنيفة كافة؛ حيث تتأمل الذات ذاتها والعالم من خلال رحلة "البحث عن المعنى" أو "الشفاء من خلال المعنى" عبر الكتابة الشعرية"، وطرح التساؤلات الوجودية المؤرقة:

ربما أكتب بمشاعر حقيقية لو كنت أقف خارج هذا الكون 

أما وأنا بداخله فعندي رغبة لأن أكون بخارجه

العدم أيضًا مكان حنين. (الديوان-  ص46)

وفي تصوري أن الشاعر قد نظر إلى هذا العدم الذي اتخذ أشكالًا متعددة نظرًا لكونه بؤرة الصراع الإنساني الأبدي، باعتباره الوجه الآخر للحياة، فلا يمكن الفصل بينهما، ومعنى كل منهما يكمن في الآخر. وقد رأى الشاعر أيضًا أنه عبر الخيال أو المجاز سوف نتمكن من اكتشاف وتصور العالم الآخر الذي نعجز عن إدراكه. وقد نُفاجأ مع الوقت بأن الخيال هو مكان الإقامة الحقيقي للذات؛ حيث نشهد في القصائد حالة استرجاع للمحات من أحلام يقظة تضيء ذلك الدمج القديم جدًا بين الماضي وبين المستعاد من الذكريات. وهذه المنطقة التي تنفتح على تأريخ سحيق يرتبط فيها الخيال بالذاكرة، وكل منهما يعمق الآخر.  

وكأن الذات أرادت أن تتوقف قليلًا في نهاية الطريق أو الرحلة لتتأمل ندوب الجسد من خلال مرايا الذات والوعي ولتكتب سيرتها من الآلام، ولتتأمل كذلك مساراتها "المظلمة والمضيئة" كمحاولة لردم تلك الهوة السحيقة التي تفصلها عن الحياة. وأدركت أخيرًا أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الواقع إلا في التناقضات.

وقد تطفو بين القصائد كذلك مشاهد من مطاردة الذكريات المؤلمة التي تتجسد في هيئة خيال: وهنا نجد إلحاح ووطأة اللا وعي على الذاكرة، وكيف يمكن أن تنعكس تفاصيل الحياة اليومية على مخيلة المبدع ويراها في شكل مجازات، وهو ما يجعلنا نعيد التفكير مرة أخرى في مقولة "إن الشعر هو ذلك الصراع المرير بين الوعي واللاوعي":

كلما ابتعد بعمره عن هذه الذكرى السيئة

دخل الخيال بينه وبينها

كلما صارت نجما ضائعا فى متاهات السماء

يبحث عنه كل ليلة، ليطمئن على حجر من أحجار طفولته. (الديوان –ص3)

ولربما يصبح التجسيد هنا للخيال مجموعة من وسائل التعبير نستطيع أن ننقل من خلالها صورنا إلى الآخرين. وطبقًا لفلسفة تذهب إلى كون الخيال هو الملكة الأساسية، مثلما يقول الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور (1788- 1860): "العالم هو خيالي أنا". وهكذا سينفتح العالم كله عبر بوابة ضيقة، فمن المحتمل أن تفاصيل شيء ما، قد تخلق دلالة على عالم جديد يحتوي ككل العوالم على مزايا العظمة، فالمتناهي في الصغر قد يكون أحد مآوي العظمة.

كسر أفق توقعات القارئ وتقنية المونتاج السينمائي:
سيفاجأ القارئ التقليدي للشعر حين يقرأ قصائد هذا الديوان بأنها جاءت مخيبة لآماله، لأنها عمدتْ إلى كسر بنية التوقعات عنده أو ما أسماه العالم اللغوي والناقد الأدبي رومان ياكوبسون (1896- 1986) بـ"التوقع الخائب"و من البديهي أن يرتبط النص الجيد بتخيب الانتظار .

ولعل من أهم الملامح الجمالية للكتابة الشعرية الجديدة التي تميزها عما قبلها، ونراها بارزة بشدة في قصائد الشاعر علاء خالد، هو انتسابها لوعي ضدي لا يكف عن وضع كل المسلمات موضع المساءلة المستمرة، هذا الوعي قد اقترن أيضًا بالرغبة في ابتداع تقنيات شعرية جديدة، حيث صرنا نشهد تحولًا جماليًا كبيرًا في طريقة النظر إلى دور المجاز ذاته الذي تحول من مجرد أداة زخرفية في القصيدة إلى وعي وبصيرة في رؤية العالم، هذا إلى جانب اختلاف شكل المجاز أيضًا من مجرد مجاز جزئي إلى مجاز مشهدي كلي متحرك، من خلاله يجمّع الشاعر نثار العالم مستعينا بتقنية المونتاج السينمائي؛ أي أن الشاعر يستخدم مونتاجًا من الكلمات لمونتاج من الصور؛ أي أن الكتابة صارت مونتاجًا، (وفكرة المونتاج هي من إبداع جاك دريدا، وهي تحل عنده محل المحاكاة عند أرسطو):

ينحني الظلام على الشارع

يتوقف رتل العربات المسرعة

يضيئون الأنوار كأنهم يكشفون الطريق احترامًا أمام عربة الموتى

أنفاق من الضوء توسِّع الثقوب فى ثوب الليل السميك

داخل أنفاق مماثلة عبرت سلالات من البشر تجاه الضفة الأخرى

لحم الوجود الذي لا يفضحه ضوء. (الديوان- ص 11)

عند قراءة هذا المقطع أو غيره داخل الديوان الذي يعتمد هذه التقنية، فعلينا أن نحصر اهتمامنا في العلاقة بين الدال والمدلول (الصور داخل المونتاج). فمثلًا البنيويون يقررون أن الفيلم نظام سميوطيقي في أي لغة، باعتبار أن الصور واللقطات دوال، والدال هنا مستقل عن مدلوله الوضعي، وأن أي دال في النص يتحدد من خلال علاقته بالدوال الأخرى الموجودة به. وهو ما يحدث في المونتاج السينمائي، فالمشاهد هو الذي يخلق العلاقة بين الدوال أو اللقطات المتتابعة، ويمكن اعتبار تقنية المونتاج هي أنجح الوسائل لإعادة وصف العالم، لأنه يقدم عدة عوالم محتملة، وهو يؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها التفكيك الدريدي، والمشاهد أو القارئ هو الذي يخلق العلاقة بين اللقطات المتتابعة داخل النصوص، وربما الكاميرا السينمائية التي يستخدمها الشاعر في قصائده، هي ما قد تمنحه الإحساس أو القدرة على تثبيت اللحظة الزائلة.

البحث عن المعنى والتسامي بالذات

هناك مقولة لألبرت أينشتاين ترى: "أن الإنسان الذي يعتبر حياته بلا معنى ليس تعيسًا فقط ولكنه لا يصلح للحياة". وحين نقف على الفكرة الرئيسية للوجودية التي تقول: "فلكي تعيش عليك أن تعاني ولكي تبقى عليك أن تجد معنى للمعاناة" سوف نفهم أنها ليست مسألة نجاح وسعادة فحسب، بل إن إرادة المعنى لها "قيمة البقاءعلى قيد الحياة" طبقًا لعالم النفس المعروف فيكتور فرانكل (1905- 1997) والذي يعد رائد المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي، والذي أعاد لهذا العلم إنسانيته، وأكد في كتابه (صرخة من أجل المعنى) على حقيقة أن المعنى متاح تحت أي ظروف حتى في أسوأ الظروف التي يمكن تصورها، فالإنسان الذي يعاني ويعرف كيف يصوغ معاناته في إنجاز إنساني، يعرف كيف يتحرك على محور يمتد بين قطبي الإنجاز واليأس. ولعل هذا النضال من أجل المحافظة على الذات يعد من أقسى حالات النضال الإنساني:

أسابق شيئًا فى حياتي

لا أعرفه

ليس لكي أكسب حياة جديدة

ولكن لأبقي على حياتي نفسها

أصبحت حياتي تتبعني

وأنا من أمامها، كنبوءة لها، أحافظ على العلاقة بين الشيء ونقيضه. (الديوان- ص 41)

ويبدو الشاعر علاء خالد في هذا الديوان كما لو أنه يعيد من جديد طرح كل أسئلته الوجودية الخاصة التي سبق أن طرحها في دواوينه السابقة، ولكن الاختلاف هذه المرة كان في موقع الذات التي اتخذت موقعًا تأمليًا فلسفيًا هادئًا، وبدتْ كما لو كانت تقيم حوارًا مع الله في جو من التسامح، ورغبة بالتسامي أيضًا بالذات من معاناتها، وهو ما يبرر حضور الله كطرف أساسي في الخطاب الشعري.

ولعلي لا أبالغ هنا إذا قلت: إن قصائد هذا الديوان تبدو كما لو كانت آلية دفاعية ضد الفناء أو العدم، فلا جدوى من أي شيء إذا لم يقف الإنسان كي يرمم ذاته المخدوشة والمجروحة وينجح في التخلص من "الفراغ الوجودي"، ذلك الشعور بأن الحياة بلا معنى.

وبهذا يمكننا النظر إلى هذه الكتابة الشعرية أيضًا باعتبارها صيغة للتعايش مع الألم أو وسيلة للمصالحة بين الحياة والموت، فكم من الشعراء نفذوا عبر جدران سجنهم بواسطة نفق. وكم مرة وهم يرسمون أحلامهم هربوا عبر شق في الحائط. ولقد كان الكاتب دوستويفسكي على حق حين قال ذات مرة: "يوجد شيء واحد يروعني هو ألا أكون جديرًا بآلامي".

 

عن (ضفة ثالثة)