يرى الناقد المصري أن هذه المجموعة تُثبت قدرة القصة القصيرة (التقليدية) –والتقليدية ليس ذما، وإنما هو توصيف- على إحتواء الشاعرية، وبالتالى، احتواء المتعة التى نعتبرها العنصر الأساس فى الإبداع عامة، كما قدرتها على المحافظة على روح القصة القصيرة، والتى تدحض محاولات ما يسمى بال ق. ق. ج.

«نوافذ ضوء» .. على القصة الشاعرية

شوقي عبدالحميد يحيى

 

إذا كانت قصيدة النثر، قد تخلصت من القيود الشكلية (التفعيلة والروي) فإنها وإن استخدمت صيغة النثر، فإنها لم تتخل –فى الجيد منها- عن صور التخييل، واكتناز المعنى، واستخدام المحسنات البديعية، من كناية ومجاز واستعارة، لتمنح النثر شحنات التصور، والتحليق لما هو وراء المعنى الظاهر، أو لتكثيف الصورة التى يطمح إليها المبدع. وكل ذلك ما لا نعدم وجوده فى الكثير من النصوص السردية، والتى تواجدت بصورة مكثفة فى المجموعة الأحدث للقاص والروائى محمد صالح البحر " نوافذ الضوء"[1]، والتى فتح بها النوافذ المغلقة فى حياة الإنسان المغلق، لتكشف عوالم الظلمة فيما هو مغلق عليه، حيث اقتحم عوالمه الداخلية، بشعاع ضوء إبداعى، ليستكشف المخبوء فى ظلام النفس الإنسانية. لذا خلت القصص –تقريبا- من الحكاية-. فتحولت إلى لوحات، تتحرك فيها الألوان، والبقع الضوئية، فتُشعر القارئ وكأنها تتحرك. الأمر الذى يحيل قصصه إلى قصيدة النثر، والتى يعتبر من أهم خصائصها، الاحتفاء بالعالم الباطنى، والشخصية المفتتة أو المتشظية، والغوص فى الماوراء، والذى يتطلبه كل ذلك من التحليل النفسى. وكل ذلك ما نستطيع الاستدلال عليه فى هذه المجموعة، ونجده مكثفا فى قصة "نوافذ مضيئة" والتى أتصور أن الكاتب قد وُفق كثيرا فى استعارة عنوان المجموعة "نوافذ الضوء" من القصة الحاملة لذات العنوان، وكأنه- وكان على حق- يرى أن هذه القصة تحمل فى باطنها كل مفردات القصص الأخرى، حيث تناولت القصة مسيرة الإنسان على الأرض، متمثلا قول الله تعالى )ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة )[2]. حيث نشهد لحظة الميلاد، التى جاءت بعد طول انتظار، وبعد وفاة الزوجة (الحبيبة) ومن قبلهما الوالدان، وانشغلت البنتان، كل منهن مع زوجها وحياتها، ليذهب وحيدا إلى مقره الأخير، بعد طول سفر وحركة، بعد أن زرع الكاتب شخصيته فى تيار العصر، حيث شاشة الهاتف، التى تلغى المسافات، وتلغى الزمن، وكأن العالم كله بين يديه، فضلا عن استخدام وسائل الحركة التقليدية، التى تمنح الحركة  فى المكان والزمان، بينما الإنسان جالس لا يتحرك، مثل سيارة المصنع المتهالكة، والميكروباس، والمعدية التى تَعْبُرُ من شط لآخر، فكانت الحركة الزمانية، مثلما وقف الشاب (الذى كانه) على أحد شاطئيه، والتلاميذ يعبرون من حوله، وهو ثابت ، صامت، لا يجيب، ولا يتكلم، وكأن الزمن هو الذى يتحرك به، مثلما الجالس فى القطار، يرى الأرض والمسافات، تسرع نحو الخلف، بينما هو جالس، ثابت. ولنعلم حينئذ، أن أباه قد أخرجه من المدرسة بعد المرحلة الإعدادية، ليلحقه للعمل بالمصنع.

وليحدث إنقطاع التواصل بينه وبين هؤلاء الصبية، لتزيد من عزلته {فيبدون فى عينيه مثل الصم لا يجيدون التعبير عما يعتمل بدواخلهم، ويبدو الشاب فى عيونهم مثل آبله لا يجيد فك شفرة أسئلتهم التى تريد الاطمئنان عليه، أو تتحسس معرفة أحواله}. حيث تضعنا أمام الأجيال. {لم يكن بريد الركون إلى الصمت،لكنه عجز عن الكلام} الأمر الذى يُثقل عليه الأعباء النفسية التى يعانيها، من مرور الزمن، الذى دار فيه ستين عاما، يدور كما الطاحونة، مغمض العينين.

ثم تأتى لحظة النهاية الأبدية {هاله أن يرى زوجته تقف بصمت مغمضة العينين، وعاقدة ذراعيها على صدرها فى سكون عميق ... ومن خلفها رأى أبوه على ذات الحال، ومن خلفهما رأى  الكثير من الأجساد البيضاء الصامتة والملتحفة بالسكون، لم يكن يعرفهم، لكنهم جميعا فتحوا عيونهم نحوه بشغف وكأنهم ينتظرونه على موعد مسبق... انفك انعقاد أياديهم عن صدورهم فامتدت نحوه .... وأحس بجسده يسقط فى الأرض}. ولنلحظ أن الجسد هنا (يسقط فى الأرض) لا (على الأرض). وكأنما قد اكتملت الرحلة، وسكن الجسد فى مثواه، واستقر، أخيرا بعد طول السفر، وبعد طول معاناة {فرأى الشارع لا يزال يجرى إلى الخلف عبر نافذة السيارة}، وكأن أيامه هى التى تجرى لوراء ظهره.

كما تعمد الكاتب ألا يسمى شخصيته، لتنفتح على مطلق الإنسان، وكأنه مصير الإنسان على الأرض. كما أن استخدام صيغة الحلم، جاءت متوافقة مع تلك الرحلة التى تبدو فى النهاية، وكأنها حلم، كما منحته حرية التصوير، ليُنبت لسائق الميكروباص –فى النهاية- أجنحة تعتصر الإنسان، وتوقظ الموتى فى قبورهم لاستقبال الضيف الجديد.

وتتجسد الحياة فى البيت، و كأنها شعاع، عابر، أو غمضة، ف{باب البيت كان قد انغلق تماما من خلفه ... وشعر كأن شعاعا أبيض قد انسل سريعا وخرج من خلفه، لكنه بدا أسرع من نظرته الخاطفة}. ويتحول الأشحاص الذين مروا فى حياته، كأنهم شعاع. مر سريعا{وما أن استوى على مقعده حتى رأى الرجل المنتظر يجلس إلى جواره مباشرة وكأنه يهبط من السماء، للحظة شعر أن شعاعا من الضوء قد تجسد إلى جواره فى غفلة من عينيه}. فلم يعودوا غير خاطر عابر{نظر فى فراغ السيارة بدهشة وكأنه يبحث عن الشعاع الذى جسد الشاب الصغير إلى جواره ليقبله شاكرا، وعندما لم يجد شيئا أسلم نفسه طواعية لانتعاشة الهواء البارد}.

كما استخدم الكاتب أكثر من وسيلة للتعبير عن الموقف الآنى للشخصيه، والذى – ظاهريا- قد بلغ الستين. فيورد بعض الإشارات الدالة على ذلك الكبر، فى العادة، مثل النسيان أو عدم اليقين {وكان قد دفع باب البيت ليُغلق من خلفه، فأخفض عينيه عن الشارع واستدار ليتأكد من إحكام غلقه}. كما تكرر عدم اليقين فى مثل {ارتكزت على طمأنينتة سريعا، بإرادة أو بغير إرادة لا أعرف}. ليساعد كل ذلك فى تقريب الشخصية من القارئ، الذى بالتأكيد مر عليه بعض من هذه المواقف. وليصبح الواقع المعيش –رغم الصور التخيلية- حاضرا، ومؤثرا.

 وإذا كانت حياة الإنسان (على الأرض)، فإن الاتصال جوهرى بين الخارج، والداخل، بين ظاهر الحياة المعيشة، وأعماقه النفسية ، وهو ما يعبر عنه الكاتب فى تلك اللقطة الدالة، والتى لم تأت عفو الخاطر {وفوجئ بصوت انهمار الماء فى حوض المطبخ فوق رؤوس الأطباق والملاعق والأكواب التى تكومت فيه.... تماما كما تركهم ليلة الأمس وهو يخرج بآخر كوب شاى له قبل أن يلتهمه النوم} حيث يأتى ذلك التعبير المباشر، ليكشف عن تلك الرؤى الأبعد، إذا نظرنا إلى حياة الإنسان، طوال رحلة تتقلب بين الفرح والحزن، التعب والراحة، الميلاد والموت، الضوء والظلام، فإنها تعكس الاضطراب والتداخل، والفوضى، إذا ما نظرنا إليها نظرة عامة. وهو ما نجده أيضا فى قصة "بيت مريم" حيث يستدعى السارد من الذاكرة صورة أبيه الذى كان يفترش أمام المحل كل البضاعة، ويترك (الحرية) للزبون يقلب كيف يشاء، ففى ذالك ما يُشبع فضول الزبون {افترشتْ المحتويات الأرض بذات العشوائية التى كان يفترش بها أبى بضاعته فى شارع السوق، بمجرد أن يفتح باب المحل}.

ويستمر تواحد الزوجة، وتأثيرها على رؤية الحياة فى قصة "وحدى معهم". حيث تُحيل الحياة إلى الموت، أو ما يشبه الموت، فتختلط الرؤية، ويتشابك الحلم بالحقيقة، والحياة مع الموت. فيبدأ الكاتب بالإشارة إلى أن الزوج، قد مات بالفعل، فتتعدد الإشارات التى توحى بذلك {ظللت تحت براثن الدهشة حتى أنتبهت إلى البيجامة البيضاء التى أرتديها، ورغم أنها لم تكن تخصنى، أو على الأقل لا أذكر الآن متى اشتريتها على وجه الدقة، إلا أننى ارتحت لوجودى فيها بالمنزل}. وأثناء رؤية فرح الإبنة{كيف ارتديت تلك البدلة البيضاء التى تومض على جسدى؟! من ألبسنى إذن؟ وهل تخصنى أم لا؟!}. حيث تحيل الملابس البيضاء إلى "الكفن" خاصة عند معرفة من ألبسه إياها، فليس هو من لبسها. كما يتجسد التيه، وتتجلى حالة الموت، عنما يصبح البصر "حديدا"[3] فيخترق الموجودات، ويرى الغير مرئ  {وكنت أتصنع الغضب من إهمالهما الكامل لى، وكأننى غير موجود. فالتزمت الصمت، وظللت أتابع الصور المتلاحقة وكأنهما غير موجودتين أيضا.. لكن هالنى أننى أرى كل محتويات الأكياس من الداخل، وكأنها تكشف لى عن نفسها}.

وحتى أثناء سيره بين الآخرين، لا يشعر أحد به، ف{رغم أن أحدا من الذين اصطدمت بهم مرغما لم يتأفف من ذلك، وكثيرا منهم لم يلتفت إلىَّ بالأساس}. حتى الزوجة التى هى –من المفترض- أنها أقرب الناس إليه، لا تشعر بوجوده، على إعتبار أنه "ميت" {وعندما كانت تمر بموازاة باب الغرفة توقفت فجأة ونظرت نحوى، خلت أنها ستفسر لى ما رأيت من تلقاء نفسها، أو أنها ستثور فى وجهى كعادتها لأننى لا أبادرها بالسؤوال عن أى شى- مهما بدا مبهما ويحتاج إلى تفسير- غير أنها بدت وكأنها لا ترانى من الأساس}.

وتتيح له تلك الحالة، أن يرى حالة موته، وكيف مات، عندما يتسسل إلى تلك الغرفة المظلمة، الكائنة فى ركن الحديقة، ويعايش السارد، تجربة قتل الرجل الذى ظنه يتحدث إلى امرأته، وتمارس معه عملية القتل بالسم والمشنقة، والمنشار، ليستشعر السارد بأنه هو ذلك الرجل. ولتخرج الزوجة إلى الخادم الواقف بالباب لتهمس له {بذات الهدوء والثقة الذين تركتها عليهما وتهمس فى أذنه: لا أحد يساومنى عن نفسى}. ثم تزاد العملية غموضا، فى رؤية السارد، بينما يبدأ شعاع الضوء فى الكشف عن المخبوء فى(الغرفة المظلمة، الكائنة فى البعيد)، عندما تختلط عليه الأمور، ولا يدرى، هل هو بالعفل ميت، أم أنه يعانى كابوسا غير قادر على الإفلات منه

{سألت نفسى كثيرا أيضا وأنا أترك الغرفة من خلفى، كيف استحققت  أن أموت هكذا؟! ما الذنب الذى يمكن أن يقابله كل هذا العنف الممتلئ بالحقد والكراهية، كيف يمحو خطيئته، أو يغفر له؟! أو يرميه فى بئر الموت حتى حد النسيان. وهل أنا ميت حقا؟! أم نائم يجوب أركان كابوس لا انتهاء لقبضته الجاثمة؟!}. ولنعلم أنه على تلك الحالة منذ عام، وابنته تفتقده، رغم غيابه (المعنوى)، ليقول أن هناك من يفتقد وجوده- بخلاف الزوجة- التى عانى معها القسوة والغلظة التى تبدت فى كيفية القتل بأكثر من وسيلة {كيف استطاعت ابنتى أن تجد كل هذا الضوء الآمن، فى هذا المنزل الذى ضلت روحى فيه لعمر كامل؟!}.  فها هى الإبنة التى يراها تشبك يدها فى يد عريسها، حين دخولهم الكازينو:{كانت قد وصلت إلى اليقين الكامل، بأن الفراغ الذى تركته بداخلها على مدار العام الفائت كله، لن يملأه رجل آخر غيره ....... أين كنت طوال العام الفائت كى تشعر ابنتى بكل هذا الفراغ؟!}. وكأننا نسير رويدا رويدا نحو الكشف عن الحقيقة، أو كأننا نعود من رحلة المجهول، إلى أرض الواقع. حيث تنقشع الرؤية  على أن الزوج، كان يعيش حالة حب، أو حالة حياة، مع امرأة مجهولة، تعيش فى الذاكرة، وقد عرفت الزوجة قصة هذه المرأة، فما تعانيه الزوجة، ليس حبا، وإنما إمتلاك، فانقلبت الحياة إلى موت، أو كابوس {وكعادتى بعد كل شجار خرجت إلى حديقة المنزل أبحث عنها، أحاول جمع أطرافها التى تناثرت مع كل معايرة تنقذف من روح زوجتى نحوها، كلما يئستْ من امتلاكى رمتنى بحجر، وذكرتنى أنها جمعت أشلائى من التيه، عشرون عاما ولم تُدرك بعد أن التيه رحب للأرواح التى لفظتها القسوة، ولم تمكنها من عشق الحياة}. ويسائل السارد نفسه، عمن يكون وراء تلك الحالة التى وصل إليها، ليصل إلى النتيجة {فساعتها سندرك أننا نراقب أنفسنا أيضا، وسنتأكد أننا كنا شركاء أساسيين فى كل ما مر علينا من أحداث}. حيث يُصبح الصمت، طريق العذاب، والمعاناة، والنتيجة المنطقية لأن يذهب إلى الطبيب النفسى فى أولى قصص المجموعة "المقعد الخالى".

فنحن إذن أمام حالة نفسية، انطلق الكاتب فيها من الواقع المعيش، وحلق فى سماوات الحياة، واجتاز عتبة الموت، الأشبه بالكابوس الجاثم على الصدر، ثم يعود وكأن طائرة محلقة فى ملكوت الماضى الذى عاشه السارد، وأشعره بالحياة، ولكن، ودائما، لابد أن تهبط الطائرة إلى الأرض، فتغادر الخيال، وتعيش الواقع الأرضى.

وفى قصة "بيت مريم"، والتى تقتطع –كغيرها- جزءً من الحياة الممتدة التى وجدناها فى "نوافذ مضيئة" ، حيث يفرض الحاضر عليه اللجوء إلى الماضى، ليسترجع ذكرى "الجدة "مريم" تلك التى احتضنته، حيث {كنا يتيمين، ووحيدين، مريم بلا أبناء وأنا بلا أم). ولم يكن ذلك فقط هو ما ساقه لفتح صندوق الماضى، واستخراج الذكرى، وإنما التقابل بين صورة "مريم" النقاء ، وصورة الجارة، النهمة، والتى جذبته ليذوق عسلها، والذى فتح شهيته للفعل (الحرام) فوق السطوح، لتتأمل بعد زمن {تريد أن تعرف، كيف مر الزمن على الطفل الذى صنعت منه رجلا؟!}. وهى لا تعلم أن الحاضر هو من دفعه للعودة للماضى، حيث دفعته "صفاء" الزوجة إليه {أتمسك بوجود صفاء إلى جوارى بكل ما بقى داخلى من قوة وقدرة على مواصلة الحياة، ولا تزال الطريق- رغم شيخوختها الظاهرة- تهبنى من الألم بأكثر مما تتيح لى من اللذة}. ولأن مريم ماتت، فلم يعد غير التصور، والحنين.

غير أنه عندما يصل القارئ إلى نقطة يشعر فيها اكتمال الرؤية، يصبح ما يأتى بعدها عبئا على العمل. فإذا كان القارئ قد شعر باكتماله فى قصة "بيت مريم" عندما عاد إلى بيت مريم، واستعاد ذكرى تلك الجارة{وعندما واجهتها بصمتى ابتسمت بسخرية، وهمست بشماتة وهى تنظر إلى جثة مريم: مريم ماتت}. فهنا يمكن أن يكون القارئ قد وصل حد الإشباع. حيث سخر الماضى من الحاضر، وبما يحمل إدانة الحاضر كله. نجد الكاتب استمر فى السرد لما يزيد عن الصفحات الثلاث، لنرى كيف أن "مريم" استعادت شبابها، وأنها تسير إلى جواره. الأمر الذى يعتبر عبئا على القصة، فقد أراد توضيح الواضح.

 ثم نرى أنه حتى القصة التى تتناول الشأن العام، لا تخلو من الثنائية الممتدة، الحب والموت. ففى قصة "اثر المحبة" التى يعبر عنوانها عن مضمونها الكامن، وراء المشاعر والأحاسيس، نجد بداية إنسانية، حيث نرى المشاعر الفياضة التى تسكبها الساردة مع دموعها، على موت "يوسف برصاصة مجهولة، تخترق القلب وتنفذ من الظهر، دون أن نعرف ما العلاقة التى تربطها بيوسف، وتنبت للساردة أجنحة تطير بها فوق ماء الترعة، لترى ثلاثة، تعرفهم الساردة، يقلبون جسد يوسف، متفاجئين بأن رصاصة واحدة هى التى نفذت. بينما كانوا الثلاثة قد أطلقوا رصاصهم نحوه. وكان الثلاثة:

{الأول أخى الأكبر، وغريمى فى محبة أبى الفضل لى.

والثانى صديق طفولتى، وغريمى فى محبة البنت التى لازمتنا فى رحلة الكُتَّاب والمدرسة.

والثالث رب عملى، وغريمى فى محبة البنت التى تسعى بأكواب الشاى بين مكاتب المؤسسة}. 

أى أن الثلاثة لهم سابقة-غير طيبة- مع الساردة، ويكنون لها الحقد، ولنتبين أنهم لم يكونوا يقصدون "يوسف" على وجه التحديد، وإنما كانت هى المقصودة. فمن هى إذن ؟.

نستطيع التعرف عليها إذا ما قرأنا، من هو يوسف، الذى ما رأته إمرأة إلا وتعلقت به، وهو صاحب الأرض الزراعية، والبيت الذى يقف هناك بعزة وكبرياء موغلين فى الزمن، تحوطه الحدائق الخضراء والشجر العالى الممتد إلى مسافة غير قصيرة حتى أطراف المعبد الفرعونى القديم. {وعندما امتدت عيناى فى البعد الموازى لحافة الترعة رأيت بيت يوسف الكبير، يقف هناك بعزة وكبرياء موغلين فى الزمن، تحوطه الحدائق الخضراء والشجر العالى الممتد إلى مسافة غير قصيرة حتى أطراف المعبد الفرعونى القديم، كأنما يدان ممتدتان بالسلام والمحبة، فتذكرت أننى ما زلت أقف فى أملاك عائلة يوسف، وأن كل هذه المسافة المزروعة بموازاة الترعة، والتى تتعدى حدودها الحوش القديم المهجور.. هى أرض "الفضل" التى ورثها عن أبائه وأجداده، وورثها من بعده يوسف وأخوه الأكبر}.

  فنحن إذن أمام مصر، السلام، والمحبة، مصر الممتدة عبر الزمن، والواقفة بشموخ وعزة، رغم مؤامرات الطامعين. وهو ما يؤدى بنا إلى التعرف على الساردة، محط أنظار من يتربصون بها، ويسعون لقتلها، بقتل من أحبها وأحبته، والذى تعرفها القصة فى : {أنا روح يوسف التى لم تقدر رصاصاتهم على أن ترسلنى معه إلى الموت}.

 فكيف كان الحب"الفردى" الإنسانى، المحلق فى سماوات الروح؟.

تبدأ القصة بهذه الجملة الدالة على مسعى الكتابة بالمجموعة، التحليق فى أغوار النفس البشرية:

{خرجت من جسدى قبل أن يدخل الحوش القديم} حيث الخروج من الجسد، يعنى التخلص من الموجود، المقيد، بحدود الزمان والمكان. وركوب الطبق الطائر للتحليق فوق ما هو أرضى.

 وما أن سمعت –الساردة- الطلقة التى أودت بالحبيب، حتى تفتت أجزاؤها، وكأن كل جزء فيها قد استحال إلى قطعة مستقلة {هكذا جريت مسرعة لأجمع أطرافى المتناثرة فى ثنايا الجسد}. وبموت الحبيب، شعرت الساردة أن حياتها قد انتهت، وأخذت فى الاستعداد لتسليم الروح، لذلك المَلَكُ القادم، لا محالة {بلا إرادة وجدتنى أجلس باستعداد كامل فى انتظار تلك اليد الملائكية التى تجسدت فجأة من المجهول البعيد وراحت تمتد نحوى، فانتابنى إحساس عارم أنها من ستنتشلنى من هنا عما قريب}. وفى لحظات الانتظار، تلبستها روح "يوسف"، فراحت تتصور ما يمر به الآن، وكأنها تتصور ما سوف يحدث لها بعد الممات {كان يهرب بغيبوبة شبه كاملة من مجهول يترصده فى الوراء الموغل فى الظلمة والخوف، وبلا ذنب كان يشعر بخطره القريب، وثقله الجاثم}. ولشد ما يحمله الخوف من المجهول، وترقب ما هو آت، إلا أنه يفوق ما عرف من خوف عاناه على الأرض{غير عابئ بالظلام الذى بدا مثل وحل كثيف يعيق تقدمه المرتجف، أو بخطر الوقوع فى الساقية التى تتوسط أرض الحوش، أو حتى الأصوات المزعجة التى تنقذف من الزروع المحيطة، ومن الجبل البعيد العالى من خلفها، ويختلط فيها عواء الذئاب بنباح الكلاب ونقيق الضفادع فى إيقاع مدو وصاخب وقادر على زرع الخوف والفزع}. فذلك هو أثر المحبة.

 وهكذا بعد رحلة طويلة مع الأحاسيس والمشاعر الفردية المتدفقة، يحملنا الكاتب على أجنحة الخيال المحلق فى الفضاء، ليدخل بنا العالم الأرضى، ولنتأكد أن حب الوطن، ينبع من حب الأفراد، وما الوطن إلا، مجموع أفراده.

أما فى قصة "لم أعد اصدقهم" اتكأ الكاتب على جائحة الكورونا التى حصدت الكثير، من الأعمار المختلفة، حتى بات الموت غولا يختطف من يشاء من البشر، فى مواجهة الناس الرافضين لدفن من مات بها فى المقابر .. حرصا على الحياة.  ليضع-الكاتب- المدينة بين شقى رحى، الموت القادم من الجبل العالى  من جانب، والبحر المنفتح على الحياة، فكأن صراع الإنسان، بالضغائن والكراهية والعداوة، وضعه  بين الموت والحياة، وهو ما جعل الجدة- ذات الحكمة تقول-: ما ينقصنا هو الإيمان يا ولدى.

وإذا كانت المجموعة قد بدأت بقصة "المقعد الخالى" والتى فيها نجد السارد –مع آخرين كُثر- فى عيادة الطبيب النفسى،وكأنه يلجأ بالبحث عن المتاعب النفسىة التى يعانيها إنسان هذه الحياة، فإنه يصل فى نهاية المجموعة إلى قصة "الشرفة" وكأننا وصلنا للمحطة الأخيرة، بعد طول سفر وتعب ، حيث نشعر بدبيب الموت، لكنه الآن، ليس بالشئ المرعب، ولا يتلفع بالخوف، لكنها لحظة الاستسلام للقدر المحتوم، بعد أن وصل إلى القناعة بألا علاج لهذه الحياة، غير الاستسلام متمثلا تلك المقولة التى وضعها على لسان السارد فى "المقعد الخالى" {وأنا أظل أسير حاملا فوق كتفىَّ همومى وسعادتى، وأشرب من كليهما بحسب ما يقتضيه الحال}.

 فيقف السارد فى "الشرفة"، الشرفة المطلة على ذلك السفر البعيد، الذى اقترب، ليقف وحده، كما هو الإنسان، عليه أن يمر بذلك الطريق، وذلك السفر.. وحده {وحدى فى الشرفة، وما بين نظرتى المتبقية والشارع الممتد أمام عينى تتراكم الأشياء بعنف، ومع ذلك أشعر بأن الحالة التى تنتابنى كل يوم عند الغروب، لم تصيبنى اليوم بقسوتها المفرطة، حاولت أن أرد ذلك إلى أننى لم أتلق اليوم تهديدا مباشرا من ملاك الموت}.

لنجدنا أما لحظة شاعرية، ساعة الغروب، وكأننا تناسيناها ببعدها الرمزى، ونعيشها ببعدها الواقعى، الذى طالما تغنى به الشعراء، ولنعيش معهم، ومعها، أشجان الغروب، ونحن نبدأ السفر برفقة المشس، لنسقط معها- على البعد، فى قاع المحيط.

السمات العامة
تضمنت المجموعة عددا من الألفاظ ذات الإشعاع الإيحائى، الذى يسرى فى عروق النفس البشرية، فيشكل أبعادها، ويفرض جوا نفسيا، شمل المجموعة كلها، مثل: الموت كعنصر أساسى فى المجموعة، وإن تنوعت استخداماته، وينبثق منها، ويصب فيها، و الصمت.. الظلام، القبر، الغرف الضيقة. ويغلفها جميعا غلاف شفاف من الطيران، أو الابتعاد عن الأرض، وكأنه يبغى الهروب. لكنه مهما سار على الأرض، أو حلق فى السماء، فلابد من الاستسلام، فى النهاية. وذلك بتجسيد المعنوى، بما يزيد من الشعور بضغط الإحساس، وتقوية الرؤية. وحيث تتشكل الشاعرية فى تركيب الصور الخيالية، التى تحمل القارئ على أجنحة التحليق، لترى ما هو غير منظور.

 ففى قصة "المقعد الخالى" نقرأ {ملت برأسى للوراء حتى حضنت السقف بعينىَّ وقلت للرجل الذى تشكل فيه هناك فى المساحة المختبئة بين البياض والعتمة، إن العيون لغة تتشكل حروفها من الصمت}. و { اطلب كأسا لنفسى، وكاسا لضعفى الإنسانى.. ونبدأ فى الضحك معا.. الشراب فى جماعة أمر مهم جدا لكى أسمو،، فتلاحقنى عينا ضعفى الإنسانى}.

 وفى قصة "نوافذ بيضاء" نقرأ {حتى خُيل إليه أنه يرى شعاعا من الرضا يمر أمام عينيه كبرق، خاطف، وأن لمسته السريعة له اقتلعت من روحه الحزن والألم}. حيث نرى الشعاع قد تجسد وأصبح يمكن لمسه باليد، وأنه تحول إلى يد تقتلع الحزن والألم. و{مثل حقيقة تصفعه على وجهه بعنف}. وتحولت الحقيقة غير الملموسة ليد تصفع. و{قبل أن يلتهمه النوم} وهنا تحول النوم إلى محيط عميق يبتلع الإنسان.    

كما تجسد الخوف فى قصة "بيت مريم" {جاورنى الخوف، وأحسست بأطرافه الرخوة تكبل يدىَّ وقدمىَّ لكننى خفت أكثر عندما بدأ ينفخ دفقاته الهوائية السريعة فى قلبى} { ولا يزال الخوف يدثرنى بأذرعه الرخوة على البعد}. حيث تحول إلى يد قوية تملك تكتيف الإنسان، وتُوقِفه عن الفعل، وكذلك نرى العتمة، وكأن كلا من الخوف والعتمة، محبطة، ومثبطة للعزيمة، وداعية للخوف، والتصور، فنقرأ {لأن العتمة أيضا رأتنى مسجونا داخل الممر الذى بدا كصندوق حديدى معلق فى فضاء مظلم}.

ثم يتجسد الغضب فى قصة "وحدى معهم" {وربما ببعض الغضب، وقد ظل إلى جوارى باستعداد كامل للمؤازرة، والزحف إلى داخلى مرة أخرى متى احتجت إليه}.

وفى قصة "لم أعد أصدقهم {وجدناه ينهى تفكيره المستغرق الذى رماه على كنبة الصالة بسكون الموتى}. {وحتى داهمنى الكابوس ذات ليلة، ذلك الكابوس المقبض الذى صفعنى بقوة}.

كما أن الشاعرية لم تتوقف –فقط- عند شاعرية الرؤية، وإنما جاءت شاعرية اللغة، بشفافيتها، وقدرتها على النفاذ لما وراء الظاهر، وهو ما نجده بصورة أوضح فى قصة "نوافذ مضيئة" {يبدو الظلام والصمت كأنهما حكمة الروح عندما تتخفف من أثقال الجسد، جناحاها المفرودان على البراح فى طيرانها المحموم باتجاه أفق لا ينتهى}.

وفى قصة "الشرفة" يرتسم الزمن فى اللغة الشاعرة:

{أنا نصف قلب

ونصف روح

ومع التقدم فى العمر

أصبحت نصف جسد

فماذا سيغرى اليمام؟!

كى يحط على شجرة خريفية

أو يمرغ عينيه فى اللون الأصفر}.

وإذا كانت الحياة –عامة- يغلفها الشك، واللايقين، والمجموعة يغلفها الإحساس بالحياة كطريق للموت، فقد كثر استخدام اللايقين، بكثيرة، الأمر الذى يضع القارئ بين الحلم والحقيقة، أو بين الخيال والواقع، فلا يقين على الأرض، ولا ثبات لما عليها. ومنها على سبيل المثال:

فى قصة "نوافذ مضيئة"{لكنه لم يعرف على وجه الدقة هل لمح طرف عينيه ذلك الطفل حقا؟! أم خُيل إليه أن ثمة طفلا صغيرا يقطع عرض الشارع امام عينيه}.

وفى قصة "وحدى معهم" {لا أعلم إذا كنت قد اسنيقظت من النوم مثل كل صباح، أم أننى أتيت من الخارج بعد قضاء الليل كله فى مكان ما، لا تتضح معالمه فى ذهنى بشكل واضح.. كسكران يرى كل شئ من خلف غمامة بيضاء رقراقة، لا تفسح مجالا للشك، لكنها أيضا لا تتيح الحقيقة}.

و فى فرح الإبنة {لم أنتبه كيف أتيت؟! كيف استندت فجأة بكتفى على جذع الشجرة التى تقف فى مؤخرتها وتكشف الحديقة كلها أمام عينى؟! كيف ارتديت تلك البدلة البيضاء التى تومض على جسدى؟! من ألبسنى إذن، وهل تخصنى أم لا؟!}.

كما كان استعمال (الباب الخشبى) فى أكثر من قصة، مثل باب الحبيبة فى "نوافذ مضيئة"، حيث يوحى الاستخدام بأنه باب كهف قديم، يَرُدُ، ولا يَصُدُ، فهو وإن كان ظاهرا، إلا انه لا يحجب ما وراءه، أو أنه سهل اقتحامه، وكشف ما وراءه، من ذكرى، أو ماض مخبأ فى عبق الزمان، ينثر رائحته على الحاضر، ليؤكد أن الحاضر ليس إلا ابن للماضى. فنقرأ:

{تتسرب مع الزمن إلى باب بيتها الخشبى} {فيما الباب الخشبى القديم يفتح أمام عينى بئرا عميقة من الأسرار المطوية على الظلمة والغموض}.

       تُثبت المجموعة قدرة القصة القصيرة (التقليدية) –والتقليدية ليس ذما، وإنما هو توصيف-  على إحتواء الشاعرية، وبالتالى، احتواء المتعة التى نعتبرها العنصر الأساس فى الإبداع عامة، كما قدرتها على المحافظة على روح القصة القصيرة، والتى تدحض محاولات ما يسمى بال ق. ق. ج. والتحجج بطبيعة العصر الى يتسارع فيها تناول الأشياء –عامة-.  فالقصص هنا تمتد لما يذكرنا بقصص يحيى حقى ويوسف إدريس وبهاء طاهر –على سبيل المثال- حيث كانت القصة –هنا- تمتد لما يزيد عن العشرين صفحة، أو يزيد فى بعضها. فاعتمدت على الخط النمطى المتصاعد، وتمحورت جميعها حول نقطة الذروة، فبدأت منها وتعمقتها، وانتهت بها. فحافظت على العنصر الرئيسى – فى تصورنا- وهو اللحظة، أى الزمن اللحظى، إلا أنها اللحظة المعاصرة، أى اللحظة التى تحتوي بداخلها على كل مراحل الزمن، ماضيه وحاضره ومستقبله، وهو ما يكشف عن القدرة فى تفتيت اللحظة، وكذلك ذلك التوفيق فى اختيار اللحظة الحاملة للعديد من الأبعاد، حيث نستطيع رؤية القصص متمركزة حول:

نوافذ مضيئة   لحظة دفن السارد نفسه، وكأنها اللحظة المستقلبية للماضى والحاضر.

بيت مريم    العودة إلى بيت مريم واستحضار الماضى، حيث الحاضر هو موقف الزوج ،         والماضى مرحلة الجدة"مريم.

أثر المحبة .. لحظة موت يوسف . مشتملة ذلك الحب الذى كان.

ولتقف "نوافذ الضوء"، كبرهان عصرى على قدرة القصة القصيرة، فى الوقوف أمام تيارات الاستسهال العصرية، ولقدرة محمد صالح البحر، على إمتاع قارئه باللغة والمنهج الشعرى، متسلحا بروح الرواية، التى تعتلى قمة الإبداع المعاصر، دون أن يفقد روح القصة القصيرة.

 شوقى عبد الحميد يحيي

 

 

[1]  - محمد صالح البحر- نوافذ مضيئة- الهيئة المصرية العامة للكتاب- ط1  2022.

[2] - سورة الكهف – الآية 48.

[3]  -( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد) سورة ق الآية 22.