يطرح الناقد المصري هذا التساؤل المهم حول النقد الثقافي وارتباك العرب في فهمه، وأن هذا الارتباك هو ما دعا إلى ترجمة هذا الكتاب المهم، وتقديم مترجمه الذي لا يقل أهمية عن الترجمة في فضح تلك الارتباكات المضللة. والتي نرجو أن يساهم الكتاب المترجمة في القضاء عليها من أجل فهم حقيقي للمصطلح.

لماذا ارتبك العرب في تعاملهم مع مفهوم النقد الثقافي؟

الأكاديمي الأميركي فنسنت ليتش يوضح أبعاد هذا التيار المعرفي والأدبي

عـلي عـطا

 

في كلمة قدَّم بها عضو هيئة التدريس في قسم اللغة العربية في كلية الآداب - جامعة القاهرة؛ هشام زغلول، ترجمته لكتاب "النقد الثقافي: النظرية الأدبية وما بعد البنيوية » لفنسنت ب. ليتش، ذهب إلى أنه إن يكن ليتش قد أشار صراحة أو ضمناً في غير موضع من كتابه هذا، وغيره، إلى تصدر النقد الثقافي المشهد النقدي في العالم، "فإن جانباً من هذا التصدر نال مشهدنا النقدي العربي، لكنه يبقى متصدراً شكلاً في ما أزعم.

في هذا الكتاب يبلور ليتش Leitch، وهو أحد أبرز المنظرين الثقافيين في الولايات المتحدة الأميركية، مشروع النقد الثقافي ما بعد البنيوي، معززاً بما يثيره من جدل نظري، مع رواد ما بعد البنيوية، حول أهم القضايا المحورية والإشكالات المعاصرة بالغة التأثير. ومن ثم أتى الكتاب مشحوناً برؤى ناقد ثقافي متخصص، يشتبك بحقل أدبي شائك، ليمحص النظريات ويطور الممارسات، بل ويطرح ممارسات مضادة، واضعاً نصب عينيه الأسس الفكرية للنقد المعاصر، وتداولية مفاهيمه المحورية، والتداعيات الأخلاقية للممارسات المؤسساتية والنظريات ومنظمات المعرفة. ومثل هذا "التنظير" النقدي هو - كما لاحظ المترجم - أشبه بممارسة تطبيقية للنقد الثقافي، بما يثري الكتاب، بما ينطوي عليه من مزيج تداولي لمختلف أطياف ما بعد البنيوية، فضلاً عن كونه أحد مراجع النقد الثقافي القليلة التي تلبي تطلعات النقاد الثقافيين ذوي التوجهات الأدبية.

تحولات جديرة بالتأمل:
وفي مقدمته لهذا الكتاب الذي صدرت طبعته الإنجليزية عام 1992 عن دار نشر جامعة كولومبيا، يلاحظ ليتش أن النقد الثقافي شهد في الثلاثينيات والستينيات تحولات جديرة بالتأمل؛ إذ مهَّد الشكلانيون الروس لإشهار سيف التابوهات في وجهه، لا سيما في الحقبة التي أعقبت الحرب مباشرة، ولكن سرعان ما خبت جذوة ذلك في عقد الستينيات، بفضل "النقاد الأسطوريين"، والمشتغلين بالعرقيات واليساريين الجدد والنسويين، وعامة الليبراليين. ثم ما لبث أن تصدت الممارسات النقدية الثقافية لفكرة التابوهات في المساءلة الثقافية، وكشفت عن تحول في طبيعة الاهتمام بالأخلاق، والسياسة والنشاط الاجتماعي.

وأشار ليتش إلى أنه عرض في كتاب سابق له بعنوان "النقد الأدبي الأميركي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات"، سرداً تاريخياً لمختلف الحركات والمدارس النقدية التي أدت إلى التطورات التالية في النقد الثقافي. ومن ثم فإنه هنا سيعرض مباشرة لمشروع النقد الثقافي ما بعد البنيوي؛ "إذ لا تقنع هذه الدراسة فحسب بتقديم مسح تاريخي شامل، ولكنها تطمح لتعزيز ذلك المشروع بما يثيره من جدالات نظرية حول أهم القضايا والمشكلات الآنية".يضم الكتاب ثمانية فصول، قام المؤلف من خلالها بتطوير مواقف بشأن موضوعات مفتاحية معينة؛ مثل: التكوين الاجتماعي، والنقد الثقافي، التأليف والمقصد، الخطاب "الشعري"، والنص الاجتماعي، النوع الأدبي والميثاق الثقافي، آداب الأقليات، "الشعريات العامية"، التفسير النصوصي والتقييم، النظرية المؤسساتية والتحليل، دراسات برمنغهام الثقافية وما بعد البنيوية.

وقد ارتطم ليتش في ما تبناه من مواقف، على زهاء اثني عشر عَلَماً من رواد ما بعد البنيوية، "لكنني لم أتردد في نقد من رأيته مستحقاً النقد" ص23. وسبق أن أوضح ليتش في كتابه "النقد التفكيكي" أن ما بعد البنيوية ينطوي على فصائل ومجموعات فرعية عديدة، لم تزل تتنامى.

ثالث ثلاثة مؤلفات:
وعلى رغم اتصال مادة الدراسة ببعضها، إلا أن ليتش – كما يؤكد في المقدمة - تردَّد في طرح هذا الكتاب بوصفه ثالث ثلاثة مؤلفات، عن النظرية النقدية المعاصرة، "وإن أكن قد نحوت في العملين السابقين – التاريخي والمقارن – منحى شمولياً ومحايثاً، فإن الكتاب الراهن على رغم ارتكازه على التراكم المعرفي للكتابين السابقين، إلا أنه – بطبيعته الجدلية – يتجاوزهما بما يقدمه من محاجَّة بعض الشخصيات المؤثرة المختارة بعناية. وبوصفه منظراً فقد اقتفى ليتش الأثر وفكك شفرات النقوش الحجرية – على حد تعبيره – في سبيل إبراز المواقف المتعارضة، ومن شأن تكنيك كهذا أن ينتج نغمة سلطوية، "لكنني لم أقصد به أبداً طرح مثل تلك الوجهة التسلطية، إنه فقط مجرد تدخل ناقد متخصص في حقل جدلي شائك". ومع ذلك، فقد ركَّز ليتش على رواد النظريات؛ لأنهم مَن أطَّروا أسس مناقشة القضايا المحورية. وفي ما يتعلق بهجماته على النقد الجديد، فإن ليتش - كما يقول - لا يتصور أن مثل هذا الصنيع من قبيل "جلد حصان ميت"، "بالعكس، فمنذ أن جاوز النقد الجديد الستينيات أصبح مخلداً، من دون وعي، في كثير من الأوساط بوصفه "نقداً عادياً"، ولذا فهو جدير بمعاودة المساءلة والنقد، فالماضي لا يزال يناكد مستقبلنا ويحاصره".

الأطروحات العربية:
وبالعودة إلى ما طرحه المترجم في ما يخص الدارسين العرب الذين اهتموا بالنقد الثقافي، يمكن القول إن على رأس هؤلاء يأتي السعودي عبدالله الغذامي بكتابه "النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية"، وكتابه المشترك مع السوري عبد النبي أصطيف "نقد ثقافي أم نقد أدبي؟"، وسعد البازعي وميجان الرويلي في كتابهما "دليل الناقد الأدبي"، والباحث الجزائري حفناوي بعلي في كتابه "مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن"، والمصري صلاح قنصوة "تمارين في النقد الثقافي"، والعراقي محسن جاسم الموسوي في "النظرية والنقد الثقافي". وبالطبع هناك آخرون مثل نعيمة هدى المدعري وزهور كرام وفاطمة الزهراء أزرويل.

ويقول هشام زغلول في تقديمه لترجمته لكتاب فنسنت ب. ليتش، والتي تصدرت مبيعات المركز القومي المصري للترجمة في الشهرين الماضيين: "فإذا ما قسنا كم الدراسات العربية المحسوبة على النقد الثقافي – في أي مستوى كانت؛ النظري أو التطبيقي أو نقد النقد – إلى النذر اليسير الذي تريَّث في فهم صيغته ومقولاته بعمق، وأحسنَ تمثلها وممارستها بسعة أفق؛ فإن نسبة هذا إلى ذاك – وبكل أسف – ستكون واهية لدرجة مخجلة".

ويضيف زغلول: "ولأن أطروحتي للدكتوراه كانت عن نقد النقد الثقافي؛ فقد انشغلتُ بترجمة عدد من الدراسات التي رأيتُها مراجع أصيلة تبلور الإطار المرجعي لهذا المجال. وبحكم تزامن مساري الترجمة والبحث وتقاطعهما أحياناً، كنتُ كلما راوحتُ بينهما هالني البون الشاسع بين ما يقوله نقاد الغرب وما ينسبه إليهم كثير من الباحثين العرب. ولا غرو أن يكون هذا الكتاب نفسه عينة ممثلة لذلك النمط المستشري في تلقينا النقد الثقافي، من خلال كثير من رسائلنا وأبحاثنا الأكاديمية، فمن يتتبع ما نسب إليه – مما لا يمت له بصلة – سيدهشه ما ألمَّ به من تزييف وتحريف. وهذا ما راعني بقدر ما أغراني بقيمة التجديف صوب الضفة الأخرى".

دعوة عبدالله الغذامي:
أما الدعوة إلى موت النقد الأدبي في سياق "تبشير" الغذامي عربياً بالنقد الثقافي، فقد رأى زغلول أنها قائمة على تصور مغلوط لعلاقة المجالين، أحدهما بالآخر. فتلك العلاقة – يقول زغلول – تصورها البعض قائمة على الإحلال والتبديل، فقال ما قال، "ثم تداولها آخرون حتى انتشرت في أوساطنا النقدية انتشار النار في الهشيم" ص8.

واستطرد وغلول: "وهي مقولة تلحق بسلسلة الموت التي شهدها أطراف المنظومة النقدية؛ فمن موت المؤلف لموت الناقد، لموت النقد نفسه، في متوالية بدت مغرية لكثيرين". ويؤكد زغلول أن تتبع موقف ليتش من هذه المقولة وتصوره لعلاقة النقد الأدبي بالنقد الثقافي – أو الدراسات الأدبية بالدراسات الثقافية - يبين كيف أنه يراها علاقة تكامل لا علاقة تضاد. وينقل زغلول عن ليتش قوله في هذا الصدد: "في حين أدلى نقاد الأدب بدلوهم – منذ أمد بعيد – في النظرية الثقافية والنقد الثقافي، إلا أن بعض النقاد الثقافيين لم يمعنوا النظر بعد في المسائل الأدبية (ذات العلاقة) صحيح أن النقد الأدبي والنقد الثقافي غير متطابقين تماماً، لكن تجمعهما مساحات اهتمام متداخلة، وبمقدور المشتغلين بالأدب الاضطلاع بالنقد الثقافي من دون التخلي عن اهتماماتهم الأدبية". وأوضح زغلول أن كل هذا يبرر موقف المدافعين المعاصرين عن الدراسات الثقافية التي تندرج بالأساس ضمن الأقسام الأدبية... "لكن الدراسات الأدبية تعزف عن دراستها بدعوى أن النقد الثقافي إنما يركز على الثقافة الجماهيرية والشعبية، ويغض الطرف عن الخطاب الأدبي والنظرية الأدبية من حيث كونها محددة وذات حظوة". هنا، يرى زغلول بحسم أن تحول الدراسات الأدبية لا يزال مشروعاً قيد التنفيذ، تلعب البنية ما بعد البنيوية دوراً حاسماً في تشكيله، كما تبين دراسة ليتش التي يتضمنها كتابه "النقد الثقافي: النظرية الأدبية وما بعد البنيوية"، لجهة أن أحسن ما تفضي إليه المفاضلة بين الدراسات الأدبية والدراسات الثقافية ليس استبعاد إحداهما، وإنما هو أن نختارهما معاً".

بين ليتش وفوكو:
وواضح – يقول زغلول – أن تصريح ليتش بكون النقد الثقافي ما بعد البنيوي ينظر إلى الشكلية الأدبية بارتياب، إنما يراد به الشكلية الخاصة والجماليات المحضة التي تقرأ النص الأدبي بوصفه كياناً مستقلاً. وبدهي جداً أن يصدر هذا الرأي عن ناقد مثل ليتش، بيد أنه لا يسوغ ما بني عليه من تعميم يحمله ما لا يحتمل".  

وفي سياق مقدمته القائمة أساساً على نقد النقد، يرى زعلول أنه لا ينبغي إغفال مقولة محورية يطرحها ليتش باعتبارها بديلاً أولياً لشبكة المفاهيم المرتبطة بالأيديولوجيا والتكوين الاجتماعي؛ وهي "نظم العقل / اللاعقل". ويذكر ليتش أن تلك المقولة مستلهمة من فكرة مقتضبة للغاية سبق أن طرحها فوكو عرضاً – في سياق حديثه عن "نظم الحقيقة" – ضمن كتابه "الحقيقة والقوة". وأزعم – يقول زغلول - أنها من أبرز ما يميز مشروع النقد الثقافي ما بعد البنيوي – كما يطرحه ليتش – عن إرثه الممتد، ويخلصه من ظلال الإشكالات الماركسية العالقة به؛ "والأهم أننا في سياق أشمل سنجدها لا تصله بمقولات فوكو وحده؛ بل بمقولات أخرى بالغة التأثير في بلورة الموقف ما بعد البنيوي من "العقل"، فضلاً عن كون صلتها بفوكو ستبدو أبعد من تلك الإشارة التي ذكرها ليتش".

 

عن (اندبندنت عربية)