يلتقط الشاعر بحسه ومجازاته حجم الانهيار العميق وهذا السيل الجارف الممتد بين الأمكنة حيث الوطن والمدن تمسي ظلالا، والذات وهي تعرج بين ثنايا ثخوم السؤال، فيض من تجربة الشاعر القيرواني التونسي الذي راكم تجربة مهمة في المجال الإعلامي والثقافي، كما يعتبر من أحد الوجوه الشعرية المرموقة في المشهد الشعري التونسي.

ورود للصدى

عبد العزيز الهمّامي

 

1. وردة الرّيح

الذّعْرُ يَصْحُو بَاكِرًا

فَلْتَنْهَضُوا اِذَنْ

وَسَجِّلُوا أَسْمَاءَكُمْ

فِي دَفْـتَرِ المِحَنْ

هَذِي البِلاَدُ مُرَّةٌ عَلَى شِفَاهِناَ

لاَ حُلْمَ فِي أَهْدَابِهَا

وَلاَ سَكَنْ

مُنْذُ حَفِظْنَا مُفْرَدَات العِشْقِ

تَحْتَ ضَوْئِهَا وَغَيْمِهَا

كُنَّا سَمَادَ أَرْضِهَا

وَلَوْنَ يَاسَمِينِهَا

كُنَّا أَرِيجَ الطِّينِ فِي أَحْجَارِهَا

وَصُورَةً تَشَكَّلَتْ

مِنْ وَجْهِهَا الحَسَن

لاَشَيْءَ بَعْدَ الاَنَ فِي الطَّرِيقِ

غَيْر دَمْعَةِ الغُرُوبِ

فَوْقَ هَذِهِ المُدُنْ

لاَشَيْءَ غَيْر هَذِه ِالجَوَارِحِ الَّتِي

تَحَاصِرُ الأَشْجَارَ وَالمِيَاهَ وَالسُّفُنْ

كَأَنَّ هَذِهِ البِلاَد لَمْ تَكُنْ

اليَوْمَ يَا أَحِبَّتِي

يَخْتَبِئ الحُبُّ

وَمِنْ ضُلُوعِنَا يَنْفَلِتُ الوَطَنْ

الاَنَ يَبْدَأُ الجِيَاعُ حِصَّةَ البُكَاء

وَمَوْعِدُ الحَصَادِ لَمْ يَحِنْ

صَمْتٌ عَلَى الأَبْوَابِ

وَالرَّبِيعُ جُثَّةٌ بِلاَ كَفَنْ

وَالأُمْنِيَاتُ فِي عُيُونِنَا

حَمَائِمٌ يَعْزِفُهَا الشَّجَنْ

مَا لِلخُطَى تَضِيعُ

فِي ذَاكِرَةِ المِلْحِ

وَفِي مَفَاصِلِ الوَهَنْ

مَا لِلسَّدِيمِ يَفْرِشُ الفَرَاغَ

وَالهَوَى يَقْلِبُ فِي أَيَّامِنَا

ظَهْرَ المِجَنْ

فَكَيْفَ مَرَّ الطَّامِعُونَ خِلْسَةً

وَاقْتَحَمُوا بًيُوتَنَا

لِيَغْرِسُوا البَغْضَاءَ وَالرّيَاءَ وَ العَفَنْ ؟

حَتّى انْقَسَمْنَا

وَمِنْ أَخْطَائِهِمْ

صِرْنَا ضَحَايَا نَدْفَعُ الثَّمَنْ

لَكِنَّنَا اللَّيْلَةَ

يَا ذَاتِ العُيُونِ الخُضْرِ عَائِدُون

مَهْمَا يَكُنْ

وَسَوْفَ تُولَدِينَ مِنْ جَدَائِلِ الرِّيَاحِ

وَرْدَةً جُورِيَّةً

عَلَى مَشَارِفِ الزَّمَنْ

فَأَنْتِ يَا سَلِيلَةَ الأَمْجَادِ وَ الشَّهَامَةْ

أَقْوَى مِنَ الحِقْدِ

وَمِنْ كُلِّ الفِتَنْ

 

 

2. الصدى

مُدُنٌ يُعَرِّشُ

فِي نَوَافِذِهَا الصَّدى

ضَاعَتْ

فَمَا مَدَّ الزَّمَانُ لَهَا يَدَا

مُنْذُ انكِسَارِ الضَّوْءِ

فِي أَهْدَابِهَا

عَادَتْ بِلاَ وَجْهٍ

لِتَفْتَرِشَ النَّدَى

تَعِبَتْ مِنَ الأَسْفَارِ

وَهْيَ غَرِيبَةٌ

وَهُنَاكَ لَيْـلٌ

فِي ذَوَائِبِهَا بَدَا

تَخْضَلُّ مِنْ وَجَعٍ

كما لو أَنَّهَا

قِيثَارَةٌ فِي الرِّيحِ

يَعْـزِفُهَا المَدَى

وَكَأَنَّهَا فِي البَالِ

مَحْضُ غِوَايَةٍ

مَعَهَا ذِئَابُ الوَقْتِ

تَضْرِبُ مَوْعِدَا

وَبِدَفْتَرِي

كُلُّ الحُروفِ تَأَوَّهَـتْ

حَتَّى الكَلاَمُ

عَلَى الشِّفَاهِ تَـنَهَّـدَا

غَسَقٌ بِذَاكِرَةُ الطّرِيـقِ

مُخَاتِلٌ

كَالذِّئْبِ

يَقْتَرِفُ الخَطِيئَةَ وَالرَّدَى

مِنْ أَوَّلِ الوَهْمِ الَّذِي

لَمْ يَـنْـتَهِ

مَا حَامَ طَيْـرٌ فِي الضُّلُوعِ

وَغَـرَّدَا

وَيَظَلُّ فِي كَفِّي

وَبَيْنَ أَصَابِعِي

سَيْفُ الكِتَابَةِ

لَنْ يَغِـيبَ وَيُغْـمَدَا

وَوَدَدْتُ أَنْ تَجِدَ الرِّمَالُ

نَخِيلَهَا

وَتَصِيرُ أَجْفَانُ السَّنَابِلِ

عَسْجَدَا

وَحَسِبْتُ أَنَّ الوَقْتَ

ذَرَّ طُيُوبَهُ

وَتَحَوّلَ الحَجَرُ العَتِيقُ

زَبَرْجَدَا

لَوْكُنْتُ أَحْلُمُ

بِالتُّرَابِ وَبِالهَوَى

لَدَنَتْ يَنَابِيعِي

وَلَمْ تَذْهَبْ سُدَى

وَقَطَفْتُ مِنْ ضَوْءِ النُّبُوءَةِ

هَالَةً

وَهَرَعْتُ نَحْوَ الغَيْبِ

أَكْتَشِفُ الغَدَا

وَأَشُقُّ ثَوْبَ المَاءِ

أَرْكُضُ حَافِيًا

وَحْدِي

أُلاَحِقُ غَيْمَةً أَوْ فَـرْقَـدَا

وَبَذَرْتُ قَمْحَ رُؤَايَ

تَحْتَ سَمائِهَا

عَلِّي أَرَى فِي الجُدْبِ

غُصْنًا أَغْيَدَا

الأُمْنِيَاتُ عَلَى الضِّفَافِ

تَبَاعَدَتْ

وَتَحَوَّلَتْ فِي اليُـتْـمِ

بَابًا مُوصَدَا

وَالعَادِيَاتُ

قَطَعْنَ أَلْفَ مَسَافَةٍ

جَنَّ المَسَاءُ

وَمَا بَلَغْـنَ المَوْرِدَا

خَبَّأْتُ ظِلَّ الأَرْضِ

حِينَ تَضَرَّجَتْ

وَمَشَيْتُ فِيهَا

بَائِسًا وَمُشَرَّدَا

اَنَسْتُ جَمْرًا

فِي بَرَارِي وِحْشَتِي

وَرَأَيْتُ خَيْطَ الحُبِّ

كَـيْـفَ تَـبَـدَّدَا

وَبَدَأْتُ أَجْمَعُ

مَا تَـفَـرَّقَ مِنْ يَدِي

وَأُطَالِبُ التَّارِيخَ

أَنْ يَتَـوَحَّـدَا

وَبِأَضْلُعِي

أَيْقَظْتُ عِطْرَ طُفُولَتِي

وَبَنَيْتُ للزّمَنِ المُعَتَّقِ

مَعْبَـدَا

جَسَدِي

يُكَابِدُ فِي الفَرَاغِ ذُهُولَهُ

يَحْتَاجُ عَاصِفَةً

وَبَحْرًا مُزْبِدَا

وَالمُسْتَحِيلُ

تَرُوقُ لِي أَمْوَاجُهُ

وَبِهِ رِيَاحِي

تَشْتَهِي أَنْ تُولَدَا

 

 

3. وهم على الطّريق

عَرْشُ الأَحِبَّةِ

نَبْضُ القَلْبِ يَحْكُمُهُ

وَاليَوْمَ

تَخْطِفُهُ الدُّنْيَا وَتَهْزِمُهُ

تَيَمَّمَتْ لُغَتِي

مِنْ طِينِ دَهْشَتِهَا

لَمّا الهَوَى مَرَّ بِي

وَاخْضَرَ مَوْسِمُهُ

وَاللَّيْلُ فِي العَيْنِ

كَمْ تَخْبُو مَفَاتِنَهُ

اِذَا تَوَارَتْ

عَنِ الأَحْدَاقِ أَنْجُمُهُ

هُوَ المَجَازُ

يَمُدُّ اللَّفْظَ أَجْنِحَةً

كَالضَّوْءِ

يَرْتَجِلُ الاَنْوَارَ مُعْجَمُهُ

أشتاق حَفْنَةَ وَرْدِ

مِنْ أَنَامِلِهِ

أَوْ رِيشَةً

فِي ضُلُوعِ الصُّبْحِ تَرْسُمُهُ

يُلْقِي بِهِ الوَجْدُ

فِي أَهْدَابِ غَانِيَةٍ

مِنْ مَاءِ كَوْثَرِهَا

شَهْدٌ يُتـَـيِّـمُـهُ

وَالطُّهْرُ لَنْ يَبْلُغَ العُشَّاقُ

مَوْطِنَهُ

اِلاَّ وَتَحْتَ ظِلاَلِ النّخْلِ

مَرْيَمُهُ

الحَـرْفُ تَـنْـقُـشُـهُ

خَيْلٌ مُسَـوَّمَةٌ

وَالشِّعْـرُ يُولَدُ

فَوْقَ المَاء بُرْعُمُهُ

في نيّة الغَيْمِ

أمْطَارٌ مؤجّلة

وَالأَمْرُ صَعْبٌ

وَلَيْتَ الوَقْتَ يَحْسِمُهُ

وَاللّيْلُ

لَنْ يَجِدَ الأيّامَ مُشْرِقَةً

حَتّى يُغَادِرَ بَيْتِي

مَنْ يُجَرّمُهُ

تَضِيقُ بِي الأَرْضُ

وَالأَيّامُ سَاهِمَةٌ

وَفِي مَدَايَ

سَدِيمٌ لَسْتُ أَفْهَمُهُ

أَبْكِي عَلَى الدَّهْرِ

كَيْفَ احْمَرَّ دَفْتَرُهُ

كَأَنَّهُ شَفَقٌ

فِي كَفِّهِ دَمُـه

وَتَحْتَ غُصْنِ اللَّيَالِي

صِرْتُ مُغْتَرِبًا

كلّمْتُ صَمْتِي

وَلَكِنْ لَمْ يَبُحْ فَمُهُ

وَلِلْفَـرَاغِ نَـشِـيـدٌ

ظَــلَّ يَعْـزِفَـهُ

عَلَى شَفاَ وَطَـنٍ

يَرْتَـدُّ سُلَّـمُـهُ

وَفِي قَمِـيـصِ الخَطَايَا

بَاتَ مُتَّهَمًا

يُرَاوِدُ الوَهْمَ

وَالأَشْـوَاكُ تؤلِمُهُ

كَأَنَّمَا طَيْفُهُ

يَأْوِي اِلَى جَـبَـلٍ

لاَ الفُـلْـكُ يَأْتِي

وَلاَ الطُّوفَانُ يَعْصِمُهُ

المِلْحُ يَنْـبُـتُ

كَالأَحْجَارِ فِي يَـدِهِ

وَالعُـمْرُ يَطْفَحُ بِالاَهَاتِ

مُعْـظَـمُهُ

هَذَا الرَّمَادُ

مَوَاعِيدٌ مُبَعْـثَرَةٌ

وَالجَمْرُ تَسْكُنُهُ رِيحٌ

وَتُطْعِمُهُ

أَضَأْتُ وَجْهَ الفَيَافِي

مُعْلِنًا سَفَرِي

فَقَدْ يَرَى القَلْبُ

حُلْمًا كَانَ يَكْتُمُهُ

وَهْوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ

فِي التّيهِ مَرْفَأَهُ

خَيْطٌ مِنَ النَّوْءِ

فِي الرَّمْضَاءِ يَرْحَمُهُ

وَالحَدْسُ اَخِـرُ نَهْـرٍ

فِي مُخَيِّـلَتِي

بِيضُ الفَرَاشَاتِ

هُنَّ اليَوْمَ بَلْسَمُه.

 

من إصداراته أبجديّة الماء والرّمل سنة 2011،  سافات غامضة سنة  2015،  هديـل الغيـمة سنة  2018.. أحرز على عديد الجوائز الوطنيّة والعربيّة في الشعر من أهمّها: جائزة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية في دورتها السّابعة عشرة للسنة الحالية 2020  عن ديوانه هديل الغيمة الفائز كأفضل ديوان شعر عربي،  الجائزة الوطنيّة الأولى سنة 2012 في الشّعر الدّيني.