أبت الشاعرة إلا أن تاتى فى كتاباتها السردية، بكل ما تحمله الشعرية من شعرية اللغة إلى شعرية الرؤيا، وأن تعزف شخصياتها بألحان الغرام، وتنهدات الحب المفقود، الذى راح سارد قصة "شجرة حنا" يناجى به تلك التى مرت كنسيم، مر.. ولا يعرف أين ذهب.

شجرة حناء

عـزّة بـدر

 

مسحت على رأس صغيرىَّ بكفها، الصبى والفتاة، مدت يدها وسلمت بحرارة على زوجتى، رمقتها بنظرة ودودة دافئة، أشارت إلى أوعية الحناء وابتسمت، قالت أنها تريد بعشرة جنيهات منها.

قلت: يمكنك أن تأخذى معها الكركدية يعطى لشعرك لونا أحمر مُدهشا.

لاحظت أن أمرأتى ترمقها من طرف خفى، أما هي فقد تلقت نظراتها ببشاشة وهى تقول: جربتِ هذا النوع من الحناء

ابتسمت زوجتى...

- لا .. أنا أحب الصبغة الأوروبية

تدخلتُ أصف معاناتى المادية معها قلت: أنها تحتاج إلى ألف جنيه شهريا لرعاية شعرها، صبغة ومكواه وفَرد وكيراتين! ضيَّقت زوجتى عينيها، وهى تنظر لى وكأنى أفشيت أسرارها للغريبة التي أسرعت تقول ضاحكة":

- يعنى باب العطار مخلَّع!

ضحكنا جميعا ، وأبدى الصغيران فرحهما بسبب روح المرح التي شاعت في المكان. كان يُخيَّل إلىّ أن زهور الكركديه تتفتح كأجمل ما تكون تلك الليلة، وأن الينسون يتدفق برائحته المفعمة فيلف المكان بعطره الأخاذ، بل أن قرون الفلفل الحمراء رقصت رقصات عديدة مُغرية، أما مسحوق الرمان في إنائه فقد أصبح يتشكل رمانات حقيقية ممتلئة بالحبات لكى تعد شفاه كل أنثى بأن تُقبِّلها وأن لا تنفرط حباتها في ابتسامتها.

نظرتُ إليها وهى تحمل كيس الحناء الورقىّ والذى لم يتكلف سوى عشرة جنيهات، وتمنيتها امرأتى.

شعرها يلمع بلون قرمزى مبهج، بشرتها بيضاء صافية كقشدة، ورغم أن هناك بعض الزغب الخفيف أعلى شفتها إلا أنها استدارت مُغرية، ويبدو أنها لا تلتقط هذه الشعرات الفاتحة اللون من حاجبيها، كان جمالها فطريا حلوا، عادت تمسح على رأس الصغيرين، وقبل أن تنصرف أعددتُ لها عبوة صغيرة من مسحوق قشر الرمان، وقلت لها: أضيفيه إلى الحناء، سيعطيك لونا رائعا.

وهمست : هذه الهدية لك

انتبهت زوجتى لهمسى، زَمَّت شفتيها، ورمقتنى بنظرة قاسية، لم أبال، أعطيها ما يكفيها ويزيد بل تتعمد أن ترهقنى بطلباتها، وبمصاريف تجميلها، لا تراعى أننى مثقل بالديون، أدفع إيجار المحل بصعوبة.

وقبل أن تمضى زوجتى مع الطفلين إلى البيت، وجدتُ الجميلة تمسح على رأس طفلىّ ثانية، حَيَّت زوجتى، ومضت إلى متجر قريب.

تابعتُ زوجتى حتى اختفت هي والصغيران وعدتُ أفكر بالجميلة ذات الشعر القرمزى، رشيقة إلى حد لافت، ابتسامتها عذبة.

كانت الليلة باردة، والشوارع حولى مقفرة لمعت نجمة في السماء فتبعتها بناظرىَ، كانت الجميلة قد غادرت المتجر المقابل، تشق طريقها إلى بيتها فهى بالتأكيد تسكن في هذا الحى، فهى من زبائن المحل المواظبين على الشراء منى، وخصوصا الحناء، حتى لدرجة أننى فكرت أن أزرع شجرة حناء أمام المحل لتعطر الأجواء، وتختار هي بنفسها ما تريد ناضجا صابحا من على شجرتها، صرت أغنى لها لكى تطرح متأكدا من معجزتى، أن تطرح قبل أن أزرعها ذات ليلة مثل تلك! "حنة يا حنة يا حنة يا قطر الندى.. يا شباك حبيبى يا عينى جَلاَّب الهوى"

احترت كثيرا هل الشباك جَلاَّب الهوى أم غلاب الهوى؟، بل هو جلاب وغلاب معًا، صرت أضفى على الشباك كل ما أهوى، استحضرتها في خيالى بشدة، ملأت فراغى، وتنسمت رائحة حنائها وشعرها كأننى لامسته بيدىَّ، وفجأة خطرت لى فكرة أن أتبعها، خشيت أن تعرفنى فأسدلت طاقية الجاكيت على رأسى، غطيت به نصف وجهى مظللا عينىَّ، تركت المحل مفتوحا مضاء، وأسرعت أتتبعها في ظلمة الليل الحالكة.. تابعت خطوات الجميلة من بعيد ثم أسرعت الخطى، واختبأت في ثنية ما في الجوار، لفتنى الظلمة، وطوقنى الليل بستره، باغتها بهمسى:

- أتبعك أو تتبعينى، أُصَّبيك، أخليك أجمل الصبايا، خافت وأسرعت الخطى، لم تنظر في وجهى، مضت للأمام ولم تلتفت. انتظرتها كل شهر في موعدها لتأخذ حنائها منى، أو حتى تطلب دفقة من شهقة الينسون لكنها لم تأت.

زرعت شجرة حناء أمام المحل لكنها لم تكن لتمر حتى تراها، غنيت للشجرة ولها: "حنة يا حنة يا حنة، يا قطْر الندى، يا شباك حبيبى يا عينى جَلاَّب الهوى"، لكن يبدو أن شباكها قد أغلق للأبد في وجهى، أمسكت بأطراف أوراق الحناء، وقَبَّلتها، قلت لنفسى: لقد كان الظلام دامسا، وغطاء رأسى يكاد يخفى نصف وجهى.. هل عرفتنى؟!... أهز أوراق الحناء بيأس.. هل عرفتنى؟..

أجيبينى هل أدركت صوتى؟، نبرتى العطشى، فمن المتلهف، هل تقطَّرت حروفى كالماء في أذنيها فخافتنى؟!.. صرت أعيد الكلمات التي همستُ بها على نفسى، أي المفردات كشفتنى؟

داهمتنى حماقتى، فقدتُ طلعتها، طاردتنى زهور الكركديه، وأنفاس الشاي الأخضر، وقطع الجنزبيل تكاد ترجمنى، جلست كالمطرود من الجنة، تحت شجرة الحناء، سقيتها دمعى، ولمحت بعض أوراقها الخضراء ممزقة، قصَّها أحدهم خِفية، تطاولت يداه عليها ففقدت رونقها، تذكرت كيف نقلتها عندما نبتت عُقْلتها منذ خمسة أشهر ممزوجة بماء عينى، بندى الصبح وبعض أوراق الحناء التي قَبَّلتها بفمى، وهمست باسمها في جنبات الوعاء الفخارى، في حفرة فجاوبتنى "حنة يا حنة ... يا حنة يا قطر الندى"،صرتُ أغنى لها وأنا أنقلها إلى هذا الموضع الدافئ من قلبى، وغرستها بالقرب من المحل فأزهرت أوراقها الخُضر، وأينعت زهرتها البنفسجية العطرية التي حملت أنفاسها روح الحب، ونفثته في المكان كله، ثم غابت الجميلة، صعبت علىّ نفسى عندما حملت الريح سرى إلى الشجرة. صوتى القديم المُغوى.. أتبعك أو تتبعينى..أُصَّبيك، أخليك أجمل الصبايا، أحسست برعدة تشمل كيانى وأنا أتخيل غضبها منى، جفوتها وبعادها، أهمس لشجرة حنائها.. أفتح قبضة يدى وأغلقها، غير مُصدق، أين ذهبت ثروتى من أوراقها الخضراء؟، وابتسامتها، وبريق خصلاتها القرمزية، أين صوتها الحانى؟، أتلمس شباك هواها البعيد، ضلفاته تَصْفق تتخبط، ضممتها بيد مرتعشة، أحتضن غيابها، وشباكها جَلاَّب الهوى.