ترصد هذه التقارير تباعا الوضع في فلسطين المحتلة ومن خلال كتابات مصطفى يوسف اللداوي بعين راصدة للوضع وتشابكاته وبمتابعة حثيثة يومية يظل القارئ العربي متابعا لأدق التفاصيل خصوصا مع تواصل الاحتلال الصهيوني في ممارساته وغطرسته رغم أن كل شيءٍ لديهم يشي بأن المستقبل غامض والغد مرعب، وكأن خيوط النهاية ترسم، وستارة مسرح "الكيان" تسدل على النهاية.

تقارير من فلسطين

الإسرائيليون في انتظار الزوال يترقبون الموت ويتوقعون الرحيل

مصطفى يوسف اللداوي

الإسرائيليون في انتظار الزوال يترقبون الموت ويتوقعون الرحيل

إنها ليست أحلامنا ولا أمانينا، ولا هو ما نتطلع إليه ونعمل من أجله، وإن كان الحديث عن اندحار الاحتلال وزوال الكيان أصبح كثيراً ومتواتراً، يرويه الكبار وينقله عنهم الصغار، وغدا يوماً بعد آخر إيماناً وعقيدةً، وعهداً ويقيناً، كما الآيات في وضوحها وسورة الإسراء في وعودها، تعززه الروايات والنبوءات، وتؤكده العزائم والإرادات، وتبشر به الوقائع والأحداث، وتصدقه عمليات المقاومة وملاحم البطولة، وتشي بقرب وقوعه أزمات الكيان الداخلية ومشاكله الاقتصادية، وتعجل به تناقضاته السياسية وتهديداته القضائية، التي يتخبط بها ويتعثر، وتضطرب الأرض تحته بسببها وتتزلزل، وتشتعل من حوله ناراً وتتأجج، في مشهدٍ مخيفٍ لم يألفوه، وواقع مرعبٍ لم يتوقعوه.

لكنه حال الإسرائيليين وحقيقة ما يشعرون به، وهو ما يتنبأون به ويتوقعونه، ويخافون منه ويخشونه، فهم يعلمون أن كيانهم لن يعمر طويلاً، وأنه وإن اقترب من الثمانين عاماً فإنه لن يتجاوزه –إن تجاوزه- إلا قليلاً، ويشهد على ذلك رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو، ورئيس حكومتهم الأسبق الذي أصبح أقرب إلى الحاخامية فكراً وسلوكاً وشكلاً أيهود باراك، الذي بات يستشرف النهايات، ويخاف من زحف اليهود أنفسهم نحو الخاتمة "الهاوية".

وهو لا يخفي إحساسه بأن القوة التي يعتمدون عليها ويتفاخرون بها سَتُفلُ بقوىً أخرى، باتت تكبر وتتعاظم، وتهدد وجودهم وتعرض حياتهم للخطر، ولعل الكثير غيرهم من قادة الكيان ومفكريهم الاستراتيجيين، ينتابهم شكٌ كبير أنهم والأجيال اليهودية الحالية سيدفنون في هذه البلاد، وأنه سيكون لهم فيها قبرٌ وعلى أرضها شاهدٌ.

يعزز هذه المخاوف والهواجس اليهودية نبوءاتُ حاخاماتهم الشرقيين والغربيين على السواء، الذين يروون قصصاً وحكاياتٍ تؤكد قرب زوالهم، ودنو أجلهم المحتوم، الذي سيشهد الخراب الثالث والتيه الأخير، وسيكتب نهاية "ملك إسرائيل"، وانتهاء الأحلام وسقوط الأساطير والخرافات، ولهذا نراهم جميعاً يحرصون على الجنسية الأولى ويتمسكون بها، ويحافظون على أوطانهم الأصلية وبلادهم التي جاؤوا منها، فيزورونها ويقيمون فيها، ويتفقدون أملاكهم ويطمئنون إلى مصالحهم ويجددون الرغبة للعيش فيها، ليقينهم أنها آمن لهم من "أرض الميعاد"، والحياة فيها أسهل وأيسر، والعودة إليها أفضل وأوجب.

أما العسكريون والأمنيون الإسرائيليون العاملون والمتقاعدون وفي الاحتياط، فإنهم جميعاً يحذرون من سوء الأوضاع التي يعيشها كيانهم، ومن العاقبة الوخيمة التي تنتظرهم، ومن النهاية السوداء التي تتوعدهم، ويقولون أنهم يعيشون حالة فوضى عامة واضطراباً شاملاً، فكل شيءٍ في كيانهم يحترق ويشتعل، والأحداث تتوالى وتتسارع، والتظاهرات تتسع وتنتشر، وأعداد المشاركين تزداد، ودائرة الاحتجاجات تكبر وتتمدد، والشوارع تغلق، وإطارات السيارات تحرق، والطرق إلى مطار "بن غوريون" مقطوعة، وموظفو الخدمة العامة يهددون بالإضراب، وعمال السكك والموانئ يلوحون بتعطيل المرافق العامة.

والجهاز القضائي يترنح، والتنازع بين المحكمة العليا ووزارة القضاء يكبر، والجيش لا يقوى على استعادة الهيبة وضبط الشارع والسيطرة على الأوضاع، وكبار الضباط يستقيلون، أو يعصون الأوامر ويرفضون الالتزام بالخدمة، ووزير الأمن القومي يشتبك مع مفتش الشرطة وضباط المدن، ورئيس الحكومة يتخفى ويتنكر، ويتنقل خفيةً من طائرةٍ إلى أخرى ليصل إلى المطار في طريقه إلى روما، والأجهزة الأمنية مضطربة ومرتبكة، ولا تستطيع أن تحدد عدوها أو تميز خصمها، فالمقاومون باتوا من عامة الشعب فلا سجلات تميزهم، ولا سوابق تدل عليهم، مما جعل الوصول إليهم وتحديدهم أو تحييدهم أمراً صعباً.

لا ينسى الإسرائيليون الذين حملوا عصا الترحال واستعدوا، أو أيقنوا بالموت ويأسوا، أن جبهتهم الداخلية قد ضعفت، وصفوفهم قد تضعضعت، ووحدتهم قد تمزقت، وصور جيشهم قد اهتزت وهيبته قد تراجعت، وأنصارهم يتخلون وحلفاءهم يضعفون، فالأخطار تحيط بهم من كل مكانٍ، وتهددهم على مختلف الجبهات، بينما جبهة المقاومة تقوى وتشتد، وتتماسك وتتلاحم، وهي تترقب المعركة وتتجهز لها، وتؤمن بأنها ستنتصر فيها وتحقق أهدافها، ولا تبالي في سبيل ذلك بسيل الشهداء أو أفواج الأسرى والمعتقلين، أو ركام البيوت وأصوات هدير الطائرات ودوي المدافع والصواريخ.

كل شيءٍ لدى الإسرائيليين يشي بأن المستقبل غامض والغد مرعب، وكأن خيوط النهاية ترسم، وستارة مسرح "الكيان" تسدل على النهاية، ولهذا فإنهم يتهيأون للرحيل والمغادرة، ويعدون العدة للعودة والنجاة بأنفسهم، وإلا فإن المعركة الأخيرة قادمة، وستكون حاميةً قاسيةً، ولن ينجو منها إلا من قد فَرَّ من الأرض، وأسرع إلى مغادرة البلاد، وإلا فإن القتل الحار سيدركهم، فأصحاب الأرض قد أقسموا على تطهيرها، وأعدوا العدة لاستعادتها، وتجهزوا لمواجهة من يعترضهم، ومقاومة من يقف ضدهم، وقرارهم جاهزٌ، وقدراتهم تتعاظم، وإمكانياتهم تكبر، وجبهتهم تتماسك، وعملياتهم تزداد وتتسع، وشبابهم يتقدم ويتنافس، ويختلق ويبتكر، ويقلد ويحاكي، ويبدع ويتميز.

 

الحكومة الإسرائيلية في مواجهة الداخل تفتح النار على الخارج

قبل أن يشكل نتنياهو حكومته اليمينية السادسة، التي ضم إليها أكثر الأحزاب اليمينية المتطرفة في كيانه، وكبل نفسه وقيد حكومته باتفاقياتٍ ثنائية ومتعددة مع شركائه في الائتلاف، وكشف فيها عن سياساته المتطرفة ومخططاته الانقلابية تجاه الداخل والخارج، أخذ الشارع الإسرائيلي في تنظيم المظاهرات ضد حكومته وأركانها محاولاً تعطيل تشكيلها، ولكنها اشتدت وقويت وأخذت أشكالاً منظمة وواسعة بعد نجاحه في تشكيلها، وما زالت قوى المعارضة الإسرائيلية "بديل نتنياهو" تصر على إسقاطه وحكومته، وحرمانه من العمل السياسي وتقديمه إلى المحاكمة.

أمام هذه التحديات التي يدرك أنها صعبة وليست سهلة، وأنها جادة وليست عابثة، وأنها قد تسقطه وحكومته فعلاً، وقد تحرمه وتجرده وتحاكمه، لجأ نتنياهو إلى خداعِ الشارع، وتبنى لعبة الهروبَ إلى الأمام للتخلص مما يواجهه وحكومته، وخلقَ تحدياتٍ أخرى، حقيقية ووهمية، علها تخفف من حالة الاحتقان التي تعيشها، وترفع عنها بؤس الحصار الذي يحدق بها، وتعمي عنها عيون المتظاهرين، وتشغل الشعب بملفاتٍ أخرى تنسيه المطالبة بإسقاطها ورئيسها، في محاولةٍ يائسةٍ لكسب الشارع إلى جانبها، بحجة التصدي للتهديدات الخارجية التي تستهدفهم جميعاً، حكومةً ومعارضة، وكياناً وشعباً.

لجأ نتنياهو داخلياً إلى إشعال الشارع الفلسطيني، وتوتير الأجواء وتصعيد الأوضاع الأمنية، وتهيئة الظروف للمواجهات العسكرية، وأقدم إلى جانب قصف مواقع عديدة في قطاع غزة، على القيام بإجراءاتٍ وأعمال من شأنها دفع الفلسطينيين للثورة والغضب، والثأر والانتقام، فاجتاح مناطقهم، وعاث فساداً في بلداتهم، ولاحق أبناءهم، واغتال نشطاءهم، وهدم بيوتهم، وأوحى لمستوطنيه أن حياتهم وكيانهم في خطر، وكأنه يقول لهم لا وقت للمماحكة الداخلية، ولا للاختلافات البينية، فالخطر داهم والعدو قادم.

أما خارجياً فقد أثار نتنياهو من جهةٍ رعب شعبه وأخاف مستوطنيه بحديثه المتكرر عن إيران ومشروعها النووي، وضرورة الاستعداد لمواجهتها والتصدي لها، مبيناً أنها العدو الأكبر والخطر الأشد الذي يهدد كيانهم، وأن خطرها يزداد بقوة وبسرعٍ بعد أن نجحت في تخصيب اليوارنيوم إلى مستوياتٍ متقدمة، تتجاوز عتبة ألـــ 84-90%، مما يجعلها قادرة فنياً خلال أيامٍ قليلة من قرارها إنتاج أسلحة نووية.

ومن جانبٍ آخر لم يغفل الجبهة الشمالية وقوة حزب الله المتعاظمة، بل سلط الضوء عليها، واستعرض المخاطر المحتملة منها، وأوحى إلى سكان مدن الشمال وقادة المستوطنين فيها، أن الخطر الكامن في الشمال كبير، وأنه يجب عليهم التعاون مع الجيش والأجهزة الأمنية لإحباط أي عملٍ "معادي" والتصدي له، ولعل الحملة الإعلامية والتحذيرات الأمنية التي أطلقها بعد عبوة مجدو، قد ساعدته كثيراً في تعميم فلسفته الخبيثة في أوساط الإسرائيليين عموماً وسكان الشمال على وجه الخصوص.

وضمن هذه السياسة أطلق نتنياهو العنان لشركائه المتطرفين جميعاً، وفي المقدمة منهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ووزير الحرب ورئيس الأركان، وسمح لهم بترجمة أفكارهم وتنفيذ مخططاتهم، والمضي قدماً حتى النهاية في مواجهة الفلسطينيين والتصدي لهم، وأيد سياسة الجيش والأجهزة الأمنية الخشنة ضد الفلسطينيين، وسمح لهم باستخدام القوة المفرطة والسلاح المميت، ووافق على تغيير تعليمات إطلاق النار بحجة إحباط العمليات وتحييد المنفذين.

وسمح لهم بالعمل على توسيع الاستيطان وحماية البؤر العشوائية، وأجاز لهم هدم البيوت وطرد السكان وسحب الهويات ومنع الإقامة، ومصادرة الأراضي والأموال، وفتح الباب واسعاً أمام الكنيست ليشرع قوانين عنصرية وأخرى من شأنها التضييق على الفلسطينيين وتيسير اقتلاعهم من أرضهم وطردهم منها.

كما أيد إجراءات شركائه ضد الأسرى والمعتقلين، الذين ضيقوا عليهم وسحبوا كل الامتيازات منهم، وأوصوا مصلحة السجون بالقسوة عليهم والمواظبة على تعذيبهم وعدم التهاون في التعامل معهم، ولم يعارض تشريع قوانين تجيز إعدامهم، وأخرى تجيز طردهم ومصادرة أموالهم وسحب الجنسية منهم.

لم يترك نتنياهو سبيلاً للهروب إلى الأمام إلا وسلكه، ولم يدع وسيلةً تحريضية إلا واستخدمها، إلا أنه سيفشل ولن ينجح، وسيصعد أكثر لكن نحو الهاوية، فهو أكثر من يدرك أنه ومركبه غارقٌ، وأن مصيره مجهولٌ غامضٌ، وأن حكومته لن تصمد طويلاً، وهي التي تنازل فيها عن كثيرٍ من صلاحياته لشركائه ليسترضيهم ويستبقيهم إلى جانبه، ولكنهم زادوه رهقاً ولم ينفعوه، وأغرقوه أكثر ولن ينقذوه.

وما يزيد في أزمته ويستعصي عليه الخروج منها، أنه يعلم يقيناً أن الشعب الفلسطيني لن يصبر عليه كثيراً، ولن يسكت على سياسة حكومته طويلاً، ولن ينام على الضيم ويرضى به، ولن يقبل بالظلم ويتعايش معه، ولن يخذل الواثقين فيه والمتأملين به فلا يثأر لهم ولا ينتقم من قاتلهم، بل سيواجه عدوانه وخبثه بما يصدمه ويذهله، وسيرد عليه بما يؤلمه ويوجعه، وما يراه على الأرض في نابلس وجنين، وفي القدس وتل أبيب خير دليلٍ وأصدقُ برهانٍ.

 

إدراجُ المستوطنين على قوائمِ الإرهابِ أولويةٌ سياسيةٌ وعدالةٌ إنسانيةٌ

لو كانت دول العالم حرةً نزيهةً، وصادقةً مخلصةً، ومنصفة غير منحازة، وعادلة غير ظالمة، وقانونية غير مزاجية، وموضوعية غير استنسابية، وتحكم بمعايير موحدة، وتحتكم إلى ضمائر حيةٍ، فإنها كانت ستصنف المستوطنين الإسرائيليين بالإرهابيين، وستصف أعمالهم بالإجرام وأفعالهم بالعنصرية، وكانت ستدرجهم ضمن قوائم الإرهاب الدولية، التي تصدرها دورياً وتجددها بانتظام، وتورد فيها أسماء الجهات التي تصنفها إرهابيةً، وتخضعها لقوانينها وأنظمتها العقابية، وتفرض عليها حصاراً اقتصادياً ومقاطعةً سياسية، وتلاحق المتورطين منهم والمتهمين فيهم، وتعمم أسماءهم عبر منافذ العالم كله، البرية والبحرية والجوية، وتفرض على الدول توقيفهم واعتقالهم وتسهيل تسليمهم إلى الدول التي تطالب بهم.

فالمستوطنون الإسرائيليون الذين اعتدوا على بلدات حوارة وبورين وبيتا وزعترة، وحرقوا بيوتها وأشعلوا النار في سياراتها، وعاثوا فساداً فيها، وعرضوا حياة سكانها الذين أصيب بعضهم بالخطر الشديد، وتسببوا في خسارة ملايين الدولارات، هم أنفسهم الذين حرقوا آلَ دوابشة في بيتهم، وهم الذين صبوا البنزين في جوف محمد أبو خضير، وأشعلوا فيه النار حياً، وهم الذين يقطعون الطريق على الفلسطينيين ويطلقون النار عليهم، ويحطمون سياراتهم، ويعتدون على ركابها بالضرب المبرح والمهين، وهم الذين يدهسون الفلسطينيين في الشوارع، ويطلق قادتهم النار على رؤوس أطفالهم.

وهم الذين يشكلون مجموعات "تدفيع الثمن"، وعصابات "فتية التلال"، ويقومون بالسطو على بيوت الفلسطينيين، ويخرجونهم منها بالقوة، ويلقون متاعهم وأثاثهم خارج بيوتهم، قبل أن يستولوا عليها ويسكنوا فيها، في مشاهد تتكرر يومياً في مدينة القدس وأحيائها، وفي مختلف أرجاء الضفة الغربية، التي باتت جميعها مرتعاً للمستوطنين ومطمعاً لهم.

وهم الذين يطلقون النار على المواطنين الفلسطينيين، بحجة الاشتباه فيهم، أو للدفاع عن أنفسهم وصد الاعتداء عليهم، فيقتلون تحت هذه الذرائع الكاذبة الرجال والشيوخ والأطفال والنساء، ويقف الجيش وعناصر الشرطة يرقبونهم ويتابعونهم، لكنهم يسكتون عنهم ولا يعترضون عليهم، بل يساعدونهم ويقفون إلى جانبهم، ويحمونهم ويفرقون الجموع الشعبية التي تتصدى لهم وتحاول رد عدوانهم.

وهم أنفسهم الذين يحرقون أشجار الزيتون ومحاصيل الزروع، ويغرقون الحقول الزراعية بالفضلات والمياه العادمة، ويشعلون النار في جذوع الأشجار وأغصانها، ويتلفونها وثمارها وحصادها، ويمنعون أصحابها من الاقتراب منها لحمايتها، ويعطلون كل مسعى لإطفاء الحرائق ومنع امتدادها.

لكن المجتمع الدولي يغمض عيونه عن المستوطنين وجرائمهم النكراء، رغم أنها واضحة وصريحة، ومكشوفة ومفضوحة، وجريئة ووقحة، ولا يحرك ساكناً ضدها، ولا يسمح لمؤسساته الدولية بالانعقاد من أجلها، بينما يقف ضد الفلسطينيين ويحاصرهم، ويستنكر محاولاتهم الدفاع عن أنفسهم، وحماية مصالحهم، والذود عن حقوقهم، ويصف كل من يدافع عن حقه منهم بأنه "إرهابي"، ويصنف تنظيماتهم بالإرهابية، ويلاحق عناصرهم، ويفرض مختلف العقوبات عليهم، ويسعى لحصارهم وتجفيف منابعهم، ومحاربة كل من يؤيدهم ويساعدهم، أو يؤمن بحقوقهم ويدافع عنهم.

عيبٌ كبيرٌ ما يقوم به المجتمع الدولي، وعوارٌ شديدٌ ما تمارسه بعض دول العالم، التي تمارس الأستاذية على الشعوب المستضعفة المظلومة، وتفرض نفسها شرطيةً عليها، وتقوم بمعاقبة المظلومين وتقف إلى جانب الظالمين، فلا ننتظر من هذه الدول أن تنصفنا، ولا أن تنتصر لنا وتعاقب المعتدين علينا، رغم أن العقل السليم والمنطق الصحيح يفرض عليهم أن يعاقبوا المعتدي، وأن يمارسوا ضده القوة ليوقف ظلمه وعدوانه.

وعليه فليس من المتوقع أن تصدر الولايات المتحدة الأمريكية، أو دول وروبا الغربية، منفردة أو مجتمعة، ومعهم كندا وأستراليا وبعض الدول التي تناصر الباطل وتعادي الحق، قراراً تعتبر فيه المستوطنين الإسرائيليين جماعاتٍ إرهابيةً، وقوىً مسلحةً خارجة عن القانون، تمارس الإرهاب والعنف العنصري ضد الفلسطينيين عموماً، وترتكب ضدهم جرائم الطرد والترحيل والتطهير والإبادة الجماعية.

أمام هذا القصور والانحياز الدولي المشين، الذي يصنف الفلسطينيين وهم أهل الأرض وأصحاب الحق بالإرهاب، يصبح لزاماً على جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، أن يبادرا إلى اتخاذ هذا القرار وتعميمه، والطلب من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي تبنيه وإدراجه ضمن مقرراتهم، واعتبار إسرائيل كياناً صهيونياً عنصرياً غاصباً ومحتلاً، واعتبار مستوطنيه عصاباتٍ مسلحةً ومجموعاتٍ إرهابيةً.

كما يجب على الدول العربية والإسلامية، بصفاتها الدولية ومنظماتها الإقليمية، إلى جانب السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، أن يصدروا بحق المستوطنين مذكرات جلب دولية من خلال الانتربول الدولي، والتقدم بشكاوى قانونية ضد قادتهم ومسؤوليهم، ورعاتهم ومموليهم، إلى المحاكم الدولية والوطنية، وإلى محكمتي العدل والجنايات الدولية.

لا نستخف بهذه الخطوات، ولا نستصغر هذه الإجراءات، ولا نتأخر عنها أو نهمل فيها، فهي مؤثرة معنوياً ومادياً، ولها أثر مباشر على الكيان ومستوطنيه، ولدينا من الأدلة المادية والشواهد الحسية، والاحصائيات والبيانات والصور والشهادات، ما يكفي لإدانة الاحتلال ومستوطنيه، وملاحقة مسؤوليه والتضييق عليهم، والمطالبة باعتقالهم ومحاكمتهم، شرط أن نعقد العزم، ونصدق النية، ونخلص العمل، ونعد الخطط، وننتقي الأدوات، ونحسن المواجهة، ونستعين بأهل الخبرة والكفاءة وأصحاب التجربة من المؤيدين لنا والمؤمنين بحقنا.

 

الأسود على خطى اللقيس والبطش والزواري وفخري زاده

لا يتوقف جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد" عن ملاحقة واستهداف عقول المقاومة النابغة، وأدمغتها الخلاقة، ومهندسيها الأفذاذ، وفنييها المهرة، ومبتكريها المميزين، وصُنَّاعها المبدعين، وخبرائها العسكريين والأمنيين، والمختصين في علوم الكمبيوتر ومهارات الانترنت، والعالمين في شؤون السايبر ووسائل الاختراق الاليكترونية، وسبل التجسس والتنصت والتصوير والمراقبة، وإدارة شبكات الاتصال والتواصل، وأجهزة السيطرة والتحكم، وغيرهم من كبار المهندسين المختصين في مجال صناعة المسيرات الحديثة، وتطوير الصواريخ الدقيقة، وتجهيز المتفجرات القوية، وبناء المنصات وصناعة المضادات، وعلماء الفيزياء والكيمياء وهندسة الكمبيوتر، ممن يسخرون قدراتهم لخدمة المقاومة وتحسين قدراتها.

وفق هذه السياسة الأمنية التي يتبعها جهاز الموساد الإسرائيلي، والتي يعلن المسؤولية عنها أحياناً، بينما يبقي الكثير منها غامضة دون اعتراف، وإن كانت كل الدلائل والشواهد تدل عليه وتشير إليه، إلا أنه يؤثر لأسباب خاصة عدم الاعتراف بالمسؤولية عنها وتبنيها، فقد أقدم يوم أمس السبت 18/3/2023 في ريف العاصمة السورية دمشق، على اغتيال المهندس علي رمزي الأسود، القائد في سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في عمليةٍ قذرةٍ جبانة، استخدم فيها على الأرجح عملاءً له، وأدواتٍ ترتبط به وتعمل معه، وإن كان احتمال وجوده على الأرض، وتنفيذه العملية بنفسه دون وسطاء يستخدمهم، يبقى قائماً وغير مستبعد.

اعترف العدو الإسرائيلي بهذه الجريمة النكراء أو لم يعترف، فهو الذي نفذها أو أمر وأشرف على تنفيذها، وأياً كانت الأدوات التي استخدمها، محليةً أو أجنبيةً، فهو الذي قتل، وجهازه الأمني "الموساد" هو الذي حدد الهدف وخطط، وهو الذي راقب وتابع وقرر التنفيذ وأشرف على تفاصيل العملية كلها، وعليه أن يعلم أنه وحده من يتحمل المسؤولية عنها، وأن يتوقع الرد والانتقام، فهذه المقاومة الشريفة الأمينة، التي لا تسكت على الضيم، ولا تقبل بالذل، وترد بسرعةٍ في القدس وتل أبيب، وفي نابلس وجنين، وفي كل أرجاء فلسطين، وتقطع اليد التي تتآمر عليها وتتعاون مع عدوها، فإن ردها سيكون سريعاً ومباشراً، ومؤلماً وموجعاً، وستوقعه السرايا والألوية والكتائب وغيرها، بالدم والنار، وهي اللغة الوحيدة التي يعيها العدو ويفهمها، ويخاف منها ويخشاها.

اغتيال المهندس علي رمزي الأسود يذكرنا بالمقاومين الذين سبقوه، وبالشهداء الذين لاحقهم العدو واستهدفهم، وخاف من قدراتهم وقلق كثيراً من إمكانياتهم، فكان قراره قتلهم للتخلص منهم ووقف مشاريعهم وتعطيل برامجهم، فقتل في بيروت مهندس الاتصالات حسان اللَّقيس، ولاحق في تونس مهندس الطيران محمد الزوَّاري، واستأجر في ماليزيا متعاونين للتخلص من العالم المبدع الواعد فادي البطش، واستخدم أقصى قدراته الأمنية والتكنولوجية في إيران لقتل أحد أكبر رواد المشروع النووي الإيراني محسن فخري زاده، وقد سبقهم علماء آخرون، راقبهم العدو طويلاً، واستخدم وسائل مختلفة في قتلهم والتخلص منهم، لئلا يترك وراءه أدلةً ماديةً تدل عليه وتحمله المسؤولية عن قتلهم.

لن يتوقف العدو الإسرائيلي الذي يلق مساعدةً من الكثير من أجهزة المخابرات الدولية، ويتعاون معه عملاء كثيرون مقابل مبالغ مالية أو مصالح مادية، عن المضي قدماً في تنفيذ مثل هذه الجرائم، التي يعتبرها عملياتٍ أمنيةً استباقية، ويرى أنها ضرورية وواجبة، وأنها تحمي كيانهم من الأخطر، وتقيه من المستقبل المجهول، وتحصنه من الأسلحة الفتاكة المدمرة، ومن الصواريخ الدقيقة المتطورة، فهؤلاء المهندسون والعلماء، والمختصون والخبراء، والفنيون المدربون، يشكلون بعلومهم وقدراتهم خطراً على كيانهم، وسيكون خطرهم أكبر لو ترك لهم المجال للمزيد من التجارب وعمليات التطوير، خاصةً أنهم يضعون أنفسهم في خدمة المقاومة ويؤمنون بمشروعها، ولديهم كامل الاستعداد للفداء من أجلها والتضحية في سبيلها.

لكن الشعب الفلسطيني والمقاومة الذي تدرك حقيقة حربها مع عدوها، ولا تستبعد لجوءه إلى كل الخيارات، ولا تنسى سوابقه معها ومع علماء الأمة العربية والإسلامية الأفذاذ، الذين قتلهم غيلةً وغدراً، أو قضوا نحبهم في ظروف غامضة، فإنها وعلماءها سيستمرون في برامجهم، وسيواصلون مشاريعهم، وسيمضون على نهجهم، ولن يفت في عضدهم قتلٌ أو اغتيالٌ، كما لن يؤخرهم عن واجبهم تضييقٌ أو حصارٌ، فهم يعلمون أنها حربٌ مفتوحةٌ مع العدو على كل الجبهات، وهو لن يتأخر عن توجيه ضرباته إليها في أي مكانٍ وزمانٍ، طالما أنه يستشعر خطر مشاريعهم وجدية برامجهم.

رحمة الله على الشهيد المهندس على رمزي الأسود، وجعله من أهل الجنة وأسكنه الفردوس الأعلى، وجمعه بإخوانه الذين سبقوه على دروب المجد وساحات العزة والكرامة، وليطب نفساً وليقر عيناً أن إخوانه من بعده سيواصلون دربه، وسيسيرون على طريقه، وسيحفظون عهده، فالأمانة التي بدأها وإخوانه العلماء الشهداء، سيحملها من بعدهم رجالٌ صادقون، وطلابٌ مبدعون، وخلفٌ مخلصون، بما يجعل العدو يندم على فعلته، ويأسف على جريمته، ويذوق وبال أمره، فالخلف أشد بأساً من السلف، وأقوى عوداً وأشد مراساً، وأوجع ضرباً وأدق إصابةً، وسيعلم بإذن الله الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.

 

حيرةُ المحبين في كيفية وصولِ العدو إلى المقاومين

بحزنٍ وحيرةٍ وأسى يتساءل المحبون لفلسطين وشعبها، والمتضامنون معها والمؤيدون لقضيتها، وأبناؤها المخلصون وأهلها الغيورون، الذين تحزنهم عمليات الاغتيال اليومية، وجرائم التصفية الجسدية التي تقترفها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في حق الفلسطينيين في الداخل، فتقتل خيرة الشبان، ونخبة المقاومين، وأمهر القادة وأقدر المسؤولين، عن كيفية نجاح جيش العدو وأجهزته الأمنية في الوصول إليهم وتحديد مكانهم وتمييز أشخاصهم، فضلاً عن معرفة أنشطتهم العسكرية وتحركاتهم اليومية، ويحارون في قدرته الدائمة على النيل منهم، ونجاحه في قتلهم وتصفيتهم بوسائل مختلفة وأشكال متعددة، حيث يلاحقهم في بلداتهم ومخيماتهم، وبين أهلهم ووسط شعبهم، ويدخل إلى حواريهم الضيقة وأزقتهم المتشعبة، حيث يفترض أنهم في مأمنٍ منه، ورغم ذلك فهو ينال منهم ويقتلهم.

يزيد في حيرة المتسائلين وأغلبهم من المحبين لفلسطين، ومن أهلها الذين يعيشون في الشتات، ولا يعرفون طبيعة العدو، ولا يدركون حقيقة المواجهة معه، إذ لا خبرة عندهم، ولا تجربة سابقة معهم، ولا يعرفون حقيقة العدو، ولا من يشرح لهم وسائله التي يستخدمها في الوصول إلى المقاومين والإيقاع بهم، نجاحُ العدو الدائم في تحقيق أهدافه، والوصول إلى عمق المناطق الفلسطينية، رغم أن المقاومة موجودة فيها، وتمتلك أسلحتها، وعندها خبرتها، ولها السيادة في بعض مناطقها، وسبق لها أن عرفت وسائله وخبرت طرقه في كيفية الوصول إليهم واغتيالهم، أو تحديد مكانهم ومداهمتهم بصورة مفاجئة وقتلهم، ورغم ذلك فإن الحوادث ذاتها تتكرر والشهداء يزدادون في نابلس وجنين، وفي القدس ورام الله، وفي الخليل وبيت لحم.

ومما يزيد في حيرتهم واستغرابهم، ويثير غضبهم ويحرك كوامن نفوسهم، أن الكثير من عمليات الاغتيال والقتل تتم على مرأى ومسمعٍ من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي ترى حشود الجنود الإسرائيليين وهم يقتحمون المناطق الفلسطينية، وتسمع أصوات إطلاق النار، وتشاهد مجموعات فلسطينية تشتبك مع الدوريات العسكرية الإسرائيلية، وتتعارك مع عناصر الوحدات الخاصة، ورغم ذلك لا تقوم باعتراضهم ومنعهم، ولا تشتبك معهم وتقاتلهم، بل إن بعضها تغادر مراكز عملها، وتغض طرفها عما يجري، وكأن الحدث لا يعنيها ولا يمس شعبها، علماً أن بعض العناصر الأمنية الفلسطينية تخالف الأوامر وتشتبك مع العدو من تلقاء نفسها، وبعضهم يصاب أو يستشهد خلال المواجهات.

لا يخفي الكثير من المتابعين للشأن الفلسطيني، ممن يخافون على المقاومة ويخشون عليها، استغرابهم واستنكارهم للاستعراضات العسكرية التي يقوم بها المقاتلون، والتصريحات الإعلامية التي يدلون بها، والظهور المتكرر لهم بكامل أسلحتهم على الوسائل الإعلامية العربية والأجنبية وربما الإسرائيلية أحياناً، علماً أن المخابرات الإسرائيلية تتابع مختلف وسائل الإعلام، وتراقب الصور، وتميز الأشخاص، وتحدد النشطاء، وتركز على المطلوبين.

كما يظهرون اعتراضهم الشديد على عمليات إطلاق النار الكثيف في الهواء، سواء خلال المسيرات والمناسبات العامة، أو أثناء تشييع جنازات الشهداء، ويرون أن هذه المظاهر تضر بالمقاومة ولا تخدمها، وتفضحها وتكشفها، وقد توقع بعض الضحايا أحياناً نتيجة إطلاق النار العشوائي، علماً أن المقاومة في حاجة إلى كل طلقةٍ، التي يجب أن تستخدم في مكانها وزمانها وضد الأهداف المرصودة لها، فضلاً عن الكلفة العالية للطلقات والذخيرة، التي يجب ادخارها لحاجتها فقط.

لعل حيرة هؤلاء منطقية وتساؤلاتهم مشروعة، وما من شكٍ في حسن نواياهم وصدق مشاعرهم، فالأحداث الجارية يومياً تدفع الجميع للحيرة والتساؤل، لكن لا ينبغي تحميل الفلسطينيين مسؤولية الفشل في حماية أنفسهم، أو اتهامهم بالضعف والخور، ووصفهم بالعجز والفشل، وإدانتهم لعدم قدرتهم على حماية مقاتليهم والدفاع عن حياتهم وممتلكاتهم، وصد هجمات الاحتلال المتكررة ضدهم، فالفلسطينيون حقاً مقاتلون شجعانٌ، وعندهم الجرأة والقوة، والحماسة والاندفاع، ويقتحمون ولا يترددون، ولا يخافون ولا يجبنون، ولا يعترفون بالمستحيل ولا يتراجعون أمام الخطر، لكنهم يواجهون عدواً خطراً قوياً مسلحاً مدعوماً، وعنده من القدرات الكبيرة ما يفوق قدرات المقاومة وإمكانياتها المحدودة البسيطة.

وعليه سأجيب في مقاليَّ القادمين على هذه التساؤلات وغيرها، وسأحاول أن أوضح للمحبين أسباب نجاح العدو في النيل منا، والأدوات التي يستخدمها في حربه الأمنية ضدنا، وأسباب فشل الشعب والمقاومة في تحييده والتصدي له، في عرضٍ موضوعي رصين، بعيداً عن العواطف والمشاعر التي قد تضرنا وتخدعنا خلال دراستنا لهذه الظاهرة.

وكلي أمل أن يتفهم المتسائلون، وهم محبون وصادقون، ومخلصون وغيورون، وأن نتعلم ومقاومتنا أكثر، ونستفيد من النقد الإيجابي الموجه، لنصوب المقاومة أكثر، ونحصنها ونصونها، ونحول دون اختراقها، ونحمي شبابنا ونحول دون استهدافهم السهل واغتيالهم الرخيص وقتلهم المتكرر، وغير ذلك فإنه قد يعمي عيوننا ويضر بنا، وقد يلحق بنا خسائر مادية ومعنوية أكبر، وقد يحبط المتابعين لنا والمؤيدين لقضتنا ويحزنهم، وهم الذين يبتهجون لكل عملية تقوم بها المقاومة، ويفرحون بها ويوزعون الحلوى استبشاراً بغيرها.

 

الفلسطينيون يلعنون تفاهمات دايتون ويرفضون وعود فينزل

ما زال الفلسطينيون يعيشون لعنة الضابط الأمريكي كيث دايتون، ويقاسون المر بسبب تفاهماته، ويعانون ويقاسون نتيجة السياسات التي فرضها، والاتفاقيات التي أبرمها، والقيود التي كبل بها سلطتهم الوطنية وشل حركتها، وألزمها بالعمل وكيلةً لدى الاحتلال في جوانب كثيرة، تخدم عنده وتعمل بأمره، وتفكر لمصلحته، وكان أسوأ ما فرضه عليها التنسيقَ الأمني، الذي جر على شعبنا الويلات وما زال يضر بنا ويؤذينا، ويضرب جبهتنا الداخلية ويمزقها، وينزع الثقة بيننا ويشتت جهودنا، وقد نجح في مخططاته عندما أشرف بنفسه على تشكيل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وصاغ عقيدتها الأمنية، التي تتعارض كلياً مع العقيدة الوطنية الفلسطينية، وجعلها أجهزةً مهنيةً تابعة، تستسيغ طاعة الأوامر والاستجابة إلى التعليمات غير الوطنية.

لا يراود الفلسطينيين أدنى شكٍ بأن دايتون صهيوني الهوى وإن كان أمريكياً، وإسرائيلي الهوية وإن لم يكن مستوطناً، فقد سخر وقته وجهده، ومركزه وسلطاته وقدراته ومواهبه لخدمة الكيان الصهيوني وتحصينه، ومساعدته في إقرار ما يريد وما يخدم سياساته ويحفظ أمنه ويحقق سلامته.

وقد خدع الفلسطينيين وكذب عليهم، وأملى لهم وغدر بهم، ولم يعرهم اهتماماً ولم يصغِ إلى مطالبهم، ولم يحقق شيئاً من حاجاتهم، ولم يسع لضمان مصالحهم وحمايتهم، ولم يلزم الحكومات الإسرائيلية باحترام سيادتهم وعدم المساس بها أو الاعتداء عليهم، بقدر ما كان همه أن يبني مؤسسة أمنية فلسطينية تؤمن بأمن إسرائيل وتحافظ عليه، وتمنع وتحاسب وتعاقب كل من يحاول المساس بها أو الاعتداء على حياة مستوطنيها.

قبل أن ينعتق الفلسطينيون من ربقة دايتون ولعنته، ويتخلصوا منه ومن تركته، طالعهم خلفه الجديد مايك فينزل، المبعوث الأمريكي الجديد الذي يحمل ذات الأفكار، ويسير مع السلطة الفلسطينية على ذات المنوال، يعد ويكذب، ويتعهد ويخلف، ويمنيهم ويورطهم، ويغرقهم أكثر في وحول التنسيق الأمني.

يريد فينزل بالاتفاق مع الإسرائيليين والتنسيق معهم بما يخدم مصالحهم ويحقق مآربهم، أن يبعث الحياة من جديد في الاتفاقيات السابقة، وأن ينفخ في روح السياسات التي صاغها سلفه وسهر على تنفيذها، ورغم أن الشعب الفلسطيني كرهها وعافها، وعمل الكثير لوأدها وإبطالها والتخلي عنها وعدم الالتزام بها، إلا أنه لم يتمكن من الانعتاق منها، أو النأي بنفسه عن عارها، ذلك أن القرار لم يكن له ولا مستمداً منه، بقدر ما كان مفروضاً عليه بقوة السلطة وأجهزتها، ورهبة الاعتقال المذل وخشونة العقاب وقسوة الجزاء.

أما العدو الصهيوني الذي كان سعيداً مع الأول ومنسقاً معه، فسيكون أكثر سعادة مع الآخر الجديد، فكلاهما ينسق معه ويعمل لصالحه، ويتعاون معه ويضحي من أجله، وقد أعلن فينزل أنه سيعمل على ملئ الفراغات وتجاوز السلبيات، ومعالجة الأخطاء وتجنب الوقوع في المزالق التي وقع فيها دايتون أو سها عنها ولم ينتبه إليها.

يعد فينزل الفلسطينيين بأنه سيلزم الحكومة الإسرائيلية بتجميد مخططات الاستيطان في بعض المناطق، وتجميد هدم منازل الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية لعدة أشهر، دون أي وعودٍ بإلغاء قرارات الهدم، وإنما الاتفاق فقط على إرجاء تنفيذها لعدة أشهر، والتعهد مؤقتاً ولعدة شهورٍ أيضاً بتجميد إخلاء الفلسطينيين من منازلهم في المناطق المصنفة "C"، وسيطلب من الحكومة الإسرائيلية التوقف عن عمليات اقتحام المناطق الفلسطينية، والتخفيف من سياسة الاعتقالات المستمرة ضد فلسطينيي القدس والضفة الغربية، ومنح السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية الفرصة للقيام بواجباتها والوفاء بالتزاماتها.

لم يفت مايك فينزل أن يغري الفلسطينيين وأن يعرض عليهم عظمةً مسمومةً كتلك التي عرضها سلفه، بأن حكومة بلاده ستزيد من حجم الدعم المادي الذي تقدمه إلى السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية ومؤسساتها العلمية والصحية والإغاثية وغيرها، وسيلتزم الرئيس الأمريكي جو بايدن بالوفاء بالتزامات بلاده خلال لقاءٍ يجمعه مع رئيس السلط الفلسطينية محمود عباس في العام القادم، ومن الممكن أن يعلن فيه عن عزم واشنطن فتح قنصليتها في القدس الشرقية، لاستئناف تقديم خدماتها للمواطنين الفلسطينيين.

يعلم فينزل الذي لا يملك غير الوعود الكاذبة، أن عليه حتى ينجح في مهمته، أن يبذل المزيد من الجهود، ويعطي الكثير من الضمانات، وينفذ الكثير من الوعود ليدفع السلطة الفلسطينية إلى القبول بأفكاره الجديدة، والالتزام معه كوسيطٍ منسق بينهما، ولعله يطمئن نفسه إلى أن الجانب الفلسطيني سيخضع وسيقبل، وسيوافق على مقترحاته وسيلتزم بضوابطه ومحدداته، فسلطته الوطنية في حالٍ لا يسمح لها بفرض شروطها، أو العناد ورفض النصائح المقدمة.

لكنه يعلم يقيناً أن مهمته ليست سهلة كسلفه دايتون، وأن الطريق أمامه غير معبدة، بل هي وعرة ومتعثرة، ومليئة بالفخاخ والعقبات، وأنه سيواجه تحدياتٍ شعبيةً صعبة ومقاومةً قاسيةً، فونه وأن الزمان قد تغير، والأجيال قد تبدلت، والظروف قد اختلفت، فالفلسطينيون ليسوا في عام 2005، عندما كانت يد المقاومة قصيرة وعينها كليلة، وكان فيها العدو مستعلياً، بل هم في أعوام السمو والتفوق، وسني الصمود والثبات، وعلى أعتاب النصر والتحرير، فقد هان عدوهم أمامهم وذل بسلاحهم، وشكا منهم وتألم بعد أن قويت مقاومتهم واشتد ساعدها، ووصل رميها إلى أبعد مدى، وأصبح دقيق الإصابة شديد الأثر، وطني القرار وحر الإرادة.

 

البكاؤون على الهلوكوست فاشيون مجرمون

يطلبون من دول العالم وشعوبها أن تعترف بالمذابح التي تعرضوا لها إبَّان الحرب العالمية الثانية، ويحملون المجتمع الدولي تبعات المحرقة "الهولوكوست" التي أبيد فيها بزعمهم "ملايين اليهود" ظلماً وعدواناً، ويجبرونهم على الاعتذار لهم وتعويضهم، ويبتزون الأنظمة والحكام ويحرجونهم، ويضغطون على الشعوب والمنظمات ويتهمونهم، ويعتبرون أن المجتمع الدولي كله شريكٌ في هذه المذابح ما لم يعترف بها ويعتذر، ويقر بالجريمة ويندم، ويطلب المغفرة من أجيال اليهود ويأسف.

يتباكى الإسرائيليون على ما أصابهم، ويدعون المظلومية جراء ما لحق بهم، ويعاقبون كل من ينكر المحرقة أو يشكك فيها ويرفض الاعتراف بها، ويعلنون الحرب عليه ويحاكمونه، ويضيقون عليه ويطردونه، ويجردونه من كل صفاته ويحرمونه من أبسط حقوقه، ويعتبرون أن الصمت عنها جريمة، وعدم الاعتراف بها كبيرة، وقد عانى من إرهابهم الفكري وطغيانهم العنصري الكثير من المفكرين والمؤرخين الأوروبيين، الذين خاف بعضهم وتراجع وجبن، وروى روايتهم وسَلِم، بينما عُوقب ونُفِيَ من أصر على موقفه ونَفَى، وطُرد من وظيفته وحُرم من حقوقه من كذب روايتهم واتهمهم.

يجبر الإسرائيليون دول العالم الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول العربية وغيرها، على تشييد نصبٍ تذكارية للمذابح اليهودية واحترامها، وتعليق صور الضحايا وبيان حجم الفاجعة فيهم، ويعتبرون زيارتها واجبة، وإحياء ذكراها  كل عامٍ فرضاً على الدول والحكومات، التي يجب أن تشرع برلماناتها القوانين التي تجرم وتعاقب المنكرين لها والمستخفين بها، ويلزمون كل ضيفٍ يزور كيانهم بزيارة النصب التذكاري للمحرقة "ياد فاشيم"، والشهادة في كتابهم، ووضع الأكاليل اعترافاً بهم واحتراماً لهم.

هؤلاء الذين يتباكون على المحرقة ويطالبون العالم بالتضامن معهم والبكاء من أجلهم، يرتكبون كل يومٍ أعظم المجازر وأكبر المذابح بحق الشعب الفلسطيني، ويقومون ضده بأبشع حرب إبادةٍ رسميةٍ بهدف إنهاء وجودهم وشطب هويتهم وإخراجهم من أرضهم وطردهم من ديارهم، ويشهد العالم كله على جريمتهم، ويرقب أفعالهم، ويرصد عدوانهم، ولكنه يقف إزاءها صامتاً لا يعترض، وعاجزاً لا يقوى على منعهم، بل يطالب الضحية بأن تكف عن الشكوى والأنين، وتمتنع عن الدفاع عن نفسها وصد العدوان عنها.

إنهم أنفسهم الذين أقدموا بالأمس، جيشاً ومستوطنين، على إشعال النار في بيوت الآمنين، فحرقوا بيوتهم، وأشعلوا النار في سياراتهم، وطعنوا المواطنين واعتدوا عليهم، وأجبروا النساء والأطفال على الهروب من منازلهم، فقد حرق قطعان المستوطنين الذي زاد عددهم عن المائتي مستوطنٍ، أكثر من مائة بيتٍ وسيارةٍ، وعاثوا فساداً وخراباً وحرقاً وتدميراً في قرى بورين وحوارة وبيتا وزعترة جنوب مدينة نابلس، ووثقت وسائل الإعلام المحلية والدولية ألسنة اللهب التي تتصاعد من المحارق، وأحصوا عدد الجرحى والمصابين، وما زالت كرة اللهب الصهيونية تنتقل من قريةٍ في الضفة الغربية إلى أخرى، وجيش العدو يراقب ما يحدث، ويحمي المستوطنين وهو يعلم أنهم مخربون، وأنهم يحرقون ويدمرون، ويعتدون ويقتلون.

إن ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، ضد أهلها وشعبها، وأرضهم ومقدساتهم، وبيوتهم وممتلكاتهم، لهو أكبر من جريمة "الهلوكوست" التي صدعوا رؤوس العالم بها، وأجبروهم على إبداء الندم والأسف الدائم بسببها، ولعلهم يخططون في كل يومٍ لارتكاب المزيد من هذه الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، ويستنكرها الأحرار والشرفاء، ويشجعهم على ذلك ويدفعهم إلى المزيد منها، ما يرونه من صمت العالم وعجزه، وتواطؤ أنظمته ومشاركة حكوماته، التي تهب كلها غاضبةً، وتقف في وجه الشعب الفلسطيني كله معارضةً، إذا تقدمت مقاومته على الثأر والانتقام، وعلى الرد وصد العدوان، بينما تصمت وتعجز عندما يرتكب العدو مجزرةً أو ينفذ مذبحةً بحق الشعب الفلسطيني.

لن يرد الغلاة المتطرفين، المتشددين المتدينين، الفاشيين المجرمين، المحتلين الغاصبين، المستوطنين الهمجيين، إلا المقاومة التي باتت تحسن الرد زماناً ومكاناً، وهدفاً ونوعاً، ولم تعد تصبر وتصمت، وتتأخر وتتردد، بل باتت تباغت وتهاجم، وتفاجئ وتصدم، وتقنص وتقتل، وتقصف وتفجر، وتطعن وتدهس، ولن يفلح العدو بعدوانه المستمر وغاراته الدائمة واجتياحاته المتكررة، في كسر شوكة المقاومة وتركيع كتائبها، وسحب سلاحها وإخضاع عناصرها، كما لن تجدي محاولات قتل ا لمقاومين واعتقالهم، أو حصارهم والتضييق عليهم، فهذه المقاومة التي أصبح معها سيفٌ لا يثلم، ودرعٌ لا تخرق، ورمحٌ طويلٌ لا يكسر، لن تهزم بإذن الله أمام عدوها، ولن ينال منها ويخضعها، ولن يفرض شروطه عليها ويذلها.