بمناسبة الذكرى العشرين لرحيل هذه القامة السينمائية المتفردة، وأحد رموز السينما الجديدة، أو الواقعية الجديدة في السينما العربية، يتناول الناقد الفلسطيني تجربته المهمة في تحويل عمل غسان كنفاني الأشهر إلى واحد من أجمل الأفلام العربية. ويناقش قضايا انتاج هذا الفيلم وإشكاليات تلقيه في العالم العربي.

في استذكار المخرج توفيق صالح

وفيلمه «لمخدوعون»

أوس داوود يعقوب

 

في الثامن عشر من شهر آب/ أغسطس عام 2013، رحل المخرج السينمائي المصري توفيق صالح عن عمر 87 عامًا في بلاده، وهو أحد رواد السينما الواقعية المصرية، وترك بصمته الكبرى على تاريخ السينما العربية، ورسّخ اسمه باعتباره واحدًا من أهم رموز ما اصطلح على تسميته بـ "السينما الجديدة" أو "الواقعيّة الجديدة" في العالم العربي، رغم أنه لم يحقّق إلّا سبعة أفلام روائية طويلة، وسبعة أفلام قصيرة، قدّمها بين عامي 1955 و1980. وقد اختار النقّاد أربعة أفلام من إخراجه في قائمة أفضل مائة فيلم مصري في احتفالية مئوية السينما المصرية عام 1969.

استذكار صالح في مقالتنا هذه، بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، أردنا أن تكون من خلال استعادة فيلمه السوري (المخدوعون)، الذي أنتجته المؤسّسة العامّة للسينما بدمشق قبل واحد وخمسين عامًا، المأخوذ عن رواية الأديب الفلسطيني الشهيد غسّان كنفاني "رجال في الشمس"، والذي قُدّر له أن يفوز عام 1972 بالجائزة الأولى (التانيت الذهبي) في "مهرجان قرطاج السينمائي"؛ والجائزة الأولى من "مهرجان ستراسبورغ لأفلام حقوق الإنسان" عام 1973؛ وكذلك الجائزة الأولى من "المركز الكاثوليكي الدولي" ببلجيكا بنفس العام؛ وفي عام 1973 أيضًا نال (جائزة لينين للسلام) من "مهرجان موسكو السينمائي"

الرحلة من الورق إلى الشاشة... أصل الحكاية
خلف فيلم (المخدوعون) الكثير من المرويات التي سجّلها الكتّاب والنقّاد في كتبهم ودراساتهم ومقالاتهم، بعد أن قام توفيق صالح بإخراجه في عام 1972 وليس كما تذكر بعض المصادر عام 1971، لصالح المؤسّسة العامّة للسينما بدمشق، والتي سبق لها أن أنتجت في عام 1970، ثلاثية سينمائية حملت عنوان "رجال في الشمس"، غير أنّ هذه الثلاثية لم تكن مقتبسة عن رواية غسّان التي حقّقها صالح بالاسم الجديد الذي اختاره. وحمل الفيلم الأوّل عنوان (اللقاء) وأخرجه نبيل المالح، والفيلم الثاني (المخاض) من إخراج مروان مؤذن، والفيلم الثالث (الميلاد) للمخرج محمد شاهين، أما السيناريو فكان لنجيب سرور ونبيل المالح وقيس الزبيدي ومحمد شاهين ومروان مؤذن. وتمّ تقديم الأفلام الثلاثة القصيرة في رزمة واحدة من فئة الأبيض والأسود. وكانت فلسطين هي اللحظة الجامعة للأفلام الثلاثة. لهذا حين تعاقدت المؤسّسة مع غسّان كنفاني على تحويل روايته "رجال في الشمس" إلى فيلم سينمائي عام 1972، كان الأمر محرجًا إجرائيًا لوجود عنوان شبيه، يتعلّق بفلسطين كذلك، ومن إنتاج المؤسّسة نفسها.

لهذا السبب وغيره، قرّر صالح، بعد أن تعاقد مع المؤسّسة على إنتاج رواية غسّان، أن يغيّر العنوان. وكان (المخدوعون) هو الذي وقع الاختيار عليه. وهو عنوان هدف من ورائه صالح إلى أمر آخر، فهو لم يقصد أنّ (أبا الخيزران) قد خدع الفلسطينيين الثلاثة، بل أنهم هم الذين انطلت عليهم خديعة الخلاص بالسفر بحثًا عن الرزق، فابتعدوا عن بؤرة الصراع، لينتهوا جثثًا منسيةً على مزبلةٍ منسية، وفقًا لما يذكر الكاتب والباحث الأكاديمي الفلسطيني الدكتور تيسير المشارقة، في مقالته "الرواية الفلسطينية والسينما".

الشاعر الفلسطيني الراحل أحمد دحبور يروي لنا، في مقالته "في ذكرى غسّان كنفاني: المخدوعون رجال في الشمس"، رحلة "رجال في الشمس" من صفحات الرواية، إلى الفيلم السينمائي (المخدوعون)، قائلًا: "إنّ مؤرّخي أدب غسّان كنفاني يقولون إنّ روايته الأولى رسميًا، هي "رجال في الشمس" وقد أصدرها عام 1963. وإذا كان هذا صحيحًا فإنّ الواقع غير الرسمي يقول إنه كتب روايته الأولى عام 1961. وهي، كما يقول الكاتب الفلسطيني سليمان الشيخ، رواية بعنوان "العبيد" وقد قام بنشرها في حلقات أسبوعية على صفحات مجلّة "الطليعة" الكويتية بين 22/5/1963 و11/9/1963. ويثبت سليمان الشيخ بما لا يترك مجالًا للشكّ أنّ رواية "العبيد" التي لم تظهر في كتاب مستقلّ حتّى الآن، هي نفسها رواية "اللوتس الأحمر الميت" المشار إليها في قائمة أعماله الكاملة التي تصدرها "لجنة تخليد آثار غسّان كنفاني".

ولكن غسّان كان يعرف ما يفعل عندما انطلق روائيًا من خلال "رجال في الشمس". فهي الرواية التي ستطبع الأدب الفلسطيني ما قبل الرصاصة الأولى، بطابعها، وسيصبح بعدها "الدقّ على الخزان" شعارًا يتبادله الساسة والأدباء على حدٍّ سواء. وقد افتتن المخرج العربي المصري الكبير بهذه الرواية فور قراءتها. وسعى منذ عام 1965 إلى إخراجها سينمائيًا، فقدّم بذلك طلبًا رسميًا إلى المؤسّسة العامّة للسينما في الجمهورية العربية المتّحدة ـ فهكذا كان اسم مصر الرسمي يومها ـ لكن المؤسّسة رفضت طلبه، وعرضت عليه بدلًا من ذلك، أن يحوّل كتاب "الأيّام" للدكتور طه حسين إلى فيلم سينمائي فرفض بدوره هذا الاقتراح. وستبلغ المفارقة ذروتها عندما يأتي توفيق صالح إلى سورية عام 1970، ويعرض مشروعه على المؤسّسة العامّة للسينما في سورية، فتأتيه الموافقة يوم 17/1/1971. ولكنّه يتلقّى كتابًا رسميًا ينصح باستبعاد الخلفية الفلسطينية عن قصّة غسّان؟؟! لقد كشف المخرج الكبير عن هذه المفارقة في حديث صحافي مع مجلّة "النقد السينمائي" المصرية (العدد الأول ـ 5/1998). ولكنه لم يتوسّع في الموضوع.

يتابع دحبور قائلًا: "كان غسّان عضوًا نشيطًا في حركة القوميين العرب التي كانت على عداء شديد مع حزب البعث الحاكم في سورية. وعندما أصبح من قياديي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كانت الجبهة قد ورثت ذلك العداء عن الحركة وزاد الأمر تعقيدًا أن اسم غسّان كان مدرجًا ضمن سجلّات اللاجئين الفلسطينيين في سورية. مما يعني أنّ دمشق تعتبر نفسها مسؤولة عنه إداريًا. وبالتالي فهو ليس مختلفًا مع النظام، ولكنّه ملاحق. فكيف يتمّ الاتّفاق مع شخص مطلوب؟ ومع ذلك فإنّ التيّار المتنوّر في النظام ـ وله نفوذ كبير في مؤسّسة السينما ـ قد تغلب على هذه العقبة. وأمكن عقد اتّفاق مع غسّان لإنتاج روايته فيلمًا سينمائيًا. وكان توفيق صالح على عجلة من أمره فأعد السيناريو في شهر آذار/ مارس وبدأ التصوير في شهر تمّوز/ يوليو وأصبح الفيلم جاهزًا للعرض في الأيّام الأخيرة من عام 1971. "مع الخلفية الفلسطينية لقصّة غسّان".

في فيلمه (المخدوعون)، يرى نقّاد أنّ صالح اختار قلب كلّ السائد في التعاطي الفّنّي أو القومي عمومًا مع القضية الفلسطينية. وأنه تجاوز في (المخدوعون) مرحلة النواح والبكاء وتوقّف أمام مسؤولية الفلسطيني نفسه عمّا جرى وذلك من خلال حكاية ثلاثة فلسطينيين يحاولون الهروب من أوضاعهم البائسة، يودّون السفر إلى الكويت بحثًا عن فرصة عمل، ولصعوبة الحصول على تأشيرة دخول يتّفقون مع مقاول أنفار على نقلهم تسلّلًا داخل صهريج، وعند الحدود العراقية الكويتية تحت حرارة الشمس في الصحراء يموتون مسجونين داخل الصهريج. وهو بذلك لم يبرّئ أحدًا من عار الهزيمة في هذا الفيلم، وصور كيف باع الزعماء العرب أرض الفلسطيني وسلموه خطبًا رنانة، أما داخل البيت الفلسطيني فقد دان فيلم (المخدوعون) كلّ من رأى في الفرار نجاة.

عين غسّان السينمائية:
المعروف عن غسّان كنفاني – كما يذكر المقرّبون منه – أنه كان متابعًا جيدًا للنشاطات السينمائية، وقارئًا جيدًا للنشرات السينمائية التي تعنى بنقد الأفلام السينمائية وتحليلها. وقد أسهم في تأسيس قسم للسينما في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فعندما التقى صدفة في بيروت بالمخرج العراقي قاسم حول أفضى ذلك اللقاء إلى بروز عدّة أفكار للعمل على تأسيس حاضنة للسينمائيين الفلسطينيين، على شاكلة مؤسّسة عامّة للسينما؛ لاستقطاب جهود الكثير من السينمائيين الفلسطينيين والعرب، الذين كانوا متحمسين للسينما الفلسطينية النضالية.

بنظرة أولية سردية للسجل السينمائي الذي استقى من أعمال غسّان كنفاني؛ نذكر أشهرها وهو فيلم (المخدوعون) للمخرج المصري توفيق صالح، المأخوذ عن رواية "رجال في الشمس"، وفيلم (السكين) للمخرج السوري خالد حمادة، والمأخوذ عن رواية "ما تبقى لكم"، والفيلم الفلسطيني (عائد إلى حيفا) المأخوذ عن الرواية التي تحمل الاسم نفسه، من إخراج العراقي قاسم حول، وفيلم (المتبقي) للمخرج الإيراني سيف الله داد، الذي أعاد إنتاج رواية "عائد إلى حيفا" ذاتها لكن بطريقته الخاصة.

الروائي والناقد الفلسطيني الراحل فاروق وادي، يرى في مقالة له بعنوان "غسّان كنفاني مسرودًا على الشاشة: ماذا تبقى منه هناك!؟"، أنه "في البحث الدائب عنه، لم نعثر على ما يشي باهتمامات غسّان كنفاني السينمائية، ربما باستثناء إشارة عابرة تومئ إلى أنّ غسّان كان قد كتب سيناريو ليوسف شاهين بعنوان (أزهار الخوخ) أو (زهر البرقوق)، مما يحيلنا فورًا إلى عنوان روايته التي لم تكتمل "برقوق نيسان"، ويدفعنا إلى مزيدٍ من البحث والتقصي! وسواء ثبت لنا انشغال غسّان في الكتابة السينمائية أو لم يثبت، فإنّ الباحث عن عين غسّان السينمائية سوف يجدها، بصفائها وحساسيتها، حاضرة في رواياته المكتملة وغير المكتملة.

وفي عودة إلى فيلم (المخدوعون) الذي أخرجه صالح عن رواية "رجال في الشمس" لعقد مقارنة سريعة بين الشريط السينمائي والكتاب، فإننا نعثر منذ اللحظة الأولى على تطابق بين المشهد الأوّل للفيلم والفقرة الأولى للرواية، وتكاد خيوط الامتداد والتواصل بينهما لا تنعدم حتى تخوم النهاية. ولعين الناقد أن تلحظ اندفاع تيار الوعي في رواية كنفاني، يقابله عند النقطة ذاتها قطع مونتاجي في الفيلم وارتداد إلى أحداث وذكريات الماضي نفسها، كما تدفقت من قبل في وعي شخصيات الرواي".

يستطرد وادي: إنّ "الإخلاص لرؤية غسّان كنفاني، هو الذي ميّز عمل توفيق صالح، بغض النظر عمّا أضافه المخرج من تفاصيل تضيء الفكرة، أو أسقط من النصّ جملًا فائضة عن حاجة الشاشة، أو عدل قليلًا بما تقتضيه متغيّرات الزمن بين صدور الرواية وعرض الفيلم، وما تفرضه عليه رؤيته هو كمبدع"، مضيفًا أنّ "الترجمة السينمائية الحرفية للنصّ الروائي لم تكن سر تميّز (المخدوعون) وإنما الجدلية الصامتة بين القطبين، أيّ بين مبدعين ووعيين، والتي أنتجت عملًا آخر، يفترق حينًا ليتقاطع أحيانًا مع أصله المكتوب ويضيء زواياه المعتمة. ولعل تلك الإضاءة، هي التي جعلت غسّان كنفاني يكتشف - بعد مشاهدته الفيلم بمنظور جديد - أنّ شخصياته، بحواراتها وأفكارها وجذورها الاجتماعية وطموحاتها، وأحلامها، كانت متقدّمة عن الأفكار السياسية للكاتب عندما أنتج الرواية. وعلى ضوء ذلك وجد غسّان في نفسه قدرًا من الجرأة ليقرّ أنّ فيلمًا مأخوذًا عن روايته، ساعده في كشف داخلي لحقيقة أن شخصيته كروائي كانت أكثر تطوّرًا من شخصيته كسياسي".

بحث عن معادل بصري مناسب لتعدّد الأصوات:
في دراسة أعدّتها المستعربة الفرنسية، زوي كارل، أستاذة في جامعة السوربون "باريس 3"، بعنوان "غسّان كنفاني والسينما في فيلم (المخدوعون) لتوفيق صالح"، ترى أنّ "الفيلم يمثّل اقتباسًا يتّسم بإخلاصه اللافت والمثير لرواية "رجال في الشمس" التي صدرت عام 1963 بعد انصرام سنوات عديدة على النكبة واضطّرار المؤلّف للنزوح عن فلسطين. وبفعل اضطّراره لمغادرة يافا صحبة أسرته، استقرّ كنفاني في البداية في لبنان وسورية قبل أن يحطّ الرحال لاحقًا في الكويت، وهي الوجهة المقصودة للأبطال الثلاثة. يبدو هذا الفيلم حول المأساة الفلسطينية، الذي أنتج في سورية وصور في العراق، من لدن مخرج مصري تمثيلًا أو تجسيدًا للقومية العربية بامتياز، وإن ظلّ لفترة طويلة ممنوعًا من العرض في مصر، بسبب النقد اللاذع الذي خصّ به التعامل الرسمي العربي مع الفلسطينيين". وقد اعتبرت أنّ "الفيلم يقوم على الصعيد الجمالي بتحريف اهتمام المتلقّي في البداية بواسطة طريقة اللعب المشحونة بالغضب للممثّلين، ونزوعها نحو الرمزية.

ولا يحول هذان المنزعان، وهو ما يثير الدهشة، دون الانخراط والاندماج في الحكاية التي تتّسم بمباشرتها وشموليتها. يبقى المتلقّي مشدود الأنفاس إلى حدود الانفراج الدرامي، بفضل بناء يتّسم بحذقه وبساطته في آن. تتمثّل الحبكة في رحلة ثلاثة رجال فلسطينيين إلى الكويت. سوف يجري سرد المسار الخاص بكلّ واحد منهم على امتداد تطوّر الحكي، وبفضل أسلوب الفلاش باك. يتمحور الجزء الأول من الفيلم حول وصول الأبطال الثلاثة إلى مدينة البصرة العراقية وبحثهم عن شخص يسهل دخولهم سرًا إلى الكويت. أما الجزء الثاني فمخصّص حصرًا للرحلة داخل الصحراء، التي قادها رجل غامض وغريب الأطوار اسمه (أبو الخيزران)، وكان فلسطينيًا لاجئًا في العراق، ولم يقع الاختيار عليه بتأثير تضامن وطني فلسطيني، وإنما بدافع المقابل المالي الضئيل الذي اقترحه.

علاوة على العناصر السير ذاتيّة التي يسهل رصدها، فإنّ البعد التمثيلي للفيلم ومن قبله الرواية لا يسع الفكاك منه. العلاقة بين فقدان الأرض وفقدان الفحولة في شخص (أبي الخيزران)، الذي سرعان ما نحيط علمًا بأنه عاجز جنسيًا. الأعمار الثلاثة للحياة التي يجري التمثيل لها بالعجوز (أبي قيس) والشابّ (أسعد) و(مروان)، الذي جاوز بالكاد طور الطفولة، وشكل الرحلة الذي يشبه الخروج في اتّجاه المنفى، التي ستفصح عن افتقادها للجدوى منذ المشهد الأوّل، وحيث تبدو النهاية كما لو أنها تُقرِّر مصير الشعب الفلسطيني برمّته".

عن رأيه في أفلمة روايات غسّان، يقول المخرج والناقد العراقي قيس الزبيدي، في مقالة عنوانها "غسّان كنفاني في السينما"، إننا "نستطيع أن نؤكّد بدورنا أنّ أدب غسّان (رواياته) ليس أدبًا خالصًا، وإنما أدب فيه كثير من السينما، فيه سينما أكثر من كثير من الأفلام. من هنا نجد أنّ أدبه يدفع من يقتبس منه إلى السينما، ألّا يغفل تلك المهمّة المشوّقة والمحفّزة للإبداع والابتكار الموجودة في أدبه. عليه ألّا يكتفي في عملية الإعداد أو الاقتباس أو التحويل بالبحث فقط عن المعادل البصري الموازي لصوره الأدبية، بل يجد المعادل السينمائي للبناء المونتاجي ولمستوى البناء الزمني في سرد الأحداث إضافة إلى البحث المناسب في رسم صورة الحدث الماضي، لا كما حدث، بل باعتباره ذاكرة ذات فاعلة في الحدث، أيضًا عليه أن يجد المعادل السينمائي المناسب لتعدّد الأصوات في السرد ولإيقاع السرد ووتيرته في البناء الأدبي عن طريق تلك الحبكة القادرة على ربط الأحداث التي تتشكّل منها نوعية الحكاية".

الناقد والسينمائي العُماني عبد الله حبيب يشير في دراسته المطولة عن اقتباس توفيق صالح لرواية غسّان كنفاني، إلى أنّ معظم النقّاد الذين درسوا (المخدوعون) بوصفه اقتباسًا سينمائيًا أكّدوا على أنّ الفيلم يتبع الرواية ويخلص لها في سرده، وبالتالي فإنه يمثّلها بأمانة. والفرق الوحيد بين الرواية والفيلم، والذي رأوا أهمّيّته وناقشوه باستفاضة هو أنّ الفلسطينيين الثلاثة (أسعد، ومروان، وأبو قيس) لا يدقّون جدار خزان الشاحنة في الرواية، بينما يدقّونه في الفيلم في أثناء التوقّف الاضطّراري للشاحنة في ساحة النقطة الحدودية الكويتية (مركز المطلاع)، وبذلك فإنهم ماتوا في صمت واستسلام يعكسان الحالة الفلسطينية السائدة في الزمن التاريخي الذي تدور فيه أحداث الرواية.

في الختام، يجدر بنا ذكر أنه وعلى الرغم من أنّ الكثير من الكتّاب والنقّاد الفلسطينيين والعرب شكّكوا في أن يكون غسّان قد شاهد فيلم (المخدوعون) قبل اغتياله في 8 تمّوز/ يوليو 1972، على يد الموساد بتفجير سيارته بمنطقة الحازمية قرب بيروت، إلّا أنّ عبد الله حبيب يذكر أنّ الناقدة الأميركية باربارا هارلو أشارت في كتابها "بعد الحياة: تراث الكتابة الثورية" (الصادر باللغة الإنكليزية عام 1996)، إلى أنه وفقًا لفاروق غندور، وهو ابن عم غسّان كنفاني ومحرّر أعماله الأدبية لاحقًا، فإنّ كنفاني نفسه كان قد شاهد الفيلم ثلاث مرّات في عروض جماهيرية، ولم يحتج على التغيير الذي أجراه توفيق صالح فيما يخصّ موضوع طرق جدار خزان شاحنة المياه، بل إنّ كنفاني طلب من غندور، في إحدى تلك المناسبات، أن لا يثير هذا الموضوع في النقاش المفتوح مع الجمهور. يضيف حبيب: "وفي لقاءاتنا في مسقط أكّد لي المخرج توفيق صالح صحة هذه المعلومة."

من المفارقات التي يذكرها حبيب عن الفيلم، أنه رغم كلّ النجاحات التي حقّقها (المخدوعون) في المهرجانات السينمائية العربية والدولية، والتكريمات وشهادات التقدير، وما ناله من شهرة واسعة على النطاقين العربي والعالمي، إلّا أنه لم يعرض في الصالات السينمائية العامّة في سورية سوى لمدة أسبوعين فقط، ثم أوقف عرضه وهو في عز نجاحه الجماهيري!! كما لم يعرض الفيلم عروضًا جماهيرية في بقية بلدان الوطن العربي إلّا في تونس، والجزائر، وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (سابقًا)، أما بقية البلدان العربية فقد منعت عرضه.

بطاقة الفيلم

المخدوعون: إنتاج: المؤسّسة العامّة للسينما، سورية؛ مدير الإنتاج: محمد سالم؛ السيناريو والإخراج: توفيق صالح؛ مونتاج: صاحب حدّاد؛ موسيقى: صلحي الوادي؛ الصوت: زهير فهمي؛ مدير التصوير بهجت حداد. الأدوار الرئيسة: عبد الرحمن آل رشّي (أبو الخيزران)، محمد خير حلواني (أبو قيس)، بسام لطفي (أسعد)، صالح خلفي (مروان).

 

عن (ضفة ثالثة)