في هذه القصة نلمس براعة القاص والروائي العراقي في توظيف الأماكن المهملة والوظائف الصغيرة في مجال إنساني واسع للتنبؤ بما يهدد العالم المعاصر من تغيرات مناخية، منطلقا من محطة محلية للأرصاد الجوي، وبضع شخصيات تمثل بعض الأيديولوجيات المسيطرة على المنطقة، فكريا وسلطويا!!

المُتردّد

خضـير فليح الـزيدي

 

إنّه صوت بلبل الساعة المنضديّة، وكعادته في كل صباحٍ يُغرّدُ بصوت مبحوح منبّها بحلول موعد الاستيقاظ. إنه موعد سماع النشيد الممل للنهوض من النوم عند الساعة السادسة صباحا. كأن نشيده يردّد: "وحده النوم من يخفّف من عبثِ البشر بالبشر."

 يوم ليس رائقا، فرائحة المطر تملأ المكان وسحر الأجواء تدفعه إلى التمرد على دوام الوظيفة، وهو العاشق الأبدي إلى النوم الانفرادي بحراسةٍ مشدّدة من حديقة الأحلام. كان حائرا قلقا يحاصره التردّد بين الذهاب إلى وظيفته أو الاستغراق في مزرعة الأحلام.

فسّر تردّده هذا بصخب الأجواء المتقلّبة، والتي لم يأتِ ذكرها في بيان الأنواء الجوية الّذي أعدّه بنفسه في الأمس. لكنه وعندما اشتدَّ المطر مصحوبا هذه المرة بعاصفة هوجاء تضرب بقوة على النوافذ والأبواب، قال: "لا أذهب، حتى وإن لم يكن لي رصيدا من الإجازات الاعتيادية".

أخذ قسطا للتفلسف ليقنع نفسه، قائلا:

«فالمطر هو المطر ذاته، لا أجواء رومانسية محتملة من خلاله، ولا تعريف آخر له، فهو مؤذٍ للأناقة المفترضة، على الرغم من موسيقى القَطر على النوافذ ومواء قطط الشوارع قرب حاويات القمامة، بكل صراخها المخيف من حبّاته، رومانسية مرتجاة من الطبيعة، لهي كذبة أخرى لرصيد مصرف الأوهام».

حسم قراره وعاد إلى فراشه مجدّدا، لكنه لم ينمْ. فبعد طول انتظار وترقب - أي بحدود الساعة التاسعة صباحا - صدر البيان الرسمي من دائرة الأرصاد الجوية المُرتقب مُصحِّحا ما جاء في النشرة الجوية السابقة، وإذْ جاء فيه: "إن الأجواء الحالية متقلّبة بين زوابع مطرية وعواصف شديدة الريح. تنتابها لحظات هدوء مريب. نحذّر من السير في الطرقات".

جمال خيّون الرجل المتردّد الانطوائي الكتوم هو موظف من الدرجة السابعة في قسم الأرصاد الجوية لدائرة الأنواء الجوية للمدينة وضواحيها. كان متردّدا أكثر مما ينبغي حتى بدخوله إلى المرحاض. حتى في قول كلمة نعم. يُخفي في بطانة كلامه المعسول قبح وجوه من يلتقيهم.

الآخرون بالنسبة له مجرد سلالم للارتقاء إلى الكتمان أو تغليف الذات برداء إسمنتي سميك. في الليل يتسلّى مع نفسه بإزالة اللب عن القشر في معرض أسراره الدفينة.

ينحصر عمله في دائرته لتقييم حالة الرصد الجوي عِبرَ جهاز قديم يُنبئ بحركة الريح والمنخفضات الجوية القادمة من البحار والمحيطات والقارات، لكن هذا الجهاز يخطأ كثيرا في تقييم حالة الطقس المتوقعة. يرفع تقريره الورقي نهاية كل يوم لمدير القسم ثم يغادر إلى بيته الكئيب.

رفع تقريره يوم أمس عن حالة صحو تعمُّ أجواء المدينة، لكن اليوم في الصباح جاءت الأجواء مجنونة وخارج التوقعات، الأمر الذي سيعرّضه إلى اللوم والتقريع مع عقوبة إنذار محتملة من رئيس القسم.

*

يقوم مدير القسم السيد "زخة مطر بن صيف"، وهو موظف إسلامي يسير مع الريح والموج غالبا، يؤمن بالغيب أكثر من إيمانه بدراسته المناخ والتنبؤات الجوية وحركة الرياح والمنخفضات الجوية، لكنّه مجبرٌ على إصدار البيانات بحكم الوظيفة فقط. أصدر-ذلك الصباح-بيانا جافّا بلغة تقبل التأويل كاسرا فيها أفقَ التوقّعِ. لم يأتِ في متن بيانه من بلاغة واجبة سوى:

((ما زالت المدينة واقعة تحت تأثير عنقود الثريا السماوي -والله أعلم-لذلك ستكون الأجواء غير مستقرة. أمّا على الأرض فينعكس تأثيرها العاصف تدريجيا، على المدينة وتخومها كظاهرة مناخية نزقة، يصاحبها أصوات رعود وأضواء بروق خاطفة. أجواء غير مستقرة لا تعمل على تعكير الأمزجة فحسب، بل ينعكس أيضا على حركة الناس في الشوارع، تتبعها أمطار وزوابع يصحبها ارتفاع طفيف بدرجات الحرارة في ساعات الضحى، إذ يتعذّر على المتنبئ الجوي وهو الراصد الشرعي، على وفق الشريعة الإسلامية إلى إتيان ما يحدث بالضبط، فلا يفلح بتوقّع بما يحدث من تقلبات جوية مزاجية -والله أعلم-، ولا يمكن -والحال هذا-رصد ما يحدث بعد سويعات الظهيرة، أو ما يحدث في الغد. فـ "عالِم الشهادة والغيب لأمره وحده". أما صور الأقمار الصناعية فهي واحدة من أكاذيب العصر. لا خوف على حركة الطيران في المطارات سوى ريح عاتية تحاول أن تمحي آثار ما تبقى، بينما المدينة تحاول التشبّث بالذكريات)).

يعود من جديد بتصريح مناقض آخر، إذ يُدلي السيد "زخة مطر" بتصريح عند ساعة الضحى لإذاعة المدينة المحلية مُطمّئنا المواطنين بعد غياب السيد جمال ومعظم موظفي دائرة الأحوال عن الدوام:

"إن الأحوال الجوية على ما يرام بعد انحسار ملحوظ للمنخفض الجوي وتلاشي تأثيره، لكن من المحتمل بمشيئة الخالق سقوط أوهام موسمية رعدية متقطّعة، مع استمرار التقلبات في المدينة وضواحيها حتى ساعة الزوال، مما يتسبّب بطوفان نسبي للأفكار المدمّرة. الطوفان الذي يجرف أحلام الليل السريّة إلى مجاري المياه الثقيلة، ثم تزول الزوابع تدريجيا مع إطلالة صباح الغد ولله الحمد، فيما سيكون الجو مشمسا نهار الغد بأذنه تعالى. تتراوح درجات الحرارة العظمى 35 درجة مئوية، تكون فوق معدلاتها بقليل، مع هبوب رياح عكسية متوسطة إلى شديدة السرعة في بعض ساعات النهار، بعد تعرض المنطقة إلى مرتفع جوي قادم من قارات بعيدة، مثيرا لغبار الكلمات على الوجوه الخُرس، لذلك ستقلّ الرؤيا تدريجيا. ننصح بإغماض العينين مؤقتا، والانحناء قليلا، كي تمر العاصفة بسلام".

تقاطعه المذيعة:

-     لكن كلامك أستاذ "زخة مطر" يتناقض كليا مع بيانكم الرسمي في الصباح حول الرعود والأمطار والزوابع، ماذا تقول؟

-     لا يوجد تناقض عزيزتي، فالأجواء والمناخ يتغيران على وفق مشيئة الرب.

-     لماذا هذا الأطناب بالبلاغة في بيانكم والزوابع الرعدية والعواصف المطرية خرّبت كل الشوارع والبيوت؟

-     يا سيدتي إنها مشيئة الله "جلّ جلاله"، ولا علاقة بالتنبؤات بما يحدث. كَذِب المنجمون وإن صدقوا.

ينصح زخة مطر أيضا كل الرعايا بارتداء النظارات الشمسية والأقنعة السود، وكذلك يوصي بتوخّي الحذر في الطرق الخارجية، مثلما يوصي بتغطية الجلد بواقٍ فعّالٍ ضد أشعة الشمس والأفكار الطارئة، ومخاتلة الوهج بظلال مرسومة على الحيطان. يوصي الرجل بمعاقبة كل الموظفين المتخلفين عن الدوام لهذا اليوم لإيمانهم القطعي بالتنبؤ الجوي من خلال أجهزة الرصد الحديثة.

ثم أختتم حديثه إلى الإذاعة قائلا: "دمتم في رعاية الله تعالى وحفظه جميعا. ليتكم تعرفون بأننا نعرف، لكننا جميعا لا نعلم الغيب".

لكن الموظف المتخاذل والمتقاعس عن الدوام السيد جمال خيون ذهب لمتابعة بيان الجهة المعارضة للسيد "زخة مطر" عندما أصدرت بيانها المناخي المناوئ أيضا. يقود الكتلة المعارضة هذه السيد "زوبعة" وهو شخصية علمانية خفيفة الظل، غالبا ما يراه الناس واضعا معطفه على يده. هو رجل معارض مزمن وعتيد، يحاول دائما دحض بيان زخّة مطر والنيل من خرافاته.

تسأله عبر الهاتف مذيعة قناة راديو المحبة المحلية:

•      ما هي أحوال الجو ليوم غد سيد "زوبعة"؟

•      دعكِ من حالة يوم غد. يحدث يا عزيزتي أنه في نهاية هذا القرن أي في عام 2099، أن يهاجر الناس جماعات من العاصمة بعد تعرض المنطقة إلى منخفض جوي قاتل، ومنهم أحفاد الأحفاد إلى خارج المدينة، فالمتغيرات الجوية المناخية خطرة للغاية. كان المتنبئ يتوقع بارتفاع درجة الحرارة أكثر من 77 درجة، حتى تغدو حقيقة حارقة، لتحلّ الكارثة الكبرى، مما يجعل الأحفاد يعبرون البحر مهاجرين من تركيا إلى اليونان بالزوارق المطاطية يلتقطون صور المأساة بهواتفهم الذكية. أما أخبار المدينة المحترقة فتتحول إلى رماد تضطرم النار من تحتها. وفيما الحياة تبدأ بالتلاشي تدريجيا مع هذا الاحتراق الرهيب تبدو كأنها مدينة أشباح وحرائق من فيلم رعب مُتخيّل. أقول هذا الكلام متأسفا على أحفاد الأحفاد والمصير المجهول الذي ينتظرهم. لكن الإيمان بثورة علمية عارمة سيعيد أبطال الحركة التصحيحية للأنواء الجوية إلى جادة العلم، مثل طائر عنقاء يظهر من تحت رماد المدن. هذا ودمتم للنضال. أما حالة الجو ليوم غد. ستكون طبيعية ولا خوف على المدنيين إطلاقا، وأنا أوصي الجهات المسؤولة ومن خلال موقعي المعارض باحتساب هذا اليوم عطلة رسمية للذين تخلّفوا عن الدوام ومن ضمنهم الرجل المُتردد والموظف المثالي جمال خيّون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيرة الروائي خضير فليح الزيدي: ولد في العام 1958 في مدينة الناصرية، وفي العام 1984 أصدر روايته الأولى بعنوان (شرنقة الجسد) وفازت بجائزة تقديرية، صدرت له العديد من الروايات، منها: رواية (خريطة كاسترو) عن دار ينابيع دمشق، 2009.            (كتاب الباب الشرقي) 2013 طُبع ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة. وفاز الكتاب بجائزة ناجي الساعاتي. رواية (الملك في بيجامته) 2018 عن دار الرافدين، بيروت.

رواية (أبناء غائب طعمة فرمان) عن منشورات مسكلياني 2023.