تسود المجموعة رغبة واضحة في تقصي ما يحدثه الزمن من انكسارات في نفوس النماذج التي اختارها الكاتب، حتى أن "ثيمة" القهر هي وحدة القياس المهيمنة على المجموعة، وكافة أبطالها يعيشون تجارب مختلفة من الخذلان والقهر والحزن، على القسوة التي تسود العالم، ويحاولون جميعاً النجاة من تلك القسوة.

عندما يصبح فعل تذكر الماضي لعنة قصصية

سيد محمود

 

تذّكر المجموعة القصصية "لعنة أن تتذكر كل شيء" الصادرة عن بيت الحكمة في القاهرة، للكاتب والموسيقي محمد صالح، بما ذكره الكاتب الأميركي هنري ميللر حين كتب: "رحلتي الخاصة بالكتابة، جاءت من خلال الفوضى العارمة والعتمة المطلقة في مستنقع أو أرض خصبة من الأفكار والانفعالات والخبرات، وحتى الآن فإنني لا اعتبر نفسي كاتباً بالمعنى العادي للكلمة، إنني مجرد رجل يحكي قصة حياته، وهي عملية  تبدو لي لا نهائية، أشبه بتحول دائم بين الداخل والخارج ".

 وبالمثل تقوم كتابة صالح على استثمار الكثير من الخبرات التي أتيحت له في حياته التي اتسمت بالتنقل بين مصر وخارجها، وجمع فيها بين ممارسات فنية متعددة. فهو كاتب وصحافي وممثل مسرحي ومترجم، بالإضافة إلى عمله عازف بيانو في أوركسترا القاهرة السيمفونية طوال سنوات.

 الزمن بطلاً

وبفضل تنوع خبراته الحياتية فاضت قصص محمد صالح بالكثير الحكايات، وكما يوضح العنوان، فإنها تقوم على لعبة التذكر، التي يراها بعض العلماء النفسانيين فعلاً من أفعال إعادة التخيل الإبداعي. وهناك الكثير من القصص التي تبدأ بجمل واضحة تشير إلى الوعي بعملية الاستدعاء كأن يكتب "أبحث في ذاكرتي". تسود المجموعة جملة من الانشغالات الواضحة، منها أن الزمن يؤدي فيها دور البطولة بفضل إصرار الكاتب على قراءة تحولاته، ورصد انعكاساتها على سلوك الأبطال، إذ أن هناك دائماً إشارة ضمنية له، سواء بالمعنى الميتافزيقي أو بالتحديد المتعين، فما يحدثه الزمن من تغييرات هو مربط الفرس في التعامل مع غالبية القصص .

هذا الملمح  يجعل القارئ يقبل برغبة الكاتب المتكررة في طرح مجموعة من التساؤلات والتأملات الفلسفية التي قد تثقل النص أحياناً، وتقطع متعة القص وتدفع إلى الاستغراق الذهني والتورط في عمليات الاستبطان، كما في قصة بعنوان "هتك عرض"، من دون أن تبلغ حد المفارقة الفلسفية .

وعلى الرغم من هذا، فإن القصص التي تقوم على إعادة صوغ الواقع وتحريفه بالمعنى الفني، تبقى هي الأقوى جمالياً، والأكثر تأثيراً تبعاً لنجاح المؤلف في البناء على ما في الواقع من مفارقات، تصل إلى حد الفانتازيا أحياناً، وتفيض ب"الكوميديا السوداء" في أحيان أخرى، وتماثل النزعة الواقعية في الأدب الروسي الذي يمثل المخزون الإبداعي الأول للكاتب وبالذات قصص تشيخوف.

ولعل الأمر الواضح أن إنشغال الكاتب برصد التحولات داخل المجتمع، يدفعه إلى بناء انحيازات مع النماذج التي تتعرض للتهميش والسحق، أو لأنواع مختلفة من التنمر كما في القصص التي تحمل عناوين: إنشراح المنياوي - منص – السيرك – أوركيدا.

تعتمد هذه القصص على مشهدية لافتة وتحفل بطاقة درامية في رسم المشهد وتطويره بصريا، كما في قصة "أصلع"، وهناك أيضا تأكيد لطابع الطرافة المستمد من الحياة اليومية في مصر. غير أن الكاتب يتورط في أحيان في كتابة مشهد النهاية فيلجأ، في سبيل البحث عن نهاية لصياغات نظرية أو "كليشيهات" جاهزة، تبدو وكأنها تعليق على الأحداث بصوت يأتي من خارجها، أكثر مما تبدو استجابة طبيعية لتطور تقنيات القص ذاتها. ولعل مصدر هذا المأزق كون المجموعة هي ابنة التجربة الأولى لصاحبها في هذا النوع السردي .

 تجارب الخذلان

تسود المجموعة رغبة واضحة في تقصي ما يحدثه الزمن من انكسارات في نفوس النماذج التي اختارها الكاتب، حتى أن "ثيمة" القهر هي وحدة القياس المهيمنة على المجموعة، وكافة أبطالها يعيشون تجارب مختلفة من الخذلان والقهر والحزن، على القسوة التي تسود العالم، ويحاولون جميعاً النجاة من تلك القسوة، إما بالانزواء أو الهجرة، للإفلات من صورالإهانة التي تؤدي إلى كتابة كلمة النهاية، في علاقة المواطن بوطنه، ف"إهانة مواطن سبب كاف للهجرة"، كما يقول أحد الأبطال .

يتكرر خيار الهجرة بصورة لافتة، وفي واحدة من القصص، يتحدث البطل عن قسوة الإختيار بين "حياة آدمية يعيشها الأبناء، وسط حضارة تتحرك للأمام، وبين المكان الذي تتمنى أن تدفن فيه". وبالتبعية يبدو الكاتب مؤرقاً بقضية الإختلافات الثقافية والأثمان المدفوعة لقبول التعددية كما في قصص: منص – رادوغا – ساري غاندي. من جهة أخرى هناك تنوع لافت في ضمائر السرد، فهي مرة  تأتي في ضميرالمتكلم، ومرات في ضميرالغائب، وبالتالي لا يوجد الراوي الأحادي الذي يهيمن على المسار السردي بما يصبغ النّصوض بسمة أسلوبيّة واحدة. فهي نتاج استبصار متمهل وخبرة في محاولة بناء نسيج سردي يقوم على التواشج والانسجام.

ولذلك بدت القصص أقرب في ترابطها إلى طابع المتوالية السردية، وهو أمر منحها الكثير من الحيوية، بطريقة مكنت القارىء من التورط في عالمها، وإدراك ما فيها من دلالات. وزاد من حيوية هذا التورط كون الكاتب لا يخفي حضوره في خلفيات النص، فمن السهل ملاحظة حضوره من خلال إلتقاط وعيه الحاد بالزمن، كفاعل رئيسي في الموسيقى الكلاسيكية، وهي مهنته الأولى. فأحد تعريفات الموسيقى يأتي من النظر إليها كبناء في الزمن، وتمثل الموسيقى خلفية لكثير من القصص، ولا تخلو قصص أخرى من إشارة إلى اسم مقطوعة أو اسم مؤلف كما في قصة "حلم هجرة".

نجح المؤلف نجاحاً لافتاً في الإعتماد على لغة قص بسيطة، تستعمل اللغة اليومية وتحافظ على ما فيها من طاقة حية، مشحونة بمجازات الحياة اليومية، من دون أن تفتقر إلى "الشجن". ففعل التذكر يشير بمعنى ما إلى رغبة مضمرة في إستعادة لحظات هاربة، والحنين إلى زمن مضى.

 

اندبندنت عربية