مرت القصة القصيرة بعديد المراحل وكان أحدثها، ذلك الاكتناز فى الكلمات، والتداخل فى المواقف، هو ما يصنع الكاتب منه نصوصه القصصية، حيث يبنى هنا قصته على خطين متوازيين، خط العمل الوظيفى، الذى يؤرقه فيه، ويُقلق راحته، الفساد المستشري، والمتسبب فى قطع رزقه القليل، وفى الخط الثانى، يؤرقه ذلك الصرصار ذو الشوارب، حين رآه يأكل من رغيف .. فيطلق رصاصه.. على من يقدر عليه.

اغتيال اللون الرمادي

طارق عبد الوهاب جادو

 

رائحته الكريهة تملأ فضاء الشقة .. وتحتل أنفي.

***

في الفندق كان يريد مقابلتي ...

عدلت من وضع السترة فوق أكتافي ودخلت عليه، نظر إلى بعض الأوراق تحت أنفه وتجاهلني، طال انتظاري واقفا ً كالولد المبلول أمام مكتبه، لا أعدو سوى أن أكون مجرد حارس ليلي .. وهو .. رئيسي في العمل . سؤاله عني " خصم " أو على أقل تقدير " لفت نظر " . لكنني – وحتى هذه اللحظة – لم أرتكب خطأ ً. في الوردية ينصلب عودي كلوح من الخشب، ألصق جفني بمقدمة جبهتي كي تستمر عيناي مفتوحتين، وحين أنتهي أكون بأكملي في أقصى حالات التفتيت . أشعر كأنني مسحوق بشري معبأ في زي جديد لامع، أسلم من بعدي سلسلة المفاتيح والعهدة، وأغير ملابسي. أدخل مرة أخرى في جلدي .

قال زميلي :

  • هو يطلبك .

فَجِئت ...

رفع إلى وجهي أطراف عينيه مطلا ً بهما من خلف زجاج النظارة السميك، قطع الصمت منهيا ً طقوس إذلالي :

  • عندي لك أخبار سيئة .

***

يصر على مطاردتي ...

يعلم جيدا ً أنني لا أهابه .. فقط .. أحس بالنفور منه. حين أراه بوجهه المسحوب كالقمع ولونه الغامق المجرب تُستثار بداخلي رغبة متجددة في البصق، تصل أحيانا ً إلى حد التقيؤ، تنتهي المواجهة بيننا سريعا، غالبا ً ما أكون أنا الباديء فيها بالفرار، تاركا ً له عالمي الخاص، يفعل به كما يشاء، يطبع على كل شيء فيه جزءا ً من آثاره، قطعا ً سوداء صغيرة تؤكد تواجده المستمر في حياتي، أزيل بقاياه المقيتة من وقت لآخر. يعود .. فيأكل من ضعفي أمامه .. وفوق أشيائي الثمينة يترك برازه !

***

أضاف محدثا ً من منخاره :

  • مع الأسف .. قررنا الاستغناء عن خدماتك .

كان الوضع يفوق احتمالي ...

مدون لديه في أوراقي سيرة عملي الذاتية، يعلمها الآن أكثر مني، نظيفة .. بيضاء .. دون أدنى شائبة، معي من الشهادات ما يثبت كفاءتي والجدارة بالعمل، ظروفي الاجتماعية صعبة، وتمنحني قبل الجميع كل الحق في شغل الموقع، من من أتباعه يريده أن يحل مكاني ؟

عند الاختبار كنت أكثر المتقدمين لفتا ً للانتباه .. الثعبان فاجأه نجاحي، ولم يكن في وسعه إلا أن يقبلني .

صباح مساء أمارس عملي في الفندق .

يعبر بوابتي الدوارة أصناف من الناس تفوق الحصر، تجار، مستثمرون، أساتذة، ممثلون، أتأكد من بطاقات هويتهم وأتفحص الملامح، يخامرني الشك كثيرا ً وأدقق النظر في الوجوه، أتابعها . يغريهم الليل بالحركة فيخرجون من الجحور، أضبط تحت عيني جرائمهم. سرقات، تدليس، وما خفي كان أعظم، وقفت كالسد في وجه رغباتهم العارمة، وعلى الفور أبلغت الإدارة، هناك أخبروني بأنهم سيقومون بعمل اللازم .

ظللت أرقبهم متحفزا ً ... ولم يستجد في الأمر شيء !

***

في عتمة الليل أسمع خرفشاته، يضطرب لها هدوئي الساكن. الملعون .. يكسر قدم النوم الوافد علي، فيطول غيابه، يخطو إلي ببطء رتيب، ولما تقبض عليه أجفاني المحتقنة أراه مختالا ً بذيله الطويل، يحك بطرفه أنفي .. مكبلا ً نحو الحائط . يتمكن من إغاظتي .. وفي النهاية الكابوسية يغرز في عيني إحدى شواربه المدببة .

أحاول أن أفهم :

  • والسبب يا افندم ؟

يجيب بوقاحة :

  • لا تصلح للعمل !

شهورا ً طويلة تعلمت أن أهادن، أحتاج للدخل البسيط .. ولا تهم أحلامي الكبيرة، أقضي معظم الوقت متيقظا ً لمناوراته، في الخفاء يحيك لي المؤامرات، له من الأعوان بطانة خسيسة، تكشفهم لي رؤوسهم المخروطية، وتلك العيون المضغوطة كالخرز، أذناب دنيئة .. ولديها القدرة على النفاذ من الحديد، بها يتمكنون من الهرب والإفلات من بين أصابعي. لا أملك بعدها إلا إلقاء مصائدي من النافذة، فأبدو لنفسي كمن يلتقط الطعم وحده !

أنهى معي حواره المقتضب :

  • بكره تسلم عهدتك .. وتأخذ إخلاء الطرف .

***

كل المحاولات معه لن تجدي ...

أعرف ذلك جيدا ً ..!

لكنه الوقت الذي قد حان للحسم .

في الطريق – عائدا ً من الوردية – حملت سلاحي، هي آخر ليلة يبيت فيها معي .

صعدت الدرج في قفزات معدودة ودسست المفتاح في القفل، أدرته، فتحت الباب المفضي إلى الصالة، دخلت ضاغطا ً زر النور، وقعت عيناي عليه مستكينا ً فوق طاولة " السفرة " القديمة .. يأكل من خبزي كالعادة .

بثبات وسرعة أخرجت السلاح من جرابه .. وفي لمحة كالبرق أطلقت الرصاص .