يقدم الباحث المصري لباب علامات شهادة كتبتها الشاعر الراحل نجيب سرور، يبدو فيها ذلك التوافق الخفي بين مركزية الآخر الأوربي ومركزية الآخر المحلي. وعبر نص منجز على توقيع أشعار ناظم حكمت المدرجة في المتن يعرض الكاتب فعل نزع الأنسنة وتأكيد اغتراب الذات العربية عند واحد من مفارق تاريخنا الحرجة.

شهادة المُبدع الراحل نجيب سرور

في حق الآخر المصري

حازم خيري

"أغنياتي يا حزينة..
يا عصارات السنين،
ستظلين سجينة،
طالما شعبي سجين!"
نجيب سرور

قلنا إن أحداث هذه القصة تبدأ في منتصف القرن العشرين(*).. الحقيقة أنها تبدأ قبل ذلك بزمن طويل، بقرون تمتد في الماضي السحيق إلى فجر التاريخ. ذلك لأنها قصة شعب قبل أن تكون قصة هؤلاء الثمانية الذين سنتحدث عنهم(1). إن كلاً منهم يحمل في قلبه الكبير خلاصة هذا التاريخ الطويل المجيد المرير.. الحافل بالهزائم والانتصارات.. بالخيانات والبطولات.. بالدموع والبسمات، فليس في تاريخ الإنسانية جمعاء شعب امتحن بالطغيان ونكب بالسفاحين كما امتحن ونكب شعبنا المصري، والذي يلقي نظرة ـ ولو سريعة ـ على تاريخنا منذ بناء "الهرم الأكبر" حتى بناء "المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني" لا يملك إلا أن يتساءل في دهشة: كيف تأتى لهذا الشعب أن يعيش إلى الآن بالرغم من أن عشرات القرون قد تحالفت على إفنائه.. على هدم كيانه.. على إعدام كل مقومات الحياة فيه؟!..

إن هذا اللغز الذي يحيّر الجميع لا يشكل بالنسبة إلينا ـ نحن المصريين ـ لغزاً.. إن مفتاحه دفين في صدورنا نحن.. لا في صدر أبي الهول.. حيث اعتاد أن يبحث عنه المؤرخون والسائحون!.. إننا نعرف مدى حب شعبنا للحياة.. مدى شوقه إلى الحرية.. مدى إصراره على البقاء.. ومدى طموحه إلى المستقبل..!!

يقولون إنه شعب صبور.. أجل نعرف ذلك.. ولكنه صبر التربص لا صبر الاستسلام.. إن البركان يلوح للنظرة السطحية هادئاً بينما يغلي في داخله التنور متأهباً في أية لحظة للانفجار.. ليكشف عن جوهره الناري الملتهب!!

لا.. لم يركع شعبي أبداً..
لم يستسلم..
أبداً.. أبداً.. لم يستسلم..
فلكم حمل النير.. تألم..
كان كتوماً.. كالبركان..
يطوي في الصدر التنور..
ثم يثور..

ذلك لغز شعبنا.. اللغز الذي لم يستطع أعداء شعبنا أن يحلوا رموزه،. ومن هنا يفاجأون دائماً بما في جوف البركان الهادئ.. من حمم.. ويذهبون بحيرتهم.. وبخيبتهم ويبقى شعبنا شامخاً في كبرياء! إن سر انتصار هذا الشعب ـ يقصد الشعب المصري ـ على أعدائه.. هو أنه استطاع دائماً أن يخفي عنهم سره.. أن يخدعهم.. أن يرخي لهم الحبل حتى يشنقوا أنفسهم.. أما الفترات التي يسمونها فترات الهزيمة.. فلم تكن في الواقع إلا فترات التربص والاستعداد والتأهب للانتصار القادم..!!

والغريب أن الأعداء اللاحقين كانوا دائماً يرفضون أن يتعلموا من تجربة الأعداء السابقين.. لأن الطغاة لا يحاولون فقط أن ينسوا التاريخ.. بل ويصرون على طمسه.. لأن التاريخ يحدثهم عن معدن الشعب الذي يريدون قهره.. وعن المصير الذي ينتظر من يريد قهره! إنهم يريدون أن يعتقدوا بأنهم ـ لا الشعب ـ صانعو التاريخ.. صانعوا المعجزات..!

ذلك ـ مثلاً ـ ما يعتقده جمال عبد الناصر.. حين يقول في كتابه "فلسفة الثورة"(2): "وإن ظروف التاريخ أيضاً مليئة بأدوار البطولة المجيدة التي لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه، ولست أدري لماذا يخيل لي دائماً أن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يخيل لي أن هذا الدور الذي أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا، قد استقر به المطاف متعباً منهوك القوى على حدود بلادنا يشير إلينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور ونرتدي ملابسه فان أحداً غيرنا لا يستطيع القيام به".

ذلك نموذج للفهم الزائف للبطولة.. نموذج للفردية.. للميول الفاشية.. لاحتقار الشعب.. فليس خافياً أن عبد الناصر لا يقصد الشعب المصري حين يقول "إن أحداً غيرنا لا يستطيع القيام به"، وما كان يستطيع ـ حتى لو أراد ـ أن يقصد ذلك.. فليست للشعب المصري مطامع توسعية في المنطقة.. التي يحددها عبد الناصر بالدائرتين العربية والأفريقية.. إنما يعود الضمير هنا على عبد الناصر نفسه.. وعصابته.. ومن ورائهم البورجوازية المصرية الكبيرة!.. وما سقنا هذه الفقرة إلا لأنها تشكل حجر الأساس في البناء الاشتراكي الديمقراطي التعاوني..

وحين تكون تلك الميول الفاشية نقطة الانطلاق إلى هذا البناء.. يكون من الطبيعي والمنطقي للغاية أن سجون الواحات والمحاريق والفيوم والقناطر وغيرها أعمدة هذا البناء!!.. وحين تكون النظرة الفردية للتاريخ هي نقطة الانطلاق إلى العمل.. تصبح الميول التوسعية أمراً منطقياً كذلك.. ويحدث التطابق بين "الدور" الذي يتحدث عنه عبد الناصر و"الدور" الذي يتحدث عنه هتلر في كتابه "كفاحي"(3): "على الشعب الألماني في تطلعه إلى المستقبل أن يعتبر بلاده دولة عظمى مدعوة إلى تمثيل دورها على المسرح العالمي"!.. ويصبح قمع الشعب وقهره وإرهابه وخنقه قاعدة القواعد التي تُسير جهاز الدولة "العظمى".

وقبل أن نعرض نماذج للبطولة الشعبية الحقيقية في مقابل تلك البطولة الفردية الزائفة.. دعونا نر صورة الشعب المصري من خلال منظار عبد الناصر لنضع في مقابلها أيضاً.. الصورة الحقيقية. إنه يتهم شعبنا بالسلبية واللامبالاة في كتابه المذكور(4): "لقد كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة، وأنها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور، فتندفع الأمة وراءها صفوفاً متراصة منتظمة تزحف زحفا مقدساً إلى الهدف الكبير.. ثم فاجأني الواقع بعد 23 يوليو.. ولقد قلت وسأظل أقول أن تلك كانت أقسى مفاجأة في حياتي"..

فبدلاً من أن يعترف هتلر الثاني بأنه لم يكن على اتصال بالجماهير.. وبالطابع الفردي الانعزالي غير الشعبي لحركته.. نراه يتهم شعبنا بالسلبية واللامبالاة!.. إن التفاف الجماهير حول حركة ما "يستلزم ـ كما يقول لينين ـ قيام هذه الجماهير نفسها بتجربتها السياسية.. ذلك هو القانون الأساسي لجميع الثورات الكبيرة".. ويقول لينين أيضاً "من الواجب دائماً أخذ حالة الجماهير النفسية بعين الاعتبار مهما كانت هذه الحالة متخلفة وعدم النقمة على الجماهير بتاتا".. إن الذي لا يتصل بالجماهير ولا يشرح لها حركته يحكم "على نفسه بالعزلة والجمود".. ولكن ما يسميه عبد الناصر سلبية ولامبالاة هو في الواقع حذر أملاه ذكاء هذا الشعب وخبرته الطويلة الغنية.. وتجاربه المريرة.. حذر مما تميزت به خطوات القائمين بالانقلاب من تردد ومساومة للأحزاب الرجعية، ثم ملابسات اشتراط أمريكا سلامة حياة فاروق، ووجود السفير الأمريكي أثناء رحيل الملك السابق، ثم دور علي ماهر الصنيعة الأمريكية الذي طبلت له صحف أمريكا يومها.. مما أثار الشبهات حول طبيعة الانقلاب..! ولما فشل عبد الناصر في الاتفاق مع الأحزاب الرجعية اضطر إلى الاتجاه إلى الشعب ـ ولكن في حذر وخوف من الشعب وعدم إيمان به ـ محاولاً أن يخلق لنفسه بطريقة صناعية قاعدة شعبية يستند إليها لإحساسه بأنه لا يستطيع أن يقف وحده.. فكان مشروع "هيئة التحرير" ومشروع "منظمات الشباب"(5)..

ولكن الشعب ـ الحذر ـ رفض هذين المشروعين فتحولا إلى أضحوكة وانتهيا إلى الخيبة والفشل رغم كل المحاولات المستميتة لجذب الجماهير إليهما، بل والضغط عليها بكل الوسائل. ذلك أن الشكوك كانت ما تزال تحيط بالقائمين بالانقلاب، وظلت هذه الشكوك طوال ما قبل صفقة الأسلحة التشيكية، ثم بدأ عبد الناصر يلتزم سياسة استقلالية واضحة ولذلك بدأ الشعب يلتف حوله.. وتم الالتفاف بتأميم قناة السويس.. في تلك اللحظة تشكلت وراء عبد الناصر قاعدة شعبية.. جبهة وطنية رائعة تدعم هذه السياسة وتحمي هذا الاتجاه وتطالب بمزيد من الجرأة والحزم.. كان اتحاداً قومياً فعلياً ـ لا مزيفاً ـ ضد الاستعمار والرجعية.. اتحاد جماهير الشعب العريضة: العمال والفلاحين والمثقفين. ولكن عبد الناصر عاد فتنكر للسياسة الاستقلالية التحررية.. وأعلن أن المعركة مع الاستعمار قد انتهت وأن المعركة مع الشيوعية قد بدأت.. ومضى يخرب الجبهة الوطنية فانفضت الجماهير عنه.. ومرة ثانية بقي عبد الناصر بلا قاعدة شعبية.. بقي وحده.. إلا من المباحث(6)!!

تلك هي الخطوط العريضة لقصة عبد الناصر مع الشعب.. وقصة الشعب مع عبد الناصر.. تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على أن شعبنا يقظ.. حذر.. لماح.. يُقدم حين يجب الإقدام ويُحجم حين يجب الإحجام.. إنه لا يخيب آمال المؤمنين به.. وتلك الخصائص الايجابية المبهجة يسميها عبد الناصر سلبية ولامبالاة. بقيت بعض الملامح لصورة الشعب المصري كما يتخيلها عبد الناصر بعد قيامه بالانقلاب(7): "ولو أن أحداً سألني في تلك الأيام، ما أعز أمانيك؟ لقلت له على الفور: أن أسمع مصرياً يقول كلمة إنصاف في حق مصري آخر. وأن أحس أن مصرياً قد فتح قلبه للصفح والغفران والحب لإخوانه المصريين. وأن أرى مصرياً لا يكرس وقته لتسفيه آراء مصري آخر.. وكانت هناك بعد ذلك كله أنانية فردية مستحكمة.. كانت كلمة (أنا) على كل لسان.."

نسي عبد الناصر تاريخ مصر.. لن نقول منذ غزو الهكسوس أو الفرس أو الرومان أو الأتراك أو الفرنسيين.. فقط سنقول منذ عام 1882.. نسي ثورة عرابي.. وثورة 1919.. والانتفاضات التي لم تتوقف منذ ثورة 1919 حتى أواخر النصف الثاني من القرن العشرين.. ثم معركة القنال.. ثم معركة بورسعيد.. انتفاضات العمال والطلبة والفلاحين الذين نعرف نظرة عبد الناصر إليهم ـ كما تقول مجلة الثقافة الوطنية في عدد تموز/ آب 1959: "من مذبحة كفر الدوار(8)، ومن قانون كمال الدين حسين، وزير المعارف، الذي حدد عدد الطلاب في الجامعات، فرفضه مجلس الأمة لما أثاره من استنكار شعبي، فأعاده عبد الناصر مرة ثانية للمجلس الذي اُخطر للموافقة عليه تحت الضغط الشديد!.. نعرف هذه النظرة من ملء مكاتب النقابات العمالية بالجواسيس ورجال المباحث، وإلغاء حق الإضراب للعمال.. بل إننا نعرف ذلك من مراسل الأسوشيتدبرس (ولتون وين) الصديق الصدوق لعبد الناصر، الذي يذكر كيف عالج عبد الناصر مظاهرات الطلاب والعمال بطريقة فذّة فريدة تقضي بسجن المتظاهرين وقمع أعمال الشغب بالحديد والنار ويسمي هذه الطريقة بـ(طريقة عبد الناصر)".. ولكن لا.. لسنا في حاجة إلى العودة إلى التاريخ المصري القديم أو تاريخ القرن التاسع عشر.. أو النصف الأول من القرن العشرين لنعطى الصورة الحقيقية لشعبنا البطل.. يكفي أن نعرض نماذج ثمانية لبطولة شعبنا في ظل حكم عبد الناصر الإرهابي الرجعي.. في خمسينيات النصف الثاني من القرن العشرين..

إن أولئك الذين سقطوا في النضال الشريف العادل لدحض الأكذوبة الاشتراكية الديمقراطية التعاونية، إنما يضربون أروع مثل في التضحية.. والفداء.. فلندعهم يدحضون ما يتهم به عبد الناصر شعبنا من فردية وأنانية وحب ذات.. إنا لنسمع أبطالنا يصدحون في قبورهم بأغنية الإيثار وإنكار الذات(**):

إذا لم أحترق أنا..
وإذا لم تحترق أنت..
وإذا لم نحترق نحن..
فمن إذن..
يجلو الظلمات!!

ـ 1 ـ
محمد عثمان
في أواخر مارس 1959.. ربما في نفس اللحظة التي كان فيها صوت عبد الناصر ينطلق من المذياع مؤكداً أنه يبني.. مجتمعاً متحرراً من الخوف.. وربما في نفس اللحظة التي بدأت فيها أبواق عبد الناصر تبشر بالمجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني.. مجتمع الرفاهية والعدل والرخاء.. مجتمع يضمن للإنسان الأمن والطمأنينة.. طمأنينة على نفسه.. وعلى روحه.. وعلى فكره.. وعلى حريته.. الخ.. وربما في نفس اللحظة التي وصلت فيها بعثة من واشنطن أو بون.. وبدأت محاولات الغزل مع حسين أو سعود.. ويوجين بلاك..

انطلقت من مكتب المباحث العامة بطنطا عربة مقفلة.. ووقفت أمام أحد المنازل المتواضعة.. ونزل منها زبانية عبد الناصر.. لم يرهم أحد.. لأنهم اعتادوا أن ينطلقوا بعد الغروب.. وراء ظهر الملايين. لم يكن القاطن في ذلك البيت الصغير المتواضع النائم في ظلامين.. ظلام الليل وظلام العهد!.. مجرماً يسفك الدماء.. ولم يكن جاسوساً عميلاً لدولة أجنبية.. وإنما كان موظفاً بسيطاً.. عضواً في الحزب الشيوعي المصري ومناضلاً من أجل تحرر الطبقة العاملة المصرية. وفي اللقاء بين الزبانية وبين محمد عثمان.. التقت في الواقع:

طبقتان..
أنظر إليهما..
نحن..
وهم..
نحن عزّل..
وهم مدججون بالخناجر..
لدينا الأظافر فقط..
النضال.. النضال..
النضال حتى النفس الأخير..
سنمزق أيديهم..
بأسنانا..
والخنجر الحاد..
مغروس في ضلوعنا!

وانتزعته العربة المقفلة من والديه الكهلين وأخيه الصغير.. وانطلقت العربه المقفلة على محمد عثمان عائدة إلى مكتب المباحث العامة.. ومرة أخرى لم يرهم أحد.. ولم يشعر أحد بالتنور الذي يغلي في جوف البركان.. بالصراع العنيد الذي يدور.. بعيداً عن الأنظار.. وهناك في القبو المظلم.. أشرف الصاغ أنور منصور مفتش المباحث العامة في طنطا.. على عملية تعذيب محمد عثمان.. أجل طبقتان.. وجهاً لوجه.. في يد أحداهما كل وسائل القمع والتنكيل وفي يد الأخرى كل الثقة وكل الإيمان بعدالة قضيتها وشرف نضالها وحتمية النصر!!..

ماذا في وسع الجستابو لشيوعي..
فوق التعذيب الوحشي..
فوق الكي..
أو صب الماء المغلي..
بعد البارد
والبارد بعد المغلي..
ماذا في وسع الجستابو لشيوعي..
غير الموت!..

لم تكن تلك أول مرة يعتقل فيها محمد عثمان ـ فلقد اعتقل وسجن وعذب في عهد الملك السابق فاروق ـ ولكنها كانت آخر مرة.. فقد مات محمد عثمان في الثاني من أبريل 1959 عن اثنين وثلاثين عاماً:

لا داعي للدموع ولا للأكاليل..
ولا لغيرها..
يا أصدقاء..
لا داعي.. ولا لكلمة..
حتى لا توقظوا البطل!!..

بقيت مسألة.. ربما تضيف شيئاً.. إنها لا تضيف شيئاً.. فقد اشترك الصاغ أنور منصور في الكثير من عمليات التعذيب الوحشي التي تتنكر لكل الاعتبارات الإنسانية.. فهو نفسه الذي قص شعر المعتقلة إيفون حبش.. وتجاوز ذلك إلى التنكيل بأهالي المعتقلين.. دون أن يردعه أي عرف أخلاقي.. ودون أن يحترم حتى شيخوخة نصيف ناشد الذي يحمل على كتفيه خمساً وستين عاماً.. وهو والد المعتقل الشيوعي عريان نصيف ناشد.. ولم تقف وحشية المباحث الناصرية عند حد قتل الشهيد محمد عثمان.. بل اعتقلت شقيقه حسن عثمان.. ومارست معه شعائر التعذيب المميت في ليمان أبي زعبل.. حتى أشرف على الموت.. فنقل إلى مستشفى المنيل الجامعي.. ثم استمر اعتقاله!! وبقي من عائلة عثمان.. والدان كهلان.. وأخ صغير!..

ويلهم.. ذوي الأيدي الملطخة بالدم..
أيها الأصدقاء..
إذا ما لامستموهم صدفة..

ـ 2 ـ
مصطفى شوقي

بدأت الحادثة في طنطا أيضاً.. قلب الدلتا..

والضحية هذه المرة مصطفى شوقي.. طالب بمعهد السكرتارية.. كان مجنداً في القوات المسلحة وعضواً في الحزب الشيوعي المصري.. كان قد وهب نفسه للطبقة العاملة.. ولذلك انقضّت على منزله.. ربما نفس العربة.. ولابد أن سنواته الاثنين والعشرين تمثلت أمامه في عتمة الصندوق المغلق وهم ينقلونه إلى السجن الحربي في الإسكندريّة.. ثم إلى المخابرات العسكرية.. إلى قبو التعذيب..

"أربعة وعشرون ساعة في اليوم ـ لينين..
أربعة وعشرون ساعة ـ ماركس..
أربعة وعشرون ساعة ـ انجلز..
مائة جرام من الخبز الأسود.. في اليوم
وعشرون طناً من الكتب..
وعشرون دقيقة للراحة..
يا لها من أيام.. أوه..
لم يكن أجمل منها يا رفيقي"

ومرة ثانية التقت طبقتان.. وجهاً لوجه..

وتفتقت قريحة المباحث عن وسائل للتعذيب تتضاءل أمامها وحشية الرومان مع المسيحيين الأول.. ويتواضع أمام بشاعتها رجال الجستابو الهتلري.. فقد ربطوه بمؤخرة سيارة جيب قامت بسحله على الأرض..

بكل قواك تنفس
ولتعش الثورة..
في رأسك..
في قلبك..
في عضلاتك..
في عظامك..
الثورة..
ليلاً..
ونهاراً..

وفي أوائل يونيو 1959.. ربما في نفس اللحظة التي يولد فيها طفل، وتتفتح فيها زهرة، وتخرج فراشة لتستحم في الشمس.. فارق مصطفى شوقي الحياة.. وبينما كان يطبل المذياع، وتهلل الصحف، وتذمر الأبواق للبطل الزائف.. كان البطل الحقيقي يسقط على أرض المعركة في صمت!

وإذا كان ثمة رعد..
في الأرض أو السموات..
أكثر دوياً من هذا الصمت..
فليرعد!

ـ 3 ـ
فريد حداد

بدأ العمل..
وأنهاه..
وحين بدأ.. لم ينفخ النفير..
وحين أنهاه.. لم يصرخ: لم يقل:
"انظروا جميعاً.. ما فعلت.."
إنه على الأرض.. واحد من ملايين..!!

في الواقع كان يوماً حافلاً بالعمل.. قضاه الطبيب فريد حداد بين عيادته في مصر الجديدة وعيادته في شبرا.. لم تكن مهنة الطب بالنسبة إليه تجارة.. ولا جزارة.. كما هي بالنسبة لكثيرين.. فاليوم فقط كشف على كثير من العمال.. والفقراء.. واللاجئين الفلسطينيين.. مجاناً.. وصرف لبعضهم من جيبه ـ كالعادة ـ ثمن الدواء!!.. كان يؤمن في أعماقه بأن العلاج حق للجميع يجب أن تكفله الدولة.. كان يعرف أن في العالم دولاً تكفل لمواطنيها العلاج المجاني.. وكان يناضل ـ في صمت ـ من أجل أن تكون في مصر تلك الدولة.. دولة العمال والفلاحين.. أجل كان عضوا في الحزب الشيوعي المصري!.. وخرج ذلك المساء من عيادته.. مجهداً.. ولكنه كان راضياً.. رضى الإنسان حين يشعر أنه يفعل في يومه شيئاً.. وأنه غداً سيفعل شيئاً أكثر.. وبعد غد..! وفي الطريق كان يفكر في زوجته إيدا.. وفي أكباده الثلاثة.. ولابد أنه تبسم لنادرة من نوادر وديع.. ابنه الأكبر.. الذي لم يتجاوز العاشرة.. أو سامي الذي لم يتجاوز السابعة.. أو منى الصغيرة.. الزهرة التي تتفتح على السنة الخامسة من عمرها!!.. ما أجمل أن يعود الانسان إلى أسرته.. وعرق العمل لم يجف على جبهته.. إن بسمة الأطفال تمسح قطرات العرق.. وتُذهب التعب.. وتُجدد في النفس القدرة على العمل..!!

في تلك الليلة الباردة من ليالي نوفمبر، دخل فريد حداد منزله.. وانفتحت العربة المقفلة المتربصة على الناصية.. وانقض الزبانية عليه ونقلوه إلى معتقل القلعة..!! وهناك بدأت الشعائر الاستجواب والتعذيب.. ثم نُقل إلى أوردي ليمان أبي زعبل.. ومنذ أول يناير 1959، كان نزلاء الليمان من القتلة والمجرمين وقطاع الطرق قد رُحلوا إلى سجون أخرى.. ولم يكن ذلك لأن قنبلة قد أُلقيت على الليمان كما حدث ـ مثلا ـ أثناء العدوان الثلاثي، ولكن لأن موجة الاعتقالات الواسعة التي بدأت حينذاك اقتضت إخلاء عنابر الليمان من نزلائه القدامى لتستقبل أمواج المعتقلين.. وكان المعتقلون يمثلون جميع فئات الشعب المصري.. كان فيهم الكتاب والصحفيون والناشرون والمحامون والمدرسون والنقابيون والعمال والطلبة والفلاحون.. نفس الفئات التي وقفت في عام 1956 جبهة وطنية رائعة في وجه العدوان الثلاثي!!..

ووصلت دفعة فريد حداد إلى الليمان يوم 28 نوفمبر وكانت تتكون منه، ومن عبد الله الزغبي وأحمد عبد العال المحاميان، وسعد الطويل المهندس، وأحمد الجبالي العامل النقابي، ونسيم يوسف الموظف بإحدى الشركات، وأنور نعمان طالب الطب..
وكان الاستقبال "حارا".. ولكن على طريقة الجستابو.. جُرد الجميع من ملابسهم تماماً.. وانهال الضرب بالهراوات.. على كل مكان في أجسامهم.. على الرؤوس.. والرقاب والصدور.. أما المشرفون على هذه "العملية الجراحية"، فهم الضباط حسن منير ويونس مرعي و.. اسحق والصول أحمد مطاوع.. وطُلب من فريد أن يهتف بسقوط الشيوعية ورفض.. وراح يونس مرعي يوليه عناية خاصة.. ويركز ضرباته على الرأس.. وفقد فريد حداد وعيه كما فقده آخرون، ولكن مواصلة الضرب هي المنبه الوحيد لدى الجستابو.. لمن يفقد الوعي!! ونُقل الجميع نصف موتى إلى الليمان.. وهناك أُعيدت الشعائر!!.. مرة ثالثة.. ثم كُدسوا في زنزانات 2.5×2 متر.. وفي الزنزانة فارق فريد حداد الحياة..

وقال طبيب السجن..
وهو يغطي وجه الراقد..
برداء المساجين..
"انتهى"

فألقوا بالجثة العارية في فناء الأوردي ساعات طويلة.. ثم حرر الطبيب الأوردي "الدكتور أحمد كمال" شهادة طبية مزيفة، قرر فيها أن فريد حداد مات بالسكتة القلبية.. ووُضعت الجثة المشوهة من جراء التعذيب في نعش.. وخُتم عليها بالشمع الأحمر.. وسُلمت إلى زوجته في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل مع أمر بدفن الجثة على الفور.. وطلب أهل الشهيد إجراء عملية تشريح للجثة.. ولكن المباحث العامة رفضت إجراء العملية لأن طبيب السجن قال إنه مات بالسكتة القلبية..!!

كانت رأسه رائعة
وقلبه أصيلا..
وعيناه نقيتين كعيني طفل..
وعقله عميقاً..
ونظرته.. مرحة.. في طفولة..
أما قبضته.. فبدا أنها تنضم
على عاصفة..

وخرجت جريدة الأهرام صباح 30/ 11/ 1959 وعلى صفحة الوفيات النعي التالي: "إيدا وأولادها وعائلات حداد وكاري وحنا بمصر والأردن ولبنان ينعون بمزيد الحزن والأسى المأسوف على شبابه الدكتور فريد وديع حداد زوجها ووالدهم وشقيقهم وقريب ونسيب الباقين المنتقل إلى الأمجاد السماوية صباح الأحد 29 نوفمبر 1959".. في موت فريد تتمثل الوحدة الحقيقية لا المزيفة.. وحدة النضال ضد الاستعمار والرجعية..

كان مناضلاً..
وصديق القلب..
فليبتهج الأعداء..
أما الأصدقاء فليظلوا في الصف..
إيه يا رفيقي..
سنبكي معاً مرة ثانية..
على برقية.. جاءت ليلاً!!..

ـ 4 ـ
سعد التركي

كان مثلي.. كان مثلك..
مثل كل الناس من لحم ودم..
مثلما نبسم للطفل حناناً..
كان يبسم..
مثلما نألم للوخزة.. للخدشة..
يألم..
مثلما نهوى الحياة..
كان يهواها..

كان يهواها سعد التركي.. الموظف البسيط بمجلس مديرية بني سويف وعضو الحزب الشيوعي المصري.. كان يهواها.. لا لأنه يكره الموت.. وإنما لأنه لا يؤمن به..

الحياة أرجح في الميزان
العالم واسع..
إنه رائع..
وهائل..
وشطآن البحار..
لانهائية..
لدرجة أنه في إمكاننا جميعاً..
كل مساء..
أن نستلقي جنباً إلى جنب..
على الرمال الدافئة..
ونصيخ إلى هدير المياه تحت الأرض..
وننصت إلى أغنيات الأمواج..
المرصعة بالنجوم..
يالها من شيئ رائع..
أن نعيش..
فرادى..
ومعاً..
نعيش كنسيج غلالة حريرية..
وكما في قصيدة بهيجة..
نقرأها كورساً..
............
الحياة.. كم هي في الواقع رائعة..
ولكن من الغريب..
إنها ذلك الشيئ الجميل..
لدرجة لا تُصدق..
اليوم..
متعبة إلى هذا الحد..
وضيقة إلى هذا الحد..
وشاقة إلى هذا الحد..
ودامية إلى هذا الحد..

ففي أول يناير 1959 انقض عليه زبانية عبد الناصر.. أعداء الحياة..

أعداؤك..
وأعدائي..
أعداء كل إنسان يفكر،
أعداء الوطن الذي يعيشون فيه..
أعداؤه يا حبيبتي..
إنهم أعداء آمالنا.. يا حبيبتي..
أعداء الماء المتدفق..
أعداء الخمائل المزهرة..
والحياة النامية..
إنهم أعداء..
لأن الموت طبع خاتمه على جباههم..

لقد حملوه إلى المعتقل.. وبدأت مراسيم الضرب والكي والنفخ وخلع الأظافر..

هناك في الطرقه..
إنسان على نقاله..
وظل القضبان،
على وجهه الكابي..
إنه يموت هناك..
مفتوح الفم..

فأفرجوا عنه.. وخرج من المعتقل محمولاً.. ليموت بعدها بقليل في 31 ديسمبر 1959 عن ثلاثة وثلاثين عاماً:

انتهى.. لا آمال منذ الآن..
ولا حزن،
ولا ماء، ولا خبز..
ولا حرية، ولا أسر..
ولا شوق إلى النساء..
ولا سجان،
ولا بقّ،
ولا قطط تقبع قبالته..
بالساعات..
محدقة في عينيه..
كل ذلك انتهى..
أما بالنسبة إلينا فهو مستمر..
العقل يواصل..
التفكير..
والحب..
والفهم..
ويستمر السخط..
لأنه أبدي..
ينهش الكبد..
كل صباح!

ولكن السفاحين لم يكتفوا بذلك.. فقد اعتقلوا شقيقه الوحيد صلاح التركي المدرس بالمدرسة الثانوية ببني سويف.. ومازال معتقلا حتى الآن في أوردي ليمان أبي زعبل.. يتلقى المراسيم اليومية على أيدي المباحث النجسة:

أيها الأصدقاء..
إذا ما لامستموا أجسامهم صدفة..
أسرعوا بغسل أيديكم..
في سبع "طشوت" من الماء..
ولا تشفقوا على ثياب العيد الجميلة..
مزقوها إربا..
واجعلوا منها "منشفة"!

ـ 5 ـ
علي متولي الديب

إن ملولي الحي..
هؤلاء المسمرين في سررهم..
ينظرون إلى ما وراء النوافذ

فتح عينيه ـ منذ الصغر ـ فرأى كيف يبيع العمال قوة عملهم في سوق الرقيق بسعر التراب.. ورأى الجوع.. والعري.. والهزال.. والمرض.. على الوجوه القمحية الكابية.. ورأى العروق النافرة في الأذرع الجافة الخشنة.. ورأى البسمات ماتت في الأعين الساخطة منذ زمن طويل.. ورأى الأقبية المظلمة والكهوف الرطبة الغائرة والسراديب اللزجة التي يعيش فيها العمال.. ورأى الطفولة تُساق إلى أشق الأعمال في سن التاسعة.. ورأى البطالة، ذلك الغول الذي يزحف إلى كل أسرة ليخطف من فم الأطفال حتى اللقمة الجافة، ويتركها فريسة للجوع والعجز دون أي ضمانات.. ورأى يوم العمل الذي يمتد من 12 إلى 16 ساعة بأجور زهيدة، بل واسمية.. ورأى الأطفال والنساء يتقاضون نصف الأجور على نفس العمل الذي يقوم به الرجال.. رأى كل ذلك لأنه ابن الطبقة العاملة المصرية.. ومن قلب شبرا الخيمة.. حي العمال بالقاهرة.. ولذلك أدرك:

إنهم يريدون
أن نبيع لهم بلا ثمن..
إلى أن يبرد جوف الأرض..
نور أفكارنا..
وقوتنا العضلية
لكي ترقص زوجاتنا
أمام أعينهم!
إنهم يريدون..
أن نقضي نحن الليالي..
تحت جسور الأنهار
عندما يلف الضباب عيوننا..
وتبطء حركة الدم في عروقنا..
ونبدأ في التنفس..
كالأسماك على الرمل!

ومن ثم اختار عامل النسيج علي متولي الديب طريق النضال من أجل الطبقة العاملة ضد أولئك الذين يمتصون دماءها قطرة قطرة، بل جالوناً.. جالوناً.. النضال من أجل تحررها.. من أجل خلاصها.. من أجل القضاء على نظام الطبقات، حيث يستغل الإنسان عمل أخيه الإنسان، وحيث تكدح الأغلبية الساحقة لتضمن الرفاهية للأقلية الهزيلة.. مجتمع.. بلا جوع.. بلا عرى.. بلا مرض.. بلا بطالة.. مجتمع يأكل فيه من يعمل.. ولا يأكل من لا يعمل.. مجتمع يضمن للأطفال أن يعيشوا طفولتهم.. يلعبون ويمرحون.. وينعمون باللعب.. والشيكولاته.. ولا يُكدسون في العربات كقطيع من الحملان.. ليمتص طفولتهم دخان المصانع..
وعرف أن الحزب هو الدليل إلى المستقبل.. هو الحادي لخطى الملايين المتطلعة إلى الخلاص.. هو الطليعة التي تقود الزحف.. فأصبح عضوا في الحزب الشيوعي المصري، كما أصبح عضواً لمجلس إدارة نقابة عمال النسيج الميكانيكي بشبرا الخيمة.. ومن أبرز الشخصيات النقابية في الحي..

وراح متولي الديب يخطو بثبات.. بعناد.. بإصرار.. على الطريق إلى المستقبل المنشود..

يسير..
بجبهة مرفوعة إلى السماء..
وتلفيعة حمراء ترفرف في الهواء كما علم..
يسير خطوة بعد خطوة..
يتقدم بقوة ورسوخ..
يسير..
والريح يهدر كالبحر..
والبحر يهدر كالريح..
الهواء محمل بالعاصفة..
وتسيل من الجانبين خيوط الضوء..
كما لو كانت النجوم تتهاوى..
وتدوي أصوات من الأعماق..
من زوايا القلب البعيدة:
ـ إلى أين تذهب يا طفلي؟
ـ عد يا بني..
ـ عد يا حبيبي..
ـ عد يا أخي..
ـ عد يا عائل الأسرة
ـ ارجع إلينا!

أجل.. لم يثن علي الديب عن النضال كونه العائل الوحيد لأسرته.. لأمه العجوز.. وزوجه.. وأبنائه الأربعة.. كان يعلم حين انطلق في طريقه الأخطار التي تنتظره.. كان يدرك جيداً أن قطاع الطرق ـ المباحث ـ يقبعون هناك في المنعطفات.. ولكنه مضى.. وكان يشعر كلما حثّ المسير بأنه يقترب أكثر ـ ولا يبتعد ـ من أسرته.. لأنه يقترب من خلاص الطبقة العاملة.. من الفجر الجديد.. لذلك.. كان يسير:

يسير أبداً..
شجاعاً، وحانقاً..
يسير مترنماً بلحن الموت..
يسير متهادياً.. كسفينة..

وانقض القراصنة من كل جانب.. في مارس 1959.. وقطعوا عليه الطريق.. وحملوه إلى معتقل الفيوم ثم إلى أوردي ليمان أبي زعبل.. وتحت وطأة التعذيب.. مرض علي الديب.. فتُرك حتى فقد القدرة على النطق.. ثم نُقل إلى المستشفى.. بقايا إنسان.. ليموت في 3 يناير 1960 في الثانية والثلاثين من عمره..

لا.. لم يمت علي الديب..
فهو في صدري وصدرك..
هو في قلبي وقلبك..

ـ 6 ـ
شهدي عطية
"لنا منهج واضح في هذه الدراسة، منهج علمي قوامه أن تاريخ التطور الاجتماعي، هو، أولاً وقبل كل شيئ، تاريخ الشعوب. وأن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً حقاً، إذا قصر نفسه على دراسة أعمال الملوك وقواد الجيوش، وأخبار الغزاة، وتفاصيل المفاوضات والمعاهدات".

انطلقت هذه الكلمات(9)، وأجراس النصر ما تزال أصداؤها تدوي في سماء مصر، بعد اندحار الثالوث الوحشي ـ إنجلترا وفرنسا وإسرائيل ـ في معركة بورسعيد الخالدة. انطلقت ودماء الشهداء ما تزال لزجة دافئة على أرض المعركة.. لم تبرد.. ولم تجف. انطلقت وغبار المعركة مازال يلف جبهة العمال والفلاحين والمثقفين.. الكتاب هو "تطور الحركة الوطنية المصرية 1882ـ1956".. والمؤلف هو "شهدي عطية الشافعي".. وقبل ذلك بسنوات.. كان قد صدر كتاب آخر، جاء فيه(10): "إن ظروف التاريخ أيضاً مليئة بأدوار البطولة المجيدة التي لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه، ولست أدري لماذا يخيل إلى دائماً أن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يُخيل إلي أن هذا الدور الذي أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا، قد استقر به المطاف متعباً منهوك القوى على حدود بلادنا يشير إلينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور ونرتدي ملابسه فإن أحداً غيرنا لا يستطيع القيام به"..!!

والكتاب هو "فلسفة الثورة".. والمؤلف هو "عبد الناصر"..
لدى شهدي إيمان بالشعب.. إيمان بأن الجماهير.. هي التي تصنع التاريخ، ولدى عبد الناصر إيمان بالفرد.. إيمان بأن الأبطال هم الذين يصنعون التاريخ!!.. لدى شهدي مفهوم علمي ناضج للتاريخ.. ولدى عبد الناصر مفهوم فردي.. فاشي.. مريض.. لدى شهدي المفهوم الذي يصنع أبطالاً من طراز تيلمان وفوتشيك وفهد وفرج الله الحلو وديمتروف.. يفتدون شعوبهم بالدم..! ولدى عبد الناصر مفهوم يفرخ السفاحين من أمثال هتلر وموسوليني وفرانكو.. الخ.. يُغرقون شعوبهم في بحار من الدم..!!!

يقول عبد الناصر(11): "إن كل فرد منا يستطيع في مكانه أن يصنع معجزة.. إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدوار بطولة مجيدة قاموا بها في ظروف حاسمة على مسرحه".

ويقول هتلر في كتابه كفاحي: "إن الأمم لا تنجب رجل دولة إلا في الأيام المباركة، وما أقلها.. ولا ننسى كذلك أن كل ما حققته عبقرية الإنسانية منذ أن كان عالمنا هذا عالماً، كان من صنع الأفراد".

ويقول شهدي عطية(12): "نعم، إن للزعماء والقادة دورهم في التاريخ، ولكنهم لا يستطيعون أن يلعبوا هذا الدور إلا بمقدار ما يمثلون مصالح شعوبهم، إلا بمقدار إدراكهم لقوانين التطور للمجتمع، إلا بمقدار ما يمثلون قوة متقدمة قد تهيأ لها ظروف النضج، بحيث تستطيع فعلاً أن تسير بالمجتمع خطوة إلى الأمام. ومع هذا يستمر المحرك الحقيقي للتاريخ هو الشعوب، وتحركاتها، وثوراتها، وتنظيمها.."!

من هنا كان الاغتيال إحدى الوسائل التي لجأ إليها عبد الناصر للتحويل (التغيير) الاجتماعي.. ثم كان المنطق الانقلابي.. منطق العصابات.. هو الوسيلة الثانية للتحويل الاجتماعي لدى عبد الناصر.. دون اتصال بالشعب.. دون الاعتماد على جذور شعبية.. دون الاستناد إلى قاعدة من الملايين.. أما لدى شهدي عطية.. فالوسيلة الوحيدة هى "التحركات العميقة المنتظمة التي تعبر عن أن نظاماً اقتصادياً وسياسياً معيناً أصبح لا يصلح للبقاء، أصبح معرقلاً لتقدم القوى الإنتاجية، أصبح محطماً لمستوى المعيشة للشعب وثقافته. ومن ثم يتعين وجود نظام آخر سياسي، ونظام آخر اقتصادي، تهب الملايين بقيادة زعمائهم من أجل تحقيقه".
هناك انقضاض مفاجيء من أعلى.. ومن خلف ظهر الجماهير.. وفي معزل عنها.. وهنا انطلاق من الجذور.. من قلب الجماهير.. هناك تغيير في الواجهة.. في اللافتة.. في القمة فحسب.. وهنا تغيير في الأساس.. في الجوهر.. في البناء كله.. من القاعدة إلى القمة..!!

هناك طبقة جديدة تحل محل أخرى.. ليظل النظام طبقياً.. تستبد فيه الأقلية بالأغلبية.. وهنا قضاء على الطبقات، وتحرير للأغلبية من استبداد الأقلية..!!

ومن هنا أيضاً.. اتجه عبد الناصر إلى الشعب اتجاهاً مصلحياً.. يوم كان مصيره على خيط رفيع.. ثم أدار ظهره للشعب بعد أن تمّ الانتصار على العدوان الثلاثي..

أما شهدي.. فيواصل مع الجماهير الشعبية رحلتها الشاقة إلى المستقبل ويربط مصيره بمصير شعبه.. ويضرب عبد الناصر الجبهة الوطنية ويُعمل فيها التخريب.. أما شهدي.. فيُصر على التمسك بالجبهة الوطنية(13): "جبهة تضم الطبقات والعناصر المعادية للاستعمار والصهيونية في الخارج، والمعادية للاقطاع والاحتكار في الداخل، جبهة تضم الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين والطلبة وصغار أصحاب المتاجر والمصانع الصغيرة والرأسماليين الوطنيين بكافة أقسامهم، سواء كانوا أصحاب مصانع متوسطة أو كبيرة، وأثرياء الريف الذين يشرفون على إدارة أملاكهم ويستخدمون العمل المأجور...ثم أي عناصر أخرى وطنية، طالماً هي مستعدة للكفاح ضد الاستعمار والصهيونية، وطالما هي معادية للاقطاع والاحتكار.. هذه الجبهة يجب أن تضم كافة المنظمات الجماهيرية القائمة من نقابات عمالية واتحاد عام لها، ومن نقابات مهنية ونقابات عمال زراعيين واتحادات فلاحين، كما يجب أن تعمل الجبهة على تدعيم هذه المنظمات، باجتذاب عدد أكبر من الجماهير إليها، وبأن تكون قيادة هذه المنظمات منتخبة انتخاباً حراً.. ومنبعثة من الجماهير، ومكونة من العناصر التي يثق بها الشعب، والتي تحرص على خدمته.. إن قيام جبهة كهذه وتمثيلها في الحكم، يستطيع أن يحقق للبلاد مزيداً من الديمقراطية ومزيداً من الحريات.. كما يستطيع أن يقطع دابر أية مؤامرات استعمارية، وأن يكشف ألاعيب أي عناصر معادية أو متخلفة.. هذه الجبهة في ظل ديمقراطية سليمة! تستطيع فعلاً أن تدعم استقلالنا السياسي والاقتصادي، بل تستطيع أكثر من هذا أن تمهد الطريق نحو تطور غير رأسمالي لاقتصادنا.".

ويعمل عبد الناصر لتطوير الرأسمالية المصرية.. وينشد شهدي بناء المجتمع المصري الاشتراكي.. ويكتب شهدي عطية عن الجنود المجهولين الذين سقطوا في ثورة 1919(14): "الجند المجهولون.. الشهداء من أبناء الشعب! من أبناء بولاق وباب الشعرية والخليفة والخرنفش وكرموز والعطارين وبركة السبع وكفر الشيخ وميت القرشي وديروط ودير مواس.. المجهولون أمثال الكردي، وأبو سريع درويش، فرحات، غريب، السجيني، من سكان بولاق من عمال العنابر. محمد جاد، هلالي جنيدي، حسان مشرقي.......... على أكتاف هؤلاء الملايين، قامت الثورة، ومن هؤلاء، سقط ثلاثة آلاف شهيد. ومن هؤلاء حُكم بالإعدام والأشغال الشاقة والسجن على آلاف أخرى".

ويكتب شهدي عن دور الطبقة العاملة المصرية في ثورة 1919(15): "اشتركت الطبقة العاملة بكل قوتها في ثورة 1919، ولكن كان مستحيلاً ألا يكون لها حركتها الخاصة بها، فكما اشتعلت الحركة الوطنية، اتسعت الحركة النقابية عمقاً وعرضاً..". ثم يعرض التحركات الشعبية التي لم تتوقف بين 1924ـ1945، والشهداء من العمال والطلبة والفلاحين.. حتى يصل إلى قوله(16): "وبدأ التفكير العلمي للتاريخ وللحركة الوطنية يسود بعض الأجزاء المتقدمة من الطلبة والعمال، وأخذوا يعبرون عن أفكارهم هذه في نواد ومجلات مختلفة، وتمخضت هذه الأفكار عن تحديد دقيق للأماني القومية". وذلك في أواخر 1945.. ثم تكون اللجنة الوطنية للعمال والطلبة الذي فتح "مرحلة جديدة في المعركة الوطنية".. ثم معركة القنال وشهدائها الذين قدرهم البعض بستمائة.. ثم معركة السويس.. ثم كفاح الطبقة العاملة.

ـ 7 ـ
رشدي خليل
البورجوازية تتحدانا..
ونحن قبلنا التحدي!
إننا لا نعرف الضحك المشترك فحسب..
بل والنداء العام إلى النضال:
في الموت وفي الحياة
الفرد من أجل الجميع
والجميع من أجل الفرد..

كان كل شيء يدفعه إلى اعتناق هذا المبدأ.. فلقد عاصر أحداث الحرب العالمية الثانية، واستشهد أخوه الطيار في النضال الخالد.. نضال الإنسانية التقدمية ضد الفاشية الرجعية الدموية.. ومن يومها، كره محمد رشدي خليل الحرب.. كما كره الفاشية.. وألقى بنفسه في آتون النضال الشعبي ضد الاحتلال البريطاني.. وعرفه طلاب حي شبرا بالقاهرة قائداً ومنظماً للحركة الطلابية الوطنية.. وكانت المدارس والجامعات يومها بوتقة ينصهر فيها أبطال المستقبل.. كان ذلك في أواخر 1945.. عندما.. "بدأ التفكير العلمي للتاريخ وللحركة الوطنية يسود الأجزاء المتقدمة من الطلبة والعمال، وأخذوا يعبرون عن أفكارهم هذه في نواد ومجلات مختلفة، وتمخضت هذه الأفكار عن تحديد دقيق للأماني القومية".. وتقدمت الحكومة النقراشية من خلف ظهر الشعب بمذكرة إلى الحكومة البريطانية تضع مبدأ التحالف مع بريطانيا أساساً محدداً للعلاقات المصرية البريطانية..

واشتد سخط الشعب.. وبدأت الاضرابات الطلابية.. وخرجت المظاهرات.. وكانت مذبحة كوبري عباس الشهيرة.. فانفجر البركان الشعبي.. واستقالت الوزارة.. ليجيء إلى مقعد الرئاسة السفاح إسماعيل صدقي.. وتطلع الطلبة ـ كما يقول شهدي عطية ـ حولهم، ماذا عساهم صانعين. وبدأت الاتصالات بين الطلبة والعمال.. وكان أن تكونت في مدرج كلية الطب بالقاهرة "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة"، التي تسجل مرحلة جديدة في المعركة الوطنية، منذ 1946.

وبظهور هذه اللجنة تبلور وعي رشدي خليل السياسي.. فأصبح جنديا في صفوف قوى التحرر والديمقراطية والسلام.. فلقد رأى رشدي مظاهرة 21 فبراير 1946، التي ضمت ما يزيد عن الأربعين ألفا.. وقيل مائة ألف.. ثم تصدت لها السيارات البريطانية، وانطلق الرصاص من كل جانب، وسقط من الشهداء ثلاثة وعشرين قتيلاً، و121 جريحاً.. وركزت حكومة صدقي اضطهادها على تلك القيادة الجديدة التي ظهرت على مسرح النضال الشعبي ضد الاستعمار والاقطاع والاحتكار.

التحق رشدي بكلية الهندسة جامعة عين شمس.. وعرفه الطلاب قائداً وطنياً مخلصاً ومناضلاً صلباً.. يحمل شعارات إسقاط الملكية.. ويقود المظاهرات الطلابية ضد فاروق والإنجليز.. وطاردته المباحث العامة الخاضعة للسراي والإنجليز.. ولكن زملاءه من الطلاب وأهالي حي شبرا ساعدوه على الاختفاء عن أعين البوليس السياسي.. وفي عام 1953 شارك في تأسيس "اللجنة التحضيرية لاتحاد الطلاب المصريين العام"، وشارك في إصدار صحيفتها "وحدة الطلبة" التي أعلنت برنامج الاتحاد الذي طالب بحق الطلاب في المجانية الكاملة للتعليم وبإطلاق الحرية للطلاب في تنظيم أنفسهم والتعبير عن آرائهم.. واعتُقل رشدي خليل عام 1954 لمطالبته بالدستور والحريات الديمقراطية، ولاحتجاجه على إعدام القائدين العماليين خميس والبقري في مذبحة كفر الدوار الشهيرة!!.. كما كان اعتقاله خوفاً من نجاحه في انتخابات الاتحاد بجامعة عين شمس، نظراً للتأييد الطلابي الواسع الذي ناله.. وكان رشدي قد أصبح مهندساً وعضواً في لجنة منطقة شبرا بالحزب الشيوعي المصري.. وبدأ العدوان الثلاثي على مصر 1956 فلعب دوراً بطولياً في حركة المقاومة الشعبية في القاهرة.. وفي حي شبرا على التخصيص.. حيث كون فرقاً من العمال والطلاب اشتركت في صد العدوان، كما نظم استقبال المهاجرين من بورسعيد وساعدهم في الحصول على المسكن والملبس والمأكل.. وفي نفس الوقت، شارك في تنظيم سفر المناضلين الوطنيين إلى الجبهة.. وكان لأحاديثه مع الوطنيين أثر كبير في تعميق وعيهم بخطر المؤامرة الاستعمارية وضرورة تماسك ورصّ الصفوف لحماية الاستقلال الوطني.. مهما كانت الاتجاهات السياسية.. واشترك في كتائب الجامعة التي سافرت إلى الشرقية في 1956.. وواصل كفاحه من أجل توحيد الصفوف الوطنية، وبناء الجبهة الوطنية الديمقراطية المعادية للاستعمار.. ثم.. ثم بدأت الحملة الفاشية المعادية للديمقراطية والهادفة إلى المساومة مع الاستعمار والرجعية..

بكل قواك تنفس
ولتعش الثورة..
في رأسك..
في قلبك..
في عضلاتك..
في عظامك..
الثورة..
ليلاً..
ونهاراً..
..........
وانقضوا ليلاً..
ذلك أن العادة قد جرت..
بألا يقوم البوليس بالهجوم والتحري..
في ضوء النهار!!..

ولم يكتفوا بخطفه.. بل أخذوا معه أخاه الدكتور فتحي خليل.. وفي أقبية المباحث بالقاهرة.. تولى الجستابو مكافأته بسائر وسائل التعذيب، مع نضاله السنوات طوال من أجل حياة أفضل لشعبنا.. لجماهير العمال والفلاحين.. للأطفال.. للأجيال القادمة.. ولم تفلح كل وسائل الجستابو الوحشية إلا في أن تزيد من تمسكه بعقيدته..!! ومن كراهيته للفاشية..!! ومن ثم نُقل مع أحد الأفواج إلى ليمان أبي زعبل.. وواصل الجستابو المراسيم.. حتى التسخير في قطع الأحجار.. وواصل رشدي خليل الصمود.. والإصرار على الصمود.. وأمر الضابط حسن منير بتذنيب عشرين من المعتقلين، فوُضعوا في زنزانة 2.5×2متراً، بدون غطاء ولا فراش، فتعذر عليهم الجلوس.. واستمر تذنيبهم أربعة أيام، وكان رشدي خليل من بينهم:

الزنزانة صامتة..
كثور جريح..
ينزف الدم من قلبه..
الدخان يتصاعد في السماء..
والظلال تزحف على الأرض..
ونحن خلف القضبان..
صامتون..
صامتون..
كالرصاص في الماسور..

وهناك في الخارج.. يتربص الشعب.. كالبركان.. كالبحر..

أتسمع..
هناك في مكان ما..
يهدر البحر..
يهدر..
كما لو كانوا..
يقطعون غابة!

وخرج رشدي من الزنزانة مصاباً بالحمى.. لا ليقدموا له العلاج.. بل ليتلقاه الزبانية بالضرب.. حتى يُصاب بكسر في قاع الجمجمة.. فيُنقل إلى سجن القاهرة.. في 23 يونيو 1959 أو1960.. وفي نفس اليوم.. يموت.. عن تسع وعشرين عاماً..

ـ 8 ـ
سيد أمين

ابن العمال شيوعي..
كان لابد لسيد أمين أن يعتنق هذا المبدأ.. فهو ابن آخر من أبناء الطبقة العاملة.. وُلد في أحضانها.. وفتح عينه على قضاياها.. ورضع منها روحها النضالي.. وثوريتها.. وطموحها إلى الخلاص.. التحرر..!!

إنه عامل نسيج وعضو مجلس إدارة النقابة العامة لعمال النسيج الميكانيكي بالقاهرة وعضو الحزب الشيوعي المصري.. عرف أن الاشتراكية تعني:

أن الأيدي إذا اتحدت..
تستطيع أن تزلزل الجبال..
دون أن تفقد شكلها أو حرارتها..
الفردية في الوقت نفسه..
أن الاشتركية..
هي عندما لا تنتظر محبوبتنا
شيئاً منا..
لا دراهم، ولا مجداً..
عدا الأمانة والإخلاص..
الاشتراكية هي عندما تعرف
القوانين السعادة..
كما لو كانت من واجبات الناس..
أو مثلاً..
..........
عندما يدلف الناس إلى الشيخوخة..
هادئين مطمئنين دون خوف أو وجل..
كما يدخلون جنة وارفة الظلال..
عندما.. وهذا جوهر الموضوع..
(تسمع) في كل مكان ضحكات الأطفال
وخدودهم حمراء حمرة خدود التفاح..
ولكن ضحكات الأطفال كافة لا بعضهم..!!

ولذلك وهب نفسه للنضال من أجل الاشتراكية!! لكن ذلك لم يرق لمباحث "الاشتراكية الزائفة"، التي تقوم على حماية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتي تحمي الرأسماليين من العمال على حد تعبير عبد الناصر نفسه.. لم يرق لها أن يفهم سيد أمين الاشتراكية الحقيقية، التي تقضي على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتقضي على طبقة الرأسماليين، وتحرر العمال من العبودية إلى الأبد!!.. من ثم.. انقض الجستابو ليلاً.. وحملوه إلى معتقل الفيوم.. وحاولوا أن يجبروه على الإيمان باشتراكيتهم المزيفة.. هو الذي يرى بشاعتها.. في المصنع.. والنقابة.. كل يوم.. كل لحظة.. يرى الاستغلال يمتص دم إخوانه العمال قطرة.. قطرة.. يرى القمع والإرهاب.. يرى الجواسيس المنبثين في كل زوايا المصنع.. والحي.. والمدينة.. يرى المخالب القذرة المندسة في حنايا النقابة.. يرى القوانين التي يُحسب فيها حساب لكل شيء.. إلا لمصلحة العمال.. يرى حقوق الطبقة العاملة مهدرة.. ومصادرة.. يرى مستوى المعيشة المستمر في الانخفاض.. ومستوى الأجور.. وعدد ساعات العمل.. ويرى في نفس الوقت مظاهرات التدجيل بالاشتراكية..

وباشر الجستابو معه كل وسائل الإقناع.. وسقط سيد أمين فريسة للمرض.. دون أن يقتنع.. ثم نُقل إلى مستشفى المنيل الجامعي.. ليموت في أكتوبر 1960..

أيها العمال في كل مكان..
دقت الساعة كونوا يقظين..
ـــــــــــــــــــــ

(*) كتب الشاعر والمخرج الراحل نجيب سرور هذا النص النادر وغير المنشور، في منتصف القرن الماضي، تحت عنوان "مقدمة لابد منها"! ولقد حصلت على هذه الوثيقة القيمة من أرملة نجيب الروسية السيدة/ ساشا كورساكوفا، وذلك أثناء كتابتى لـ "دون كيخوته المصري"، والكتاب دراسة علمية وثائقية، تحت الطبع، تناولت فيه بالتحليل حياة وفكر نجيب سرور! والثابت أن المبدع الراحل نجيب سرور أراد لهذا النص القيّم أن يكون مُقدمة لديوانه غير المنشور "إنه الإنسان"، والذي كتبه أثناء دراسته للإخراج في موسكو! والنص يشي في مجمله باعتناق صاحبه للشيوعية، وإن كان نجيب قد تحوّل عنها لاحقاً إلى الفكر الأنسني. (ح. خ).
(1) الثمانية هم شهدي عطية الشافعي، فريد حداد، محمد عثمان، رشدي خليل، سيد أمين، مصطفى شوقي، سعد التركي، علي متولي الديب. (ح. خ).
(2) جمال عبد الناصر، فلسفة الثورة، القاهرة: وزارة الإرشاد القومي، الهيئة العامة للاستعلامات، بدون تاريخ، ص 53. (ح. خ).
(3) كتاب "كفاحي"، كتبه الألماني الشهير أدولف هتلر في أعقاب حلّ حزب العمال الألمان الوطني الاشتراكي عام 1923 وخضوعه للاعتقال عام 1924، وفيه تحدث هتلر عن أهداف حركته وتطورها، فضلاً عن حديثه عن نفسه، راجع: أدولف هتلر، ترجمة لويس الحاج، كفاحي، بيروت، دار صادر للطباعة والنشر & دار بيروت للطباعة والنشر، 1963. (ح. خ)
(4) جمال عبد الناصر، م. س. ذ، ص 19 ـ 36. (ح. خ)
(5) ثم أيد مشروع الاتحاد القومي. (ن. س)
(6) من بيان للديمقراطيين المصريين بالاتحاد السوفيتي. (ن. س)
(7) جمال عبد الناصر، م. س. ذ، ص 21. (ح. خ)
(8) التي أُعدم فيها العاملان المناضلان خميس والبقري. (ن. س)
(**) الأشعار الواردة في هذا النص في معظمها ترجمة سرورية لأشعار الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت. (ح. خ)
(9) شهدي عطية الشافعي، تطور الحركة الوطنية المصرية 1882 ـ 1956، القاهرة: دار شهدي للطبع والنشر والتوزيع، 1983، ص 3. (ح. خ)
(10) جمال عبد الناصر، م. س. ذ، ص 53. (ح. خ)
(11) جمال عبد الناصر، م. س. ذ، ص 22 ـ 53. (ح. خ)
(12) شهدي عطية الشافعي، م. س. ذ، ص 3. (ح. خ)
(13) شهدي عطية الشافعي، م. س. ذ، ص 239 ـ 241. (ح. خ)
(14) شهدي عطية الشافعي، م. س. ذ، ص 41 ـ 42. (ح. خ)
(15) شهدي عطية الشافعي، م. س. ذ، ص 42 ـ 45. (ح. خ)
(16) شهدي عطية الشافعي، م. س. ذ، ص 95. (ح. خ).