تجول الكاتبة، في حوارها الداخلي، بين إسميها اللذين حملتهما، وبين زمنين عاشتهما. "حكمت" الطفلة التي أودعتها في صيدا، و"يمنى" التي أصبحت أستاذة جامعية، مناضلة يسارية، أديبة. تستعيد في تجوالها الخسارات التي تسببت بها الحرب الأهلية والأحلام التي قوضتها.

يمنى العيد: في إشعال الحياة

ربـاب دبـس

 

يضعنا مؤلفا يمنى العيد "أرق الروح، سيرة 2013" و "زمن المتاهة، سيرة روائية  2015" الصادران عن دار النهار، أمام سيرة ذاتية خالصة، لا تني الكاتبة تأخذنا عبرها إلى حوار وجداني وعميق مع نفسها بين الاسمين اللذين حملتهما في مراحل حياتها منذ الصغر إلى يومنا هذا: "حكمت" و"يمنى"، فتستنطق كلًا منهما وتسائلهما بعد أن فصلتهما عن بعضهما البعض سنينا طويلة، لا تقاس بالأرقام بل بالتحوّلات التي عاشتها الكاتبة في "يمنى" إسمها الثاني الذي اختارته وكبرت في ظله حين انخرطت في النضال والثقافة والتعليم.

زمن ومكان أولان
يتخذ المكان في سيرة "حكمت"، التي ولدت في أحد الأحياء القديمة في صيدا، سمة الرحم، إذ تعود به الكاتبة إلى زمن قديم قضت في ثناياه وتضاريسه الملتفة بعضها بالبعض الآخر، لحظات حميمة. هناك عاشت طفولتها في كنف الأهل والأخوة والأقارب. وتقارب السمة الحميمية للمكان ـ المديني في وصف الكاتبة أبحاث الأنثروبولوجيين، إذ تتجسد من خلالها صيدا، بخصائصها العربية الإسلامية، بعماراتها القديمة وزواريبها التي تضاء ليلًا بالفوانيس، وبواباتها التي تفصل الداخل عن الخارج. حيث تعيش العائلات في غرف متقاربة أفقيًا، ومتراكبة فوق بعضها البعض عموديًا، تنسدل من على نوافذها أغصان الياسمين. نساء ذلك الزمن كنّ يلتحفن بملاءاتهنّ، ويخفين وجوههنّ بفيشة. زواريب ضيقة لم تكن تدخلها السيارات على قلتها آنذاك، بينما الخيول والحناطير تنتظر في أقبية عند مداخلها. محلات ومهن وساحات، بعضها زال بفعل التحوّلات، ومنها ما زال موجودًا حتى يومنا هذا، كزاوية الإمام "أبو نخلة"، مقهى "القزاز"، "جامع الكيخيا"، وجامع "قطيش" الذي بناه الشيخ علي قطيش سنة 1580م.

رحلة البحث عن الأصول
تأخذنا الكاتبة في توصيفها لأماكن اللعب، التي كانت ترتادها مع أقرانها وهي صغيرة، إلى حكايات وأساطير وميثولوجيا راسخة في التاريخ اللبناني. من بينها حكاية صدفة الموريكس التي استخرج منها اللون الأرجواني. ثم تعرّج،  من خلال هذا التاريخ، على منابت العائلات المدينية وجذورها والبلدان التي أتت منها، ومن بينها تلك التي اكتسبت تسميتها من المهن التي عملت فيها، كعائلتها المركبة من "الصباغ ـ المجذوب"، فتستذكر إحدى الحكايات التي تدور حول أصولها ومن بينها حكاية جدها الصوفي الذي قدم منذ سبعة قرون، من مدينة فاس المغربية على ظهر فرس محملًا بالجرار الذهبية، ثم استقر في صيدا، وبنى له فيها مسجدًا حمل اسم العائلة "المجذوب"، لا يزال موجودًا حتى يومنا هذا. هكذا نحن أمام تاريخ عائلي موسوم بأساطير وحكايات، رغم أنه واقع ملموس وحقيقي لإحدى العائلات الميسورة الصيداوية التي انتمت إليها الكاتبة.

شاهدة على تاريخ وتحولات
يتداخل في سيرة الكاتبة الخاص مع العام، وتأخذنا، عبر هذا التداخل، إلى حقبة انتقالية من تاريخ لبنان في أربعينيات القرن العشرين المنصرم، إلى إحدى التظاهرات التي قام بها أهالي صيدا ضد الإنتداب الفرنسي، مطالبين بالاستقلال. اشترك فيها آنذاك طلاب المدارس ومن بينها الإبتدائية، التي اندست فيها من دون علم أهلها، وهتفت مع الهاتفين الكبار "بدنا عادل، بدنا بشارة، بدنا الصلح". واجه الفرنسيون التظاهرة بالرصاص، فشهدت الكاتبة  مجزرة مروعة قتل فيها عدد من أصدقاء صفها أمام عينيها: "ثروت وشفيقة اللتان نزفت دماءهما وفارقتا الحياة طفتلين... آمنة التي فقدت إحدى كليتيها… إيفا التي طيْرت الشظية لحم فخذها... ووفيقة ونهدية..."، فيما كان نصيبها هي رصاصة في قدمها، تسببت لها بعلة دائمة فيها.

هكذا كانت "حكمت" في قلب الحدث التاريخي، منذ الانتداب إلى الاستقلال، شاهدة فيه وعليه، معايشة أبرز التحولات الإجتماعية والثقافية والإقتصادية، منذ أن أصبح لبنان جمهورية مستقلة. هذا التاريخ تعطيه الكاتبة بعدًا مؤنسنًا، فكل حدث لمست انعكاساته على حياتها، وحياة من حولها، عن قرب: "رحل الفرنسيون وتركوا في نفوس الناس رغبة في محاكاة حضارتهم". رفعت النساء البرقع عن وجوههن، وأبقين الإيشارب على رؤوسهن. ازدادت أعداد الفتيات اللاتي ارتدن المدارس، الحداثة طاولت الحياة برمتها، انتقل الناس من استخدام الكاز إلى الكهرباء، ومن النوم على فرشة فوق الأرض إلى النوم على السرير، ومن الاستحمام في حمام السوق، إلى الحمام في المنزل الذي أصبح يجهز بأكياس الناريت.

في رحاب المدن الواسعة
تحتشد في السيرة تواريخ وأماكن وأحداث، عاشتها الكاتبة وغيّرت حياتها. في البدء كان انتقالها، من مدارس المقاصد في صيدا إلى المدرسة الداخلية في بيروت، انتقالًا دينيًا ثقافيًا اجتماعيًا، خبرت فيه الفوارق بين الطوائف اللبنانية. "انتقال من عالم القرآن إلى عالم القداديس"، ومن عالم اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية، التي كانت أداة تفريق وتصنيف أدنى أو أعلى. ثم من تلميذة في مدارس المقاصد، إلى معلمة فيها. وقد كان لها فيها مساهمات عدة، من بينها استحداث صفوف تكميلية وثانوية للإناث، بعد أن كانت لا تتخطى الرابع ابتدائي في صيدا.

يمنى
الانتقال إلى بيروت هو إحدى المحطات المهمة في سيرة الكاتبة. كان اليسار هو العقيدة التي اختارتها. نالت شهادة الدكتوراه من فرنسا، وانضمت إلى سلك التعليم في الجامعة اللبنانية. كان نضالها آنذاك متشعبًا وكثيفًا. شاركت في التظاهرات رفضًا للنظام الطائفي القائم على "ستة وستة مكرر"، ومطالبة بتعزيز التعليم الرسمي، من أجل أن تصبح الثانويات العامة والجامعة اللبنانية، مؤسسات وطنية بعيدة من سياسات الطوائف، والانتماء الطائفي: "كنت أود أن أكون خارج الطوائف، وأن أنتسب إلى الجامعة من خارج الطوائف، وأن لا تكون لهذه الجامعة هوية طائفية".

الكاتبة، في كل ما ذكر، كانت قد ابتعدت عن "حكمت" في صيدا، وأصبحت امرأة أخرى تحتاج إلى اسم آخر، تستطيع من خلاله خوض حياتها الجديدة، أن تكتب وتعبّر عن آرائها وأفكارها، عبر الكلمة، فكان اسم "يمنى": "أنا موظفة في الدولة، في وزارة التربية، ويحظر على الموظفين في الدولة اللبنانية نشر ما يكتبون، من دون إذن مسبق بالموافقة".

هكذا أصبحت "يمنى" ظلًا موازيًا للكاتبة، عبرت من خلاله إلى عالم آخر، إلى عالم الكتابة، والنضال، والأدب والثقافة، والنقد الملتزم، وحقوق المرأة، والطبقات العمالية، ومعارضة الاحتلال الاسرائيلي.

زمن الخسارات
تجول الكاتبة، في حوارها الداخلي، بين إسميها اللذين حملتهما، وبين زمنين عاشتهما. "حكمت" الطفلة التي أودعتها في صيدا، و"يمنى" التي أصبحت أستاذة جامعية، مناضلة يسارية، أديبة. تستعيد في تجوالها الخسارات التي تسببت بها الحرب الأهلية والأحلام التي قوضتها، ومع كل استعادة تترك الكاتبة اعترافًا: "أمضينا عمرنا نحلم ونناضل لتحقيق أحلامنا، بل بعض أحلامنا، لكن العالم الذي صبوت إلى تغييره لم يتغير، بل انتقل من سيء إلى أسوأ".

بيروت
تبحث الكاتبة عن بيروت، فتجدها في حالة حرب دائمة، مناطقها مفصولة عن بعضها البعض، طوائفها متنازعة: "لم تعد خطوط التلاقي إلا خطوط الاقتتال الطائفي". هي في قلب الدمار الذي غير معالم الأمكنة، في مجازر صبرا وشاتيلا التي قتل فيها آلاف الفلسطينيين، في الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، في الاغتيالات التي طاولت أصدقاءها الشيوعيين، مهدي عامل وحسين مروة وآخرين كثر. ترتعد من المشهد وتهرب إلى زمن آخر، إلى بيروت الستينيات التي كانت ذات يوم حضنا لها، ولأبناء جيلها.

هي حياة بين زمنين وإسمين، زمن أول لحكمت في صيدا، وزمن آخر ليمنى في بيروت، وكلاهما أصبح تاريخًا تستعيده الكاتبة بحنين كبير: "تود أن تشعل الحياة وهي تقترب من الموت".

إنها سيرة عن حياة مديدة وأحلام كبرى وإخفاقات، وحروب، وموت كثير، سيرة تحكي تاريخنا كله.

 

عن (ضفة ثالثة)