عن معرفة وثيقة بموضوعها، وبمختلف أعمال الكاتب الذي تتناوله، تكتب الشاعرة والباحثة السورية عن مجموعته الأخيرة بطريقة فريدة، تدخلنا إلى قلب منهجها السردي والتعبيري دون أن تتناول أي من قصصها. لأنها مشغولة بالكشف عن خصوصية الكتابة وقدرتها على سبر ما تحت أردية العادي والمألوف.

البحث خارج الذات

بهيجة مصري إدلبي

 

فرد بين أبناء جيله؛ جيل التسعينيات من الروائيين والقاصين، من أمثال سمير غريب علي، ومحمود حامد، ووائل رجب، وأحمد غريب، وعاطف سليمان، ومي التلمساني، وعفاف السيد، وميرال الطحاوي، وياسر شعبان، ومصطفى ذكري، ونورا أمين ... إلخ، فكان محط اهتمام نقاد متفردين بذائقتهم النقدية، أمثال إدوارد الخراط، ود. صبري حافظ، ود. محمد برادة، وغيرهم. «فهو واحد من أكثر الأصوات تميزاً وأصالة في الكتابة التسعينية في مصر» - حسب صبري حافظ. له لغته السردية الفريدة ومغامرته المتميزة في بقاع خصبة مثمرة، قدم رؤية جديدة لما أسماه إدوارد الخراط بـ«الحساسية الجديدة» التي تستبطن الذات والعالم، عبر خطاب يرتهن إلى شعرية خاصة في فهم الزمان والمكان والشخصيات والبناء السردي، بعيداً عن القوالب المصمتة والنمطية، بحثاً عن الذات والنص الجديد في مقام السؤال المفتوح.

ولعل هذا البحث الذي أورثته إياه الكتابة، كان هاجس معظم شخصياته في الكثير من قصصه، سواء أكان البحث خارج الذات عن الذات، أو داخل الذات عن شيء تفتقده وغير واضح لها، فحركة البحث نفسها – حتى على مستوى التخيل – هي القانون الخفي للسرد، في تجربة منتصر القفاش. تأخذه الكتابة في رحلتها الممتعة، من البحث إلى الكشف إلى التأويل، تفسح له سبل المعنى في قلق الحياة، كما هي سبل الحياة في قلق المعنى، وكأن لكل نص رحلته الخاصة، مساراته، وأبعاده التي تحدد آلياته الإبداعية، وبالتالي تحدد رحلته في إيقاع الذات.

يضبط إيقاعه على إيقاع الكلمة، وكأنه يكتشف ذاته في الكتابة، التي تختبر فلسفته ورؤيته وعلاقته بالأشياء والوجود، فما هو فلسفي ينهض من اليومي - كما يقول - «ومن الممكن أن تكمن الغرابة داخل ما هو عادي»، من هنا فهو مشغول جداً في كتابته بما يبدو أنه معتاد ومألوف ومتاح، بينما عند تأمله تكتشف الجوانب العجيبة والفريدة فيه، «العادية هي مجرد تمويه أو ستار يخفي وراءه مستويات أخرى أكثر عمقاً وأكثر دهشة»، ما يوسِّع إيقاعية الخطاب وبالتالي يوسع فضاءات القراءة والتأويل.

لديه عشق غير عادي، ورغبة دائمة في كتابة الشخصيات التي تبدو عادية جداً، ولا شيء فيها يلفت النظر، وعلى الرغم من ذلك، هي تحتوي على غرابة وأشياء غير متوقعة، نجد ذلك في إبراهيم بطل رواية (أن ترى الآن) الشخصية التي تكاد لا تملك أي شيء تتميز به إلا النسيان، تهرب الأشياء من ذاكرته، وهو ما يزال في منتصف العمر، فهو في منطقة بين بين: في العمل وفي اختياراته في الحياة، وحتى في علاقته بالمرأة، فإذا بالنسيان الذي قد يبدو عادياً يتحول إلى هاجس دائم يضع الكائن على مفترق الطرق، دون أن يكون قد حدد أي طريق يختار، ما يوسع لديه حالة القلق والحيرة والسؤال، وهو في حالة من البحث عن ذاته في هذا الضياع الصادم لوجوده. وكما يرى محمد برادة «هي محاولة مميزة في كتابة الذاكرة، كتابة تبتعد عن المحاكاة الاستنساخية، وتنحو إلى مزج الواقعي بالتخييلي، والمعيش بحركات النفس الداخلية».

أما في روايته (مسألة وقت)، فتنهض شخصية يحيى، الذي يعاني مشكلة دائمة مع الوقت، فهو يعاني دائماً فروقاً في التوقيت بينه وبين من حوله، ففي الوقت الذي تكتمل لديهم الأشياء، يشعر هو دائماً بأنها لم تأت بعد، وفرق التوقيت هذا هو الذي جعله يحار عندما اكتشف أن (رنا) التي زارته فجأة في منزله، كانت ميتة قبل الزيارة بثلاث ساعات. كان يظن أنه على مشارف علاقة حب أو حلم، وإذا به يفاجأ بالنقيض، فداخل يحيى يتعايش الموت والحياة جنباً إلى جنب، وفي اللحظة ذاتها، الغرابة في المألوف، فمنتصر القفاش لا يعلن صراحة عن تلك الغرابة التي تعكسها شخصيات رواياته وقصصه، بل يتعامل مع تلك المظاهر الغريبة في شخصياته من منطقها المألوف العادي، وفي الوقت نفسه تظهر كمشاهد، ما يجعلنا نندفع لإعادة النظر في تلك الشخصية العادية.

منتصر القفاش الذي يبحث دائماً عن شيء يشعر به ولا يقبض عليه في الوقت نفسه، لينقل هذا الشعور القلق إلينا كقراء، ويضعنا أمام حيرة وحشد من الأسئلة التي تزداد غموضاً كلما حاولنا الإجابة عنها، لأنه ينطلق في كتاباته من هذا التوازن بين الغموض والوضوح، بين البساطة والتعقيد، بين اليوميات والرواية، فهو يتخذ من اليوميات كراسة مليئة بالأحلام، أو ذاكرة مؤجلة في مسار الزمن، عرف من خلالها كيف يكتب تجربة تبدو عادية مجردة من كل «الإغراءات» الفنية، تجربة تكاد تكون «ملقاة على الطريق» بالفعل، لتصنع دهشتها بذاتها، من تلك الزاوية المتروكة التي تضع اليومي والمألوف في مقامه المختلف، حين يدخل في التجربة الإبداعية، فهو يرى أن «طبيعة العلاقة بين الرواية واليوميات تشبه علاقتنا بأحلام اليقظة؛ في تلك الأحلام نحلم بما نشاء ونهوى ونتخيل أنفسنا كيفما نرغب، وقد يتحقق بعد ذلك جزء من تلك الأحلام، لكن تبقى دائما أجزاء كثيرة تخايلنا وتظل حليفنا في وقت الجدب وربما تولد أحلاماً أخرى، ما يتحقق منها ينضم بدوره إلى تاريخنا المعلن، والباقي يظل شاهداً على أن في الحياة الكثير مما لم يتحقق بعد».

فالقفاش لا يشغله تصنيف النص الذي يبدعه في مدونة السرد؛ قصة كان أم رواية أم غير ذلك، وإنما تشغله قيمة ما ينتجه في المشهد السردي، وبالتالي أن يكون منجزه السردي لا مألوفاً في تخطيبه لدهشة المألوف، وهذا ما ينجلي واضحاً في منجزه في القصة (نسيج الأسماء – السرائر - شخص غير مقصود ـ في مستوى النظر)، وفي الرواية (تصريح بالغياب - أن ترى الآن - مسألة وقت)،

فهو دائم التفكير في الأسئلة، ليس رغبة في نقل الخطاب الروائي أو القصصي إلى خطاب فلسفي بحت، لأن ذلك يدخل السرد في مسارات تحد من مقترحاته الجمالية، وإنما للكشف عن المساحة المشتركة بين الخطابين، لأن هاجسه المستمر كهاجس كونديرا، هو كيفية كتابة مشهد روائي يبدو أنه مكتوب بشكل واقعي ليس فيه التنظير الفلسفي، وعلى الرغم من ذلك يكون محملاً بالتفاصيل السردية، وأفكار فلسفية نابعة من النص الروائي نفسه، ليقدم خطاباً مفتوحاً على الأسئلة، ومفتوحاً على التأويل، مراهناً على لغة تستجيب لطبيعة التطور في تشكيل خطابه الإبداعي، بحثاً عن لغته الخاصة كما هو بحثه عن شخصياته الخاصة، التي يكتشف من خلالها ذاته، كما يكتشف مستوى لغته، وبالتالي خصوصية خطابه المختلف في المشهد السردي العربي.