بالعودة إلى مقال والتر بنيامين المهم، تكشف الباحثة الفلسطينية عن تخبط السياسة الألمانية إزاء حرب الإبادة الجمعية التي تشنها دولة الاستيطان الصهيوني البغيضة على غزّة وعلى فلسطين. وتحلل الكثير من مواقفها المضطربة، وما تلقاه من مقاومة من المستنيرين في المجتمع الإلماني نفسه.

بين التقدّم الحضاري والعودة إلى النازية

«ملاك التاريخ» يحوم فوق ألمانيا

تهاني نصّار

 

هنا محاولة لقراءة موقف ألمانيا السياسي والقانوني والثقافي والإنساني من الحرب على غزة، هي التي لم تتخلّص بعد من أثر النازية وشبح الفوهرر الذي تدفع ثمنه ضريبةً سنوية لكيان الاحتلال منذ اتفاقية لوكسمبورغ(1952)  كما نضيء على ردة فعل الفنانين والمثقفين الذين شكّلوا مبادرة «سترايك جيرماني» لمقاطعة المؤسّسات الثقافية الداعمة للاحتلال التي تقمع حرية التعبير وتراقب سياسات الفنانين وتشترط دعم الكيان الصهيوني في تمويلها للفنّ. في عام 1940، كتب الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (1940-1892) مؤلّفه الأخير «في مفهوم التاريخ» الذي يُعرف أكاديمياً بـِ «أطروحات في فلسفة التاريخ». بعدها، انتحر بجرعة زائدة من المورفين. قبل أن يُنهي حياته في شقته في باريس، أودع أوراقه ونصوصه لدى أمين المكتبة الوطنية الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي؛ حالما أيقن أنه عالقٌ لا محالة في أيدي النازيين الذين زحفوا عسكرياً إلى باريس.

حاول بنيامين أن يهرب مع مجموعة من اللاجئين عبر الحدود الإسبانية آملاً أن يصل إلى ملاذٍ آمن في أميركا حيث زملاؤه مؤسّسو «مدرسة فرانكفورت» الفكرية، لكن الحكومة الإسبانية كانت قد ألغت بشكلٍ مفاجئٍ كل تأشيرات العبور إلى العاصمة البرتغالية لشبونة، فانهار أمله الأخير بالنجاة من جنود الرايخ الثالث. ربما كان الناقد الثقافي قد شعر بقرب موعد رحيله عن الحياة، فقد كان في المرحلة الأخيرة من حياته مأخوذاً بفكرة الماضي وفلسفة التاريخ ودور المؤرّخ الحقيقي في مواجهة سرديات البورجوازية المنتصرة (الطبقة/ السلطة المنتصرة). تأثّر بنيامين بلوحة «الملاك الجديد» Angelus Novus للرسام الألماني بول كْلِي، وخصّص لها أطروحته التاسعة مطلقاً على هذا الملاك لقب «ملاك التاريخ» واصفاً إيّاه بأنّه يقف بعينَين مفتوحتين جاحظتين، فاغراً فاهه وفارداً جناحيه، في وجه العاصفة التي تدفع بجسده نحو المستقبل، بينما هو يدير وجهه نحو الماضي وعيناه مشدوهتان.

يشرح المنظّر وحارس جماليات الفن أنّ «ملاك التاريخ» لا يرى الماضي كما نتصوّره نحن البشر سلسلةً من الأحداث المتتالية، بل يراه «كارثةً واحدةً تستمر في تكديس الحطام وقذفه أمام قدميه. يرغب الملاك في البقاء، وإيقاظ الموتى، وإصلاح ما حُطّم. لكن عاصفة تهب من الجنة. لقد علقت في جناحيه بعنف، إلى درجة أن الملاك لم يعد يستطيع أن يغلقهما. تدفعه العاصفة بشكل لا يقاوم إلى المستقبل الذي يدير له ظهره، بينما تنمو كومة الحطام أمامه نحو السماء. هذه العاصفة هي ما نسميه التقدّم».