لتبيان كيف أن العادات والتقاليد، تلعب دورا فى حياة الإنسان، فهو ما يحتاج إلى الكثير من التجارب، وهو ما تحتمله الرواية، أما أن يتم توضيح ذلك فى القصة القصيرة، فهو ما نجح فيه الكاتب بإقتدار فى قصته، مخبئا ما كان يسمى بلحظة التنوير، لتبدو وكأنها جملة عابرة، لتفجر فى القارئ، الكثير من المشاعر، والكثير من التصورات، والكثير من المتعة.

حَبْلٌ تائِكٌ

سمير فوزى

 

صراخٌ وضجيجٌ وشتائمٌ متبادلة تصله عبرالنافذة المغلقة داىماً.

 مد يمناه بجواره، مُتحسساً سطح الكوميدينو، عثر علي نظارته الطبية، مسح العدستين بطرف جلبابه الصوف الثقيل وارتداها، أزاح الغطاء وجَرّ ساقيه الثقيلتين فى الحجرة  شبه المظلمة، تعثرت قدمه اليمنى فى مقدمة السجادة الملتوية فاستند إلى الحائط ، ازداد الصراخ كلما اقترب من النافذة، نظر من فرجات الشيش الضيقة، تسرب إليه ضوءٌ هزيلٌ ولفحه هواءٌ بارد.

سُباب وتشابك بالأيدي وتهديد متبادل بالقتل ، الكل يجري ، يخرجون من الصورة أمام عينيه، ويعودون إليها، امرأة  سمينة لا تقوى على مجاراتهم، ترمي نفسها على الأرض أمام نافذته مباشرة، أصبح يراها جيداً، تلطُم خديها  و تشق جلبابها الأسود، يلمح  طَرْف قميص نومها الأبيض، ومقدمة صدرها التى  تعَفّرت بترابٍ تُهيله فوق رأسها، تصرخ

-  حرام عليك ، أبوك لسّا دمه ما نشفش

لا يعرف المرأة ، حاول التعرف على أطراف العراك  وسببه ففشل تماما، طلق ناري مجهول مرّ بجوار النافذة فأسرع بغلقها.

رن تليفونه فشم رائحة عطر يُحبه، عرف أن زوجته هى المُتّصِلة، أضاء النور وَفَرَدَ ظهره على السرير منتشياً بالرائحة الجميلة

-  صِحِيت؟

-  من بدرى

-  صلّيت الصبح؟

-  أه

-  فطرت ؟

-  الحمد لله   

-  خدت العلاج ؟

-  اًه

-  السجاير تحت المخدة

-  شُفتها

-   واحدة بس لغاية ماجى

وقعت عيناه مثل كل مرة على الطلاء المتساقط من السقف

-  حديد السقف بدأ يظهر

-  ما تقلقلش، اتفقت مع الَنقّاش ها يعمله يوم الجمعة، أجيب لك حاجة وانا جاية؟

-  سلامتك، فيه خناقة كبيرة فى الشارع!

-  مالكش دعوة، اقفل الشباك وما تبصش من البلكونة، سورها واطى، خللى بالك من نفسك !

 تُفرحه المكالمة، تدخله حالة رائعة من الرضا،  يرى نفسه خفيفاً يكاد يطير، تنزاح الأسقف والجدران وتختفي الأبواب، صوتها دافىء، حنون  يُحيى كل حواسّه ،تنفتح نفسه المسدودة، يُسْرِع إلى المطبخ، مثل كل يوم  يجد افطاره وقرصي علاج السُكّر والحموضة،  يهشّ الذُبابة المستقرة على  حافة  الطبق،  فشل منذ زمن فى التخلص منها، تُلازمه أينما كان، توقظه كثيرا من نومه بطنين مستمر حول أُذنيه،  تُداعبه زوجته دائماً

-  بينك وبينها حاجة !عمرها ماجت علىّ !

 سأل نفسه هل هى نفس الذبابة؟ كل الذباب يشبه بعضه!

 رافقته الذبابة  منذ أن منحوه حرية أن يأتي وقتما يشاء أو لا ياتي ويلَزْم بيته  إلى أن تنتهي السنة المتبقية له فى الخدمة .

ضحك  عندما تذكر استدعاء المُراجع المالي له بابتسامة ساخرة ، ناوله استمارة المرتبات .   

- يا راجل يا طيب كل الموظفين مرتباتهم صِفْر!

يُعِد نفس الاستمارة لنحو ثلاثين عاما ً ويحفظ مستحقات الموظفين بعلاواتهم وترقياتهم وخصوماتهم فكيف أخطأ هذا الخطأ!

خطف الاستمارة من يد المُراجع ، مزّقها على أن يُعِدّها من جديد، تكرر الخطأ مرات، لايعرف من أين يأتي ذلك الصِفْر فى خانة حاصل جمع مستحقات جميع الموظفين؟

الساعة القديمة المعلقة فى منتصف الصالة تماما، المشروخ إطارها، وحبلها التائك الذى يربطها بالحائط ، المنتظر سقوطها فى أى وقت،  تُبْلِغَهُ بالثانية، تأتي زوجته فى الثالثة تماماً، لا تتأخر أبداً، يُسرع للحَمّام، يحلق ذقنه ويُمشط ما تبقى فى رأسه من الشعر الأبيض، يغسل أسنانه، يتشوق للحظة سطوع النور فى روحه بدخولها، يستحوذ عطرها عليه، يأخذه لبراح سماوىّ فتهدهده أيادٌ ملائكية، يراها سعيدة كأنما قادمة من الجَنّة، تُحَلّق فى فضائه، يجرى الدم  فى وجهها ويرتج جسدها كله، يشعر بسخونتها وهى تضمه لحضنها بقوة، تُقَبّله قُبْلَة طويلة فتزداد حالة الرضا  لسعادتها، تُغنيه عن سنوات الحرمان الطويلة فينسي أنه رآها في الصباح،  بعد أن أدارت مفتاح الراديو على إذاعة القرآن الكريم، تتسحب ناحية الدولاب، تدس قميص النوم الأحمر الفاقع فى حقيبة يدها، كاد  يقول لها أن القميص الأسود أكثر إثارة على جسدها الأبيض، وأنه كان دائماً يحبه عليها، رآها  تستدير تجاهه فأغمض عينيه، انزلق أكثر تحت الغطاء، قَبّلَتْ رأسه، أحكمت الغطاء عليه وسمع الباب الخارجى يُغلق.

جاءت الثالثة تماماً فسمع صوت المُفتاح فى الباب،  رآها تتجه إليه بحبٍ جارف ،احتضنته فشعر بسخونة جسدها

-  كل سنة وانت طيب

ناولته صندوقاً صغيراً ملفوفاً بإطارٍ مُلَوّن بكل ألوان الطيف، بمنتصفه صورة لعريسٍ وعروسة ، يوشكان  على تلاقي الشفاه فى قُبْلةٍ منتظرة ، يخرج من فميهما عنقود ورد  طويل، ينتهى بجملة -أحبك للأبد-  love you for ever ، فتح الصندوق على عجلٍ، ظهر له حذاءٌ جديدٌ، تعرف أنه يعشق الأحذية الجديدة منذ طفولته، كل هداياها له أحذية، أسرع بارتدائه بفرحة طفولية،  مشى به مستمتعا بلمعته الزاهية. متجاهلاً تماماً حقيبة يدها التي تركتها أمامه على المنضدة الواسعة فى منتصف الصالة، لم يخطر بباله فتحها.