هذه قراءة للكاتب والناقد الفلسطيني لصحيفة (القدس العربي) اللندنية لرواية كاتبة هندية سبق أن توجت بجائزة البوكر البريطانية. رواية عن الهجرة والتوزع بين عالمين. وبينهما تعيش الساردة على التباسات الذات بين ثنايا سخرية سحرية.

إرث الضياع: عن التباس الهجرة والحداثة

إبراهيم درويش

انيتا ديساي كاتبة هندية معروفة ومن أعمالها التي وجدت طريقها للسينما في الزنزانة التي أنتجها الثنائي السينمائي إسماعيل ميرتشانت وجيمس ايفوري، والرواية هي عن الشعر ولغة الأردو والزمن العريق لهذه اللغة التي تراجعت أهميتها في الهند اليوم مع أنها كانت لغة البلاط المغولي. وديساي التي تعيش في أمريكا كتبت أربع عشرة رواية وهي في ثقافتها تعبر عن حالة المزيج فهي ابنة أب من إقليم البنغال وأم ألمانية، ونالت خمس جوائز أدبية.

وفي شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي نالت ابنتها كيران جائزة البوكر التي تعتبر من أهم الجوائز الأدبية في بريطانيا، عن روايتها إرث الضياع وهي العمل الثاني لكيران التي ولدت في الهند وسافرت مع أمها الي لندن وأمريكا في عمر الرابعة عشرة. وقضت في كتابة هذا العمل ثمانية أعوام مما جعلها تقول بعد أن فازت بالجائزة أنها ستتقاعد عن الكتابة الروائية مع ولادة عملها الثالث. فالرواية الأولى لها قضت فيها خمسة أعوام، أما الثانية الفائزة فقد استغرقت ثمانية أعوام، وبالنسبة لكيران فالفوز بخمسين ألف جنيه حل لها الكثير من المشاكل المالية. ولكن الفوز جاء علي خلاف التوقعات، فمحررة أدبية في مجلة نيويورك تايمز قالت لها بعد أن قرأت مسودة الرواية أنها من أسوأ الروايات التي قرأتها في حياتها، أما رئيس لجنة تحكيم بوكر جون سانذرلاند للعام الماضي فقال أن الرواية تحتاج لإعادة صياغة من جديد، ولكن لجنة تحكيم هذا العام كانت حاسمة في قرارها سبعة ـ واحد.

الرواية كأي عمل عن الهجرة والتوزع بين عالمين تستند علي أو تأخذ كثيرا من السيرة الذاتية بل اختيار التيبت وجبال الهملايا مركزا للرواية لان الكاتبة كانت تقضي أياما معتزلة مع جدها الذي هو علي غرار بطلة الرواية متخرج من جامعة كامبريدج، وعمل قاضيا باستثناء أن القاضي في ارث الضياع يكره جنسه وكونه هنديا، كيران تطمح من خلال توزيع فكرة المنفي والهجرة علي عالمين للحديث عن أن تجربة الهجرة هي عامة وواحدة فلا فرق بين الخادم العجوز عند القاضي وبين ابنه في غرفة أرضية في مدينة نيويورك يعمل بنفس المهنة. وما يهم في هذه الرواية إن شخصيات الرواية من العمال المجهولين والمهمشين شخصيات تعثر عليهم وتشاهدهم في أي شارع لمدينة كوزموبوليتية، أو في مدينة معزولة. كيران تقول أنها من اجل كتابة روايتها قررت العودة للهند التي وجدتها قد تغيرت وتقدمت بعيدا وكان عليها أن تعود لهند الثمانينات من القرن الماضي لكي تستحضر الأجواء والفضاء التي رسمته لأبطالها. فهي عن التعددية الثقافية وعن ثقافة ما بعد الاستعمار، وتتداخل في عوالمها عوالم الثقافة الاستهلاكية ماركس اند سبنسر والثوار النيباليين. والكاتبة التي لا تزال تحمل الجنسية الهندية، تقول أنها فكرت في الحصول علي الجنسية الأمريكية خاصة أنها تعيش هناك إلا أن فوز جورج بوش جعلها تعدل عن القرار أو منعها نوعا ما، ولكنها لا تزال متعلقة بجواز سفرها الهندي وهي موزعة بين هويتين. وهي تقول: لا زلت اشعر إنني رهينة ثقافتين وهما ما تصنعان رواية ارث الضياع.

انجاز ارث الضياع هو عن معاناة الكاتبة التي تحدثت عن صعوبات وبيروقراطية العالم الأدبي في نيويورك فالكاتب الذي يكتب عن تجربته عليه أن يواجه أمرين أما تقديم عمله علي دفعات أو تقديم طلبات للحصول علي مساعدة. ولهذا قررت البحث عن طريقة اخرى لانجاز عملها فقد عاشت علي توفيرها وانتقلت من نيويورك لنيومكسيكو حيث عاشت في غرف صغيرة وفي إحياء مكتظة وانجاز الحرف الأخير في الرواية جاء بسبب المصاعب المالية. تقول: كنت فقيرة، وكل شخص حولي كان يحثني علي البحث عن عمل باستثناء والدتي التي وقفت بجانبي أما الآخرون فقد كانوا يطالبونني بتحمل المسؤولية والحصول علي تأمين صحي.

تفتح الرواية بمشهد لصبية هندية يتيمة اسمها ساي تعيش مع القاضي الذي درست في جامعة كامبريدج نعرف من خلال الإشارة للشهادة المعلقة علي الجدار والتي بهتت بفعل الزمن ، القاضي تقاعد من العمل ويعيش في بلدة كاليمبونغ الواقعة في الجانب الهندي من الهيملايا. ساي، تقيم علاقة مع أستاذها الذي يعلمها الرياضيات حيث تنتظره لأكثر من ساعة ولا يحضر في موعده الساعة الرابعة والنصف، وتعذره لان الجو غائم وتاريخ علاقتها معه بدأ عام 1989. غيان هو حفيد لجندي نيبالي في الفرقة النيبالية الخاصة في الجيش البريطاني كورغا وبعد فترة يبتعد عنها وعما يراه موقعا متميزا لهذه الصبية مع جدها وينضم الي مجموعة من المتمردين النيباليين والحقيقة أن سرقة أسلحة الجد في بداية الرواية تظل تحوم حول غيان. بعيدا عن الهملايا وبالتوازي مع ما يحدث في كاليمبونغ، تنقلنا ديساي الي غرفة أرضية في مدينة نيويورك لملاحقة حياة بيجو، ابن خادم جد ساي، والذي يعيش حياة هامشية، وفي الظل لأنه مهاجر غير شرعي ويحاول تجنب السلطات من خلال العمل في إعمال يدوية وبأجر قليل. الذي يجمع بين عالم بيجو ووالده هو التجربة المماثلة والإرث التاريخي فأمور حدثت في الماضي البعيد أنتجت هذه الأوضاع، في إشارة للتسيد الاقتصادي الغربي والاستعمار.

وإن كان الاستعمار قد رحل منذ زمن بعيد إلا أن اقتصاد العولمة لم يقم بحل مشاكل طرفي الرواية بل قام بـ حك الجراح. ديساي تؤكد في سردها علي اثر الغرب علي أبطالها، فكل واحد منهم وبطريقة أو بأخرى عاش تجربة مع أو في الغرب، فالقاضي عاش أيام عزلته الدراسية في انكلترا بسبب العنصرية وشعر بأنه ليس ادمي وكان يقفز خوفا عندما كان يلمسه احد علي كتفه حتى وان كان بنوع من الحنان. ولكنه عندما يعود للهند يشعر باختلاف الثقافة ويكره بل ويحتقر زوجته الهندية. القاضي هو واحد من هؤلاء الهنود التافهين الذين لم يكونوا قادرين علي تخليص أرواحهم من أثار التعليم الغربي، وباتجاه أخر فان حبه للثقافة الانكليزية وتماهيه معها تحولا الي كراهية للنفس والذات. وفي الهند في مرحلة ما بعد الاستقلال فان هذه العينة من الناس لم يعودوا مقبولين، خاصة أن السكان المضطهدين اخذوا يفيقون.

يتذكر القاضي واسمه جيموباي باتل الأيام التعيسة في انكلترا، وكيف أغلقت الأبواب أمامه وهو يبحث عن غرفة، حيث كان الانكليز يعتذرون هربا بقولهم كل الغرف مؤجرة أو ينظرون من تحت ستائر غرفهم للقادم ذي اللون المختلف ولا يعبئون بالرد علي الطارق، فتش قبل عثوره علي غرفة عند السيدة رايس أكثر من عشرين بيتا، وعندما وجد الغرفة الصغيرة التي وافقت صاحبتها علي استقباله فيها لأنها تحتاج للنقود، عاش حياة تعيسة، نسي فيه انه إنسان، ووجد عزاءه في القراءة. ولم يلتفت نظرا لضياعه الي جمال الريف الانكليزي ولم يهتم بالبنات أولا لأنه متزوج وثانيا لان الفتيات كن يقهقهن ضحكا منه ومن رائحة الكاري التي تنبعث منه علي ما يعتقدن. يتذكر الجد أيامه في انكلترا، وهو ممدد علي السرير بعد وصول حفيدته ساي من مدرسة الراهبات في نيودلهي حيث تركت المدرسة بعد وفاة والديها الطيارين في موسكو وهو الوصول الذي ذكره بحقيبة سفره التي حملها معه الي انكلترا، وإناء جوز الهند الذي أوصته أمه برميه بالبحر تبركا.

الهامشية التي عاشها جيموب كما كان يعرف في الثلاثينات من القرن الماضي لا تختلف عن هامشية وضياع المهاجرين في كل أنحاء العالم، فالغرف/ علب الكبريت لا تزال تستقبل في نيويورك مهاجرين غير شرعيين بنفس الطريقة التي تستقبل فيها علب كبريت باريس مهاجرين جزائريين ومغاربة، فالماضي لا زال يلقي بظلاله علي الحاضر، وصدمة القاضي الشاب عندما شاهد لندن لا تختلف عن صدمة العمال الآنيين أو الوقتيين المنتشرين في كل أنحاء العالم باكيز وديسيس وهما الاسمان اللذان يستخدمان لوصف العمال من شبه القارة الهندية، ويحملان قطعا نظرة عنصرية، فكون الهنود نجحوا بفتح محلات كاري في ألاسكا لا يغير من رؤيتهم كخارجين عن مجتمع يقدم نفسه علي انه متعدد ثقافيا.

أن الطريقة التي تتعامل فيها ديساي مع الماضي وفوضي الاستقلال متأثرة بقراءتها الأدبية، ففي بداية الرواية تقوم بوضع امرأتين محبتين للانكليز انغلوفايل لمناقشة رواية الروائي الذي يكره نفسه فيشا نايبول انعطافة النهر التي تتحدث بلغة كئيبة عن مواجهة افريقية مع العالم الحديث، لولا التي تمتلئ خزانتها من ماركس اند سبنسر تعتقد أن نايبول رجل غريب يعيش في الماضي ولم يتقدم، ولم يحرر نفسه من رهاب الاستعمار أو عقدته. وتذهب لولا، جارة القاضي للقول إن نايبول يتجاهل أن هناك انكلترا جديدة متنوعة، كوزموبوليتية، حيث حل دجاج التيكا بالماسلا مع محل السمك والبطاطا المقلية الطبق الانكليزي الشعبي. وأكثر من هذا ابنتها التي أصبحت مذيعة في هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي حيث لا يوجد علي ظهرها علامة تفرقها عن البقية. تكتب ديساي بنوع من الشك حول الثقافة التعددية أو المتعددة القائمة علي أو المدفوعة بالنزعة الاستهلاكية الغربية حيث تتحدث عن الوسامة والجمال المصنوع لابنة لولا، الذي تراه مشوها وان بدا انتصارا علي أي رعب يمكن أن يدفع إليه العالم كما تقول. وعلي خلاف ما يدعو إليه كتاب مثل سلمان رشدي وزيدي سميث عن الهجنة الجميلة فان ديساي تقف موقف الشاك من ثقافة المزيج التي لا تغني الثقافة بل تشوهها. فالثقافة هذه التي تعني التداخل والتحول الذي ينجم عن التزاوج بين الناس والثقافات والأفكار والسياسة ويبرز من خلال الفيلم والموسيقي ليست إلا صرعة غربية ولا تظهر في المدن الغربية الكبرى وبين الأكاديميين.

كما أن هذه التعددية الثقافية لا تقوم بدراسة أسباب العنف والتطرف، كما أنها لا تعتبر مفتاحا للازدهار والتقدم لأبناء القاع. فالربح/ الازدهار كما تقول ديساي لا يتحقق إلا من الفجوة بين الأمم التي تقاتل بعضها البعض. يقترب تحليل ديساي من فكرة الحداثة المشوهة التي عاشتها مجتمعات العالم الثالث، الحداثة التي اهتمت بالقشور دون اللباب، وهي في وصفها للنخبة المتعلمة الهندية أو الذين يدافعون عن الثقافة الغربية من علاء الأسواني في عمارة يعقوبيان وان اختلفت مظاهر التحليل والفساد فالأسواني مهتم برصد أثار الحداثة والتغريب علي المجتمع المصري وما حدث لعمارة يعقوبيان التي مثلت كل ما هو غربي هو صورة عن مصير مصر من الثورة الي الانفتاح... الحداثة في معناها السيئ تعني شيئا جديدا اليوم ودمارا في اليوم التالي. ولهذا السبب فان شبانا شبه متعلمين أو إنصاف متعلمين مثل غيان يحاولون تعريف أنفسهم من خلال أية قضية، وهنا تدخل ديساي تحليلا جديدا لأثار الحداثة عندما تقدم غيان الذي ينتمي لجماعة اثنية نيبالية تقاتل لهدف غامض، وانخراطه في عمل يبدو ثوريا هو بالضرورة محاولة لإفراغ إحباطه، خاصة أن الأحقاد القديمة لا تنسي أو كما نقول الاسي ما بنتسي ، فمع أن أحزان الماضي ذهبت إلا أن الغضب ظل يسكن فينا ويحررنا.

من مشهد الي مشهد تنقلنا ديساي الي عوالم المهمشين في شوارع نيويورك وشوارع المدن الكبيرة والبلدات الهندية. اهتمام الرواية بالماضي الاستعماري وفوضي الاستقلال لا يعني إننا أمام رواية نوستالجية، تغني للريف الهندي وتلعن الميتروبول الأوروبي، فهي تتعامل مع المشهدين بنفس الذكاء والأخلاقية، وتبتعد في هذا السياق عن الرومانسية الألمانية، الطهورية التي دعت للعودة الي الأقاليم هربا من جحيم مدن الحداثة/ الإثم. وقدرتها علي التقاط التفاصيل واضحة في مشهد بيجو أمام السفارة الأمريكية التي تبدو بعد أحداث أيلول (سبتمبر) مثل قلعة صليبية، فهو موزع بين الزحام الذي يريد الهجرة للأرض الموعودة وبين نظرته لنفسه كشاب متحضر يستحق أن يمنح تأشيرة الدخول، ولكن نظراته الحضارية لنفسه تتناقض مع مشهد القطيع المغبر أمام السفارة.

وهنا تتضح المرونة الممزوجة بأخلاقية غير عادية في وصف الأشياء، من مشهد ريح الخماسين والجبال العالية المغطاة بالضباب التي تبدو من بعيد كأنها محيطات لانهائية كما تشير السطور الأولى، وبين وصفها لفأر في غرفة قذرة في حي مانهاتن/ نيويورك. وعين الكاتبة هنا ذكية تلتقط خلف المشهد الجميل المليء بالطزاجة، فعندما يحتفل بيجو بحصوله علي الإقامة في أمريكا يلاحظ أن أشجار الحديقة التي كان يتمشي فيها، الطرية بهوائها وظلالها تسقي من مياه المجاري العفنة ذات الرائحة الكريهة. في حكاية بيجو، يبرز التناقض في العيش بين رفض عالمين، ففي نيويورك يحلم بلا توقف بالإمكانيات التي تتوافر عليها المدن الكبيرة، من فرص للثراء، خاصة وهو العامل في المطعم يتنصت بوعي لأحاديث رواد المطعم، ويفكر كثيرا بإمكانية الاستفادة منها في الهند، وأحلامه تصبح مصدرا للألم والإحباط، لدرجة انه يصبح يجلد ذاته ويتحسر عليها، مما يجعله مصمما علي العودة الي مكانه الأول الذي يساعده علي الذوبان والحفاظ علي ذاته. ولكن حلم العودة يتلاشى عندما يصل للهند حيث يصبح البحث عن ملاذ في بلده الحقيقي مصدرا للعذاب والغضب والانفعال المتواصل بسبب ابتعاده الجسدي عن نيويورك. أزمة بيجو، مثل ساي التي تعيش في بيت جدها تقترحان أن أشكال الهجرة في زمن العولمة واحدة، فالعودة للوطن ملتبسة دائما وهي عودة لا تعني الانسحاب أو الهروب من أشكال الألم في المنفي الاختياري أو منفي الوطن، لا مجال للهروب الرومانسي في عالم الهجرة الدائمة والتوزع علي أصقاع الأرض. فسرد المنفي ليس واحدا كما تقترح ساي، سرد يتصل أو ينتمي للسارد، أي الذي يساعدها علي اجتراح سعادتها البسيطة.

الرواية حافلة بالسخرية المرة، وبعيدا عن فضائها المتسائل والطرح المجرد فان أبطالها لم يكبروا ولم تمنحهم الكاتبة القدرة علي النمو بل فرصة الندم والتوبة. كما أن الرواية مليئة بالكثير من الإشارات للطعام وطرق إعداده، ووجباته، وهو يشير لاهتمام الكاتبة بالطعام، حيث تقول أنها تفضل الكتابة في المطبخ، وأنها فكرت بإعداد كتاب طبخ أو مراسلة مجلة متخصصة في الطعام ومع ذلك وجدت نفسها دائما مدفوعة للكتابة الروائية. السرد الروائي لديساي يستفيد من المدرسة السحرية، وكيران تقول أنها قارئة جيدة لأعمال ممثليها في أمريكا اللاتينية مثل ماركيز.

ولدت كيران ديساي في الهند عام 1971 ودرست في الهند وانكلترا وأمريكا. اولى أعمالها الروائية كانت ضجيج في بستان الجوافة (1998). 

ناقد من فلسطين