من خلال هذا العرض التفصيلي المسهب للكتاب الذي يقدم عددا من الشخصيات الاستعمارية التي لعبت دورا بارزا في رسم خريطة شرقنا المعاصر، يكشف الباحث عن تجذر الكثير من مشكلات هذا العالم في شروط ميلاده، أو بالأحرى اختراعه.

عملية اختراع الشرق الاوسط

كتاب مهم من تأليف: كارلماير وشارين بريساك

محمد الخولي

يرى الزوجان ـ كارل ماير وشارين بريساك، مؤلفا هذا الكتاب ـ أن معظم حدود منطقة الشرق الأوسط كما نراها الآن ـ حدود مصطنعة ـ لا تكاد تتسق مع المعالم والتضاريس الطبيعية للمنطقة.. وأن هذه الحدود مرسومة من سنوات الربع الأول من القرن العشرين، حيث تأثرت أوضاع الشرق الأوسط بعاملين أساسيين. الأول هو وراثة ممتلكات الدولة العثمانية وكانت في طريقها إلى الزوال. والثاني هو تقسيم هذه الممتلكات بين الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية ولصالح لندن على وجه الخصوص. ويحرص المؤلفان على سرد حكاية هذا الشرق الاوسط الحديث باتباع منهج السيرة الذاتية الذي يعرض لأبرز الشخصيات التي أسهمت في تشكيل المنطقة، وخاصة منذ زمن الإمبراطوريات الإمبريالية ـ بالذات في القرن التاسع عشر. ورغم أن العنوان الرئيسي للكتاب يتناول ما يسميه المؤلفان صناع الملوك (أو العروش) فإن العنوان الفرعي الذي يشير إلى «اختراع» الشرق الأوسط قد يكون أكثر دلالة على الموضوع حيث يعرض لجماعات من الساسة أو الإداريين أو الصحافيين أو المغامرين أو الجواسيس المحترفين الذين عملوا في خدمة المصالح الغربية، فكان أن أعادوا صياغة المنطقة: حدودها ـ وعلاقاتها وتركيبتها الديموغرافية بل حاولوا التأثير على طموحات شعوبها نحو الاستقلال والنهضة وخاصة على أنقاض الإمبراطورية التركية، التي حكمتهم لأكثر من أربعة قرون. يبدأ الكتاب بسيرة اللورد كرومر، عميد الاستعمار البريطاني في مصر، ويختتم بنظرة شاملة على آفاق مستقبل المنطقة.

كارل ماير مولود في عائلة صحفية عريقة وقد عمل صحافيا في جريدة واشنطون بوست الأميركية وتخصص في تغطية أخبار العالم الخارجي، وفاز بجائزة صحفية رفيعة عن تغطيته أخبار أميركا اللاتينية خلال الثورة الكوبية حيث كان أول من قابل زعيمها كاسترو في جبال سييرا مايسترا. حين كان كاسترو ورفيقه الشهير في السلاح أرنستو شي جيفارا يستعدان للزحف على العاصمة هافانا، وإسقاط نظام باتستا الذي أدانوه بتهمة العمالة لواشنطون، بعدها تحول كارل ماير إلى أوروبا مديرا لمكتب واشنطون بوست في لندن، فتركزت اهتماماته على قضايا الاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط. زار عواصم أوروبا الشرقية والدول العربية فضلا عن أن تفاعله مع أحداث الشرق الأوسط كان مثمرا إذ تم في سنوات التغيرات النوعية والكمية التي شهدتها المنطقة في عقدي الستينات والسبعينات. نال مؤلفنا درجة الدكتوراه في العلوم السياسية وعمل أستاذا لها في عدد من كبرى الجامعات في أميركا (ييل) وفي إنجلترا (أكسفورد) وهو الآن رئيس تحرير مجلة «وورلد بوليسي» للشؤون السياسية والإستراتيجية، وقد شاركته في تأليف الكتاب زوجته شارين بريساك التي تخصصت في إعداد وإخراج الأفلام العلمية والتاريخية الوثائقية ونالت عنها عدة جوائز.

اسمه «ألفريد ثاير ماهان».. كان ضابطا بحريا من أميركا ينسب إليه الفضل ـ وربما الذنب، أنه نظر في عام 1902 إلى خارطة المنطقة التي تشكل المعبر الجغرافي والتاريخي أيضا فيما بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا.. وطالع بطبيعة الحال امتداد الصحارى وارتفاع الجبال في شبه الجزيرة العربية. تحفها مصر عند البحر الأحمر ثم إيران عند أقصى الشرق ـ وتركيا في الشمال. بعدها قال ألفريد ثاير ماهان عبارة أصبحت مأثورة في التاريخ هي: هذه هي منطقة الشرق الأوسط. وسجل ذلك كتابةً في مقال نشره الملاح الأميركي عام 1902. بهذه الافتتاحية ـ الدرامية كما نسميها ـ يبدأ مؤلفانا «كارل ماير وشارين بريساك» الصفحات الأولى من كتابهما الحافل حيث يرسمان منذ الفصل التمهيدي للكتاب مدى أهمية المنطقة ـ فيوضحان (ص 17) كيف أنها بلغت ولا تزال شأوا بعيدا من حيث الأهمية الإستراتيجية.. لدرجة أن نابليون ومن بعده هتلر ومن قبلهما الأسكندر الأكبر وقيصر الرومان.. كل هؤلاء أدركوا هذه الأهمية وتصرفوا على أساسها، بل تضاعفت أهمية الشرق الأوسط بعد منتصف القرن التاسع عشر بافتتاح قناة السويس التي شكلت همزة الوصل البحري ـ الملاحي بين شرق العالم وغربه ومن شماله وجنوبه وكان ذلك عام 1869.

ثم عادت الأهمية فتضاعفت عدة مرات بعد اكتشاف البترول في أرض المنطقة مع العقود الأولى من القرن العشرين. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) عكف محللو وزارة الخارجية الأميركية على تدارس هذه الأبعاد كلها، وخلصوا إلى نتيجة جوهرية.. دون أن يسعدوا بها على نحو ما يقول كتابنا ومفادها ما يلي: أن الوصول إلى موارد النفط العربية في شبه الجزيرة ـ الخليج أصبح أمرا حيويا لكي تضطلع أميركا بدورها العالمي الآخذ في التوسع.  

الاستقصاء.. القلم.. الرهبة
في نفس السياق.. يقول واحد من هؤلاء المحللين، واسمه هربرت فايس: في جميع الاستقصاءات التي أجريناها كان القلم يتحرك ثم يقف فجأة في حال من الرهبة عند نقطة بعينها وعند موقع بذاته اسمه: الشرق الأوسط. هنا يوضح المؤلفان معنى هذه الرهبة التي كانت ترتجف بها أقلام المحللين الأميركيين، فيقولان: كانت هذه الرهبة أمرا مفهوما.. لقد مرت قرونا عديدة من الزمن شهدت محاولات للتقرب غزلا من منطقة الشرق الأوسط بقدر ما شهدت عمليات للاقتحام غزوا في منطقة الشرق الأوسط.. كيف لا.. وقد خرجت من المنطقة الكتب السماوية الثلاثة. لكن برغم ما بشر به كل من هذه الكتب (المقدسة) من معاني الأخوة الإنسانية وتعاليم السلام والتعاطف والمحبة والتواضع. فقد شهدت المنطقة صراعات وغزوات وحروبا على امتداد حقب متباينة ومراحل شتى من مسير التاريخ. وقد يعمد المؤلفان إلى تناسي صفحات العنف الدموي التي سجلتها جولات الصراع والغزوات في التاريخ القديم والوسيط.. ولكنهما يكتفيان بالإشارة إلى ما شهدته سنوات النصف الأخير من القرن العشرين. حيث بدأ مسلسل العنف الدموي باغتيال الوسيط الدولي السويدي الكونت برنادوت (على يد عصابات الإرهاب الصهيونية) في عام 1948. ثم اغتيال الملك الأردني عبد الله في عام 1951 واغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981 إلى اغتيال رئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين عام 1995.

على أن السجل الأخطر الذي يفتحه مؤلفا هذا الكتاب هو سجل تداخل القوى الأوروبية في أحوال المنطقة. وقد بدأ هذا التداخل مع احتلال بريطانيا لمصر عام 1882 (لم يشر الكتاب إلى احتلال بريطانيا ميناء ومنطقة عدن في جنوب اليمن عام 1839).. ربما لأن احتلال مصر هو الذي فتح الباب على مصراعيه لرسم خارطة الشرق الأوسط كما عرفه العالم في سنوات القرن العشرين. نلاحظ أيضا أن مؤلفيْ الكتاب اعتمدا منهجا يقوم على السيرة الذاتية للأفراد ـ التاريخيين والمؤثرين طبعا ـ الذين يسلكهم الكتاب في عداد «مخترعي» الشرق الأوسط ـ بمعنى الذين بذلوا جهودا وخاضوا معارك كلها لصالح قوى الاستعمار الغربي، البريطاني والأميركي بالذات ـ من أجل صياغة مقاليد المنطقة لدرجة صناعة عروش وانقلابات ونظم للحكم. ولقد فضلنا في عرضنا النقدي ـ التحليلي لهذا الكتاب الضخم أن نصرف النظر عن العنوان الرئيسي (صانعو الملوك ـ أو العروش) مع تفضيل العنوان الفرعي الذي يتحدث عن مخترعي الشرق الأوسط. ذلك أن الشخصيات العديدة التي يتناولها كتابنا شارك معظمها في رسم الحدود المصنوعة في عواصم الاستعمار، أو في تشويه المنطقة بزرع الجسم الصهيوني الغريب والعدائي في قلبها، أو في تصنيع انقلابات أطاحت بنظم حكم وطنية ومعادية بالطبع للمصالح الإمبريالية (مثلا الانقلاب ضد حكومة الدكتور محمد مصدق الوطنية في إيران).  

كرومر على ضفاف النيل
كان طبيعيا أن يتصدر سير الشخصيات ـ ممثل الاستعماريين العتيد في مصر اللورد كرومر ـ الذي كان يعرف باسم المعتمد البريطاني حيث كان له الكلمة الطولى على امتداد نحو عشرين عاما.. عشرة منها في ختام القرن 19 والعشرة الثانية هي قوام العقد الأول من استهلال القرن العشرين. كان اللورد كرومر يحمل اللقب الدبلوماسي الرسمي «القنصل العام» لكن مقر عمله في منطقة قصر الدوبارة المطلة على نيل القاهرة كان يعرف باسم «بيت اللورد» أو «دار الاعتماد» وكان موكبه كما يقول الكتاب حدثا مشهودا في شوارع القاهرة منذ المئة سنة الماضية.. يحف به الأتباع والحشم.. وتجر عربته الفارهة كرائم الجياد ويركض بين يديه طوائف السيُاس، وكان يتعمد استعراض جنود الإمبراطورية في أكثر من مناسبة.. لدرجة أن يكتب صحافي معاصر قائلا إن زائر قاهرة تلك الأيام كان يظن أن عاصمة مصر ما هي إلا معسكر كبير لتدريب عساكر الإنجليز.

كرومر كان التجسيد الفعلي الدقيق، والخبيث بالطبع لنزعة الاستعلاء الإمبريالي التي كانت الطابع الشائع لمبعوثي الملكة فيكتوريا المتحكمين في مقاليد شعوب آسيا (الهند) ووادي النيل (مصر والسودان) وأصقاع شرق القارة الأفريقية (إلى نيجيريا في وسطها). كرومر كان يطلق على شعوب هذه الأوطان وصفا أقرب إلى الرعايا الهمج.. أو بالأدق الأجناس الأصلية المحكومة. ويرى في مقالات كتبها عام 1910أن هذه الأجناس غير قادرة بحكم طبيعتها على الحكم الذاتي دع عنك أن تنال الاستقلال. لأنها تفتقر إلى الدقة والانضباط في شؤون حياتها وتلك شيمة العقل الشرقي (الأورينتالي). أما الأوروبي في رأي كرومر فهو الشخصية العقلانية الراشدة التي تستخدم المنطق وتتصف بالذكاء. لا عجب ـ يضيف كتابنا ـ أن تعمّد كرومر أن يهمل تعليم المصريين حتى كانت مخصصات التعليم لا تزيد عن واحد في المئة فقط من ميزانية مصر كلها. ولقد ذهب كرومر ـ ولكن لم تختف دار الاعتماد التي أصبحت دار الحماية ثم دار المندوب السامي التي كان أشهر من احتلها في أربعينات القرن هو لورد كيلرن الذي ارتبط اسمه في التاريخ العربي المعاصر بإنذار 4 فبراير عام 1942 الموجه إلى فاروق ملك مصر في تلك الأيام، وفيه ما يشبه الأمر من سفير بريطانيا المستعمِرة لكي يكلف ملك البلاد وزارة جديدة ترتاح إليها دوائر لندن الاستعمارية.

حادث 4 فبراير كان أقرب إلى تراجيديا سياسية تجسد معنى الافتئات على سيادة الدول وكرامة الحكام: على مسرحها كان ثمة 3 شخصيات.. أولها مايلز لامبسون بجرمه الضخم وإنذاره المهين.. وثانيها فاروق ـ الذي نالت منه الإهانة لدرجة الانهيار النفسي حيث تحول بعدها إلى حياة الصخب واللهو والفساد، أصبح «بلاي بوي» كما يصفه مؤلفا الكتاب. أما اللاعب الثالث فهو وزير خارجية بريطانيا وقتها ـ أنتوني إيدن الذي أبرق مهنئا سفيره في القاهرة قائلا في نص البرقية الشفرية ـ إن ما حققته من نتائج يبرر الحزم من جانبك والثقة فيك من جانبنا. لكن التاريخ له رأي آخر.. فلم تمض 10 سنوات وبضعة أشهر ـ إلا وتغيرت الأمور على مسرح القاهرة السياسي تماما.. كان اللورد كيلرن قد تقاعد ـ وخرج فاروق منفيا عن العرش وعن البلاد كلها إلى إيطاليا، ثم مضت 3 سنوات أخرى أطيح بعدها بأنتوني إيدن شخصيا، بعد أن ارتكب خطيئة تدبير العدوان الثلاثي في حرب السويس عام 1956. بعد أن أضاف التاريخ لاعبا رابعا تولى تحويل المسار في تلك الدراما الاستعمارية بالشرق الأوسط وكان اسمه: جمال عبد الناصر.

كان كرومر يتيه عجبا وخيلاء بمآثر الاستعمار البريطاني.. بدعوى أنه يساهم بذلك في تعزيز رسالة الحضارة وفي تمدين الشعوب. في شتاء عام 1889 زارته سيدة ناضجة جميلة.. ودار بينهما حوار عن عظمة الإمبراطورية وأياديها البيضاء على مصر (الواقعة تحت الاحتلال) ـ نشرت السيدة هذا الحوار في جريدة «التايمز» الشهيرة ـ التي أعجب أصحابها بمواهبها الصحفية، فكان أن جعلوا من صاحبة الحوار مندوبة الصحيفة الكبرى في أفريقيا.. بل خلعوا عليها لقبا يسجله مؤلفا الكتاب رغم سخافته البادية وهو: المحررة الكولونيالية للتايمز. وهكذا أصبحت فلورا لويس مندوبة التايمز المعنية بشؤون الاستعمار. وبهذه الصفة دخلت التاريخ مع زوجها اللورد لوجارد بوصفهما عميدي الاستعمار البريطاني في عموم أفريقيا السوداء من مناطق الوسط (نيجيريا) وحتى مناطق الجنوب (الترانسفال). وبهذه الصفة اصطنعت «فلورا شو» أسلوب التقرير الصحافي من الميدان، وكانت رائدة في هذا الباب حين كانت تبعث بتقاريرها إلى «التايمز» تحت العنوان التالي: رسالة من أفريقيا. ويشير كتابنا إلى أن محرري التايمز كانوا يتجاوزون مهنيا عن طبيعة هذه الرسالة التي كانت محررتها تمزج، أو فلنقل، تخلط بين الخبر والرأي.

كانت قد بلغت الثانية والثلاثين حين وصل المد الاستعماري في أوروبا كلها إلى ذروته.. وتجسدت هذه الذروة في مؤتمر التسابق وبالأدق التكالب على أفريقيا الذي عقده المستشار الألماني بسمارك لكل القوى الأوروبية الطامعة في موارد القارة في برلين عام 1884. بعدها لفت أنظارها اللورد الشاب لوجارد الذي كان بدوره من غلاة المستعمرين الإنجليز بعد أن نشر كتابه بعنوان «صعود إمبراطوريتنا في شرق أفريقيا». لوجارد هو الذي عمل على استعمار أوغندا لصالح انجلترا، وكان يعدها جبهة محورية على طول الطريق الإمبريالي الذي يشق القارة كلها.. بابه في القاهرة شمالا وقاعدته في كيب تاون عند أقصى الجنوب. وحين تولى لوجارد شؤون المنطقة الواسعة والمتعددة الأعراق والديانات في وسط أفريقيا.. كتبت فلورا شو تقول: أن هذه المنطقة تقع على نهر النيجر.. فلماذا لا نطلق عليها اسما يرتبط بهذا النهر.. وكان الاسم الذي صاغته الصحيفة الإنجليزية هو.. نيجيريا. كانت جميلة.. وجريئة.. وموهوبة وصديقة مقربة إلى كبار سدنة الاستعمار البريطاني في أواخر القرن 19 وعلى رأسهم تشمبرلين وسيسيل رودس. ثم اكتملت حياتها الاستعمارية بزواجها من اللورد لوجارد. وكانت وقتها قد أشرفت على الخمسين.  

سايكس ـ بيكو: معاهدة سرية مشؤومة فضحها ثوار روسيا عام 1917
بعد أن استعرض المؤلفان أصل مصطلح الشرق الأوسط وتطوره، ينتقلان بعد ذلك الى تفاصيل أخرى تتعلق بسرد تفاصيل وخبايا المؤامرة المشهورة على العرب والخاصة باتفاق سايكس بيكو، حيث يعرضان لحياة مارك سايكس الذي اشتهرت الاتفاقية باسمه مع نظيره بيكو على نحو مثل ما يمكن اعتباره حلا وسطا بين الأطماع البريطانية والفرنسية، ومن بين ما يتناوله المؤلفان الجوانب المتعلقة باقتسام الشرق الأوسط، وكيف جرى خداع العرب من خلال وعود كاذبة، في الوقت ذاته الذي تمت كل المؤامرات المتعلقة بالنيل من حقوقهم من وراء ظهورهم. ويدعونا مؤلفا الكتاب إلى قراءة، على البارد كما يقولان، لاتفاقية سايكس بيكو ويلفتان الاهتمام إلى أنها حملت وعودا بدولة عربية مستقلة لكنهما لا يملكان سوى الاعتراف (ص 108) بأن الاتفاقية بكل نصوصها ووعودها تمت من وراء ظهر العرب، ودون أي مشاورة مع أي طرف من الأطراف المعنية مباشرة من أهل منطقة الشرق الأوسط. أكثر من هذا.. كان سايكس ينتمي إلى تلك الطغمة من عتاة الاستعماريين المتعصبين عرقيا ودينيا أيضا.

في تصورنا أن الفصل الثالث هو أخطر فصول الكتاب. إنه الفصل الذي يروي سيرة حياة سير مارك سايكس (1879 ـ 1919) الذي لا يرتبط اسمه فحسب باتفاقية سايكس ـ بيكو الشهيرة التي قرر فيها الغرب بعد الحرب العالمية الأولى تقسيم منطقة الشرق الأوسط (المشرق العربي بالذات).. في معاهدة سرية تمت من وراء ظهر الأطراف العربية صاحبة المصلحة، ولكن لأن سايكس يرتبط أيضا بأخبث مشروع استيطاني زرعه الاستعمار الغربي ـ البريطاني تحديدا في قلب الوطن العربي، متمثلا في الكيان الصهيوني الإسرائيلي. نشأ مارك سايكس في أسرة تنتمي إلى الارستقراطية القديمة وتوجه إلى القاهرة عام 1916. ورأى في العاصمة المصرية مركزاً يصلح لإدارة شؤون المشرق العربي، ورسْم حدوده المستجدة بعد الحرب العالمية الأولى، وطبعا على أنقاض خلافة بني عثمان التركية التي تحولت إلى وضع «رجل أوروبا المريض» منذ القرن التاسع عشر.

هنالك اقترح سايكس إنشاء مركز الاستخبارات البريطاني المعني بشؤون المشرق وشبه الجزيرة تحت اسمه الذي أصبح معروفا في تاريخنا الحديث: المكتب العربي. وفي إطار هذا المكتب، الاستخباراتي في الأساس، لمعت أسماء رجال من قبيل هوجارث عالم الحفريات، والكولونيل كلايتون مدير المخابرات العسكرية البريطانية أما نجمه فكان اسمه ت إ. لورنس الذي اشتهر باسم لورانس أوف أرابيا أو لورنس العرب. كان سايكس وليس غيره هو مصمم الراية التي حملها منفذو ما أصبح يعرف في تاريخ المنطقة باسم الثورة العربية الكبرى (تعرف في حوليات التاريخ البريطاني باسم «التمرد العربي») وكان هذا العلم المرفرف كما رسمه مارك سايكس يتألف من الآتي كما يوضح مؤلفانا (ص 106): السواد شعار العباسيين في بغداد ـ الأبيض شعار الأمويين في دمشق ـ الأخضر شعار العلويين في كربلاء ـ الأحمر شعار العرب المعاصرين.

بيد أن المحور الأهم في سيرة وأعمال رجل الاستعمار البريطاني مايك سايكس هو ذلك اللقاء الذي جمع بينه وبين نظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو في مقر الخارجية الفرنسية، كان بيكو (1870 ـ 1951) قد عاد من منصبه المشرقي حيث عمل قنصلا عاما لفرنسا في بيروت.. وكان ينحدر من أسرة مؤصلة في سلك الاستعمار كما يقول كتابنا.. ومن هنا جاءت قناعته بأن فرنسا تتحمل رسالة تاريخية في منطقة الشام على وجه الخصوص، وهو ما دفعه إلى تصور كيان خلع عليه بيكو اسم سوريا المتكاملة المتدامجة أو الموحدة ويضم كلا من دمشق وحلب وبيروت إلى جانب الأماكن المقدسة في فلسطين ومعها حيفا على البحر المتوسط ثم إقليم الموصل العثماني (شمالي بلاد الرافدين) بحيث يكون الامتداد من جبال طوروس في الشمال إلى حدود مصر في الجنوب. هذا المشروع الفرنساوي كان يشكل رعبا كما يؤكد المؤلفان لجماعة الإنجليز العاملين في «المكتب العربي الاستخباراتي» في القاهرة.. ولذلك كان المطلوب التماس حل وسط يجمع بين الأطماع البريطانية والطموحات الفرنسية. ولهذا وقع الاختيار على مارك سايكس من أجل التوصل إلى اتفاق يرضى الطرفين في كل من لندن وباريس أو بالأدق يرضى كل منهما باقتطاع أجزاء يلتهمها من جسم الشرق الأوسط وموارده وشعوبه ذات الأغلبية الإسلامية الكاسحة. ومعها أيضا أقليات من المسحيين وأبناء عقائد أخرى.

أسفرت جهود سايكس عن هذا الاتفاق بالتراضي وبموجبه منحوا فرنسا حق السيطرة الإدارية المطلقة على لبنان الكبير، وعلى طول سواحل سوريا وخلعوا عليها اسم «المنطقة الزرقاء»، فيما تنال بريطانيا حقوقا موازية كما يصفها كتابنا داخل منطقة «حمراء» تقع في جنوبي بلاد ما بين النهرين (العراق الحديث) وتمتد من بغداد إلى جيب ساحلي يضم كلا من حيفا وعكا. أما فلسطين والأراضي المقدسة فيقضي اتفاق سايكس بيكو بإدارتها دولياً ضمن منطقة أصغر تحمل اسم المنطقة البنّية أو «السمراء» على أن تدرس تفاصيلها بعد انتهاء الحرب العالمية (كان ثمة تربص خاص بالنسبة لفلسطين) ومن عجب أن الاتفاق الاستعماري الأنجلو فرنسي شمل اتفاقا بأن يعترف طرفاه بقيام دولة عربية مستقلة، أو اتحاد كونفدرالي لدول عربية تحت ولاية زعيم عربي، على أن يخضع هذا الكيان المفترض لعملية تقسيم (تأمل!) إلى نطاقات أصغر تتمتع فيها كل من بريطانيا وفرنسا بحقوق خالصة لها، وتخوّلها تقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الأطراف العربية (تأمل أيضا لغة النفاق الدبلوماسي!).

كان هذا هو جوهر الاتفاق «المشؤوم» كما يصفه المؤلفان (ص 107) وبعد أن تفاوض عليه الجانبان سايكس الإنجليزي وبيكو الفرنسي سافرا إلى بتروجراد الروسية في أبريل 1916 حيث نزل سايكس في فندق استوريا واجتمع إلى سفير صاحب الجلالة (البريطاني) وظلت تراوده مخاوف من صعوبة عرض المعاهدة على وزير خارجية روسيا (القيصرية) سيرجي سازانوف. لكن سرعان ما تبددت مخاوفه بعد استعادة روسيا لوعد سابق بالسيطرة على مضايق البوسفور (التركية الأصل). فضلا عن مساحات أوسع للسيطرة البرية مقدارها 60 ألف ميل مربع من أراضي الإمبراطورية العثمانية في آسيا الصغرى وسواحل البحر الأسود حتى أجزاء من كردستان. والأعجب أن المعاهدة التي نصت على كل هذه الاتفاقات والتقسيمات والوعود وتقطيع أوصال المشرق العربي ظلت سرية بين أطرافها الإنجليزي والفرنسي والروسي إلى أن اندلعت ثورة أكتوبر البلشفية وأطاحت بالنظام القيصري في عام 1917. يومها زحف الثوار إلى السراي.. فتحوا الأرشيف القيصري وعثروا على معاهدة سايكس بيكو وسارعوا إلى إعلانها على الملأ العالمي، آية على التواطؤ الاستعماري بين الإمبراطوريات الكبرى في عالم بدايات القرن العشرين.  

خدمة الصهيونية
لكن الأفدح في سيرة مايك سايكس هو اعتناقه لـ «الحق.. الصهيوني». كان قد قرأ كتاب هرتزل الصادر عن «الدولة اليهودية» عام 1896. وكان الإنجليز قد عينوا سير هربرت صمويل أول وزير داخلية يهودي في حكومة الملك عام 1916. ويوضح كتابنا (ص 113) أنه لم يضيع الوزير اليهودي وقتا بل دعا إلى وطن قومي لليهود في فلسطين ما بعد الحرب، تتحول من ثم إلى دولة يهودية مكتملة. وكانت السنوات الأولى من القرن العشرين قد شهدت حركة متحمسة بين النخبة البريطانية لإقامة مشروع صهيوني لصالح اليهود. وفي هذا الإطار ارتفعت دعوات لإنشاء مستوطنات لليهود في سيناء المصرية، أو في جزيرة قبرص.. بل في أوغندا بوسط أفريقيا. لكن الأنظار تحولت إلى فلسطين بعد جهود حثيثة بذلها يهودي شاب وقتئذ اسمه حاييم وايزمان.. كان وايزمان في الثانية والأربعين حين التقى مع سايكس، وتم اللقاء في يناير عام 1916 واستطاع وايزمان إقناعه بالمشروع الصهيوني الذي صورته أفكار، بالأدق أوهام، سايكس على أنه تحقيق لمطامح قومية يشترك فيها أقوام شتى من اليهود.. والأرمن.. والعرب أيضا (!) ورغم ارتفاع أصوات داخل الوزارة البريطانية على مدار عام 1917 تعارض صدور إعلان عن وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد ظلت جهود سايكس متواصلة تدفع الخطى لصدور إعلان تصريح بلفور.

يقول مؤلفا الكتاب في هذا الخصوص: في 31 أكتوبر من عام 1917. وكانت (الحرب العالمية لا تزال مشتعلة الأوار).. عقدت وزارة الحرب اجتماعها في لندن.. واستعرض الوزراء تحفظات وتحذيرات اللورد كيرزون. وعمد وزير الخارجية اللورد آرثر بلفور إلى تلخيص إيجابيات ومحاذير الإعلان المتعلق بالآمال والطموحات الصهيونية في فلسطين، وخاصة اعتراضات الوزير كيرزون على اللغة الغامضة والصياغة الملتبسة لعبارة «وطن قومي لليهود»، وقإل بلفور أن هذه العبارة لا تعني إنشاء دولة يهودية مستقلة (تأمل!) بل تقصد كما أضاف بلفور في نفس الاجتماع أن على اليهود أن يعملوا جاهدين من أجل خلاصهم وانعتاقهم، كي يخلقوا «مركز حقيقيا للثقافة القومية ومحورا للحياة الوطنية» في فلسطين. هنا أيضا ينبه المؤلفان إلى أن لورد بلفور كان يصرح في مناسبات أخرى بأن المقصود هو إنشاء دولة يهودية. (والنفاق الإنجليزي سلوك معروف) والحاصل طبعا أن توصلت حكومة الملك البريطانية إلى قرار إصدار تصريح بلفور. وكان التصريح عبارة عن خطاب موجه من وزير الخارجية البريطاني إلى «عزيزي اللورد روتشيلد» رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا.

يعلق المؤلفان أيضا في عبارات تقول: في صيغته النهائية لخص الإعلان ألفي سنة من الدماء والدموع في رسالة مؤلفة من 75 كلمة ليس إلا. يومها.. يضيف كتابنا (ص 121).. غادر السير مارك سايكس قاعة مجلس وزراء الحرب في 10 داوننغ ستريت في لندن. دلف إلى زاوية من أرجاء المكان.. التقط قطعة ورق صغيرة.. وانحنى يكتب كلمات كفيلة بأن تستثير الاهتمام عبر الأجيال والعصور.. بعد أن فرغ من الكتابة سلم الورقة الصغيرة إلى زائر كان ينتظر، وقد استبد به طائف القلق من كل جانب.. كان الزائر مدرسا في جامعة مانشستر لعلوم الكيمياء.. اسمه حاييم وايزمان.. أما الورقة الصغيرة فكانت تحمل بخط السير مايك سايكس كلمات تقول: دكتور وايزمان.. مبروك.. المولود غلام.

ومن تصاريف القدر أن باعدت الظروف بين الرجلين.. وايزمان تولى منصب رئيس الكيان الصهيوني بعد عام 1948. إلى أن توفى عام 1952. أما اللورد سايكس فلم يقيض له أن يعيش سوى 15 شهرا.. وفي 10 فبراير 1919. أصابته حمى الأنفلونزا الأسبانية وكانت من أفدح أدواء تلك الحقبة من القرن العشرين. ولم يمهله المرض سوى أيام توفى بعدها ولما يبلغ عامه الأربعين. وبعد 89 عاما من وفاته.. عادوا مع أواخر سبتمبر 2008 إلى نبش قبره لعل رفاته تفيد العلماء في دراسة هذه الحمى الأسبانية التي أودت بحياة الملايين.  

الإنجليز أرادوا أن يصبح شرق الجزيرة والعراق مستعمرة.. هندية!
يعرض المؤلفان للسيطرة البريطانية على العراق والممارسات التي جرت هناك والجهود التي بذلتها بريطانيا من أجل ما وصف بتهنيد البلاد، وهو الأمر الذي بدت ملامحه أقرب إلى التحقق مع فرض الروبية الهندية. غير أن الساحة لم تخل تماما لقوى الاستعمار، وإنما هب الشعب العراقي إزاء المظالم التي لحقت به، فكانت ثورة العشرين التي واجهها الإنجليز بكل قوة وعنف. وفي ذلك الصدد يذكر المؤلفان أنه عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في يوليه من عام 1914 دخلت بريطانيا في معمعتها وقد استندت إلى مستعمرتها الشهيرة ـ الهند. وقد كانت الهند بالنسبة للإمبراطورية الاستعمارية الإنجليزية مصدرا نفيسا للإمداد بالرجال وسائر الموارد البشرية اللازمة للدفع بها في أتون الصراع العالمي. وينقل مؤلفا الكتاب عن لورد سالسبوري، آخر رئيس وزراء في عهد الملكة فيكتوريا (1819 ـ 1901) عبارات تصف الهند وتقول: بصراحة.. نستطيع أن نَصِف الهند بأنها عبارة عن ثكنة إنجليزية تقع في بحار الشرق، ومنها نستطيع أن نحشد ما شئنا من الرجال دون أن نتكلف شيئا على الإطلاق.

في سياق روايتهما لأبعاد ما جرى خلال تلك الحقبة يذكر المؤلفان أنه في ضوء التوصيف الاستعماري المشار إليه كان حكام الهند الإنجليز يطالبون بأن يكون لهم رأي فعال في رسم إستراتيجية بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة بعد أن دخلت تركيا العثمانية حلبة الحرب العالمية في نوفمبر من عام 1914 إلى جانب ألمانيا. يومها سارع حكام الهند البريطانيون إلى تشييد جيوش الراج من الهند، فاحتلت منطقة الخليج ما بين البحرين إلى جزيرة الفاو عند مدخل شط العرب ـ الخط الفاصل كما يقول كتابنا ـ بين بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين. وكانت الذريعة المعلنة وقتها هي حماية الناقلات وخطوط الأنابيب والمصافي وحقول النفط التي تمتلكها شركة البترول الأنجلو ـ إيرانية من أي هجمات تركية. وقبل أن ينتهي شهر نوفمبر كانت ثلاثة ألوية من الهند قد استولت على البصرة، وبهذا بسطت الإمبريالية البريطانية نفوذها على مقاليد المنطقة.

سدنة الاستعمار البريطاني كانوا مؤمنين بأن السبب فيما تعانيه آسيا وأقطارها وشعوبها من تخلف إنما يرجع إلى ظاهرة وصفتها كتابات الاقتصاديين في تلك الفترة في العبارة التالية: الاستبداد الآسيوي عند هذا المنعطف من طروحات الكتاب يبدي المؤلفان ملاحظة ذكية حين يشيران إلى أن ثمة اتفاقا بين هذا الرأي بين اليمين الرجعي الاستعماري البريطاني، وبين أقصى اليسار العقائدي الأوروبي مجسدا فيما طرحه كارل ماركس وزميله فردريك انجلز في البيان الشيوعي الشهير الذي سبق وأصدراه في عام 1848. على أن المعسكر الاستعماري في لندن مضى خطوة أبعد من مجرد التوصيف، لكي يشيع في عالم تلك الفترة القول؟ بل هو الافتراء؟ بأن استعمار تلك المناطق من آسيا.. الممتدة من الهند وجاراتها إلى شرقي الجزيرة العربية ما هو إلا خير وبركة على شعوبها: سوف يخلصها الاستعمار من آفة الاستبداد الشرقي (التركي) ويأخذ بيدها إلى عالم التطور والانعتاق.

هنالك احتاجت القوى الاستعمارية الإنجليزية إلى نوعيات بعينها من الإداريين ـ العسكريين بالذات من الذين تمرسوا بالحياة في تلك المناطق وخبروا عادات أهلها. ومنهم من أتقن الحديث بلسانها. وهكذا وقع الخيار البريطاني على رجلين سيتوقف كتابنا مليا عندهما عبر صفحات الفصل الرابع من الكتاب ـ وهما: بيرسي كوكس وأرنولد ويلسون. جاء كوكس كبيرا للضباط السياسيين في البصرة التي سقطت في يد الإنجليز.. وجاء نائبه ويلسون وفي جعبتهما تقاليد الراج الاستعمارية من الهند، وفي ظل سيطرتهما على مناطق البصرة والخليج أصبحت الروبية الهندية هي العملة المتداولة. وطرحت طوابع البريد العثمانية بحيث ظهرت عليها الحروف الهندية، وطبقت قوانين الاستعمار البريطاني في الهند، وأوكلوا تطبيقها إلى قضاة من الهنود. وبقدر ما كان كوكس مصمما كان مساعده ويلسون متحمسا وكأنما استبد بهذين الاستعماريين البريطانيين شيطان يرفع شعاراً مخيفاً هو: تهنيد تلك المنطقة العربية.

هنا ينقل المؤلفان عن ويلسون خلاصة نظرته إلى الأمور حين يقول (ص 138): كم أود أن أشهد الإعلان بأن بلاد ما بين النهرين (العراق الحديث) قد ألحقوها بالهند لتصبح مستعمرة للهند (تأمل!) وبحيث تتولى إدارتها حكومة الهند بمعرفتها، ومن ثم تعمل تلك الحكومة على استزراع الصحارى الشاسعة الخالية من السكان، بحيث تجلب إليها من يعمرها من سكان البنجاب(!). يضيف المؤلفان أيضا أن هذا الحماس من جانب ويلسون دفع السير تشارلس هاردنغ نائب الملك ـ حاكم الهند في مخاطبة جورج الخامس ملك انجلترا قائلا: أملي يا صاحب الجلالة في أن تصبح براري بغداد في القريب العاجل جزءا من الإمبراطورية البريطانية.

ويلسون ولورنس
من هنا يرى المؤلفان ـ من واقع اطلاعهما على الأرشيف البريطاني في تلك الفترة ـ أن سياسة الإمبراطورية الاستعمارية ظلت على مدى سنوات خاضعة لتأثير رجلين كان لكل منهما نفوذه وخططه في جناحي الشرق الأوسط (أو فلنقل المشرق العربي) وعلى النسق التالي:

(1) ـ الكولونيل أرنولد ويلسون في جناح العراق والخليج وشرق الجزيرة العربية.
(2) ـ الكولونيل لورنس في جناح سوريا الكبرى (بلاد الشام) وغرب الجزيرة العربية (الحجاز).

كان ويلسون يتحرك بروح تبشيرية استعلائية ويصدر عن قناعة راسخة تطمع في احتلال هذا الجناح الشرقي من العالم العربي تحت شعار تخليصه من حكم الأتراك. والشروع في «تمدينه» كي يتواءم مع أساليب الحياة الجديدة في عالم القرن العشرين. لا عجب أن يطلق عليه مؤلفا كتابنا وصفا هو «الأكيلوت» ومعناه مساعد الأسقف لأنه كان معاون السير بيرسي كوكس الذي جاء إلى المنطقة ـ كما ألمحنا ـ وقد تملكته عناصر تجربته الطويلة والمثيرة في استعمار الهند.

في عام 1918 أوفدوا سير كوكس إلى إيران للتفاوض حول معاهدة بالغة التعقيد ومن هنا خلت الساحة في بغداد لصاحبنا الكولونيل ويلسون.. ولما يبلغ الرابعة والثلاثين من العمر. كان مؤمنا بغير جدال بأن بلاد ما بين النهرين هي مُلْك صريح لمستعمريها، ولا بد أن تتحول إلى محمية إمبريالية تحكمها بريطانيا حكما مباشرا وبحيث تضم أراضيها أقاليم بغداد والبصرة والموصل (العثمانية سابقا). والمشكلة ـ يضيف المؤلفان ـ أن فرنسا كانت موعودة بالحصول على الموصل (كذا!) وكان الاعتقاد السائد أنها تحتوي على البترول ولكن كان الاهتمام بضمها إلى المحمية (البريطانية) المرتقبة كي تتوافر موارد الاتفاق على مرافقها في إطار الكيان المنشود الذي بدأوا في تلك الفترة (1918 ـ 1920) يطلقون عليه اسم العراق.

ورغم قلة عدد المساعدين، إلا أن الكولونيل ويلسون كان من معاونيه، على عادة البريطانيين في تلك الفترة سيدة مستعربة قيض لها أن تلعب دورا بل أدوارا بالغة الأهمية في تاريخ المنطقة.. وكان اسمها «جيرترود بل» ورغم أن المِسْ بل ـ كما تعرفها حوليات تلك الفترة، أو الخاتون كما كانت تعرف في العراق ـ يتردد اسمها كثيرا على أنها في مقدمة صانعي كيان العراق الحديث، إلا أن كتابنا يحيل إلى مصادر شتى.. تكاد تجمع على أن مهندس الدولة والكيان السياسي في عراق القرن العشرين هو رجل واحد اسمه أرنولد ويلسون.

كان الإنجليز يريدون حكم العراق بشكل غير مباشر.. على نحو ما طبقوه من قبل في مستعمراتهم في كل من الهند ونيجيريا.. أو على حد ما ينوه به المؤلفان: الحكم الداخلي للعرب، ولكن بناء على نصائح «المفوض السامي البريطاني». وفي هذا السياق يقول مستشارو مكتب الهند في رسالة إلى ويلسون: ما نريده في العراق هو إدارة تضم مؤسسات عربية تترك لها الأمور، ونحن مطمئنون إلى أننا نمسك الخيوط الأساسية في أيدينا ولن يكلفنا هذا الكثير. بل تظل في أمان واطمئنان مصالحنا الاقتصادية وخططنا السياسية.

المهم أن وضعت الحرب أوزارها.. وأفضت تسويات الصلح في فرساي إلى تكليف فرنسا بالانتداب على سوريا ولبنان وتكليف بريطانيا بالانتداب على فلسطين والعراق.. وكان ذلك بناء على ما ارتأته عصبة الأمم التي أنشأها الحلفاء المنتصرون بعد الحرب.. وكان الخاسرون هم بالطبع الأطراف المهزومة.. حيث بدأت تركيا العثمانية تجود بالنفس الأخير.. وحرمت ألمانيا من مستعمراتها في افريقيا، وسحب الحلفاء كل وعودهم السابقة إلى قيصر الروسيا الذي أطاحت به ثورة أكتوبر البلشفية في موسكو.

الآنسة «جيرترود بل» ظلت ترقب هذه المشاهد كلها وترصد هذه التطورات التي أعقبت الحرب. وكتبت إلى صديقة لها تقول ان الأوضاع تحولت إلى نوع من الفوضى ولكنهم (تقصد رئيسها ويلسون ومكتبها في بغداد) سيعملون على الابتعاد بأرض العراق عن كل ما تأتى به الفوضى من قلق واضطراب. يعلق كتابنا قائلا في هذا الخصوص: والحاصل أنها كانت مخطئة بالنسبة للعراق. فبعد فترة قصيرة من مؤتمر الصلح في باريس.. شرعت الصحافة الإنجليزية تنشر أخبارا وتقارير عن اضطراب الأوضاع في أرض الرافدين.. وفي سبتمبر عام 1919. كتب مراسل التايمز من بغداد يقول: أتصور أن كثيرا من الإنجليز كانوا يرون أن السكان المحليين (في العراق) سوف يرحبون بنا لأننا أنقذناهم من الأتراك، وأن كل ما تحتاجه البلاد هو أن تواصل تطورها لكي تكافئ الإنجليز على ما جادوا به من أرواح وما أنفقوه من أموال ـ لكن الحاصل أن لم يحدث لا هذا ولا ذالك.. ثم مضى المراسل الإنجليزي يقول (ص 145): ومن الناحية السياسية.. نحن نطلب من الإنسان العربي أن يبادل كرامته واعتزازه بنفسه وشعوره بالاستقلال، مقابل قدر ضئيل من حضارة الغرب وحتى هذا القدر الضئيل تستوعبه الإدارة الإنجليزية في العراق.

هنا نستعيد مع الكتاب ما تكرر حدوثه بعد هذا التاريخ بنحو 84 سنة حيث كان دعاة غزو العراق في إدارة الرئيس بوش سواء في دوائر الحرب في البنتاجون أو في أروقة المخابرات المركزية.. وعلى رأسهم فولفوتز نائب وزير الدفاع بالذات.. يشددون على أن غزو العراق سيكون أقرب إلى النزهة.. لأن سكانه سوف يستقبلون الغزاة بالورود.

المهم أن ويلسون ومعاونيه وبالذات مساعدته المستعربة «جيرترود بل» خسروا رهاناتهم على استقرار الأوضاع في العراق وعلى إرضاء سكانه بحكاية التخلص من نير الأتراك.. والذي حدث، كما يوضح الكتاب، هو اشتعال التمرد في ربيع عام 1920 (يعرف في حوليات التاريخ العراقي باسم ثورة العشرين) حيث حاربتها القوات البريطانية المحتلة بأوامر ويلسون، من بيت لبيت، وحيث لم يتورعوا عن استخدام الطائرات ـ السلاح الحاسم المستجد في ذلك الزمان ـ لقصف مواقع الثوار وقتل المدنيين. ولتحويل الانتباه عن هذه السلوكيات الوحشية.. قرر وزير المستعمرات، ونستون تشرشل إعفاء ويلسون من موقعه السيادي في العراق. وكان عليه أن يبحث عن عمل جديد. وجده ـ ولا غرو ـ حين استخدموه مديرا لعمليات شركة البترول الأنجلو إيرانية في مناطق الخليج.

اجتماع «سميراميس» على نيل القاهرة يصوغ مستقبل الشرق الأوسط
من تقديم لمحة سريعة عن دورها إلى استعراض الكثير من تفاصيل ذلك الدور نتابع مع المؤلفين في هذه الحلقة ما لعبته المس جيرترود بل بشأن تطور الأوضاع في العراق، في ضوء ما يصفه الكتاب عنه بأنها كانت من أكثر المحيطين علما بأحوال منطقة الشرق الأوسط، وأن اسمها ارتبط بدوائر وزارتي الخارجية والمستعمرات في لندن بتقرير حول الإدارة المدنية لبلاد ما بين النهرين. كما يعرض الكتاب لتفاصيل الاجتماع الذي عقد على نيل القاهرة في فندق سميراميس وخلاله تم رسم مستقبل الشرق الأوسط، حيث تبادل أعضاء المؤتمر الآراء حول إنشاء عروش لحكام عرب، ترضي المنطقة بحكاية الحكم العربي مع استمرار الولاء لبريطانيا. وفي هذا الخصوص يقول المؤلفان: كان يوما ربيعيا من أيام مارس.. بالتحديد يوم 12 مارس سنة 1921. وكان المكان هو فندق سميراميس المطل على نيل القاهرة. وكانت المناسبة مؤتمرا استغرق أسبوعين واستمد أهميته من أنه ـ كما يقول مؤلفا هذا الكتاب ـ جمع كل «صانعي العروش» ممن شاركوا في تصنيع ما أصبح يسمى في مجال السياسة والاستراتيجية باسم الشرق الأوسط.

من نجوم المؤتمر كان الكولونيل لورنس إياه الذي أرسل خطابا لشقيقه في لندن يصف ما أحاط بالاجتماع من ضروب الأبهة، من حيث جمال المكان وفاخر الأثاث وسخاء الضيافة.. «لدرجة أن كل هذه الفخامة وكل هذا الترف.. جعلوني يا أخي في عداد البولشفيك (الشيوعيين)». إلى المؤتمر المذكور جاء الاستعماري العتيد ونستون تشرشل. وفي اليوم التالي لانعقاد المؤتمر جاءت «المس» ـ الآنسة.. وهو اللقب الذي كان معتمدا وقتها ليصدق على الإنجليزية المستعربة التي ما زال اسمها مرتبطا في حوليات التاريخ العربي المعاصر باسم العراق.. ابتداء من إنشاء الدولة العراقية بشكلها وتكوينها المعروف ـ وليس انتهاء بتنصيب أول ملوك العراق المعاصر وهو فيصل الأول نجل الشريف حسين قائد التحرك ضد الأتراك الذي نشب عام 1915 باسم «الثورة العربية الكبرى». 

جيرترود مارجريت بل: امرأة بين الرجال
يقول كتابنا (ص 158): كانت «المس جيرترود بل» هي المرأة الوحيدة المدعوة إلى هذا المؤتمر الفائق الأهمية.. أما النساء الأخريات فكن حاضرات على الهامش بغير دعوة رسمية ولا طبعا مشاركة جوهرية.. بل كان حضورهن لاستكمال لقطات التصوير.. لماذا دعوها؟ لأنها كانت أكثر المحيطين علما بأحوال منطقة الشرق الأوسط، بل ارتبط اسمها في دوائر وزارتي الخارجية والمستعمرات في لندن بالتقرير الذي كانت قد قدمته إلى المراجع العليا بالحكومة البريطانية. كان تقريرا من 149 صفحة ويحمل العنوان التالي: استعراض الإدارة المدنّية في بلاد ما بين النهرين. كتبت التقرير بناء على طلب مكتب الهند وهو الدائرة الاستعمارية المعنية بشؤون شبه الجزيرة الهندية من جهة، والطامعة في أن يمتد نفوذها لتبسطه على قضاء البصرة وجنوب العراق وسائر مناطق الخليج العربية من جهة أخرى.

والغريب ـ على نحو ما يلاحظ المؤلفان ـ أن «مكتب الهند» المذكور أعلاه كان يكاد يسبح ضد التيار.. كيف؟ كان توسيع النفوذ البريطاني الاستعماري من أصقاع الهند حتى بادية الشام وشرقي الجزيرة العربية بشكل إجهاد شديد وأعباء فادحة على عاتق الإمبراطورية البريطانية، التي بدأت تنوء بعد الحرب العالمية الأولى بأعباء مالية أجهدت ميزانيتها. وبعدها بدأت تتبخر أحلام عتاة الاستعماريين القدامى الذين كانوا يتطلعون إلى إمبراطورية واسعة الأرجاء تكرس نفوذ لندن الإمبريالية من نيودلهي في الهند إلى القاهرة التي تقع على مفارق طرق آسيا.. أفريقيا والشرق الأوسط.

المهم أن تبادل أعضاء المؤتمر الآراء حول إنشاء عروش لحكام عرب ترضي المنطقة بحكاية الحكم العربي الذاتي مع استمرار الولاء لبريطانيا ـ إمبراطورية الماضي وحليفة المستقبل. يقول كتابنا: إن عرش العراق كان متجها في البداية إلى عبد الله بن الشريف حسين، ثم اتجهت الأنظار إلى فيصل بن الحسين ملكا على العراق. ولقي الاتجاه تأييدا من سير بيرسي كوكس مسؤول مكتب الهند الذي ذكر أن مواهب فيصل خلال «الثورة» على الأتراك تؤكد قدرته على تشكيل جيش عراقي على وجه السرعة. لكن ماذا عن الناس.. عن أهل الأرجاء العراقية؟ هنا أدرك المجتمعون أن المطلوب هو أن يتقبل أهل العراق أن تأتيهم شخصية من خارج بلادهم لتجلس على العرش في بغداد ويدينون لصاحبها بالولاء. هكذا طرح تشرشل وزير المستعمرات السؤال الذي ترددت دلالاته في قاعة الاجتماع بفندق سميراميس: من يستطيع أن يضمن قبول فيصل محليا؟ هنالك اتجهت الأنظار إلى الآنسة «بل» صاحبة التقرير الخطير عن ميزوبوتاميا ـ بلاد ما بين النهرين أو أرض الرافدين. كانت قد حذرت في تقريرها قائلة بالحرف: إن أبناء القبائل.. والرعاة وسكان الأهوار ومُزارعي الأرز والشعير والتمور في دجلة والفرات.. لا سبيل إلى استشارتهم فيمن يملك مقاليد حكمهم. في كل الأحوال سوف يلجأون على الفور إلى أشياخهم من رؤساء القبائل وأعيانهم.. ومن ثم فالأفضل في رأيي هو أن نتوجه بهذا الأمر إلى هؤلاء الرؤساء والأعيان مباشرة.

والغريب أن دوائر وزارة المستعمرات، وعلى رأسها تشرشل نفسه، كانوا ينظرون إلى مناطق بلاد ما بين النهرين وما جاورها على أنها مجرد «صحراوات ناكرة للجميل»(!) من هنا كان تشرشل ـ كما يوضح الكتاب (ص 160) عازفا عن تركيز الاهتمام بتلك المناطق، رغم أنه كان مدركا ـ كما يقول تقريره إلى دوائر الحكومة البريطانية في لندن ـ أنها تقع عند الخط الجوي الواصل إلى الهند ومسار الطيران الدفاعي عن الشرق الأوسط. وربما كان اهتمام تشرشل منصبّا بالدرجة الأولى على مصير شرقي الأردن ومناطق فلسطين.. وقد أعرب عن هذا الاهتمام في مؤتمر القاهرة، حيث شهدته قاعات فندق سميراميس وبرفقته لورنس يتناقشان في هذه القضية. في كل حال أيضا فإن كتابنا رسم صورة لمؤتمر سميراميس في القاهرة جاءت معالمها كما يلي: كان المؤتمر هو ذروة ما بلغته محاولات صياغة سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب العالمية (الأولى). والطريف أن تشرشل نظر إلى أعضاء المؤتمر نفسه.. وقد قارب عددهم الأربعين وكان منهم السياسيون.. والخبراء وأهل الاستشراق والمستعربون.. والجواسيس والمغامرون.. والوزراء والسفراء.. الخ: ساعتها كان ذلك الاستعماري العتيد على إدراك تام بأن هؤلاء القوم جاءوا من بلاد الإنجليز يتقاسمون الأقطار والساحات وكأنها الغنائم أو أسلاب الحرب.

ساعتها لجأ ونستون تشرشل إلى ثقافته الأدبية المنحدرة من أيام العصر الفيكتوري الذي نشأ فيه.. وربما تمثلت أمام خاطره حكايات الشرق العربية وفي مقدمتها ألف ليلة وليلة ـ والمهم أن تشرشل نظر إلى المندوبين الإنجليز أعضاء مؤتمر القاهرة.. فإذا به يصفهم (ص 160) قائلا: إنهم الأربعون حرامي. وكأن فندق سميراميس تحوّل في لحظة إلى مغارة علي بابا.. بعد أن ساد المؤتمر تياران أساسيان وهما:

(1) ـ تيار يدعو إلى ضم الشرق الأوسط ـ العراق ـ شبه الجزيرة إلى حكومة الهند وكان يتزعمه كوكس وويلسون.
(2) ـ تيار المناداة باستقلال تلك المناطق أو على الأقل إسناد إدارتها إلى شخصيات عربية بحيث تتمتع بالحكم الذاتي الذي قد يفضي إلى درجة من درجات الاستقلال، وكان هذا التيار يتزعمه لورنس والمس جبرترود بل. في نفس السياق يوضح المؤلفان كيف أن عرش العراق كان مثارا لطموحات ومنازعات ومطالبات من شخصيات شتى.. وازنت بينها حكومة لندن بوحي من مؤتمر القاهرة. وكان على المس «جيرترود مرجريت لوثيان بل» أن تواصل جهودها لترجمة هذا الخيار المريح إلى سياسة ومن ثم إلى حقيقة واقعة في بغداد ـ العراق.

ولدت عام 1868 وكانت أقرب إلى شخصية هاربة من مسرحيات برنارد شو.. لا تتورع عن أن تحث خطاها، في مشية ذكورية كما يقول كتابنا، إلى حيث خيام مشايخ القبائل في بلاد العرب. وكانت أول امرأة تتأهل للحصول على درجة أكاديمية في التاريخ الحديث من جامعة أكسفورد (لم يتم منح درجات للنساء من أكسفورد حتى عام 1920) وبعدها واصلت زياراتها لأقطار شتى منها مصر، حيث ربطتها صداقة ـ استعمارية كما قد نصفها مع عميد الاحتلال البريطاني في القاهرة، لورد كرومر. وحين اجتذبتها دراسة آثار الحضارات القديمة لم تتردد في الرحيل إلى صحارى الشرق الأوسط، حيث حصّلت معارفها ما بين الدراسة العميقة والخبرة والتواصل المباشر مع القبائل، فضلا عن زيارات متعمقة للهن،د جمعت بينها وبين حكامها الإنجليز الذين دفعوها إلى أن تهتم بأحوال بلاد الرافدين، حيث أصبحت المساعد الأول للكولونيل ويلسون المسؤول عن العراق.. وسرعان ما أعلنت معارضته إلحاق بلاد الرافدين بحكومة الهند.

ولم يكن الأمر سهلا في العراق. ولا كانت المسألة رغبة أصيلة ـ دع عنك أن تكون نبيلة المقصد أصلا ـ في تكريس استقلال العراق: كانت المسألة تطوير نفوذ إمبراطورية بريطانيا الاستعماري بما يديم لمصالحها موطئ قدم في الشرق الأوسط. ولما كان فيصل الأول هو الحل الأيسر لمصالح بريطانيا فقد اقتضى الأمر مخططات ومؤامرات بعضها كان متدنيا ولكن شاركت جيرترود بل في حبكها وتنفيذه ا.. كيف لا تكون المؤامرة متدنية المستوى عندما يتلقى الزعيم العراقي السيد طالب النقيب دعوة من ليدي كوكس لتناول الشاي حيث قامت «المس بل» بدور المترجم بين الطرفين.. ولدى عودة الرجل إلى بيته في بغداد يتم القبض عليه واختطافه في سيارة قائد الجيش الانجليزي ثم نفيه خارج العراق إلى سيلان (سري لانكا) في انتهاك صريح سافر ـ كما يصفه كتابنا ـ لتقاليد الضيافة العربية والإنجليزية على السواء.

والمهم أن أصبح فيصل بن الحسين ملكا على العراق. والمهم أيضا أن نالت «المس بل» لقب الخاتون وقبل أن تتصور أن دانت الدنيا لها: سمعة وشهرة ومساهمة في تعزيز صرح الإمبراطورية البريطانية فوجئت كما يضيف مؤلفا الكتاب ـ بأن الملك الجديد الذي مهدت له كل السبل في بغداد.. يعارض ما طرحته هذه الاستعمارية العتيدة من ضرورة التصديق على معاهدة تؤكد هيمنة انجلترا ـ بالانتداب ـ على مقاليد الأمور وترسخ حقوقا لبريطانيا في العراق. هل صاحبتها نوبات من اليأس والإحباط حتى اللحظات الأخيرة؟ سؤال سيظل مطروحا ولن يجيب عليه بالطبع سلوكها حين عمدت يوم 11 يوليو سنة 1926 إلى ابتلاع جرعة من حبوب مسمومة، وكان أن ماتت خلال نومها تاركة رسالة توصي برعاية كلبها الوحيد الأثير وإن تركت سيرة حياة جعلت «نيويورك تايمز» تكتب في نعيها عبارات تقول: منذ أيام الملكة زنوبيا (الزباء) لم يقَّيض لامرأة أن تلعب مثلها دورا بالغ الأهمية في مقادير الشرق الأوسط.  

«لورنس أوف أرابيا».. شخصية مليئة بالتناقض والغموض
نواصل مع المؤلفين استعراضهما للشخصيات التي رسمت تاريخ الشرق الأوسط الحديث وكيف ساهمت في هذا الأمر على النحو الذي عكس مصالح بلادهم. ويقع في القلب من هذه الشخصيات لورانس العرب الذي صيغت الأساطير بشأن تأثيره في مسار الشؤون العربية خلال فترة الاستعمار، على نحو جعله من الشخصيات المحورية في تاريخ المنطقة الأمر الذي يبدو في احتلاله مكانة ريادية على صعيد ذكره على شبكة الإنترنيت سواء من حيث عدد مرات ذكره من ناحية، أو من ناحية الاهتمام بالكتاب الذي ألفه بعنوان أعمدة الحكمة السبعة من ناحية أخرى. ويشير المؤلفان إلى الطبيعة المتناقضة التي اتسمت بها شخصية لورانس حيث أنه فيما كان يمتدح البدو إلا أنه يصفهم في موضع آخر بأن عقولهم مظلمة. وحسبما يشير الكتاب فإن سيرة لورانس المهنية تبدأ مع دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى، حيث عاش حياة حافلة انتهت عام 1935 في حادث سيارة تراجيدي في نهاية درامية بقدر ما كانت حياته سلسلة من التآمر والجسارة.

على مدى أربع سنوات من الصراع والدمار اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى.. سقطت إمبراطوريات وزالت ممالك وذهبت نظم ودول إلى غياهب النسيان.. ضحايا الحرب بلغ عددهم ما يلي حسب الإحصاءات التي ينشرها كتابنا: 948 780 32 من بني البشر. لمعت في سياق الحرب ومآسيها أسماء وألقاب عديدة: جنرالات.. قباطنة.. جواسيس كولونيلات.. قادة في البر والبحر والجو بالآلاف.. ولكن يد الزمان ما لبثت أن أهالت على ذكراهم تراب النسيان. ولكن باستثناء اسم واحد ظل مذكورا وشهيرا بكل معنى وهو: لورانس.. الكولونيل الإنجليزي.. عميل الاستخبارات البريطانية ومستكشف صحارى الجزيرة العربية وصاحب الكتاب الذي يعد من عيون المؤلفات في الأدب الإنجليزي المعاصر بعنوانه الشهير: أعمدة الحكمة السبعة

وبحكم اهتمام العالم واهتمام كتابنا أيضا بالشرق الأوسط.. فما زالت شهرة لورنس متواصلة ربما حتى الحقبة الحالية التي تعيشها المنطقة. وبالإضافة إلى الفيلم الشهير الذي قدمه المخرج الإنجليزي «ديفيد لين» عن لورنس العرب فقد انتقلت شهرة لورنس إلى المواقع الإلكترونية على فضاءات الحاسوب. وفي هذا يقول مؤلفا الكتاب (ص 195): في نوفمبر عام 2006 كان اسم لورنس قد تردد ذكره مليون و920 ألف مرة بالتمام والكمال على موقع الشبكة العالمية.. وإذا ما قارننا هذه المكانة مع أنداد لورنس ومعاصريه من قادة الإمبراطورية البريطانية في تلك الفترة لوجدنا أن لورد كتشنر وزير حربية انجلترا ورد اسمه 339 ألف مرة.. وأن المارشال اللنبي لم يرد ذكره على شبكة الحاسوب سوى 41900 مرة.

أعمدة الحكمة: نيو كلاسيك
صدرت أول طبعة من كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» في عام 1926 وفي حدود 200 نسخة فقط.. وها هي النسخ الأصلية من طبعة كرنويل تعرض في منتديات الكتب وسط هالة من الشهرة والدعاية أسوة بسجل الأعمال الأًصلية لشاعر الإنجليزية الأكبر ويليام شكسبير. أما الطبعات المتوالية من هذا الكتاب فقد بلغ حجمها كما يحصي مؤلفانا ما يزيد على مليوني نسخة. وفي عام 1984. أحصى استقصاء أدبي صدور 30 ترجمة لسيرة حياة لورنس باللغة الإنجليزية، وما زال العدد يتضاعف، فضلا عما صدر في أقطار ولغات أخرى ما بين التركية إلى العربية والإيطالية والإسبانية والفرنسية والألمانية وغيرها.

إن كتابنا يتابع سيرة ومسيرة لورنس.. وخاصة عندما وفد على منطقة الشرق الأوسط يحدوه شغف غريب بأن يحقق ذاته في فيافي صحرائها وبين شعاب جبالها، وفي صفوف محاربيها الذين أعلنوا التمرد على السلطة العثمانية التي وضعت بلادهم تحت حكم الأتراك على مدى ما يقرب من 400 سنة من عمر العصر الحديث. هي نفس الفترة النفيسة التي استطاعت فيها أوروبا أن تتحول من حكم قبائل الهون البربرية إلى حيث بناء الدولة الحديثة. لا يفوت مؤلفا الكتاب أن يؤكدا على مدى التناقض ـ ربما إلى حد الانفصام الفكري في شخصية لورنس. وهما يوردان أمثلة على ذلك في سطور هذا الفصل الذي كتباه عن هذا الكولونيل الغامض.. والشهير في آن.

يوضح المؤلفان (ص 201) كيف كان لورنس يسترسل في أحاديثه مع جلسائه لاحتسائه القهوة العربية المرّة فيتكلم عن قيادته الجماعات التي تمردت على الأتراك، انطلاقا من منطقة الحجاز وصعودا إلى بر الشام. وكان يصفهم بأنهم مقاتلون من أجل الحرية ومناضلون في سبيل الاستقلال. ولكن في سطور كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» فقد آثر لورنس أن يسجل رأيا آخر تماما.. إذ كتب في تلك السطور يقول: كانوا يتصفون بعقول غريبة ومظلمة.. يستبد بها الإحباط والاكتئاب.. لا يعرفون النظام.. ولكن يعرفون الاندفاع الجسور انطلاقا مما كانوا يعتقدون. يواصل كتابنا تحليله لشخصية وطروحات لورنس فيقول: لقد جعل كل همّه أن يقسم السلطة في بلاد العرب بين أبناء الشريف حسين. لكن لورنس لم يكد يلقي بالا ولا تعامل بالجدية الواجبة مع المستقبل الذي ينتظر ذلك العالم العربي في ظل هذه الممالك: أين تقع حدوده؟ وما الذي يحدث للأقليات التي تعيش في إطاره؟ وماذا تؤول إليه انقساماته الدينية والقبلية والعرقية؟

باختصار يقول مؤلفا هذا الكتاب: كانت سياسة لورنس.. مثل شراذم المحاربين الذين كان يقودهم: ظاهرة أقرب إلى السراب أو الارتجال. في كل حال يتابع المؤلفان السيرة المهنية كما نسميها للكولونيل لورنس. ويعتبران أن محطتها المهمة الأولى هي دخول بريطانيا حلبة الحرب العالمية الأولى في أغسطس عام 1914. في هذه الفترة كان لورنس في انجلترا يتابع مع عالم الآثار الإنجليزي «ليوناردو وولي» إنجاز دراستهما المشتركة لمسح شبه جزيرة سيناء، لحساب صندوق استكشاف فلسطين (وكان مؤسسة تابعة للحركة الصهيونية.. إذ كانت سيناء من المناطق المقترحة للوطن القومي اليهودي المنشود). قبلها أمضى لورنس عدة مواسم ليشارك وولي في حفريات مناطق الحيثيين القديمة قرب الحدود التركية على نهر الفرات. وفي ديسمبر من نفس العام صدر القرار بنقل لورنس إلى مصر كي يلتحق بالمكتب العربي المسؤول عن الاستخبارات الإمبراطورية تحت قيادة الكولوينيل كلايتون. وفي القاهرة تشكلت جماعة لورنس التي ضمت عددا من الضباط الاستعماريين الشبان الذين اعتبروا أنفسهم متمردين على البيروقراطية البريطانية، ومطالبين بالتحرك من أجل تشكيل معالم شرق جديد على أنقاض السلطة التركية القديمة، وخاصة بعد أن دخلت اسطنبول العثمانية الحرب العالمية في صف ألمانيا غليوم، وطبعا ضد بريطانيا وفرنسا. أما مقر معيشة واجتماعات هذه العصبة من الضباط الإنجليز فكان فندق سافوي في قلب القاهرة، الذي شهد بدوره انضمام السيدة الوحيدة إلى هذه المجموعة لتشاركهم مخططاتهم المشرقية وهي «جيرترود بل» التي فصلنا الحديث بشأنها.

شهدت هذه الفترة بدورها ظاهرة تعرف في تاريخنا المعاصر باسم «مراسلات حسين ـ مكماهون».. الأول كان حاكما لمدينة مكة والثاني كان مفوضا ساميا في مصر.. دارت المراسلات حول ما وصف بأنه «العمل المشترك» (ضد تركيا) بمعنى أن تعترف بريطانيا باستقلال «الأمة العربية بأسرها» مقابل وقوف العرب وحركتهم ضد مصالح الأتراك أعداء ملك الإنجليز. جاءت المبادرة من جانب الشريف حسين الذي عرض هذا التحرك من جانب العرب ويقول كتابنا: إن الإنجليز تلقوا هذا العرض.. وتدارسوه وحللوه ثم أعادوا تحديد معالمه بطريقة غامضة وملتبسة ومبهمة خلال تلك المراسلات السرية التي استمرت حتى مارس 1916. وكان من شأنها أن أفضت إلى خلافات وتضاربات في تفسير العروض والنوايا والوعود تحت شعار (شديد المراوغة) هو: من أعطى ماذا؟

وهنا أيضا يلمح مؤلفانا التناقض إلى حد الانفصام في شخصية لورنس التي رسمت الأحداث والوقائع والتطورات وهي صورة ذات بعدين: الأول: هو لورنس الكولونيل الاستعماري، عميل الاستخبارات البريطانية الذي يحمل إلى بدو الصحراء العربية أموالا وسبائك ذهبية لتحريضهم أو فلنقل إغرائهم من أجل قتال الأتراك. والثاني: هو لورنس أوف أرابيا الذي يسجل في صفحات كتابه وقائع وشهادات عن شهامة البدو واعتزازهم بشجاعتهم وإيمانهم بقضية الاستقلال والتحرر من ربقة الأتراك. وبين المقاتل في الصحراء.. والممول لشراذم المقاتلين تتجلى الصورة الثالثة المرتبطة بلورنس.. وتجسدها شخصية المستشار السياسي الذي شهدته كواليس مؤتمر الصلح في باريس بعد الحرب في عام 1918 ناصحا للأمير العربي فيصل ابن الحسين الذي انتدبوه لكي يعرض قضية عرب المشرق ضد تركيا (المهزومة). في نفس الوقت كان لورنس مستشارا لدى ونستون تشرشل مسئول الاستعمار الأول في الحكومة البريطانية.

ويعلق كتابنا في هذا السياق قائلا (ص 211): بعدها أمضى لورنس سنة كاملة وحاسمة أيضا وهو يعمل على توطيد عرشي العراق وشرق الأردن لصالح نجلي الشريف حسين ( فيصل وعبد الله ) بل ظل يسعى ـ بقدر أقل من النجاح ـ للتوفيق بين أفكار الزعماء العرب وبين خلق «وطن قومي صهيوني ترعاه بريطانيا في فلسطين» وعندما عاد إلى إنجلترا انتخبوه زميلا في جامعة أكسفورد، وعكف على تأليف كتابه الذي كان يأمل في أن يكون مدرجا في سلك الروائع، ويقارن يوما بأعمال من طراز الحرب والسلام (تولستوي) أو موبي ديك (هيرمان ملفيل) أو الأخوة كارامازوف (دستوفسكي).

وفي عام 1922. أقدم على خطوة غريبة وجسورة وكان قد بلغ الثانية والثلاثين فتطوع كمجند طيار في سلاح الجو الملكي البريطاني.. واتخذ لنفسه اسما مستعارا هو الجندي.. روس.. كان يريد العمل تحت ستار من السرية.. لكن السر تسرب إلى الصحافة حيث صدرت الدايلي إكسبريس وعلى صدر صفحتها الأولى عناوين تقول: الملك غير المتوج.. أصبح نفرا مجندا. لورنس أوف أرابيا.. بطل الحرب يتحول إلى جندي بسيط التماسا للسلام والهدوء كفرصة يكتب فيها كتابه المرتقب. وفي مايو عام 1935 انتهت حياة لورنس في حادث سيارة تراجيدي وكأنما شاء أن يكون نهايته درامية بقدر ما كانت حياته سلسلة من التآمر والجسارة والمغامرة في آن واحد. 

لقطات من مسلسل لعبة التجسس في المنطقة
يختم المؤلفان كتابهما بتناول مجموعة من الشخصيات التي تركت أثرا بارزا في المنطقة وهى عديدة ومنها اللورد كرومر وجون فيلبي وجون باجوت جلوب ومايلز كوبلاند انتهاء ببول وولفوفتز. وفي تناولهما للورد كرومر يشيران إلى أنه لم يكن مجرد شخصية عبرت مسرح أحداث المنطقة وسجلت موجز تجربتها في كتاب تأسيسي صدر في عام 1908 بعنوان «مصر الحديثة». لقد كان الرجل نموذجا احتذاه ونسج على منواله أكثر من شخصية عسكرية أو استكشافية أو مخابراتية.. جاء أصحابها من الغرب ـ انجلترا ثم أميركا بالذات ـ وتركوا بصماتهم على مواقع وأحداث شتى في أنحاء الشرق الأوسط (العربي ـ الإيراني) كان على مؤلفيْ كتابنا أن يعرضا سيرة كل من هذه الشخصيات المؤثرة التي تسامعت بها حوليات تاريخ المنطقة ما بين فيلبي في قلب الجزيرة العربية إلى باجوت جلوب (باشا) في شرقي الأردن إلى كيرميت روزفلت (في إيران) إلى مايلز كوبلاند صاحب كتاب «لعبة الأمم» ثم بول وولفوفتز الذي احتلت سيرته الفصل الثاني عشر، آخر فصول هذا الكتاب.. وقد اختار المؤلفان عنوانا طريفا لذلك الفصل وهو: الرجل الذي عرف أكثر من اللازم من كرومر إلى جون بردغر فيلبي الذي ولد عام 1885 بعد عام واحد من انعقاد مؤتمر برلين بعنوانه الشهير في التاريخ التسابق (بمعنى التكالب) على أفريقيا.

ويرى المؤلفان في حياة فيلبي شبكة معقدة من التناقضات. لقد تعلم على مستوى راق في جامعة كامبردج.. واعتنق الفكر الاشتراكي المنسوب إلى المدرسة الفابية البريطانية، وتنقل بين أحراش الهند إلى فنادق القاهرة إلى أهوار العراق.. وإن كانت شهرته قد ذاعت واتسعت عندما وجد نفسه ـ كما يقول كتابنا على ظهر جمل نشيط في طريقه إلى الرياض عاصمة نجد من شبه الجزيرة العربية وكان ذلك في نوفمبر عام 1917 نفس الشهر الذي صدر فيه وعد بلفور المنذر بإقامة كيان صهيوني معاد لكل سكان الشرق الأوسط. ثم تواصلت أقداره مع تطورات إنشاء الدولة السعودية وشاءت تناقضاته أن يعلن الولاء للعرب من ناحية، وأن يكتشفوا أنه كان يتقاضى راتبا سريا بمبلغ ألف جنيه استرليني في الشهر بأسعار العشرينات والثلاثينات من شركات البترول من ناحية أخرى.. ويبلغ التناقض مداه حين يعرض المؤلفان الحياة المزدوجة التي كان يعيشها نجله «كيم» الذي كان مراسلا صحافيا إنجليزيا في بيروت، ثم اختفى فجأة ليظهر شيوعيا مخضرما في الاتحاد السوفييتي بعد أن عمل جاسوسا مزدوجا للطرفين.

أما جون باغوت غلوب فيظهر بالصور دائما في حلته العسكرية باعتباره قائدا لجيش صغير مقتدر (عنوان الفصل 11 من الكتاب) وهو التشكيل العسكري الذي سجله تاريخ المنطقة باسمه المعروف: الفيلق العربي.

ومرة أخرى تتجسد ظاهرة التناقض.. أو فلنقل تعدد الأبعاد في شخصية هؤلاء الرجال (والنساء أيضا) الذين تداخلت أقدارهم مع مصائر الشرق الأوسط وكانوا في الأغلب الأعم إفرازا للحقبة الإمبريالية التي عاشتها الإمبراطورية بريطانيا العظمى في أوائل القرن العشرين حيث يقول الكتاب (ص 264) : جون باغوت يعرفه العرب باسم «أبو حنيك» (إشارة إلى شدقه الصغير) ويعرفه أصدقاؤه الإنجليز باسم «جاك» ويعرفه الجمهور والساسة باسم «غلوب باشا». ورغم أن شهرته كانت ذائعة في عقدي الأربعينات والخمسينات إلا أنه أصبح اليوم مجهولا أو يكاد.

يستدرك المؤلفان في تفسير أو بالأدق تبرير الفصل الذي كرساه للحديث عن الباشا الإنجليزي.. يطرحان هذا التفسير في 6 أسباب نوجزها كما يلي:

(1) ـ إنه أفضل من يجسد في رأيهما علاقة العسكري المحترف (من الغرب) مع بدو الصحارى (في الشرق الأوسط).

(2) ـ إنه كان مشاركا خلال أيام وجوده بالعراق في ترويع أبناء قبائل الرافدين ومحاولته إخضاعهم بواسطة غارات الطائرات.

(3) ـ إنه استخدم الفيلق الذي كان يقوده في شرق الأردن لدعم مقاومة بريطانيا لثورة رشيد عالي الكيلاني في بغداد عام 1941.

(4) ـ إنه استطاع أن يقود هذا الفيلق في حرب 1948 إلى حيث احتلال القدس الشرقية.

(5) ـ إنه يكاد يجسد شخصية درامية تتصارع فيها نوازع الولاء بين مصالح وطنه الإنجليزي الأول، وبين وجوده في خدمة الأسرة الحاكمة بالأردن.

(6) ـ العامل الأخير تلخصه بكلمات مؤلفي الكتاب (ص 265) على النحو التالي: كان قرار طرده المباغت على يد الملك حسين في 1/ 3/ 1956 من العوامل التي مهدت لنشوب أزمة السويس (تأميم القناة وحرب العدوان الثلاثي) وهي الأزمة التي أنهت الهيمنة البريطانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط.  

حقبة ما بعد الحرب الثانية
ابتداء من الفصل العاشر يتحول بنا الكتاب من مراحل ما بعد الحرب العالمية الأولى ونتائجها إلى الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وامتدت حتى أواخر القرن العشرين.. وهي المرحلة التي شهدت تأكيد دور أميركا بوصفها القوة الأساسية التي خرجت بزهو الانتصار على محور النازي ـ الفاشي ـ الياباني في الحرب الأخيرة وتسلمت من ثم مقاليد الهيمنة على مقاليد العالم، لا من خلال الاحتكام المستمر إلى السلاح والسطوة الإمبريالية على نحو ما فعلت بريطانيا أو فرنسا في أزمنة خلت، ولكن بفضل استخدام أميركا للقوى الناعمة الثقافية.. الفنية.. التقنية بالدرجة الأولى. الحقبة الجديدة التي يعرض لها الكتاب تبدأ من حيث الزمن في عام 1951. وتتجلى على مسرح كان ملتهبا في الشرق الأوسط اسمه إيران.. وبالتحديد البرلمان الإيراني في طهران حيث صدر القرار بتأميم شركة النفط الانجلو ـ إيرانية عقب رفض لندن تعديل الشروط (المجحفة في رأي طهران) للامتياز السابق توقيعه عام 1933. وكانت القوة المحركة لهذه البادرة الإيرانية هي حكومة الدكتور محمد مصدق. يومها نشطت لندن إلى إسقاط هذه الحكومة الوطنية.

وعندما نجح تشرشل البريطاني في التفاهم مع الجنرال إيزنهاور الذي كان قد نجح للتو في انتخابات الرئاسة الأميركية على المشاركة في حل «المسألة الإيرانية» أصبح المجال مفتوحا للمخابرات الأميركية.. ورجلها في طهران كيرميت روزفلت ـ «الأميركي الهادئ» كما يصفه الفصل العاشر من هذا الكتاب.. كان «كيم» هو الذي دبر انقلابا ضد الدكتور مصدق.. وهو الذي هيأ الجنرال زاهيدي لقيادة الجيش لصالح الشاه.. وهو الذي موّل تنظيم المظاهرات التي رددت في شوارع طهران عبارة «شاه بيروز آست» معلنة بالفارسية انتصار الشاه.

كان كيم وقتها في السابعة والثلاثين.. شارك في الحرب العالمية الثانية ثم التحق بجهاز المخابرات الأميركي الوليد وقتها.. واستهواه التخصص في منطقة الشرق الأوسط.. بل اتخذ لنفسه مقرا في قاهرة أواخر الأربعينات وفواتح الخمسينات، وكأنما كان يستعد لعمليته الكبرى في إيران التي حملت اسم «أجاكس» وصنعت له شهرة بغير حدود في بلاده وفي انجلترا على وجه الخصوص. عن هذه الشهرة والثقة البريطانية يحكي كتابنا (ص 345) ما يلي: في سنة 1956 زار كيرميت روزفلت لندن. وتوجهت إليه المخابرات البريطانية تحدوها آمال في إقناعه بالمشاركة في عملية جديدة تحمل اسم «انفاسن» ومعناها «عملية فك الحزام أو فك الارتباط» وكان هدف العملية محددا وهو: اغتيال جمال عبد الناصر في القاهرة. يضيف كتابنا قائلا: لكن روزفلت أحجم بحصافة وكياسة عن هذه المشاركة.. وبعدها أصبحت الخطة في خبر كان.

لعبة الأمم ومصداقية الكتابات
عن مايلز كوبلاند.. ينشر المؤلفان فصلا كبيرا تحت عنوان يمكن ترجمته كالتالي: تلميذ الشعوذة أو المشعوذ المتدرب. وفي كل حال.. فهذا الفصل يفتح ستار أحداثه على الرباعي الذي تعوّد رواد السان جورج في النصف الثاني من الخمسينات أن يروه معا.. والرباعي يتألف من سام بريور، مراسل النيويورك تايمز وزوجته الحسناء اليانور، وكيم فيلبي الصحافي البريطاني، وأخيرا مايلز كوبلاند الذي عاش من قبل في دمشق والقاهرة قبل أن يستقر في بيروت. كان يجمع بينهم لقاء البار في الفندق الفخيم.. ولكن كان الأهم أن الرابط الأساسي هو صلة كل منهم بشكل أو بآخر مع أجهزة الاستخبارات في كل من لندن وواشنطن. فأما سام فقد طلق امرأته.. وأما زوجته اليانور فقد اختارت أن تتزوج «صديقه» كيم. أما كيم نفسه فقد فوجئ العالم كله باختفائه ثم ظهوره في موسكو السوفييتية بعد أن اتضح أنه كان عميلا مزدوجا لكل من مخابرات بريطانيا والكي جي بي الشيوعي.

بقي مايلز كوبلاند الذي ذاعت شهرته بعد صدور كتابه بعنوان «لعبة الأمم». وعن سيرة الرجل يحرص المؤلفان على إبراز الجوانب المعتمة منها.. وأولها عدم تحديد سنوات ميلاده وثانيا عدم وضوح مؤهلاته الدراسية التي اقتصرت على شهادة الثانوية الصناعية في عام 1931. أو ربما في عام 1932 كما يخمن المؤلفان (ص 352). بعدها يحار المؤلفان في متابعة تطوره المهني، ما بين التحاقه بالحرس الوطني في أميركا أو بسلك المخابرات في بريطانيا أو نشاطه في دمشق حيث يصور كوبلاند نفسه على أنه القوة المحركة لأحداث سوريا في أواخر الأربعينات وإن كان المؤكد أنه أصدر قاموسا بالمصطلحات العامية عند العرب. والمؤكد أيضا أن كان له دور ما.. أيا كان حجمه في انقلاب حسني الزعيم عام 1949. وأنه كان على صلة ببعض الضباط الأحرار من مساعدي وسكرتيري عبد الناصر بعد ثورة يوليو 1952. وأنه اختير لتسليم أحد هؤلاء المساعدين هدية مالية لعبد الناصر من الرئيس الأميركي إيزنهاور بمبلغ 3 ملايين دولار.. وهو ما أثار ضيق الزعيم المصري الشاب (ص 373) الذي أوشك على رفض الهدية وردها.. ولكنه ارتأى استخدامها في تشييد برج القاهرة المعروف حاليا. عن كتاب لعبة الأمم يوضح المؤلفان (ص 379) أن ما من سبيل لتوثيق مدى المصداقية التاريخية لمثل هذه النوعية من الكتابات لأن عالم التجسس أقرب إلى برية متعددة المرايا، لا يرتع فيها سوى خيال الروائيين والمسرحيين ومخرجي الأفلام.. ولا يوجد مثال أبلغ على ذلك من حياة وأعمال مايلز كوبلاند نفسه.  

سلسلة من الأخطاء
أخيرا يصل الكتاب إلى بول وولفوتز.. الأكاديمي الأميركي الحاصل على دكتوراه في الرياضيات.. وبوصفه من غلاة المحافظين الجدد، فقد كان النائب رقم واحد لوزير الدفاع رامسفيلد الذي أسند إليه دور مهندس غزو العراق. هنالك استخدام وولفوتز عقليته الحسابية ليؤكد أن عملية الغزو لن تتكلف شيئا، بل سيتكفل بترول العراق بمصاريف السيطرة على العراق، خاصة وأن أهله سوف يستقبلون الغزاة الأميركان بالترحيب والرياحين. وبديهي أن هذا كله لم يحدث.. فالشعوب العريقة ترفض مخططات الغزو والاحتلال مهما كانت الشعارات. والذي حدث هو أن اضطروا إلى نقل وولفوفتز من الحربية إلى البنك الدولي حيث اضطر هو شخصيا إلى الاستقالة بسبب معارضة موظفيه لسلوكياته التي جمعت بين الانحراف الأخلاقي وبين المحسوبية الوظيفية.. الأمر الذي يدفعنا إلى تصوّر أن الرجل الذي يعرف أكثر من اللازم (عنوان الفصل الأخير من الكتاب) فشل شخصيا في أن يضع هذه المعرفة في خدمة الحق والخير أو الإنسانية. 

الكتاب: عملية اختراع الشرق الاوسط
الناشر: نورتون وشركاه، نيويورك، لندن
الصفحات: