يكتب القاص المغربي لحظات فارقة في حياة الراوي من خلال علاقتة بالبحر، وهي علاقات متعددة الدلالات والأسماء، وكيف شكلت تلك العلاقة رؤاه ومشاعره بحيث صار البحر وجهه الآخر الملازم له.

بحر يتلون

عماد الورداني

 

1 ـ بحر الذكرى
شرفة منزلنا قريبة من الشاطئ، فلا تكاد تطل حتى يلفحك نسيم البحر العليل، وغرفتي التي بجانب الشرفة، تجعل منظر الأصيل، حيث تغرب الشمس في البحر، منظرا أحرص أشد الحرص على متابعته. أقنعت نفسي بهذه الفكرة، لكن أبي عبثا يشرح لي اختفاء الشمس، ولأن الشمس كبيرة تضيء منزلنا في تطوان، وتضيء مكان الاصطياف، والمدرسة، وأي مكان أذهب إليه، فلابد أن البحر كبير مثل السماء.

أقف مشدوها أحملق في هذه الزرقة المشتعلة، وكأنني أنتظر أجوبة تؤكد رؤيتي وتدحض فكرة أبي. استمرت علاقتي بالبحر تنمو، وتكبر حتى أصبحتُ أعتلي موجه. مرة أخرى كان أبي عبثا ينصحني بأخذ الحيطة والحذر. لكن البحر يخرج ما لا ينتمي إلى صلبه، قلت لنفسي، وتمنيت لو يفهم أبي الأمر. البحر لا يمكن أن يقبل بي ضيفا في أغواره. أكيد أنه يرمي كل ما يشوه بهاءه؛ إذ تستفزني كل صباح تلك الأشياء الغريبة من أحذية ممزقة، وبقايا قنينات، ومواد خشبية، ترسو على حافة الشاطئ.

إنه البحر، وحده يعين من ينتمي إليه، وكم منيت نفسي أن يحتضنني يوما إلى الأبد. كبرت مرة ثالثة، أبي كان قد رحل.. وظلت أمي وفية لذكراها، حيث نصيٌَفُ كل سنة في المكان المعهود.. ظل البحر موحشا يذكرني بنصائح الوالد، التي لم تتخلص منها ذاكرتي، هنا كان أبي يجلس، يصطاد في هذا المكان، وهناك تحت المظلة استراح إلى الأبد.

2 ـ بحر الابتلاع
الشمس تبدو بعيدة، وكأن البحر يبتلعها، تدخله ببطء. أتأمل ذاك المكان الذي ابتلع جزءا من واقعي في هذه المدينة. كان شابا طموحا، يفكر فيما يأتي، وفي دراسته تفوق على غيره، يعرف كيف يثبت موقفه من العالم. لكن الزمن لم يسعفه حتى يصبح إنسانا له مواقف تحترم، ويعيش من أجلها، ظلت تحليقاته الكثيرة مجرد أحلام لم تتجاوز أسوار الجامعة. كنا نطالع قرب البحر، لهذا وعدنا بأشياء كبيرة، وأخلف وعده، نعم يستمع لبوحنا، وحماقاتنا، ويبقى صامتا حتى حسبنا أن صمته علامة رضاه.. تلك الأحلام، جعلتنا نعيش حالة ضياع، حيث يمتد طوافنا اليومي من بداية المتاهة إلى نهايتها، ولا جديد يذكر مع غروب شمس الأصيل.. في منطقة مختفية من نفسه، قرر وحسم، لأول مرة اتخذ قرارا انفراديا دونما استشارتي..

أوحى إليٌَ بفكرته، خمنتُ ولم أهتدِ إلى جواب شاف، احترمتُ قراره. نعم نوى الابتعاد عن ساحلنا، واللقاء بأقرب ساحل، يستوعب قبس أحلامه المشتعل، ولأنني تحمست لفكرته، وشجاعته، التي لا أملكها، ورأيت أن حلمه جزء من أحلامي.. أقرضته ما بحوزتي.. جمع ما جمع.. ركب رحم الليل، والتحق بنوارس حالمة، مثله هائمة، تبحث عن سؤال يقيها مرارة الواقع.. فكان.. لم يخبرني بالموعد وبالطريقة.. سار يمخر عباب هذا المتوسط، يصارع مجهولا طالما اعتقدنا طيبوبته، كان طموحا، وطموحه لم يتجاوز تلك الرمال التي نحتنا فيها أحلامنا وهواجسنا.. كم كانت صدمتي يا بحر حينما لفظت أحلامي، وشتتها على رمال سوداء قاتمة، لا تصلح حتى للرثاء. هل كنا رومانسيين إلى هذا الحد؟ أجوبة أبي كانت صحيحة، فأنت أناني، تأكل أحلامنا لتعيش. 

3 ـ بحر الانتظار 
وكان البحر موعد الغروب، ينتظر أسئلة البوح. تأخرتُ في التفكير، هي لم تأت، أخلفتْ موعدها، أنجزتُ عددا من السيناريوهات لعل فراستي تجيب، هل تتمنعُ أم هذا آخر انتظار؟ هكذا كلمتني أمواج البحر، أتراها تتنكر؟ وأنا الذي آمنت أن الإنسان هو هو لا يتغير.. نصف ساعة تكفي، أكل الساعات تكفي؟ كل سيناريو أنجزه، ينهار كسؤال مارد، يمحقه عباب الوجود، نعم فشلت السيناريوهات.. والزمن تجمد فيٌَ، لم تعد سوى نسمة هذا الممتد تناوش نظري، أجيل به في أعماق المتوسط، فلا أرى شيئا، أثلج صدري بالانتظار.

المبررات كانت أقوى منها، ورياح الشمال عاتية، هي لم تحسم شيئا، ظلت سؤالا معلقا.. وهذا ما أعاقني.. هل خنت القسم وتنكرت لها؟

الرياح كانت قوية، وصوتها بدا شاحبا. أبوها أصر على موقفه. وصوتي أصابته الحبسة، واكتفيت بالنظر.. سأقول في نفسي، إن حياتي المتقلبة لا تسمح لي، ومصروفي لا يكفيني، أحبك لكن لا أقدر على خبز الشعير بزيت الزيتون، هل هي لعبة؟.. أم ماذا؟.. هي لم تأت لنصحح أخطاءنا، ونتبادل الذكرى، ونعلن رفضنا معا. المتوسط كان شاهدا.. هل  البوح خائن؟ كنت الوحيد من يعرف كل شيء، لكن كعاداتك لم تسعفني في شيء، هل كنت صادقا معها؟ أنتظرُ كثيرا. فربما أصابُ بنوبة جنون أو لسعة برد، تخلصني من ورطة الانتظار.. وهي لم تأت لنضع أحلامنا أمامك.. هي، هي.. سأنتظر زمنا آخر عساها.. أتذكر نصيحة الحاج: "الحب صعب والبحر لا يلفظ سوى الأشياء التي لا تنتمي إلى عالمه.." هل أنا هين أمامك يا بحر؟.. وأنت الذي علمتني كيف أحب دون سؤال وأن أسامح.. البوح  صعب والغروب محقه النحيب.