رسالة القاهرة

تدشين المنتدى العربي لقصيدة النثر

شوكت المصري

منذ أقل من خمسة أشهر، وحينما أعلنت لجنة تتكون من عدة شعراء مصريين ينتمون لكتاب قصيدة النثر عن تنظيم ملتقى قصيدة النثر الأول بالعاصمة المصرية القاهرة، وفي توقيت انعقاد مؤتمر الشعر العربي الثاني بالمجلس الأعلى للثقافة، لم تكن توقعات أكثر المتفائلين تفاؤلاً، بل وحتى منظمي الملتقى أنفسهم، أن يحقق الحدث ذلك النجاح الباهر الذي حققه، ولا أن يثير ردود الفعل التي أثارها سواءً تلك التي سبقته أو التي واكبته وحتى التي مازالت تتبعه حتى وقتنا هذا. فقد اعتاد المصريون منذ عقود عدة أن يبوأ أي نشاطٍ فردي أو أهلي بالفشل والتعثر لأسباب متنوعة، بعضها مالي وبعضها سياسي وبعضها الآخر يتعلق بالشخصيات القائمة على ذلك العمل، ورغبة بعضهم في تحقيق مكاسب خاصة، دونما فهم حقيقي لطبيعة العمل الأهلي العام، وضرورة نزاهة القائمين عليه، ووعيهم بطبيعة التجربة والتحدي الملقى على كواهلهم بعيداً عن الالتفات للمصالح الشخصية المباشرة.

وقد شهد الوسط الثقافي المصري في الستينات ومطلع السبعينات تجارب أهلية نجح أصحابها في ترك بصمتهم عليها وأثبتوا من خلالها قدرتهم على تغيير ماء البحيرة الراكد، وليس مجرد إلقاء حجرٍ فيه فقط، وقد كانت مجلات الكاتب وإضاءة وجاليري 68 أوضح مثال على نجاح مثل تلك التجارب، وتأكيد ما يمكن للمثقفين فعله خارج إطار المؤسسة الرسمية إن أرادوا وقدّموا مخلصين لتحقيق تلك الإرادة فعليا على ساحة الواقع والوجود. لكن هذه الشواهد الثقافية عانت كثيرا من الغياب عن الساحة الثقافية عموما والأدبية على وجه الخصوص في العقدين الأخيرين، حتى كان تنظيم اللجنة التحضيرية لقصيدة النثر لملتقى القاهرة الذي عُقِدَ منتصف مارس الماضي، والذي غطت فعالياته رسالة مجلة الكلمة اللندنية في عددها الثامن والعشرين الصادر في أبريل الماضي على الرابط التالي(1)، وبعد نجاح الملتقى في تحقيق الهدف المنشود حرصت اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين برئاسة الأستاذ علاء ثابت، بالتعاون مع اللجنة التأسيسية للملتقى على تفعيل توصيات الملتقى بشكل سريع وفاعل، وقد تمثل ذلك التفعيل في الإعلان عن إقامة المنتدى العربي لقصيدة النثر، والذي تقرر عقده بشكل نصف شهري بقاعة طه حسين بنقابة الصحفيين برئاسة الشاعر والروائي المصري صبحي موسى، وافتتحت فعالياته منتصف شهر يوليو الجاري بندوة لمناقشة ديوان "سارق الحدائق" للشاعر والناقد العراقي المقيم بالقاهرة خضير ميري، بحضور لفيف من الكتاب والمثقفين جاء على رأسهم الأستاذ الدكتور عبد المنعم تليمة، والشاعر أمجد سعيد رئيس بيت الشعر العراقي، والكاتب العراقي حسن متعب، بينما اعتذر عن الحضور كلٌ من الناقدين الدكتور صلاح السروي والدكتور أيمن تعيلب.

وقد افتتحت الندوة بكلمة للشاعر صبحي موسى دشّن فيها فعاليات المنتدى بكلمةٍ مختصرة حملت الكثير من المفاجآت، والتي جاء فيها: "إن هذا المنتدى تأسس انطلاقاً من الملتقى الأول لقصيدة النثر، والذي عقد بالقاهرة مطلع هذا العام، وقد نبع هذا المنتدى من توصيات الملتقى التي حتمت ضرورة البحث عن شتى أداءات العمل الثقافي الموطّدة لحضور هذا النص الشعري في الشارع العربي، لكنها البداية فقط، فمنتدانا هذا هو نقطة الانطلاق الأولية نحو مشاريع ثقافية أخرى، كإصدار مجلة باسم قصيدة النثر، وعمل انطولوجيا لشعراء قصيدة النثر العربية بشكلٍ متجدد، هذا بالإضافة إلى تقديم ترجمات لنصوص شعراء قصيدة النثر إلى عدة لغات ونشرها بدايةً على موقع إلكتروني يحمل اسم المنتدى ويرصد فعالياته وأنشطته، وهي في مجملها مشروعات شرعنا في إنجازها بالفعل ولا نحتاج إلا للتعاون المثمر بين أبناء هذا النص الشعري والمحبين الحقيقيين للأدب والفعل الثقافي".

وعقب هذه الكلمة بدأت فعاليات الندوة الافتتاحية والتي قدم لها أيضا الشاعر صبحي موسى عارضاً في ثنايا تقديمه أمَله في تحقيق المنتدى لطموح القائمين عليه، ومؤكدا على أن اختيار المنتدى لشاعر عربي من العراق جاء بغرض التأكيد على أن المنتدى لا يخص المصريين فقط، وأن فكرة النزعة المركزية القُطْرِيَّة للثقافة لم تعد موجودة، وأن الثقافة المصرية إذا رأت أو شاءت لها الظروف الحالية أن تكون حاضنة للثقافة العربية، فهي في ذلك الاحتضان تشبه القاطرة التي تشد الثقافة العربية كلها إلى الأمام، وهذا يحتّم عليها أن تحتفي بأبنائها المجاورين، دون الاقتصار على النظر إلى الداخل، بزعم أن المصريين فقط هم القادرون على التأثير والفعل في الوسط الثقافي أو غيره من المجالات على تعددها واختلافها. ثم تحدث صبحي موسى عن سمات نص خضير ميري الشعري وتحديدا عن ديوانه "سارق الحدائق" الذي تأتي نصوصه ملتبسةً ككاتبه، وملغزةً كحياة مؤلفها، وعقب ذلك التقديم كانت أولى المداخلات النقدية للأستاذ الدكتور عبد المنعم تليمة، الذي تأتي مشاركته في أولى فعاليات المنتدى تأكيداً على دعمه للرؤى الجديدة في النقد والإبداع، ومحاولةً لتقديم تصورات منتظمة لكتابةٍ قلما يتعرض لها نقاد كبار بالدرس والتحليل، ورغبةً في التواصل مع الأجيال الجديدة ودعمهم بالخبرة والتوجيه.

وقد أكد الدكتور تليمة في بداية مداخلته على أمرٍ جوهري غايةٍ في الأهمية، وهو الوقوف أمام كلمة نثرية التي تصدرت غلاف الديوان "نصوص نثرية"، والتي أبدى الدكتور تليمة رغبته في رفعها من على الغلاف في مقابل إثبات كلمة نصوص دونما وصفٍ لها؛ بهدف عدم تقييد المتلقي أو الناقد بأطر نوعية مسبَقَة، ومن ثم تساءل الدكتور تليمة عن ماهية قصيدة النثر، وعن رغبة مبدعيها في الوقوف تحت هذا المسمى النوعي الملغِز، أليست هي قصيدة في النهاية، أم أننا نرغب بهذه التسمية أن نقع على أرض الخصوم، خصوم الإبداعية الحقيقية المطلقة الذين يقيدون الأمور بتقييدات هي في جوهرها دخيلة؟! ومع تأكيد الدكتور تليمة على عشقه لكلمة نص كحاملٍ لتوصيف الإبداعية في إطلاقها وشمولها، بدأ الدكتور تليمة في الولوج إلى عالم الديوان الشعري، عبر ثلاث وقفات أساسية تمثل المداخل والنتائج في آنٍ واحد، الوقفة الأولى هي أن الديوان يعكس شكلاً من أشكال كتابة السيرة الذاتية بأركانها المكتملة، حيث يعكس الكتاب رحلة مبدعه مع العذاب والجنون في فترة معيشته داخل مصحةٍ للأمراض العقلية ببغداد، ورأى الدكتور تليمة أن هذه الرؤية السيرية تحمل إضافةً للتاريخ والحضارة الإنسانية، إذ تعكس أحداث فترةٍ شديدة التعقيد عاشتها منطقة من أهم المناطق في التاريخ الحديث والمعاصر كما في التاريخ العربي والإسلامي ألا وهي العراق صاحبة حضارة الرافدين وصاحبة الشاهد المعاصر على الديكتاتورية والطغيان والعدوان والمقاوَمَة أيضاً، ورأى الدكتور تليمة أن المبدع استطاع نقل كل تلك المشاهد والأحداث والتوترات عبر سيرة ذاتٍ مبدعة تكتب معاناتها الخاصة وتعكس في الوقت نفسه معاناةً عامة وصورةً للمشهد العراقي الحزين والمشهد الإنساني المضطرب.

أما الوقفة الثانية فتناول فيها الدكتور تليمة الحالة الملحمية التي يعكسها الديوان، فديوان خضير ميري "سارق الحدائق" يعكس عبر نصوصه حالة من الفردية المستمرة والاغتراب الدائم، لكن الدكتور تليمة رأى أن هذا الاغتراب ليس مجانياً وأن هذه الفردية ليست عدمية، وإنما هما يتوّجان بنزوع صوفي لا يخفى على القارئ البصير ولا الناقد الخبير، نزوعٌ صوفي لا ينتمي للشعبوية الشيعية ولا الشعبية المسيحية اللذان ـ كما يرى الدكتور تليمة ـ تحولا بتصوف الشارع لحالةٍ أقرب إلى الشعوذة والدجل، وإنما هي صوفيةٌ أقرب لنزوع مولانا ابن عربي ومولانا جلال الدين الرومي، والتي بتحققها تعصم الاغتراب من المجانية وتعصم الفردية من العدمية وتدفع إلى الملحمية التي تُعَد السمة الرئيسية الثانية لديوان ميري، لكنها ملحميةٌ خاصة لا تنتمي للأعمال الإبداعية التي تستهدف بتصوير الفرد توجيه الجماعة كلها، كما كانت إبداعات محفوظ وكتابات طه حسين. ثم تناول الدكتور تليمة في وقفته الثالثة البعد الفني العام للديوان، والذي يتأسس على حالةٍ موسيقية خاصة تشبه على حد تعبيره موسيقى موتسارت على البيانو، فالدكتور تليمة يرى أن هذا الديوان هو امتداد لنصوص إبداعية سابقة للمبدع، أو بمعنى آخر هو تنويعة من تنويعات حالةٍ كتابية خاصة صاغها المبدع عبر تاريخه الإبداعي الممتد، لكنه يؤسس رؤيته الآنية التي تحملها النصوص على موقفٍ جديد عبر الاستفادة من المتواتر في تحقيق المغاير، وهو ما حققه الشاعر عبر إعادة تأسيسه لمفهوم الموسيقى داخل الديوان سواءً على مستوى الشكل الإيقاعي وتوظيفه داخل النص أو على مستوى الرؤية المفهومية لدال الموسيقى وتصورها في الواقع المحيط بهذا النص.

وعقب مداخلة الدكتور عبد المنعم تليمة كانت مداخلة الكاتب العراقي حسن متعب، والتي جاءت في شكل شهادة عن الشاعر خضير ميري، وقد افتتح متعب مداخلته/ شهادته بالحديث عن طبيعة العلاقة الثقافية بين بغداد والقاهرة، مؤكداً على أن الأدب العربي الحديث يدين بالكثير والكثير للقاهرة ومبدعيها ومفكريها الذين أثروا الثقافة العربية بمؤلفاتهم ونصوصهم الإبداعية والنقدية. وقد جاءت شهادة متعب راصدةً لرحلة خضير ميري مع الكتابة الإبداعية منذ أن كان في بغداد وحتى وصوله القاهرة، وقد تحدث حسن متعب عن ذلك اللغز وتلك الشخصية العميقة التي يجسدها الشاعر خضير ميري، كاشفاً عن المؤثرات الثقافية المتعددة التي ساهمت في تكوينه، والعواقب والعراقيل التي واجهها وكيف استطاع تجاوزها بنجاحٍ تلو آخر، وجاء في معرض حديثه قوله: "كانت تلك هي رؤيتي الأولى لخضير ميري بنادي اتحاد الأدباء ببغداد، رؤيةٌ ممزوجةٌ بالاشمئزاز والتوجّس، كوني لم أكن قد فهمت شيئاً مما يكتبه ذلك الشاب النحيف صاحب النظارات المستديرة في الصحف والمطبوعات الثقافية، وتوالت الأيام.. ووضع صاحبنا تحت المرقاب إذ احتار فيه المثقفون قبل الجهلة، ولهذا فهو حين يذرع شوارع بغداد كعادته اليومية، تهرع خلفه جمهرةٌ من الأشباح تعدّ خطواته وهمساته وأنفاسه، وتحاول تلك الأشباح فهم طبيعة ذلك الشاب الذي يبدو رغم مظهره ولهجته وملامحه العراقية وكأنه قد قدم من كوكبٍ آخر".

ثم كانت ثالثة المداخلات النقدية التي تناولت الديوان، والتي تحدث فيها رئيس بيت الشعر العراقي السابق الشاعر أمجد سعيد عن علاقة ديوان خضير ميري الجديد بكتابه السابق "أيام الجنون والعسل"، وأوضح الشاعر أمجد سعيد في مداخلته أبعاد العلاقة بين نص ميري وواقعه، تلك العلاقة التي قد تبدو ثوريةً حينا واستسلاميةً حيناً آخر، والتي ألقت بظلالها على مكانة خضير ميري في الثقافة العراقية في التسعينات من القرن الماضي، فهو كاتبٌ يوهم الآخرين بأن المفردات تمر في نصوصه وكتاباته دون أن يراها، لكنه على العكس يسيطر تماماً على كل حركةٍ داخل نصه بل وخارجه أيضاً في علاقاته بالوسط الثقافي منذ أن كان في العراق وحتى استقر به المقام في القاهرة، كما أضاف أمجد سعيد أن دراسة ميري للفلسفة وقراءاته المتعمقة في الموسيقى والفنون المختلفة منحته رؤيةً نقديةً استطاعت أن تشكل مردودا ثقافياً على المحيطين به والمتابعين له، كما أن ميري ـ كما يرى أمجد سعيد ـ شكّل وما يزال يشكل صدمةً في الواقع الثقافي العراقي الذي عاني السكون في العقدين الأخيرين من تاريخه الفني والإبداعي والفكري.

ولعل مما يلفت الانتباه بشدة في ديوان خضير ميري "سارق الحدائق" هو تلك المقدمة التي تصدرت الديوان، والتي كتبها الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر، والتي قد رأى فيها الكثيرون من شعراء قصيدة النثر فعلاً غير قابلٍ للتفسير أو الفهم، فعفيفي مطر الذي يعتقد بعض شعراء قصيدة النثر أنه معادٍ لكتاباتهم ونصوصهم يقدم هاهنا افتتاحيةً لديوان ينتمي لنفس الجنس الإبداعي الذي يكتبونه، ويبدو أن مطر آثر الرد بالطريقة التي يتقنها وهي الكتابة، بعيدا عن وسائل الإعلام المختلفة التي تعمل على إثارة التصادمات أكثر من الكشف عن الحقائق ووجهات النظر، وقد جاء في كلمة مطر التي افتُتِح بها الديوان والتي نؤثر أن نختتم بحروفها رسالتنا هذه: "كان خضير ميري يلفحني بيومياته المكتوبة على دفاتر المستشفى وبنصوص حولياته ليعيدني مرة أخرى إلى قلب الدوامة وعين العاصفة، ولعلني أغبطه وأحسده أن كانت تجربة عمره تجربةً هائلة بمعطياتها الخارجية الداهمة ومعطيات مكابداته الدامية المتشظية، فالكثير مما نقرأه في الشعر والنثر مفتقدٌ لهذا اللهب الخلاق، إنها تجارب ورقية محنطة، فشاعر يبصق في ورق شاعر، وناثرٌ يمارس خواءه وفراغه في كتابة ناثر، فالتجارب الحياتية والروحية نضالٌ شخصي لا يخوضه أحدٌ نيابةً عن أحد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ
http://www.al-kalimah.com/Data/2009/4/1/Cairo-Report-28.xml