تقدم هذه القراءة المغربية المتأنية لجدارية الراحل الكبير محمود درويش أول نصوص العدد الكثيرة التي نتذاكر عبرها دوره وأنجازه في مناسبة اكتمال العام على رحيله، وتفتتح بتحليلها المستبصر العميق بحق هذا التذاكر/ الحوار/ الجدل/ الإبداع، وتحدد مساره.

الشعر المحمود

قراءة في جدارية محمود درويش

أحمد العمراوي

هل يجوز الحديث عن شعر محمود وشعر مذموم الآن في مشهدنا الثقافي الراهن؟ ما مفهومهما؟ ما درجتهما؟ ما موقعهما؟ في مراحل سابقة من تاريخ الأدب، الذي ندعو لإعادة النظر في طريقة تدوينه، تم التمييز بين الشعر المحمود والشعر المذموم استنادا إلى أسس أخلاقية أو عرفية أو دينية، أو غيرها، رغم أن درجة الحكم على الشعر ودرجة القبول فيه من المفروض أن تأتي من داخله لا من الخارج. أبو نواس كبير شعراء عصره وكل العصور شكل الاستثناء لكونه قال الشعر في كل شيء من المحرم الجسدي، إلى النبش في خبايا الروح ندما. شعر مخالف مغاير فاضح على مستوى "التيمة" الموضوع، إلا أنه شعر تم الاستشهاد به حتى من طرف أكثر الفقهاء تطرفا في دروس النحو والبلاغة. درجة "الحمدية" أو "المحمودية" في الشعر تأتي من الشعر ذاته ومن التجربة، من صدق ما يعيشه الشاعر. شعر الذات في علاقة هاته الذات بنفسها كجسد أولا شكل نقطة بالغة الأهمية في مسار الشعر الحديث منه والكلاسيكي. نقل معاناة الجسد المعري أو النواسي أو الحلاجي عربيا مثلا، شكل تميزا لدى هؤلاء الشعراء. وكذا في التجارب العالمية من رامبو وبودلير إلى ييتس ونيرودا وجماعة شعراء الغضب الأمريكي، وإلى شارل بوكوفسكي قمة التمرد الجسدي المعاصر شعرا وتجربة. قمة التمرد حاصرت شعر وحياة بوكوفسكي ولكنها أعطته هذا الانتشار الواسع حتى أصبح معبودا لدى الشعراء الشاب عبر العالم بما فيهم شعراءنا.

الشعر حين يرتبط بتجربة الجسد هو شعر محمود ومذموم في ذات الوقت، لكونه يشكل هذه النرجسية الكبيرة التي امتاز بها الشعر العربي ممثلا في قمة هي المتنبي. ما هي ملامح جسد المتنبي من خلال شعره؟ هل نستطيع رسم صورة متكاملة لهذا الجسد من خلال شعره؟ ونفس السؤال قد يصدق على المعري والحلاج إلا أن الجواب عند أبي نواس المهتم بقضايا الجسد قد يكون أسرع وأسهل. تجريب مادي يعبر عنه شعر روحي. ما هو الشعر المحمود إذن؟ أورد ابن رشيق في عمدته ما يلي "سئل أحد المتقدمين عن الشعراء فقال: ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم". وميز قدامة بن جعفر بين الشعر المحمود والمذموم قائلا: "ما يوجد من الشعر الذي اجتمعت فيه الأوصاف المحمودة كلها، وخلا من الخلال المذمومة بأسرها يسمى شعرا في غاية الجودة، وما يوجد بضد هذه الحال يسمى شعرا في غاية الرداءة" سيخصص قدامة كتابه كله للفصل بين الشعر المذموم والشعر المحمود، انطلاقا من بنية القصيدة دون التركيز على مسألة الصدق والكذب ودون الخوض في ما يجوز للشاعر قوله أخلاقيا وما لا يجوز، ونفس الشيء سيقوم به من أتى بعده بكثير من التفصيل والتدقيق كما هو شأن صاحب العمدة.

كيف إذن سنميز الآن بين هذين النوعين في وقت أضحى الاحتكام إلى الوزن والقافية في تمييز الشعر الجيد عن غيره أمرا ثانويا بل ومذموما من طرف بعض المتعصبين لقصيدة النثر. لنبحث عن تحديد آخر، ولنقل: إن الشعر المحمود هو: الشعر المرتبط بالذات، بالجسد، بالتجربة الكيانية في ارتباطها بالوجود. هذا هو الشعر المحمود وهذا هو شعر محمود درويش في الليلة الدرويشية. الليلة الدرويشية ليلة تكريم للشعر والشاعر ولجمهور الشعر، ليلة عطلت فيها أجهزة الهاتف النقال في حضرة البهاء الجداري. جدارية محمود درويش ستمتد عبر الصوت الدرويشي الواقف المشكل للأذن العربية المخترق لجدارها والممتزج بجسدها. ملحمة تخترق جدار الصوت والصمت معا لتغوص به انطلاقا من تجربة كيانية وجودية أساسها الإنسان الفلسطيني، ولكن انطلاقا من تجربة حياتية كتبت في لحظة البين بين. برزخ بين الحياة والموت، وجدارية تخترق هذا المتاه لتصل إلينا مخترقة. طبلة زمن الإلقاء الفعلي وهو ساعة وخمس وعشرون دقيقة، ظل هذا الصوت ملفتا للانتباه في قاعة غاصة عن آخرها أكثر من اللازم في مسرح محمد الخامس ليلة 19. من شهر يونيو 2000 جلس المئات، ووقف مئات آخرون مشدوهين، في جدارية معلقة زينت بجدارية عبارة عن ستار خلفي يضم أشعارا لشعراء مغاربة وأشعارا هي نفسها التي رددت في مسرحية البتول. الشعراء بغايا، الشعراء مرايا، عرايا، قضايا... في الجدارية الدرويشية يبتدئ الكلام بـ:

"هذا هو اسمك/
قالت امرأة،
وغابت في الممر اللولبي..."

لتنهي بتأكيد الشاعر:

"أما أنا ـ وقد امتلأت
بكل أسباب الرحيل ـ
فلست لي.
أنا لست لي
أنا لست لي...".

داخل كل الجدارية يصرخ محمود. "كأني لا كأني" و "كأني لست مني"، و "لا أرى جسدي هناك". تجربة الموت والحياة، وتجربة تجريب درجة احتمال أقصى نقطة في الجسد وأدقها للمقاومة نعني: القلب، هي أقصى حالات الابتلاء والتدريب على المواجهة، مواجهة الحاضر بالغيب والغيب بالحاضر، تذكر، تهيج، صراخ، تفلسف، ومضغة هي القلب في الواجهة، هل سأعيش داخل هذا الفضاء الأبيض؟ هل سأتذكر اسمي؟

"أين أيني الآن؟
أين مدينة الموتى؟
وأين أنا؟
فلا عدم هنا في اللاهنا...
في اللازمان، ولا وجود" ص 11.
"الوقت صفر لم أفكر بالولادة" ص 28
"لا عدم هناك ولا وجود" ص 28 الخ...

سفر في الوجود انطلاقا من اللحظة. تجربة تجاور بين الهنا والهناك، بين الجسد الضعيف وقلبه المبتلى ليرى عمله تثقل موازينه شعرا، صوتا مؤثرا ممتزجا بجمهوره. شعر محمود درويش في لحظة الابتلاء هو قمة الصدق ولعله الصوت الوحيد أو يكاد في زماننا المجمع على كونه شعرا محمودا مغربيا على الأقل. وهذا ما سيدفع درويش للبوح قبل إنشاد جداريته للقول: "لقد طورني قارئي هنا في المغرب وفي غيره من بلدان اللغة العربية حين صدقني، طورني فقبل اقتراحاتي الجمالية المتواضعة".

1 ـ جدارية الاسم واللون
الجدارية صوت محاصر بالداخل، جدار الجسد، جدار القلب، جدار المستشفى، الجدار يحجب الرؤية لا الرؤيا. الجدارية من الجدار نسبة آلة، "فالجدار: الحائط، والجمع جُدُرٌ وجدران" (اللسان مادة جدر). و "الجدار الحائط والجمع جُدُرٌ مثل كتاب وكتب، والجدر لغة في الجدار وجمعه جدران" (المصباح المنير) و "جدر الرجل: توارى في الجدار"... و "الجدرة: حي من الأزد بنوا جدار الكعبة فسمو بالجدرة" (اللسان). الجدارية بناء إذن، فهل هي جمع أم مفرد؟ هل هي مذكر أم مؤنث؟ نقول غنائية وهوائية نسبة للغناء والهواء، فهل الجدارية هي نسبة للجدار؟ مهما يكن فالجدارية هي كل هذا. إنها صوت مفرد متفرد ينسب لصاحبه. منذ اللحظة الأولى التي ستدخل بها الجدارية سامعا سيفاجئك التأكيد على الاسم واللون: "هذا هو اسمك" تذكير من طرف أنثى الشاعر سيتم في جو مكلل ببياض رهيب. "كل شيء أبيض". ومنذ اللحظة الأولى التي ستحاول فيها اختراق هذه الجدارية ناظرا سيفاجئك اللون والاسم. غلاف الديوان/ القبر/ القصيدة/ المعلقة/ الجدارية هو وجه آخر للشاعر إضافة إلى وجهه الشاعري الأنيق. الخط البارز الذي كتب به العنوان: "جدارية محمود درويش" يبين أن هذه الجدارية هي مفرد لوني منسوب لاسمه. يبتدئ بلون أخضر داكن نسبيا نتفتح بياضاته في القلب، وقلب الغلاف أيضا1 أبيض كما هو الشأن في توظيف الشاعر للون الأبيض في الديوان منذ المقطع الأول:

"كل شيء أبيض
البحر المعلق فوق سقف غمامة
بيضاء. واللاشيء أبيض في
سماء المطلق البيضاء. كنت، ولم
أكن. فأنا وحيد في نواحي هذه
الأبدية البيضاء...
...... أنا وحيد في البياض
أنا وحيد..." ص 10

على وجه الغلاف كتابة ناتئة للفظة "جدارية" باللون الأبيض ثم اسم الشاعر: "محمود درويش" بلون يميل إلى البرتقالي. جدارية بيضاء لقلب برتقالي، ووجه برتقالي للشاعر أيضا يبدو متفائلا مبتسما على صورة عبارة عن "بورتريه" portrait يرتدي فيه الشاعر قميصا أبيض وبذلة خضراء نازلة تكتسح كل الغلاف وتحاصر بقطرات دموية خفيفة نازلة من نافذة ملتصقة برأس الشاعر نصفها أحمر والنصف الباقي أصفر يتقاطع دمها مع كتابة بيضاء تبتدئ بجملة شعرية تلخص التجربة أو تبدؤها هي "هزمتك يا موت الفنون جميعها" يمتد الجسد الأخضر في القصيدة كلها مازجا الأسفل بالأعلى، والظاهر بالباطن، واللغة بالذاكرة، والشعر بالقبر، الديوان الآخر والأول للشاعر، ولكل شاعر في وحدة غريبة. أليس القبر رمز الامتزاج بين الأنا واللا أنا؟ بين الهنا واللاهنا؟ بين الاسم المسجل أعلى الغلاف في الوجه والظهر؟ وبين اللون الأبيض والأخضر؟

تدخل جدارية الاسم إذن مسلحا بلونين أساسيين: وجه كل شيء أبيض. اللاشيء أبيض. الأبدية بيضاء. والشاعر يعيش وحيدا في البياض، وحتى المرأة المنبهة والمذكرة للشاعر بالاسم تغيب في ممر بياضها. إلا أن أرض القصيدة ستظل خضراء "خضراء أرض قصيدتي خضراء عالية" ص 21. ص 41 وص 68. سيتلون الاسم حين يذكر صاحبه أو حين يذكره صاحبه بما أنهما هنا متلاصقان ومتناسخان، ولذلك سنجد الشاعر في نهاية تذكره أو استفاقته يصر ناسبا الجدار للبيت والاسم لصاحبه:

"جدار البيت لي..
واسمي، وان أخطأت لفظ اسمي
بخمسة أحرف أفقية التكوين لي:
ميمُ/ المتيم والميتم والمتمِّ مما مضى
حاءُ/ الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان
ميمُ/ المغامرُ والمُعَدُّ المستعد لموته
الموعود منفيا، مريض المشتهى
واو/ الوداعُ، الوردة الوسطى،
ولاء للولادة أينما وجدت، ووعد الوالدين
دال/ الدليل، الدرب، دمعة
دارة درست، ودوري يدللني ويدميني/
وهذا الاسم لي..." ( ص: 102 ـ 103)

الجدار يحمي من العواصف من البرد من الحر، وقد يشكل حاجزا بين شخص وآخر. جدار برلين رمز للفصل بين ناس وناس، بين مذاهب ومذاهب، إلا إنه لم يمنع يوما ما هؤلاء الناس من الاختراق ومحاولة التسلل. ويوم تم تدميره، عاد الإنسان إلى الإنسان دون الدخول في تفاصيل السياسة. جدران "الفيزا" (التأشيرة) التي تضعها أغلب الدول "الغنية" على الدول الأقل "غنى" هي جدر وجدران فاصلة لا جدارية. الجدارية وسيلة لتعليق الكلام والصور والأحلام على حبل ناري يرتبط بالأذن فالجسد فالقلب، هاته المضغة العجيبة مثيرة الشاعر ومسببة محنه وأحزانه وأحلامه وجناته. الجدارية في التراث العربي ترتبط بالمقدس قبل الإسلام ومعه. ألم تعلق المعلقات المذهبات المسمطات على أستار الكعبة وجدارياتها لكل الناس تمجيدا للشعر وللشعراء: السلطة الأولى والحقيقية للقبيلة.

جدارية محمود درويش معانقة للروح وتعليق للكلام على طبلات الأذن رج ورج وتحريك للوجدان معانقة تجربة شخصية لحالة قلب بين يدي جراحين أجانب. كم زمنا استغرقت العملية الجراحية التي أجريت للشاعر؟ أكاد أجزم من زاوية الشعر أنها نفس المدة التي استغرقتها الكتابة الأولى للجدارية بنفس الرموز، والشاعر هو من علقها على مسامعنا وفي متخيلنا بالاستعانة باللغة وقاموسها التي يضبطه درويش جيدا، بزخرفاته وتناصاته التي تغوص في الذات والتاريخ والأسطورة، من أنكيدو وجلجامش، إلى الغوص في المقدس المسيحي والإسلامي، إلى الارتباط بالأرض، بحائط أورشليم، بعكا أقدم المدن الجميلة.

درويش يرتبط باسمه منذ البداية: "هذا هو اسمك" ودرويش في لغة الدراويش هو متصوف زاهد عن الدنيا مرتبط بغيب لا يرى، آت، يفتح للغيب ألف حجاب، حالم رائي بحروف لها أنبياؤها، بمخارج حروف لم تنشأ عبثا، إذ كل رسم لجسم، لحرف، لكلام، له وظيفة لا يدركها إلا العارفون الضالعون الزاهدون الدراويش المنقطعون للعلم، للغيب، لتمجيد لحظة البين بين، للحظة العبور. وهو ذا الشعر والشعر المحمود رطبا ويابسا يصل عبر مطولة هادئا ولكن بصوت ناري يمجد في المساء كل صباح ويصرخ في الحرف أداة الصوفية الدراويش الكبار:

"وأنا الغريب بكل ما أوتيت من
لغتي. ولو أخضعت عاطفتي بحرف
الضاد، تخضعني بحرف الباء عاطفتي" ص: 22

لذلك:

"كلما فتشت عن نفسي وجدت
الآخرين. وكلما فتشت عنهم لم
أجد فيهم سوى نفسي الغريبة" ص: 23

غربة حلاجية أساسها الجسد المعذب في الوجود المرتبط بالمنفى بالجدار. وجدارية الحرف تقود لجدارية أخرى أعمق هي جدارية الشعر، وهوية الشعر في ارتباطه بالفلسفة، برؤيا تنطلق من العين لتأسيس المتخيل، أساس كل شعر وكل فكر، بل وكل وجود كما يقول ابن عربي. تقول الجدارية في درة الصفر في الزمن البيني: "رأيت طبيبي الفرنسي يفتح زنزانتي.. رأيت أبي عائدا... رأيت شبابا مغاربة يلعبون الكرة.. رأيت روني شار يجلس مع هايدجر على بعد مترين مني... رأيت المعري يطرد نقاده قائلا لست أعمى لأبصر ما تبصرون... رأيت بلادا تعانقني بأيد صباحية" رؤيا ورؤية آتية من عمق الحالة الجدارية التي يعيشها الشاعر بتفاصيل دقيقة.

2 ـ جدارية الوجود
من جدارية الشعر تنحدر جدارية أخرى أكثر عمقا هي جدارية التاريخ. ألم ينشأ درويش العربي الفلسطيني بجوار اليهودي الإسرائيلي؟. ألم يعشق منذ البداية صبية يهودية صغيرة اسمها "ريتا" (هذا ما صرح به ذات برنامج أنجزته قناة فرانس 3 الفرنسية في نهاية التسعينات) وريتا ستتحول على لسان كل مغربي صغير وكبير بواسطة صوت ولحن الفنان الكبير مارسيل خليفة إلى شبه أسطورة. ثم إن المجاورة بين اليهودية والإسلام هي تاريخ من جذر إبراهيمي يشترك في يمينية الكتابة (الكتابة من اليمين إلى اليسار)، في تقديس أماكن الصلاة، في التشدد في القيم وفي...

يقول محمود:

"أعلى من الأغوار كانت حكمتي
إذ قلت للشيطان: لا. لا تمتحني
لا تضعني في الثنائيات، واتركني
كما أنا زاهدا برواية العهد القديم
وصاعدا نحو السماء، هناك مملكتي
خذ التاريخ، يا ابن أبي، خذ
التاريخ... واصنع بالغرائز ما تريد" ص 42 ـ 43

الجدارية معلقة على آذان الجار والعدو، الرافض لكل حوار إلا بشروطه "البلفورية" أليس وعد "بلفور" أعقد جدار يواجه كل عملية سلام؟ قد تكون التجربة الدرويشية المعمرة أزيد من أربعين سنة متميزة هنا كما هو الشأن في تحولاتها الأولى منذ قصيدة أحمد الزعتر و سرحان يشرب القهوة في الكافتريا وصولا إلى سرير الغريبة أنشودة الحب وسوناتا القلب البشري شكلا ومضمونا كما يقول صبحي حديدي (القدس العربي 28 يونيو 2000). تغيير في الرؤيا، وعبور من المنفى إلى الذات، وبحث عن أسئلة أخرى يقول عنها الشاعر في لقاء مع الجمهور الفرنسي جرى في باريس من أيار ماي 1997: "على مستوى اللغة الشعرية فإن الشعر بشكل عام هو رحلة بين الثقافات واللغات والأزمنة. لا يستطيع الشعر أن يكون "وطنيا" بالمعنى الضيق للكلمة، ولكن بسبب وجود تعاقد موضوعي بين الشعر والجماعة... لا أعرف إذا كان في وسعي أن أنظف نفسي من الجماليات الثقافية للمنفى. ولا أعرف إذا كان في وسع الفلسطينيين الذين ولدوا وترعرعوا خارج وطنهم (أي في المنفى) أن يجدوا ذاكرتهم الفردية خارج شرط المنفى. ولا أعرف إذا كان في وسعنا ـ عندما تتحقق العودة ـ أن نواصل وضع المنفى كمفهوم مطلق مضاد لمفهوم الوطن. ولكن كل هذه الأسئلة مؤجلة، هذه أسئلة مترفة تحتاج إلى شرط موضوعي في طرحها، وهو أن يكون للفلسطيني حق في وطن يلعنونه أو يكرهونه. أنا لا أستطيع أن أمدح المنفى ما دمت ممنوعا من هجاء الوطن، ولكن يبدو لي أن فلسطين المتخيلة أكثر إطاعة لمخيلتي الشعرية من فلسطين الواقعية. وهذه مشكلة شخصية ووطنية، لا تسمح للإسرائيليين بأن يواصلوا وضعي في المنفى. ولهذا يجب أن أكتب شعرا أفضل"1 شعر أفضل هكذا، شعر محمود في الجدارية يجيب عن سؤال ظل يتردد في الوطن العربي وفي المغرب مفاده: عم سيتحدث الشعر الفلسطيني بعد العودة؟ وكأن التصاق اسم درويش هو التصاق أبدي بالقضية الفلسطينية، وبوضعية الشاعر في المنفى.

الجدارية عودة للذات في أدق تفاصيلها، وللجسد خاصة، للقلب كعضلة مادية جربت فيها سكاكين الجراح الفرنسي لحسن الحظ وليس الاسرائلي، وابتلي فيها الشاعر وخرج منتصرا من بلواه، وخرج معه آخَرُ الشاعر الذي هو جمهوره المتلقي المطور منتصرا على متاعب الذات وتضاريس الجسد، الذي لا بد أن يمرض ليستمر كالجدار كالجدارية واقفا ممتدا. الجدارية بحر يختار الكامل (متفاعلن) وهو سمي كاملا لتكامل حركاته وهي ثلاثون حركة، ليس في الشعر شيء له ثلاثون حركة غيره1 وهو البحر المفضل لدى الشاعر. إذا أضفنا لذلك ما تضيفه قصيدة النثر من تحر في القافية والأضرب، وما يضفيه الشاعر من التناغم عليه أدركنا هذا التأثير الباهر للشاعر على أذن المتلقي، ولذلك فكل محاولة تقليد له ستسقط في النسخ لا محالة، لذا فاختيار البحر والحرف ثم الرمز والصورة يشكل تفردا للشاعر وهو يبحث هنا عن تفرد آخر هو الجسد، بجدارية تكسح العين من خلال الأذن وترسم صورا متلاطمة ملونة داكنة قاتمة أحيانا شديدة بياض الثياب شديدة التأكيد على سؤال الوجود تارة أخرى.

ما هو الزمن الحقيقي لكتابة قصيدة ملحمية مثل الجدارية الدرويشية هل هو زمن ولادتها الأولى؟ زمن الشحن، التجربة الجسدية. أم هو زمن التأمل وقت التباعد والتنظيم واللغة. الغوص داخل تفاصيل من هذا النوع وقد أجاب عنها الأقدمون بطريقة ما في السابق من خلال حديثهم عن الصنعة والطبع، عن الموهبة وصقلها، عن التلقائية والتكلف وما إلى ذلك، ما نريده الآن هو البحث عن العلاقة الحقيقية بين نص الجدارية المكتوب المتلو المردد على مسامعنا، وبين هذا النص في تشكله الأول، نقصد الزمن البين بين، الزمن الذي كان الشاعر فيه بين لحظتين موت/ وحياة، إدراك/ ولا إدراك. في هذا الحد الفاصل بين الأبيض والأخضر، بين الحياة واللا حياة، بين الإدراك وعدمه نشأت الجدارية. علها تحد ولو مؤقتا من سلطة هذا القاهر: الموت:

"... لا تحدق
يا قوي إلى شراييني لترصد نقطة
الضعف الأخيرة. أنت أقوى من
نظام الطب. أقوى من جهاز
النفس...." ص: 52 ـ 53

ولكن هذا الجدار الذي يحد من حياة الإنسان وإدراكه المباشر للأشياء سيهزم على جدارية محمود درويش:

"هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين..." ص: 54

زمن الخروج الباطني، الزمن الأول المهيج لشيطان الشعر وجنّيّه هو زمن الحاضر، زمن بيني يأتي في المنتصف تماما. بين الموت والحياة. بين الإدراك والممات. فالكلام وبداياته وترتيبه حروفا: أمر ليس بيد الشاعر في هذه الحالة: "لأن كون الحرف من الحلق ليس بأمر طبيعي وعقلي واجب، وإنما إنما هو أمر جعلي بمقتضى المشيئة، ويجوز أن يكون ذلك في الحيوان مع قدرة إلهام، ولا ينتهي إلى المعاني الكلية التي هي خاصية العقل" كما يثبت الشيخ إدريس بن أحمد الوزاني في رسالته المسماة: كتاب التنبيه والإيقاظ والثبات لنفي اللزوم العقلي بين الإدراك والحياة. نستعير هذه المقولة من علم الكلام للخوض في الزمن الأصلي لخروج القصيدة. أليست القصيدة كلها جدارية كلامية ترتبط بالشعر والوجد والتصوف والكلام أيضا. الجدارية بناء شعري لتجربة جسدية في لحظة يصعب فيها تذكر الاسم من قبل الأنا هذا يحتاج إلى من يذكره به "هذا هو اسمك قالت امرأة". اللبنة الأولى لبناء الجدارية اسم ونسيان وامرأة وإشارة وتلخيص لكل بناءات قصيدة الشعر المحمود المتحول بين مخاطبة الآخر جلادا "سجل أنا عربي"، ومخاطبته أنثى للشاعر "قالت امرأة". وبين هاته المسافة الطويلة محطات وجداريات ستكتمل في لحظة البين بين، لحظة اللا إدراك في امتزاجها بإدراك بيني أبيض هو ما سيؤدي إلى ثورة الحرف على حرفيته. هذه الإشارات التي أوردناها هنا قد لا تفي الجدارية حقها، فهناك مستويات أخرى للتحليل نذكر من بين أهمها: جدارية الصوت والصمت من خلال تحليل أزمنة النص وامتداداته، ثم جدارية متناصة من خلال الحديث عن العلاقة بين الجدارية وبين النصوص البابلية والسومرية في الموت والطوفان، ألم يقل جلجامش: يا كوخ القصب، يا كوخ القصب، جدار يا جدار. أصغ يا كوخ القصب وتفكر يا جدار "وهو نفس الأمر المذكور في الطوفان السومري" وعندما وقف زيوسودرا قرب الجدار سمع صوتا: "قف قرب الجدار على يساري واسمع" وهذا أمر سنعود له بالتفصيل في مكان آخر مع مقارنة ذلك بنصوص العهد القديم والجديد ونصوص القرآن الكريم.

قد يسعفك النثر "العادي" رغم مكرهاته في قول ما تود قوله، ولكنه لن يسعفك في رؤية ما تريد أن تراه. ومن هنا ضرورة الشعر لتطويع البناء للنفْس والنفَس رغم كون المسألة في غاية التعقيد، فهي تعاش شعرا بالتجربة وحين يراد التعبير عنها بالنقد والتفكيك تصادف جدرانا من الاستعصاء. ومن هنا تبقى الجدارية مرتبطة في زمنها بالمتلقي بكل درجاته. متعة الأذن والعين والمتخيل وخلخلة مقدسها ومساءلة مدنسها عن أحوال الطقس في العالم الآخر عن فعل الموت وشكله ولونه وطعمه ورائحته.

"هل المناخ هناك معتدل؟ وهل
تتبدل الأحوال في الأبدية البيضاء،
أم تبقى كما هي في الخريف
وفي الشتاء؟ وهل كتاب واحد يكفي
لتسليتي مع اللاوقت، أم أحتاج
مكتبة؟ وما لغة الحديث هناك،
دارجة لكل الناس أم عربية
فصحى.." ص: 51

أسئلة الوجود هي أدوات أساسية في بناء الجدارية التي تخترق العين قبل الأذن من أجل طلب مهلة لإتمام الدور، لتعميق السؤال، لمحورة الوجود:

"أيها الموت انتظرني خارج الأرق
انتظرني في بلادك. ريثما أنهي
حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي" ص 49.

خيرا فعلت أيها الموت بمحمود لإثبات الشعر المحمود الذي بدون تجربة حقيقية لا يمكنه أن يعيش ولو بتحديه لحياته.

3 ـ جدارية الصوت والصمت:
مدخل عن الشاعر وصوته: التقاطعات بين أصوات النص ومستوياته المتعددة وبين مستويات الصمت سيضفي على الجدارية طابعا تخييليا يحيل إلى علم الموسيقى من جهة وإلى مسألة التصور والصورة من جهة أخرى وهما عمليتان متداخلتان في كل الكتابات الدرويشية إلا أنها هنا ستظهر بوضوح فإذا كان الخارج كداخل يمثل البنية الأساسية في تركيب قصيدة "بيروت مثلا" وإذا كان الآخر بكل تجلياته في الذات يمثل بنية أخرى في قصيدة "أحمد الزعتر" فإن البناء الملحمي في الجدارية سيتجاوز المسألتين معا، ليتشكل الصوت إيقاعا وتركيبا ولغة كصوت داخل/ خارج وخارج/ داخل. ولنبين هذا الأمر سنكتفي ببعض الإشارات التي لاحظناها أو أثارت انتباهنا كمتلقين للنص وكقراء مساهمين في بناء النص. هناك مستويات متعددة ومتآلفة ومتقاربة في أصوات الجدارية و تحيل على لحظة البين بين. إنه الزمن البرزخي الذي عاش فيه الشاعر بين الأسفل والأعلى على سرير "ليس سريرا للغريبة" بقدر ما هو سرير الصراع مع الموت هذا القادم القوي:

"... أنت أقوى من
نظام الطب. أقوى من جهاز
تنفسي. أقوى من العسل القوي" ( ص: 53)

1 ـ صوت الماضي: متزج بلحظته منذ البداية ارتباطا بلحظة التذكر، تذكر لحظة المحنة، لحظة الابتلاء والاختبار.

فمنذ البداية درويش:

هذا هو اسمك
قالت امرأة
وغابت في الممر اللولبي.

المرأة تنبيه لما حدث في الماضي القريب وتغيب لتترك للشاعر لحظة تذكره. إن هذا الصوت الأتي من المرأة سيمتزج بأصوات أخرى بعيدة تؤنث فضاء الجدارية وتلونه بتلوينات ستعود إلى الأصل الأول على الإنسان الأول رموز أخرى في الماضي أنبياء وشعراء وأناس عاديون والشاعر ولعل حركة الفعل الأول "كنت أحلم" (ص: 9) ثم "كنت أعلم" ثم "أطير" التي ستفضي للحظة الحاضر: سوف أكون ما سأصير هي بداية التجميع والتذكر والتي ستعطي هاته الإشارات. في الجدارية عدة أفعال مركبة في الماضي ابتداءا من كنت إلى سأكون إلى أريد أن أحيا وهي أفعال ترتبط في غالبيتها بالذات الباثة في لحظة الحرج الذي سيقود إلى.. من هذه الأفعال: تعبت ـ رأيت ـ كنا ـ تركت ـ نسيت ـ كنت إلا أن هذا الصوت سيتخذ كمطية ركوب الحاضر من أجل الغد وربما هذا هو الأهم لقول ما يمكن قوله وما يجب قوله.

2 ـ صوت الحاضر: هو المهيمن على كل، ولعل استعمال الفعل في الحاضر هو لتسجيل لحظة صدق تمتزج بصمتها وتتركنا واقفين منتظرين الآتي كما هو شأن الشعراء الكبار. ومنذ فعل أرى (ص 9) هذه الرؤيا أو الرؤية ممتزجة بالذاكرة والتذكر ومحيلة إلى بواسطة فعل الأمر الذي يتوجه عادة للذات الشاعرة وبالتالي لكل متلق لهذا الشعر المحمود.

حركة هذا الزمن/ الصوت تبتدئ بهذا المقطع:

(أرى السماء هناك في متناول الأيدي
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب
طفولة أخرى ولم أحلم بأني
كنت أحلم. كل شيء دافعي. كنت
أعلم أني ألقى بنفسي جانبا
وأطير. سوف أكون ما سأسير في
الفلك الأخير).

إذا أخذنا أصوات هذا المقطع فإننا سنجد أن حركة الأفعال التي تبتدئ بالفعل أرى ستمثل إلى أفعال أخرى هي بالتتابع:

(أرى ـ يحملني ـ لم أحلم ـ كنت أحلم ـ كنت أعلم ـ ألقي ـ أطير ـ سوف أكون ـ سأصير). هذا التأطير المقدمة المدخل هو بداية قصيدة لم يكتبها درويش في الأصل بل كتبها في المرحلة اللاحقة من بناء الجدارية وكتابتها. يقول درويش في حوار أجراه معه سامر أبو هواش (الكتابة الأهم عندي هي الثانية الكتابة الأولى هي الكتابة الحرة. والكتابة الثانية هي الأمتع التي أهتم فيها في بناء النص وفي الإمساك أكثر بإيقاعه والكتابة الثالثة هي النهائي وهذه أقوم بها بعد عرض عملي على عدد من الأشخاص... مثلا الجدارية أقرأتها لأحد الأصدقاء الذي لا علاقة له بالشع، فقال لي أنه يشعر أنه قرأ سابقا الصفحات الثلاث الأولى من دون تردد)، الشعر المحمود يهتم بكل شيء الخارج والداخل سواء كان شعرا إيقاعيا يعتمد البحر كصوت كما هو شأن درويش، أو كان شعرا يعتمد الخارج والداخل أي الإيقاع المعتمد على البحر والتفعيلة وغيرها، كما هو شأن أدونيس أو قاسم حداد على سبيل المثال لا الحصر أو كان شعرا يعتمد التكسير الكلي للإيقاع الخارجي والاعتماد على الخارج فقط كما هو شأن أنسي الحاج مثلا. ولعل ترتيب المقاطع في شعر درويش هذا الطرح فهو يهتم بكل جزئيات النص كتابة وصوتا أليست العين تسمع والأذن ترى في الشعر المحمود؟

صوت الغد: هو مؤطر ثان للنص بعد صوت الحاضر الممتزج بالماضي انطلاقا من رؤيا ورؤية حقيقيتين.

"لم أحلم بأني كنت أحلم" الشعر حلم متحرك، وحلم الشاعر هو جزء من لحظته الحاضرة، امتزاج الحلم بالألم هو ما ينشئ الشعر. (مقطع من الشعر والألم).

الصوت المتجه نحو الذات: أفعال مثل: سأصير ـ أريد أن أحيا ـ في ارتباطها بالذات ثم أفعال أخرى مرتبطة بهذا الآخر الذي يريد إطفاء الذات كجسد أي الموت وهنا يتجه الفعل له في أغلب النص بصيغة الأمر: يا موت انتظر ـ فلتكن العلاقة بيننا ودية ـ ضع أدوات صيدك... علق سلسلة المفاتيح الثقيلة ـ كن من أنت ـ قل ـ خذ ـ استرح ـ اصنع بنفسك ما تريد. تمتد هذه الحركة في منتصف الجدارية تماما أي بين (ص 49 و 55) هي أوج الجدارية التي ستفصلها في لحظتين حياة/ موت وفي زمنين ماضي /حاضر وفي ذاكرتين القول/ التذكر وبين اتجاهين صوت/ صمت كل هذا في معركة هي معركتنا جميعا منذ أنكيدور رحلة الأستوريين إلى العصر الرقمي والاستنساخي والجيني. أصوات النص المركبة أفعالا تأتي في لحظة بين لحظتين إذن بين الصمت والصوت في سؤال وجودي عميق حول الذات والأشياء وأصل العالم ومصير الإنسانية إنها جدارية العودة عودة الإنسان إلى الأصل وهي تتقاطع بشكل ما مع جدارية العودة التي هي جدارية عودة الإنسان الفلسطيني إلى أرضه. فهل هي مصادفة أن نجد وهي جدارية حق العودة وهي عمل فني يوظف التراث الفلسطيني بتطريز 1134 قرية ومدينة فلسطينية على قطعة قماش 30×30 سم حسب الرسومات جدارية تعلن حق العودة عن موقع الصوت العربي الحر عبر الانترنيت أي حق الحياة ؛ الحياة الأصل في الوطن الأول حيث الميلاد والنشأة الأولى. فهل تحيل المطرزة إلى جدارية الحياة الدرويشية أم أن جدارية درويش الصوتية هي ما يحيل إلى المطرزة العينية. لا فرق كل طرف يكمل الآخر والشعر المحمود هو ما امتزج فيه الذاتي بما هو خارج الذات.

4 ـ بين الأعلى والأسفل جدارية البرزخ
يقول محمود درويش في جداريته: "قام أنكيدو ولم ينهض" (ص: 81).
قمة
الإنسان
هاوية (ص: 83)
"أنكيدو ترفق
كن وعد من حيث مت، لعلنا
نجد الجواب، فمن أنا وحدي": (ص: 83)
ولكن
"كل شيء باطل أو زائل، أو
زائل أو باطل" ( ص: 85)

بين الأعلى والأسفل ومن خلال منطقة الظلمة الدقيقة هاته تأتي هاته المقاطع التي تمثل بؤرة النص إنها منطقة الاستعصاء في أقصى لحظات الصراع مع المرض والجراح مع الذات والآخر ولكن المنتصر هو الشاعر ومعه الشعر ومعه نحن متلقي هذا الشعر.

رحلة البحث في الخلود هي رحلة البحث عن السراب هذا ما اكتشفه الإنسان منذ بداياته الأولى فكل شيء زائل حسب النص القرآني. (كل نفس ذائقة الموت) ( كل شيء زائل وما يبقى إلا وجه ربك) ومنذ جلجامش وملحمته الرائعة يظل البحث عن الخلود مجرد سراب لن يتحقق. لقد كان جلجامش بطل مدينة أوروك وملكها، ثلثه إله وثلثاه بشر، قضى حياته في الصيد واللهو والبطش بالناس، متشبثا بقوته الخرافية وطاقته المتفجرة. ثم يتعرف على أنكيدو، نده، وتغير الصداقة العميقة التي ربطت بينهما مجرى حياته، فيقرر تحويل قواه وطاقاته للعمل المجدي الذي ينفع الناس، يقوم الصديقان بمغامرات عديدة ذات أهداف سامية، إلا أن أنكيدو يموت نتيجة إحدى هذه المغامرات. وهنا يصحو جلجامش على المأساة الحقيقية في حياة البشر. ويهيم على وجهه في الصحاري والبراري. تاركا عرشه ومملكته باحثا عن سر الخلود وإكسير الحياة يدفع قدر الإنسان الفاني فهو رغم ثلثه الإلهي فإن البشري يشده إلى المشترك بين الإنسان. إنه المصير المشترك لبني الإنسان الموت النهاية الجسدية. لعل هاته النهاية أو الإحساس بها هي ما دفع شاعرا كبيرا مثل درويش لإنشاء الجدارية جدارا ضد الموت والصمت والهزيمة، تعليق للقول على اللافعل إنه تعليق (من المعلقات) لقول ضد لا فعل في زمن.

جدار يسجل لا محالة على الجدار الأول جدار الإنسان. قد ترمز الجدارية إلى الخلود بمعنى من المعاني خلود نسبي

يقول درويش: (هزمتك يا موت) وحين وصل جلجامش إلى أوتنابشتم وهو الإنسان الذي منت عليه الآلهة بالحياة الخالدة سأله عن لغز الخلود، فأجابه هذا الأخير بأن ما حصل هو أمر فريد لن يتكرر بسهولة لأحد من بني البشر. يقول النص الأصلي: وقال أوتونابشتم لجلجامش: جلجامش... سأكشف لك أمرا كان مخبوءا وأبوح لك بسر من أسرار الآلهة "شوريباك" مدينة أنت تعرفها، تقع على شاطئ نهر الفرات لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها كان هناك "أنو" أبوهم كما كان "إنليل" مستشارهم و ممثلهم و "اينوجي" وزيرهم و "ننجيكو" الذي هو أيا كان حاضرا أيضا فنقل صديقهم إلى خوخ القصب: ياكوخ القصب ياكوخ القصب جدار يا جدار اصغ يا كوخ وتفكر يا جدار كوخ القصب هو بيت أوتونايشتم أي هو بيت الإنسان الخالد. قد لا يكون أوتونايشتم وحده رمز الإنسان الخالد، إذ سنجد زيوسودرا كذلك إنسانا خالدا في التراث السومري إذ بعد إنهاء الطوفان زيوسودرا يكافأ على عمله بإعطائه نعمة الخلود وإسكانه أرض دلمون جنة السومريين. يقول النص السومري: في تلك الأيام زيوسودرا كان ملكا وقيما على المعبد. قام بتقديم قربان عظيم وجعل يسجد بخضوع ويركع بخشوع، ودونما كلل توجه للآلهة في المعبد فرأى في أحد الأيام حلما لم ير له مثيلا الإله (...) جدار (...) وعندما وقف زيوسودرا قرب الجدار سمع صوتا: "قف قرب الجدار على يساري واسمع سأقول كلاما فاتبع كلامي أعط أذن صاغية لوصاياي إنا مرسلون طوفانا من المطر (...) لماذا الجدار في الملحمتين؟ وما هي دلالته؟ وما مقدار التناص بينه وبين جدارية محمود درويش؟

وقد يشير الجدار إلى حالة مادية تقود لحالة نفسية الجدار يقي من الصوت كما أنه يحجب الرؤية لا الرؤيا. الكلام خلف الجدار هو كلام من وراء حجاب لذا قد تتصور ما هو مكتوب في الكلام المحذوف من النص السومري فرأى في أحد الأيام حلما لم ير له مثيلا الإله (...) جدار (...) وعندما وقف زيوسودرا قرب الجدار... هل يمكن أن يكون زيوسودرا قد رأى نورا أو ضياء أو خلف جدار يأمره بالوقوف خلف الجدار ولذا لم يقترب من منطقة الظلمة أتت الجدارية أو بالأحرى من منطقة بين الظلمة والبوح ولذا سيحاول درويش نشر هذا الصوت خلف الجدار خلف الحجاب كل شاعر سيحاول ولو مرة واحدة في حياته أن يواجه جداره بجدارية يحقق فيه كلامه ناشرا ما بالظلمة للآخرين. وقد يلخص درويش عالميا كل طموحاتنا عن الشعراء ومتذوقي هذا الشعر. في النص البابلي سنجد هذا الكلام على لسان الآلهة والذي سينقله "أيا" "ياكوخ القصب، ياكوخ القصب، جدار يا جدار اصغ يا كوخ القصب وتفكر يا جدار".

فإذا كان كوخ القصب هو بيت الإنسان الخالد فإن جداره هو جدار الإنسان الخالد. تعود ملحمة جلجامش البابلية إلى عام 2650 ق م وهي الملحمة التي انطلق فيها جلجامش يبحث عن لغز الموت ليكشف سر الخلود، وكان الواقع هو فقدانه لصديقه "أنكيدو" الوجه الآخر للشاعر جلجامش الذي ثلثه بشر وثلثاه إله إنه: هو الذي رأى كل شيء ولكن جلجامش يتحقق من خلود صديقه أنكيدو في العالم السفلي لقد احتفظت به الآلهة لوحدها واحتفظت بالتالي بالخلود. ولذا سنجد شهرة أنكيدو أكثر من شهرة أوتونايشتم لماذا الرجوع إلى العوالم القديمة؟ قد نلتمس الجواب لدى الكاتب الروائي والمسرحي جان جيرودو الذي يبين سبب لجوء المسرح إلى الكتب المقدسة والملاحم القديمة والمنابع الكلاسيكية لاستمداد القوة واكتشاف الاهتمامات الشائكة بمشكلة الإنسان. مشكلة الإنسان هي مشكلة وجودية قبل أن تكون مشكلة أمن أو قوت أو... وتتعقد الأسئلة الوجود الذاتي الفيزيقي والوجود النفسي في ارتباطهما بالزمن والوقت في زمن الابتلاء ألم يخلق الله الحياة والموت من أجل الابتلاء؟

"هو الذي خلق لكم الحياة والموت ليبلوكم أيكم أحسن عملا" ابتلاء أمام جدار الموت هو ما سينشئ الجدارية هاته المطرزة الصوتية الداعية للعودة للأصل للبيت الأول يقول درويش السائر بين الرؤية والرؤيا على أرض الناس على ماء الخلق يقول مضيفا ومؤكدا على حقه في امتلاك البيت والأثاث والجدار الذي يعلق عليه جداريته

"هذا الهواء الرطب لي
هذا الرصيف وما عليه
من خطاي وسائلي المنوي... لي
ومحطة الباص القديمة لي. ولي
شبحي وصاحبه. وآنية النحاس
وآية الكرسي، والمفتاح لي
والباب والحراس والأجراس لي
لي حدوة الفرس التي
طارت عن الأسوار... لي
ما كان لي، وقصاصة الورق التي
انتزعت من الإنجيل لي
والملح من أثر الدموع لي
جدار البيت لي..." ص: (101 ـ 102)

الجدار جزء من كل من جدران من شقق من بيت من مكان وهواء. متنفس تستطيع أن تعلق عليه ما تشاء. وحدك من يقف أمام جدارك تحاوره وتحاور من خلفه آخرك الذي قد يكون أنثاك أو أي آخر غيرك قد يكون ندك كما هو شأن أنكيدو قد يكون مخالفا قد يكون عدوا أو قد يكون شعرك بكل اختصار. والاستعصاء جزء من البلوى والابتلاء يخرج منه الشاعر قويا منتصرا على مرضه. ولكن متسائلا أسئلة جوهرية مفادها.

"... وماذا بعد؟ ماذا
يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟
هل يعيدون الحكاية؟ ما البداية؟
ما النهاية؟" (ص: 48)
ويكون الموقف نفس موقف جلجامش مع صديقه أنكيدو إذ:
"الموتى ليخبرن الحقيقة". (ص: 48)

أي حقيقة هذه؟ حقيقة الكائن أم حقيقة الممكن،الذات أم صفاتها إنها غربة إلى غربتنا جميعا من أنكيدو إلى الحلاج إلى درويش ويبقى الشعر المحمود خير دواء لغربتنا هاته غربة الكينونة وغربة الذات في اللغة والأشياء يلخصها هذا الصوت الشامخ حين يقول:

"وأنا الغريب
بكل ما أوتيت من
لغتي ولو أخضعت عاطفتي بحرف
الضاد تخضعني بحرف الباء عاطفتي،
وللكلكات وهي بعيدة أرضي تجاور
كوكبا أعلى. وللكلمات وهي قريبة
منفى. ولا يكفي الكتاب لكي أقول:
وجدت نفسي حاضرا ملء الغياب
وكلما فتشت عن نفسي وجدت
الآخرين وكلما فتشت عنهم لم
أجد فيهم سوى نفسي الغريبة
هل أنا الفرد؟"

لا يسعنا إلا أن نجيب كقراء لهذا الشعر نعم أنت الفرد. واحد بصيغة الجمع صيغتنا جميعا، حسنا فعلت أيها الموت إلخ في مواجهة الجدار ليس حائطا للمبكى قدر ما هو حائط شعري سيحول إلى جدارية حياة جدارية انتصارية ولكنها تبكيك كما أبكت الشاعر. لست شاعرا إذا لم تبك ألم يبك أدونيس مرارا على الملأ ألم يبك محمد بتيس بشهقات واضحة أمام جمهوره. لست شاعرا إذا لم تبكيك لحظة أو لحظات تنغرس في رأسك تخلخلك أنت عاجز الشعر وعجزك هذا هو قوتك لذا فبكاء الشعر والشاعر بكاء يخرج الغمة التي طالت لا شعر بلا غمة ولكنها طالت للتفريج عن الغمة نلتجئ للبكاء هذا ما فعله محمود درويش يقول في حواره مع سامر أبو هواش الذي نسوق منه هذا الاستشهاد:

ـ هل بكيت كثيرا في حياتك؟
كثيرا وما أنا أبكي
ـ تبكي تذرف الدموع أم تخبؤها؟
أذرف الدموع
ـ ما الذي يبكيك؟

أشياء كثيرة أحيانا حين أشاهد التلفزيون وأرى مشاهد الانتفاضة، مشهد محمد الدرة أبكاني مثلا، وقد يفاجئك أن الأفلام العاطفية القديمة تبكيني.

ـ متى بكيت آخر مرة؟

شاعر وناقد من المغرب