تسعى هذه الدراسة في الفعاليات القرائية الشعرية الأسلوبية للباحث الجزائري إلى الإجهاز على سوء الفهم الشائع بين البنيويين العرب بين مصطلحي رؤيا الجوهر، ورؤية العالم، وخاصة فيما يتعلق بنقد الشعر، وتكشف عن الفرق بينهما من خلال دراستها التطبيقية لقصيدتين للسياب وماهر عياد.

رؤيا الجوهر لا رؤية العالم

دراسة في الفاعليات: القرائية/ الشعرية/ الاسلوبية

بشير حاجم

(1)

يعتقد بنيويون، لا سيما عرب، ان تناول الجوهر الشعري غير متناسب مع طبيعة التحليل البنيوي. ذلك، لتمرير هذا الاعتقاد، استنادا الى رولان بارت ـ في المقام الأول ـ منذ بواكيره(1). اذ انه، في تلك البواكير، كان، كما هو معروف، قد وصف تحليلا كهذا ـ بنيوي المنهج ـ بـ «الفاعلية البنيوية». أما هم، بدورهم، فرأوا ان في اكتناه الرؤيا الجوهرية للقصيدة ـ أية قصيدة ـ خروجا على طبيعة فاعلية كهذه.

(2)

2 ـ 1: كمال أبو ديب، مثلا، حاول، مطلع الثمانينيات، ان يقوم باكتشاف أولي لوظيفة الأنساق، البنيوية، من حيث علاقاتها ـ تحديدا ـ بتنامي القصيدة ورؤياها الجوهرية(2). حينها، قبيل بدئه بالمحاولة، تنبه، أو نبه، الى ان في استحضار هذه الرؤيا (ما قد يبدو خارجا على طبيعة التحليل البنيوي). ثم استأنف، فورا، أن استحضارها (هنا) مختار (بعناية). وعلل اختياره، هذا، بأنه يسعى لـ «تطوير التحليل البنيوي بحيث يطمح في النهاية الى تحديد الرؤيا الجوهرية للعمل الأدبي ووضعها في سياق بنية الثقافة».

2 ـ 2: في الوقت نفسه، هناك، أشار أبو ديب الى ان مصطلح «الرؤيا الجوهرية» عنده (لا يتطابق تماما) ومصطلح «رؤية العالم» عند لوسيان غولدمان(3). لكنه، كأنما شوش لا تطابقهما؟، أقر بأن المصطلح الأول متشابك مع المصطلح الثاني (الى حد بعيد). الغريب، أخيرا، انه ذهب ـ بعد تلك الاشارة وهذا الاقرار ـ الى (ان التمييز بين المصطلحين، الآن، ليس ذا أهمية حاسمة).

(3)

أحاول في هذه الدراسة، الحاضرة، أن أفند الاعتقاد، البعضي، بأن تناول الجوهر الشعري، رؤيويا، لا يتناسب!، مع طبيعة التحليل البنيوي، فاعليا، قدر الامكان. بهذه المحاولة، التفنيدية، أروم الوصول الى ان اكتناه الرؤيا الجوهرية لقصيدة ما، استحضارا لرؤيا كهذه، ليس فيه أي خروج على الطبيعة الفاعلية للتحليل هذا. بذا، حتما، سأثبت، عند وصولي لذلك، ان لا صنوية لمصطلحي «رؤيا الجوهر» و «رؤية العالم». أثبت انهما، هنا في الأقل، غير متطابقين، لا (تماما) ولا تقريبا، ثم غير متشابكين، لا (الى حد بعيد) ولا الى حد قريب، بالضرورة. أي سأميز بين المصطلحين، هذين، تمييزا يؤكد ان الأول (كفاعلية رؤيوية للجوهر) شيء والثاني (كتكوينية رؤيوية للعالم) آخر. هذا التمييز، البيني، سيكون تطبيقيا، لا تنظيريا، على ثلاثة نماذج شعرية، تناظري و(تناظري/ أحادي) وأحادي، حيث ثلاث فاعليات بنيوية: قرائية وشعرية واسلوبية.

3 ـ 1: كيفية الشعور بـ (أطلال) طرفة بن العبد في مطولته(4)، مثلا، هي، تساؤليا، ما يجب على الفاعلية القرائية، تجاوبيا، أن تضعها ـ سمعيا وبصريا ـ قبالة المتلقين. لعل أكثر (الاعتياديين) منهم، أو (العاديين) بتعبير أبسط، لم يقرأ المطولة هذه. أما أقلهم، الذي سأفترض قراءته للمطولة، فلعله قرأها قراءة، سالبة؟، مثل عدمها: من دون فهم. ربما يعود هذا ـ اللا فهم ـ الى ان مطولة كهذه، وإن بلغت مئة بيت ونيف، تمتاز بقوة سبكها. فالقوة هذه، نفسها، كانت من القوة، أيضا، بحيث جعلت طه حسين، مثلا، يرى في المطولة إغرابا وتكلفا للألفاظ وصعوبة لا سبيل لفهمها الا بالرجوع الى المعاجم(5).

3 ـ 1ـ 1: يلاحظ ان رجوعا للمعاجم كهذا، سبيلا لفهم الإغراب والتكلف والصعوبة في الألفاظ، يبتدئ منذ الوحدة الطللية، الممزوجة بالنسيب، التي يمثلها البيتان الأولان للمطولة. فثمة (ببرقة ثهمد)، في الأول: لخولة اطلال ببرقة ثهمد، وثمة (مطيهم)، في الثاني: وقوفا بها صحبي علي مطيهم، حصرا. هذا البيت، الأخير، ليس سوى البيت الخامس في مطولة شاعر آخر(6)، مع تغيير كلمة القافية، حيث وضع (تجلد) موضع (تجمل) فيه. فقط، وفقط، قد يفيد في التعرف الى كونه أحد الأدلة على ان شعر طرفة، وإن ظل نسيجَ وحده، مزيج من أشعار امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وعروة بن الورد(7). يُترك ـ البيت الثاني ـ إذن، لما تقدم، ويُركز على البيت الثاني.

3 ـ 1 ـ 2: ليس للقراءة من شأن في هذا البيت، حين التركيز عليه، لا بـ (لخولة) ولا بـ (ببرقة ثهمد). كل ما فيه، شأنياً، انما تلك ألـ (اطلال) التي (تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد). إذن.. ثمة (اطلال)، واحدها: طلل: ما هو شاخص من آثار، تبدو باقية، ظاهرة، كما يبقى سواد (الوشم) ظاهرا على جلد (اليد). أي ان ألـ (كـ) في (كباقي الوشم) ذو موضع نصب، هنا، بمعنى: اطلال تلوح «باقية بقاء» الوشم. الا ان هذا، على الرغم منه، غير مانع من عد البيت تشبيهيا. حاله، في ذلك، أحوال الأبيات المتضمن كل واحد منها الأداة التشبيهية الناصبة (كأن) أو الحرف التشبيهي الجار (كـ).

3 ـ 1 ـ 3: هذه الأبيات، التشبيهية، التي توفر عليها ثلث المطولة، تقريبا، هي، في الدرجة الأولى، ما يراد من القراءة، فاعلية، ان تركز على بعضها. قيل ((بعضها)) فحسب، هنا، لأن معظمها، في الأقل، مما يدخل في عداد الأبيات ذات الألفاظ الغريبة والصعبة والمتكلفة. هذا البيت (كأن حدوج المالكية غدوة.. خلايا سفين بالنواصف من دد)، الذي ينتقل به طرفة من وقفة الطلل الى مشهد الظعن، مثلا. ِليُترك، فورا، ولْيُترك، بعده، ما يماثله من أبيات «5/ 8/ 12/ 16 ـ 22/ 26 ـ 32/ 34 و35/ 58/ 60/ 88». يُركز، إذن، على أمثال بيت كهذا (ووجه كأن الشمس حلت رداءها.. عليه، نقي اللون، لم يتخدد). يمكن قراءته، بل تجب حتى، هكذا «ووجه نقي اللون لم يتخدد كأن الشمس حلت رداءها عليه». لا يُستصعب (يتخدد)، رجاءً، فقط يُستدعى «الخد»، آنئذ، سوف يُعرف ان لفظ (يتخدد) بمعنى ((يضطرب)) من حيث هو «مشتق من الخد، لأنه يضطرب عند الأكل». على ان هذا اللا إستصعاب، إنوجادا أو إنعداما، ليس بذي بال، بتاتا، ما دام المهم صورة الـ (وجه) الذي (كأن الشمس حلت رداءها عليه). لقد خلعته، خلعت (رداءها)، ثم ألبسته للـ (وجه) ألـ (نقي اللون) والذي (لم يتخدد).

3 ـ 1 ـ 4: صور كهذه الصورة، الآسرة ـ؟ ـ إنطباعيا، لطالما تواجدت في مطولة طرفة بن العبد. فاذا بلغ على ناقته حاجة بأقل تعب ممكن، أولا، خص الناقة بـ (وليدة مجلس): اَمَة غير ممتهنة. إن مشت، اذ تمشي، فانما متبخترة: ـ راقصة بين يدي سيدها.. مرخية (أذيال) ثوب أبيض طويل (فذالت كما ذالت وليدة مجلس.. تري ربها اذيال سحل ممدد)!! واذا أراد الاقناع بأنه «لو مد له في أجله فهو آتيه لا محالة وهو في يدي من يملك قبض روحه»، ثانيا، أحال الى «صاحب الفرس الذي قد طول له اذا شاء اجتذبه وثناه اليه». يحيل، لـ (صاحب الفرس)، هكذا (لعمرك ان الموت ما أخطأ الفتى.. لك الطول المرخى وثنياه باليد). أما، ثالثا، اذا جعله أحد ذا يأس من الخير، أو يائسا عنه، فإنه، حينئذ، يمنحه منزلة الميت، ذاك، الذي لا خير مرجى منه. ها هو، لذلك، يقول (وأيأسني من كل خير طلبته.. كأنا وضعناه الى رمس ملحد).

3 ـ 1 ـ 5: قد يكون هذا البيت، الأخير، أقرب الى «الحكمة» ـ؟ ـ منه الى «الصورة». بيد ان الأقربية هذه، للحكمة لا للصورة، ليست بمقللة من أهمية التركيز عليه. كذلك على أمثاله، من أبيات حكيمة، حيث يمكن، هنا، أن تُفرز، منها، ثمانية أبيات، في الأقل، هي ألـ: 55/ 63/ 66/ 78/ 102 ـ 105.

3 ـ 2: الفاعلية الشعرية لقصيدة بدر شاكر السياب: إقبال والليل(8)، التي (لم تؤرخ.. ويحتمل انها آخر قصيدة)، فيها، تعبيريا ونفسيا، ثراء موسيقي فذ: مذهل ـ مدهش. هذا الثراء، الذي يمكن تأسيس اكتشاف له حتى: على الشاطئ(9)، توفرت عليه فاعلية كهذي ـ لعموم الشعر السيابي ـ نتيجةً أكيدة. لم يكن سببها، هذه النتيجة الأكيدة، سوى حضور ادراكي بصمود قيام فرضي لتجربات الموسيقى التصويرية.

3 ـ 2 ـ 1: لقد تنامى هذا الحضور، مزدهرا ومستمرا، حتى بلغ أوج ذروته، من ثم، حيث: جيكور أمي(10). ولئن بلغ، بعد تنام ازدهاري واستمراري، ما بلغه، من فرادة، فإن حضورا كهذا، أوجي الذروة، كان، حتما، قد ظل «وفيا» للفاعلية الشعرية السيابية. فما برح، جليا، يوفر لها، نسغيا ونسقيا، ثراءها الموسيقي الفذ، المذهل والمدهش، بحيث تواتر، رواية ودراية، حتى وصل الى (إقبال والليل).

3 ـ 2 ـ 2: بهذا الثراء، المتواتر، الذي وصل اليها، متوفرا لفاعليتها الشعرية: الأحادية والتناظرية، كان لهذه القصيدة، الأخيرة، فعلان متتوئمان. تكشف عن ذات غيرية لكن نفسية (إقبال)، أولا، وتكثف من مكان زماني لكن تعبيري (الليل)، ثانيا، ابتداء من عنوانها. فهذا العنوان، ذو الوحدات الثلاث، يشير الى معادلة مزدوجة ـ مسموعة مهموسة/ سهلة ممتنعة ـ مفادها: إقبال «النهار» = «إدبار» الليل.

3 ـ 2 ـ 2 ـ 1: من هنا، أصلا، مكشوفٌ (إقبال) النهار، نعم، غير انه مهموس: وأشفق من صبح سيأتي، وأرتجي.. مجيئا له يجلو من اليأس والوجد. وحين يُسمع، كما قدر له، فانما مع سماع ضديده «إدبار» الليل إلحاقا: الليل طال وما نهاري حين يقبل بالقصير. ثم يُسمع أقوى، فأقوى، لكن سماعه هذا، مهما قوي هنا، يظل ملحقا بسماع الضديد عينه. هكذا، يلحق، أولا: صوبي في الليل نظره/ نحو الخليج. تصوريني أقطع الظلماء وحدي/ لولاك ما رمت الحياة ولا حننت الى الديار/ حببت لي سدف الحياة، مسحتها بسنا النهار. هكذا، هو، ثانيا: يا لجواب القفار/ وصل المدينة حين أطبقت الدجى ومضى النهار/ والباب أغلق فهو يسعى في الظلام بدون قصد. لكن هذه الملحقية، ملحقية سماع «إقبال النهار» بسماع «إدبار الليل»، لم تتوقف عند هذا الحد، الحاضر، بل تعدته بكثير الى ما هو أبعد. اذ انتهى المقطع الثالث بدال مكسورة: يسعى في الظلام بدون قصد، رغم انه ذو قواف متعددة، اتساقا مع (أقطع الظلماء وحدي). هذا، الانتهاء الاتساقي، مثلما كان المقطع الأول ـ ذو القافية المتوحدة ـ بدال مكسورة، كذلك، ابتداء وانتصافا وانتهاء: السهد/ بعد/ الوجد. مع، ملاحظةِ، انطلاق (الدجى) من (اذا الدجى.. تهاوين كالأمطار بالهم والسهد) انتقالا الى (أطبقت الدجى ومضى النهار/ والباب أغلق فهو يسعى في الظلام بدون قصد).

3 ـ 2 ـ 2 ـ 2: أيضا من هنا، فرعا هذه المرة، مكثفٌ «إدبار» الليل، صحيح، لكنه مسموع. هكذا، يُسمَع، أولا (الليل طال: نباح آلاف الكلاب من الغيوم/ ينهل، ترفعه الرياح، يرن في الليل الضرير). هكذا، هو، ثانيا: الليل والعشاق ينتظرون فيه على سنا النجم/ الأخير. هذه الأشطر، الأربعة، يتقدمها: الليل طال وما نهاري حين يقبل بالقصير، من جهة أولى، كذلك يتخللها: وهتاف حراس سهارى يجلسون على الغيوم، من جهة أخرى، هنا. أي ان مسموعية (الليل) في الأشطر الستة، تلك الأربعة مع هذين الاثنين، أيضا اتت أقوى، من قوية جدا، لأنها تأتت تواصلية ـ غير نَفَسية ـ على مدى مقطع كامل = المقطع الثاني. هذا التأتي التواصلي، اللا نفسي، سوف يتكرر ـ مباشرة ـ منذ ابتداءُ المقطع التالي: الثالث. سيتكرر، إذن، هكذا: يا ليل ضمخك العراق/ بعبير تربته وهدأة مائه بين النخيل/ اني أحسك في الكويت وأنت تثقل بالأغاني/ والهديل/ أغصانك الكسلى و(يا ليل) طويل. حينها يصير «إقبال النهار»، ذاك، أقنوما رابعا، من خمسة أقانيم متتالية، لـ «إدبار الليل»، هذا، الذي يظل (العراق) أقنومه الأول! منفردا مع الـ (ليل) في شطر واحد. تلكم، صيرورة الحاقية من شطرين اثنين فقط، هي الأقنمة (يا ليل أين هو العراق؟ أين الأحبة؟ أين أطفالي؟ وزوجي والرفاق؟). ثم يتكرر التأتي التواصلي ذاك، بعينه، مرة ثانية، بعد أقنمة ـ خماسية ـ كهذه، إثر إتصال نهاية المقطع الثالث مع بداية المقطع الأول. ذلك لأن المقطع الرابع للقصيدة، وهو الأخير، سوف يبتدئ، كما إبتدأت هي، تناظريا ثلاثيا. أول أبياته التناظرية الثلاث، هذه، هو: وخوض في الظلماء سمعي تشده.. بجيكور آهات تحدرن في المد. ثانيها، بعده، هو: بكاء وفلاحون جوعى صغارهم.. تصبرهم عذراء تحنو على المهد. أما ثالثها، أخيرا، فهو: يغني أساها خافق النجم بالأسى.. وتروي هواها نسمة الليل بالورد. ولعل أهم ما في هذه الأبيات، ثلاثتها، ان للعذراء، التي تصبر الصغار، أسى وهوى جليين. ثمة أساها السابق، القبلي، الذي يغنيه: خافق النجم (بالأسى)، عينه، وثمة هواها اللاحق، البعدي، الذي ترويه: نسمة الليل (بالورد)، وحده، على التوالي. لكن الهوى، الليلي، سيتقدم، كأنه يُسمع، بينما الأسى، النجمي، سيتأخر، كأنه يُهمس، لاحقا. فإذا بهما، سمعيا للأول ـ همسيا للثاني، محتويان (أين الهوى مما ألاقي والأسى مما ألاقي؟ يا ليتني طفل يجوع، يئن في ليل العراق!) من مكان زماني مكثف التعبير. سوف يُسمع أقوى فأقوى، حالَما تنبثق (الدجى) ـ مرة ثالثة ـ عند النهاية، فيما ستُهمس أضعف فأضعف، من دون (صبح سيأتي) ـ أبدا ـ منذ البداية، ذات غيرية مكشوفة النفس. هكذا، هما، أولا (إقبال مدي لي يديك من الدجى ومن الفلاه/ جسي جراحي وامسحيها بالمحبة والحنان). وهكذا، هما، تاليا (بك أفكر لا بنفسي: مات حبك في ضحاه/ وطوى الزمان بساط عرسك والصبي في/ العنفوان).

3 ـ 3: يحاول نص: عرس القمر(11)، لماهر عياد عبد النور، ان يستثمر الفاعلية الاسلوبية(12) بعفوية أم بقصدية؟ ليوفق ما بين اعتيادية النثر واستثنائية الشعر. محاولة كهذه، بإستثمار الاسلوب للتوفيق، تتم، في آن واحد، على مستويين ـ اثنين ـ متساوقين. ثمة مستوى عمودي، أول، متمثل في العنوان والمتن النصيين. وثمة مستوى افقي، ثان، متمثل في الاستهلال والاستغلاق المتنيين.

3 ـ 3 ـ 1: على المستوى الأول: العمودي، العنواني/ المتني، يتم تحويل هذا النص من اعتيادية نثرية الى استثنائية شعرية باقفال الدائرة المعنوية لعنوانه على معنى واحد. فهو، أي العنوان، ليس «عرس قمر» ولا «عرس للقمر» ولا «عرس لقمر». انه (عرس القمر)، فقط، حيث (عرس) واحد لـ (القمر) الواحد. وهو، هذا: الـ (عرس القمر)ي، ما يصادق عليه متن النص. اذ ان في هذا المتن(13)، النصي، يوجد لـ (القمر)، بـ (عرس) كهذا، مصداقان صريحان. اولهما، حتى الشطر الحادي والعشرين، ان (هذه الحورية،/ النهرية/ سوف تزفها العذارى/ الفاتنات/ ستزفها الى القمر). ثانيهما، وصولا الى الشطر الثاني والخمسين، ان (في الليلة تلك/ كان مرسوما على النهر/ كل النهر/ ذاك القمر).

3 ـ 3 ـ 2: أما على المستوى الثاني: الأفقي، الاستهلالي/ الاستغلاقي، فيتم تحويل متنه، متن النص عينه، من اعتيادية نثرية الى استثنائية شعرية، كذلك، بطريقتين اثنتين. أولاهما، متعلقة بالاستهلال أكثر من تعلقها بالاستغلاق، طريقة التغطية. وثانيتهما، متعلقة بالاستغلاق أكثر من تعلقها بالاستهلال، طريقة المؤازرة.

3 ـ 3 ـ 2 ـ 1: تتغطى بالاستثنائية الشعرية لبعض الأشطر، من جانب أول، ما توصف بالاعتيادية النثرية لأشطر أخرى. في مقدمة هذه الأشطر الأخيرة، الأخرى، ثمة ثلاثة اشطر استهلالية (على النيل الخالد/ في ليلة قمرية/ رأيت حورية). هنا، مباشرة، سوف يحدث قيام تغطوي. اذ ان الشطرين اللاحقين، بها، وهما ذوا استثنائية شعرية، واضحة، يقومان بتغطية اية اعتيادية نثرية لهذه الأشطر الثلاثة(14). لأن (الحورية)، التي رئيت (على النيل الخالد/ في ليلة قمرية)، كان (يزهو بها ثوب فرعوني) و(تعانقها قلائد). هذه التغطية، باستثنائية الشعر لاعتيادية النثر، سوف تحضر ـ مرة ثانية ـ في ما بعد. ذاك، الحضور، حين تُرى (شلة من العذارى/ عذارى فاتنات) وقد (حمل قلوبهن فرح/ يصبو لأحلام وردية/ مرددا اغنيات شجية). كما تحضر، مرة ثالثة لاحقا، عندما يرى (القمر) العريس: بعيدا عن أمه السماء/ ينسل على سفح هرم/ لعله الهرم الأكبر. انما، هنا، تحديدا (حيث حجر راقص/ مختال/ يستوي عليه خيالها/ الفرعوني/ خيال عروسه).

3 ـ 3 ـ 2 ـ 2: يؤازر هذه التغطيات الثلاث، من جانب ثان، تكرار(15)، متحول/ ثابت، يتواتر على مدى الاشطر التسعة عشر الأولى لمتن النص. فثمة، اولا، ان (على النيل الخالد/ في ليلة قمرية/ رأيت حورية). أيضا ثمة، ثانيا، ان (على ضفتيه/ نيلنا ذاك/ في تلك الليلة/ القمرية/ رأيت شلة من العذارى). وثمة، ثالثا، ان (فوق موجه الازرق/ ما بين ضفتي نيلنا/ هذه الحورية/ النهرية/ سوف تزفها العذارى). هنا، كما واضح، قد ثبت حرفا الجر (على) و(في) وفعل الماضي (رأيت). لكن، يحدث هذا الثبات، مع تحولين. أولهما، هو، تحول (النيل الخالد) من معرف بألف لام التعريف (ألـ) وبالصفة (الخالد) الى معرف بضمير جمع التكلم (نا) وبالاشارة (ذاك). ثاتيهما، هو، تحول احدى ليالي (القمر) من نكرة (في ليلة قمرية) الى معرفة (في تلك الليلة/ القمرية). بالتالي، نتيجة للتحولين هذين، تتحول الرؤية (رأيت) عن مفرد تنكيري (حورية) نحو جمع تعريفي (شلة من العذارى) داخل (ثانيا). ولعل هذا التحول الاخير، الذي طرأ على (اولا)، هو، اذن، ما احدث تحولا ـ آخر ـ في (ثالثا). أحدثه، بامتياز ـ؟ ـ هنا، حيث حلول (فوق موجه الازرق) بدلا من (على النيل الخالد) ثم (على ضفتيه) تراتبيا. وهو، هذا الحلول، ما جعل من ثابت للماضي الملموس (رأيت حورية) و(رأيت شلة من العذارى) متحولا بالمضارع المحسوس (سوف تزفها العذارى) حاضرا ومستقبلا. مع ملاحظة ان في هذا الجعل، الفذ، تماما ـ مذهلا؟! ـ لـ (ضفتي نيلنا) عند (ثالثا) و(نيلنا ذاك) عند (ثانيا) و(النيل الخالد) عند (اولا).

3 ـ 3 ـ 2 ـ 2 ـ 1: لذلك، كله، بعد هذا الالتمام الثلاثي، الذي نتج عن تكرارات ـ متحولة/ ثابتة ـ ثلاثية، ليست غريبا، البتة، ظهور إحاطة. سوف تظهر، قبيل: زفة (العذارى) تلك (الحورية) لهذا (القمر)، ثلاثة محيطات بـ: النيل الخالد ـ ضفتي نيلنا ـ نيلنا ذاك. فثمة (السماء) و(الهرم) والـ (حجر)، على التوالي، بفعلية (القمر)، العريس، لا سواه. إذ، انه، ها: هو ذا الآن،/ بعيدا عن امه السماء/ ينسل الى سفح هرم/ لعله الهرم الأكبر/ حيث حجر راقص/ مختال/ يستوي عليه خيالها/ الفرعوني/ خيال عروسه. ومن الممتع، هنا، عقب هذا الظهور الثلاثي سماء/ هرم/ حجر، ان يتجلى نسق، ثلاثي، مداه سبعة عشر شطرا. فعندما (العذارى تهامسن) بـ (آه) ثلاث مرات، متتاليات، تمنين ان (لو): كانت سانديريلا هنا ـ فاجأنا عبد الحليم بأغنية ـ حكت شهرزاد.

3 ـ 3 ـ 2 ـ 2 ـ 2: أي ان محاولة (عرس القمر) للتوفيق ما بين الاعتيادية والاستثنائية على مستوى افقيته المتنية، لم تتم فقط عبر تغطية بضعة اشطر شعرية لعدة اشطر نثرية. بل انها، هذه المحاولة، تمت ايضا، منذ ما بعد الاستهلال حتى ما قبل الاستغلاق، عبر التكرار التواتري، المتحول/ الثابت، الذي انتج ثلاثيات التمامية وظهورية ونسقية. وما كان لهذا الانتاج، الثلاثي، ان يتحقق، تحققا فذا، لولا ان في متن هذا النص تدويما ظاهرا. استمر، متتابعا أو متراوحا، الى النهاية (هنالك/ في الليلة تلك/ كان مرسوما على النهر/ كل النهر/ ذاك القمر).
ـــــــــــــــ
(1) ـ البنيوية، هنا، لا الوجودية ولا الماركسية.. اذ ان بارت، الذي مر نتاجه بعدد من المراحل، كان (قد تقلب بين الوجودية والماركسية والبنيوية).. تنظر، عنه، اديث كيرزويل: عصر البنيوية ـ من ليفي شتراوس الى فوكو، ترجمة ـ جابر عصفور، دار آفاق عربية ـ بغداد، 1985/ ص 177 ـ ص 206
(2) ـ كذلك، قبل هذا التحديد، أولا (من حيث كونها دالة أو غير دالة) وثانيا (من حيث فاعليتها الكلية في البنية).. تراجع، تعيينا، دراسته: الأنساق والبنية، فصول ـ القاهرة، العدد 4/ يوليو 1981.. وكان أبو ديب، ذاته، قد ترجم مقالة رولان بارت (الفاعلية البنيوية) في: مواقف ـ بيروت، العدد 41/ ربيع 1981
(3) ـ قال بفكرة الفاعل الجماعي، أو الاجتماعي، على أساس ان النقد، الأدبي طبعا، يتبلور في صورة منهجية سوسيولوجية، وفلسفية، لاضاءة البنيات الدالة، أولا، مع تحديد مستويات انتاج المعنى عبر أنماط من رؤية للعالم، ذات وعي جمعي، فضلا عن ارتباط تحول الأشكال الأدبية ـ وتطورها ـ بالتحولات الاجتماعية على المستويين الاقتصادي والسياسي.. راجع، لتفاصيل أكثر، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، ترجمة ـ محمد سبيلا، مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت، ط 1/ 1984/ ص 55 وما بعدها.. أيضا، ينظر، عبد الحق منصف: الأسس العامة للبنيوية التكوينية عند غولدمان، أقلام ـ الرباط، العدد 56/ أبريل 1982
(4) ـ أعتمد نصها الشائع، الرائج، كما أورده محمود عبد الله الجادر، مثلا، ضمن: نصوص من الشعر العربي قبل الاسلام، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ـ بغداد، 1990/ ص 236 ـ ص 304
(5) ـ خصوصا، من رأيه، ما يتعلق بوصف طرفة للناقة.. ينظر، هذا الرأي، في كتابه: حديث الأربعاء، دار المعارف ـ القاهرة، ط 9/ 1962/ ص 59
(6) ـ ديوان امرئ القيس، تحقيق ـ محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعارف ـ القاهرة، 1959/ ص 9
(7) ـ بحسب حسن فتح الباب، هنا، في: رؤية جديدة لشعرنا القديم ـ مأثورات من الشعر العربي في ضوء مفهوم التراث والمعاصرة، دار الحداثة ـ بيروت، ط 1/ 1984/ ص 16.. وانظر، فضلا عن (ديوان امرئ القيس)، ((أ)) شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، دار الكتب ـ القاهرة، 1944 ((ب)) ديوان عروة بت الورد والسموأل، دار صادر ـ بيروت، 1964
(8) ـ تنظر، هنا، في ديوانه: أقبال وشناشيل ابنة الجلبي، دار الطليعة ـ بيروت، ط 3/ 1967/ ص 147 ـ ص 151
(9) ـ نعم، ممكن، على الرغم من ان هذه القصيدة (ركيكة النسج) عند إحسان عباس.. ينظر، عنها، كتابه: بدر شاكر السياب ـ دراسة في حياته وشعره، دار الثقافة ـ بيروت، ط 4/ 1978/ ص 29.. وانظر، أيضا، بشير حاجم: السياب (على الشاطئ)، المؤتمر ـ بغداد، العدد 492/ 5 نيسان 2004
(10) ـ في أجزائها الأولى، بحسبه، التزم بـ: اذا كان 3 (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) = 3 فاعلاتن، 3 مستفعلن، 3 فاعلاتن مثلا فإن الفرضية التي تقوم هذه القصيدة، موسيقيا، عليها صحيحة.. تنظر، قصيدته، في: إقبال وشناشيل/ سابق/ ص 77 ـ ص 80.. ويرى عبد الجبار داود البصري، في هذا الصدد، ان من أبعاد الحداثة في الشعر السيابي، لا سيما جيكورياته، انه (خرج على ايقاع مجمع البحور الذي نادت به الرومانسية).. أنظر، للمزيد، كتابه: الطريق الى جيكور، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، ط 1/ 2002/ ص 159
(11) ـ النص، منشور، في: جريدة المؤتمر ـ بغداد، العدد 1210/ 8 تشرين الأول 2006
(12) ـ أتجِهُ الى نواحيها الوظيفية، تحديدا، هنا.. ينظر عنها، هذه النوحي، يوسف نور عوض: نظرية النقد الادبي الحديث، دار الامين ـ القاهرة، ط 1/ 1994، ص 74
(13) ـ أفكر في ان المتن، شعرا ام نثرا، ليس بمتن، متكامل في الأقل، الا، وفقط، اذا توفر على اركان (الغرض المتحدث عنه والمعجم التقني وكيفية استعماله والمقصدية) شريطة ان (تكون وحدة غير قابلة للتجزئة).. أشير الى استلالي هذه الفكرة من محمد مفتاح، حصرا، في كتابه: دينامية النص ـ تنظير وانجاز، المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء، ط 1/ 1987/ ص 129
(14) ـ واضح ان اشطرا كهذه، استهلالية، لا تستجيب لقول علي الجرجاني بأن (على الشاعر الحاذق ان يجتهد في تحسين الاستهلال).. ينظر، في هذا الشأن، مؤلفه: الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح ـ محمد ابو الفضل ابراهيم/ علي محمد البجاوي، مكتبة البابي الحلبي ـ القاهرة، ط 2/ 1951، ص 48
(15) ـ يرى منذر عياشي، مثلا، ان (الشاعر يستطيع، بتكرار بعض الكلمات ان يعيد صياغة بعض الصور من جهة، كما يستطيع ان يكثف الدلالة الايحائية للنص من جهة اخرى).. انظر، أكثر، مقالات في الاسلوبية، اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق، ط 1/ 1990، ص 83 بدءا.