يتناول الباحث المصري هنا رواية الكاتب المصري جمال الغيطاني، أو بالأحرى استعارته الشفيفة عما جرى في حرب 1973 بقراءة جغرافية تكشف عن التباين الحاد بين رؤيتين وموقفين متناقضين من الإنسان المصري الذي حارب وتبدد دمه هدرا.

البحث عن مصر

«حكايات الغريب».. قراءة جغرافية

تامر القزّاز

(1)

تدور حكايات الغريب للكاتب جمال الغيطاني حول قرار أحد المؤسسات الصحفية إرسال لجنة للبحث والتقصي عن مصير أحد سائقيها حيث دخل إلى محافظة السويس في صباح 23 أكتوبر 73م ولم يخرج منها أو يظهر في أي مكان بعد ذلك، وبالتالي فإن الأحداث تدور بين محافظتي القاهرة والسويس بما تحمل كل منهما من معاني ودلالات عميقة في التاريخ المصري، خاصة وقد بدأت الأحداث بالتأكيد على تلك الخصوصية. «في يوم السبت 2 فبراير 1974 بعد أن فتح الطريق إلى السويس للمدنيين، قام رئيس العهدة المخزنية بالمؤسسة العامة المعتمدة للتوزيع والنشر بكتابة مذكرة يعرض فيها موقف الأسطى عبد الرحمن محمود».

وتظهر الفقرة الاستهلالية بوضوح حساسية اللحظة الزمنية وأهميتها. كما تسجل الافتتاحية مفارقة هامة في طبيعة الفعل ورد الفعل، ففتح الطريق إلى السويس أمر مهم بلاشك، فهو يتيح للآلاف المهجرين العودة الى بيوتهم، كما أنه يشى بما أفرزته المعارك من انتصار كبير، لكن رد فعل القاهرة لم يكن على نفس الدرجة من الأهمية فكل ما ترتب على هذا الأمر هو كتابة مذكرة أعدها موظف ذو لقب وظيفي طويل ليقوم بعد ذلك بعرضها على شخص آخر ذو لقب أطول. إنها أحدى صور الاسترخاء البيروقراطي القاهري، والذى يزداد قسوة وألماً حين يتضح سبب كتابة المذكرة: «وأصبح موقف السيارة الفورد والبضاعة غير معروف مما تسبب في وجود فجوة في دفاتر العهدة» فالمؤسسة لم تفكر في مصير السائق نفسه، لم تفكر القاهرة فيه باعتباره إنسانا، لم تحاول البحث في أوضاع أسرته المعيشية بعد غيابه، كان الأهم هو العهدة.

يزداد الاسترخاء القاهري وضوحاً حينما ترفع المذكرة إلى مدير المؤسسة: «وفي يوم الأحد 3 فبراير، أبدى مدير المؤسسة حيرته عندما عرضت المذكرة عليه، إذ أن الموضوعات التي يقرأها دائماً ذات طابع متشابه مهما اختلفت مصادرها، لم يسبق وقوفه أمام موضوع بهذا الشكل لهذا رفع السماعة وطلب رئيس مجلس الإدارة وبعد تفكير مشترك صدر قرار بتشكيل لجنة تسافر إلى السويس وتستقصي الحقيقة حول مصير العهدة. وفي تمام الساعة الواحدة والربع بدأت الآنسة/ سنية نسخ المذكرة الخاصة بتشكيل اللجنة بعد أن أنهت مكالمة تليفونية طويلة مع إحدى صديقاتها، وبعد ثلاثة أيام صدر القرار من أصل وخمس صور يحمل توقيعاً "رئيساً" لمدير المؤسسة، وتوقيعاً جانبياً لرئيس قسم العهدة، وأسفل الصفحة اسم (سنية) التي نسخت القرار». 

هكذا يرسم الغيطاني صورة مؤلمة لحالة الاسترخاء القاهري فمدير المؤسسة لا يمكنه البت إلا في الأمور التي اعتاد عليها فإذا جد أمر جديد فهو لا يملك سلطة التفكير وإنما يعود إلى السلطة الأعلى كي تخبره بالقرار الواجب اتخاذه، والذى هو فى واقع الأمر ليس قراراً مصيرياً أو حربياً ليتطلب كل هذه الحيره، وبطبيعة الحال فمع هذا الاسترخاء والترهل الشامل من الطبيعى أن يزداد الاهتمام بالشكل دون المضمون، فمهمة اللجنة ليست البحث عن السائق ولا حتى العهده بل مجرد اجراء شكلى لاثبات أن المؤسسة لم تتقاعس فى البحث عن العهدة وهو ما يظهر بجلاء فى الحرص على شكل القرار وأماكن التوقيع. إن فتح الطريق بعد إغلاقه في السويس تطلب من القاهرة ما يزيد عن أسبوع حتى تستوعب ما يجب عليها فعله.

يتحول هذا الاسترخاء إلى أمر منطقي وطبيعى حين نكتشف أسبابه، فالقاهرة مريضة فقيرة عشوائية لا تهتم بمن يعيشون فيها ولا تنظر إلى أحوالهم: «أثار ظهور الأفندية اهتماماً في الحي، وسارعت امرأة تبيع المحشي إلى الاختفاء ظناً منها بأنهم من الصحة»... «خرجت إمرأة حافية... مر بهم عبر فناء به مياه غسيل لم تجف ورائحة عطن وزير يستند إلى حامل معوج وسلم طويل بدون درابزين يؤدي إلى مجموعة من الغرف المفتوحة المتجاورة». لقد حاولت الأم البحث عن ابنها منذ اللحظة الأولى فذهبت للمؤسسة الصحفية وإلى المحافظة وكذلك إلى الشرطة، لكن أحداً لم يلتفت لها أو يهتم بسؤالها، لأن أحداً لا يهتم بولدها أو يبحث عنه.

*    *    *

يختلف الأمر تماماً في السويس، لا نجد هذا الاسترخاء أو التباطؤ، فحين يصل شفيق أفندي «أحد أعضاء اللجنة» للمستشفى يعترضه أحد الأطباء: «إعترضه رجل يرتدي معطفاً أبيض، أبرز التصريح، قال إنه يود لو قابل المدير شخصياً». لقد بدأت السويس بالفعل، فقد اعترض أحد الأطباء طالباً منه إبراز التصريح ثم أخطره بصعوبة تحقيق رغبته لوفاة المدير من ناحية ولعدم وجود ملفات كاملة حول هذا الأمر. وإذا كان الوقت بلا قيمة في القاهرة وكان القرار البسيط يستغرق أسبوعاً أو يزيد فإن الوضع مختلف في السويس، فالمستشفى «آوى جرحى كثيرين في بداية المعارك» أما الوقت «فلم يتح لتداوي الجرحى كلهم)» أما الممرضات فهن «يرحن ويجئن». كان الرجل القاهري يرغب في لقاء المدير نفسه رغم أن المدير ـ على افتراض بقائه حياً ـ لم يكن ليقدم له أي مساعدة، كان سيحيله بالتأكيد إلى دفاتر التسجيل أو شهادات الطاقم الطبي، لكنها بيروقراطية القاهرة التي دفعت شفيق أفندي إلى عدم التنازل عن لقاء المدير، ربما اعتقاداً منه أن ذلك يسهل مهمته وربما تيقناً منه أنه كقاهري في مهمة رسمية لا يليق به أن يبدأ مراسم زيارته بلقاء شخص أقل من مدير.

نظر الغيطاني إلى الإدارات الحكومية بالسويس على اعتبار أنها امتداد للقاهرة وبيروقراطيتها فكما أن القاهرة لا تهتم بمصير عبد الرحمن ولم تلتفت إلى توسلات والدته، جاءت محافظة السويس لتنفي وجوده فيها من الأساس. «بزيارتي للمسئولين بالمحافظة أفادوا أنه لم يتواجد شخص بهذا الاسم خلال الحصار، مع ملاحظة أنهم قاموا بحصر جميع الأهالي بالمدينة بعد معارك 24، 25 أكتوبر، لتوزيع المئونة عليهم وقالوا إن الغرباء الذين احتجزوا بالمدينة معروفون وحالاتهم واضحة... لم يتعرف أحد من المسئولين بالمحافظة وقوة عموم المباحث على صورة المذكور، ولم يدل أحد بما يثبت أنه رآه قبل أو خلال أو بعد الحصار».

إن ما سبق يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السائق عبد الرحمن محمود لم يدخل السويس أساساً، فإفادة المحافظة لا تحتمل الخطأ فلم تحاول مثلاً استخدام تعبيرات من قبيل صعوبة التأكد أو الحديث عن إمكانية وفاته دون التعرف على جثته، وإنما اختارت لغة التأكيد بأنه «لم يتواجد شخص بهذا الاسم» مشفوعة بالدليل وهو «حصر الغرباء» وانتهاءً بما ينفي شبهة التقصير أو الإهمال بالإعلان عن درايتهم الكاملة بحال كل الغرباء بالسويس. إن الثقة الحكومية الزائدة في نفي وجود عبد الرحمن بالسويس وقت المعارك لا تتناسب أبداً مع الطريقة التي تعرف بها الفدائيون على السائق.

«لم يكمل حديثه حتى قال أحد الفدائيين الأربعة: إنه يتحدث عن الغريب» هكذا وبكل سهولة رغم التأكيد الحكومي على حصر الغرباء وتوزيع المئونة تمكن الفدائي من إثبات وجوده، بل وذكر هو أيضاً دليله بأنه جاء مع متعهد توزيع الجرائد "الحاج حسن السوداني" وهو الشخص الذي كان يفترض بالفعل أن يصل إليه عبد الرحمن ليسلمه الجرائد. والمثير في الأمر أن عبد الرحمن أو الغريب ليس بالفدائي العادي بل هو فدائي من نوع خاص يقترب من الشجاعة النادرة حيناً، ومن الأسطورة حيناً أخر، ففي معركة الدبابات كان «يقف بطوله في مواجهة الدبابات مخالفاً كل القواعد التي يتخذها المشاة عندما يتصدون للدروع». وتتعدد بطولات سائق عربة الصحافة إلى الحد الذي تتداخل فيه البطولة بالأسطورة. «وأكد هؤلاء أن المكان الذي استشهد فيه تفجرت منه عين وماء عذبه». وفي تصوير أسطوري أخر، يذكر البعض تحول الغريب والحاج السوداني إلى عصفورين عند الكوبري «أرض المعركة». «عصفورين لونهما أخضر، ينزلان فجر كل يوم، صوتهما أحن من الحنين وأطرى من قلب الأم، يحومان قليلاً ويختفيان فجأة كما ظهرا فجأة لم يخلفا ميعاداً».

لم يكن الغريب محارباً فوق العادة فقط بل له مهارات أخرى غير الحرب والحراسة وحفر الآبار: «سمع يؤذن للصلاة مرة، كما أنشد بعض المواويل في سهرة أقيمت خلال الحصار، تبرع بدمه مرات لأن المدينة كانت تعاني نقصاً في الدم... خرج في قارب ليصيد السمك برغم علمه بوجود ألغام... وأقسمت امرأة من حي الأربعين أن الغريب القادم من مصر جاءها عندما أتاها المخاض في الليل وصرخت من الألم... بيديه أنهى ولادتها العسيرة». 

(2)

يطرح التقابل الجغرافي رؤية جديدة للأحداث عبر طرح عدد من الأسئلة والاستفسارات منها:ـ

إن التفكير في الأسئلة السابقة لدى المتلقي يدفع باستمرار نحو اتجاه واحد وهو التقليل من شأن البنى الحكومية البيروقراطية سواء القاهرية أو التابعة لها في مقابل الفخر بالبطولة الشعبية إلى الحد الذي يصل بها إلى أنها الصانع الحقيقى تلك البطولات. إن النظم التي لا تزال تهتم بتسديد الأوراق وبالعهد الشخصية أكثر من اهتمامها بالأشخاص أنفسهم لا يمكنها أن تحقق نصراً أو حتى تتحول إلى عنصر محفز أو دافع للنصر، لذا فقد أتت صورة القاهرة مؤلمة مشوهة تغط في إهمال متوحش، في حين أتت السويس الشعبية مستيقظة منتبهة فخورة بما حققت وصنعت. واللافت أنه حتى على مستوى السرد القاهري نجده يخلو من الخيال أو الصورة الجمالية في حين لعب الخيال دوراً هاماً في تصوير الغريب وصاحبه في السويس، فالقاهرة التي أثقلها الجوع والفقر والإهمال لم تستطع أن تراه عصفوراً أو نبعاً صافياً، ذلك أن القاهرة المشوهة لم تفكر فيه كإنسان أبداً بقدر ما فكرت فى سيارته القديمه المتهالكة، كما أنها لا تريد السيارة بحد ذاتها وإنما تريد نفى تهمة التقصير عن اداراتها.  

(3)

وتتفق حكايات الغريب مع وحدات فريزر للحكى الشعبى نوعاً ما، فلسبب ما خرج السائق من داره في رحلة لم يعد منها، ليظهر بعد ذلك بشكل شبحي لا ندري معه هل هو حي أم ميت، الى الحد الذى يقترب من اعادته للحياه حين يراود شفيق أفندي الشعور بأن السائق يطوف بالمدينة في نهاية السرد. النقطة المفصلية هنا أن بداية السرد هي نفسها نهاية الرحلة تبعاً لوحدات فريزر، لقد مر الغريب بكل تلك الأحداث قبل أن يبدأ الغيطاني سرده، وتلك هي القضية، فالقاهرة لم تبدأ رحلتها إلا بعد انتهاء كل الوحدات، لم ترافق القاهرة الرسمية الغريب في أي من مراحل الخطر، ولم تحاول حتى مساعدته على اجتياز الخطر، بل حتى لم تعبأ بالبحث عنه، بل إنها لعبت دوراً فى غوايته من أجل الخروج الى السويس لتوزيع الجرائد، وحينما تحركت القاهرة كانت الأمور قد انتهت ولم يكن تحركها بحثاً عن الإنسان بما يمثله من قيمة، وإنما بحثاً عن سيارة فورد موديل 1956.

ليطرح لنا السرد عدداً جديداً من الأسئلة:

وربما كان السؤال الأهم والأكثر عمقاً: هل لِما سبق علاقة بتاريخ النشر 1974 وما يحمله من دلالات عن فك الارتباط وبدء المسير نحو محادثات بين مصر وإسرائيل أثارت أسسها حفيظة البعض؟

مهما كانت الإجابات فإن الحقيقة الجلية التى يمكن تأكيدها بكل وضوح، هي قصور الآداء الرسمي وعدم إدراكه لقدرات الشعب ولا لمنجزاته ولا حتى لأحلامه، فجاء دائماً عاجزاً عن تصوير مصر الحقيقية. لقد منحت القاهرة ألقاباً طويلة ومناصب رفيعة لشخصيات كانت أكثر قراراتهم صعوبة من قبيل تشكيل اللجان وكتابة المذكرات في نفس الوقت الذي تهمل فيه بطلاً من أبطالها وتهمل شئون أسرته، بل وترفض حتى أن تمنحه لقب متوفي، ليبدو السرد وكأنه يسعى في واقع الأمر إلى البحث عن مصر الحقيقية.. صانعة البطولة والتاريخ.. لتضفي الإجابة قدراً هائلاً من المرارة والألم، ذلك أننا سنجدها غارقة في بيروقراطية قاتلة أو مريضة شوهها الإهمال والفقر لتبقى السويس والغريب لحظة مشرقة وفارقة في تاريخنا، كلما استدعيناها زادتنا ألماً وحسرة. 

باحث من مصر