شفيق الحوت: عائدون لا شك عائدون

رسالة فلسطين

فيحاء عبدالهادي

«أعتقد بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على النكبة، أن أهم إنجاز وطني حققه النضال الفلسطيني حتى لحظتنا الراهنة كان التأسيس لقيام منظمة التحرير الفلسطينية» شفيق الحوت 

حين يذكر اسم المناضل السياسي، والصحافي العربي الفلسطيني اللامع شفيق الحوت، يذكر بارتباطه بمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في الوطن وفي الشتات، والإنجاز الوطني الرئيس، الذي حققه النضال الفلسطيني، مطلع القرن الماضي. ولد يوم ولادتها، ـ "في اليوم نفسه من الشهر نفسه الذي ولدت فيه، بفارق اثنين وثلاثين عاما، وهو الثالث عشر من كانون الثاني العام 1964. لم تكن ولادة ثانية لفرد، وإنما انبعاث لشعب بأسره"، وكان أحد مؤسسيها البررة، الذي بقي مخلصاً لمبادئها. ورغم أنه كان شاهداً على محاولات تحطيمها، إلاّ أنه انبرى وبعض مؤسسيها، مع من آمنوا بدورها من أبناء الشعب الفلسطيني، ليطالبوا «بإعادة بنائها وتطويرها وتفعيلها، وليعملوا على منع محاولات شطبها أوتهميشها أوتذويبها: "حذرت من بعض السهام التي توجه إلى المنظمة. هي إطارنا وطليعتنا وصندوق بريدنا. المنظمة هي العنوان الوحيد لشعب فلسطين، وهي ليست لفرد ولا لتنظيم، هي للشعب كل الشعب».

آمن شفيق الحوت بأهمية التنظيم السياسي، وضرورة إعادة الروح إلى الشخصية الفلسطينية، مع انحسار المد القومي، فبادر مع رفاقه إلى تأسيس "جبهة التحرير الفلسطينية"، العام 1963م. وشكَّلت مجلة "الحوادث" اللبنانية، ـ التي كان مدير تحريرها ـ أداة تعبئة وحشد واتصال للتنظيم، لكنه وبعد ان مثَّل الجبهة في اللجنة التنفيذية للمنظمة، لمدة عامين، قام مع رفاقه بحل الجبهة ودمج قواعدها وكوادرها في إطار مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. كان ذلك في إطار رؤية المناضل شفيق الحوت لأهمية الوحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية: "في الجبهة، كنا في حالة تطور مستمرة بحكم سعينا المتواصل لتوحيد فصائل الثورة، كما صرنا ـ فيما بعد ـ من دعاة حل الفصائل ودمج قواعدها وكوادرها في إطار منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها المتعددة، وهذا ما دعانا إلى حل جبهتنا كقدوة لغيرنا، وقد قمنا برفد المنظمة بكل ما لدينا من إمكانات ومن موارد بشرية".

كان شفيق الحوت وحدوياً حتى النخاع. ومنذ أن حلَّ ورفاقه "جبهة التحرير الفلسطينية"، بقي مستقلاً وحدوياً، مخلصاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، بيت الفلسطينيين الشرعي، ووطنه المعنوي. صاحَب رحلة المنظمة ورئيسها من الفاكهاني إلى الأمم المتحدة، وصاحَب أخطر قرار سياسي في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها: تحول منظمة التحرير من حركة تحرر وطني إلى حركة استقلال وطني: "وهو قرار سيبقى محور جدل ونقاش إلى أن تحكم نتائجه النهائية له او عليه». «الوحدة الوطنية هي سر قوتنا، هي دربنا الذي لا مناص لنا من السير على أشواكه مهما تعذبنا ومهما تألمنا». آمن بدور الشباب: "إن قضيتنا بحاجة إلى إيمان وصبر ونضال أكثر من جيل واثنين من الشباب" كما آمن بضرورة تداول السلطة. وليس أدل على ذلك من صراحته في مخاطبة القائد الشهيد أبو عمار، في اجتماع المجلس المركزي، الذي انعقد في 25 نيسان العام 1992، بعد حادثة سقوط طائرة أبو عمار: "أما آن الأوان لوضع آلية تضمن تداول السلطة بشكل عادي وطبيعي، ودون إثارة أزمات، أو توريث من لا يستحق فترتد ثورتنا عن هدفها كما ارتد البعض عن ثورة يوليو"!

حين يتحدَّث "شفيق الحوت" عن حروب الاخوة الأعداء، ما بين سنة 1975 وسنة 1989، يقفز إلى أذهاننا واقع حرب الاخوة الآن. يلخصها الكاتب السياسي اللامع بجملة واحدة: «إذا لم يكن هذا هو الجنون، فكيف يمكن أن يكون؟» في ردِّ فعل على "اتفاقية أوسلو"، وقبل أسبوعين من إعلان الاعتراف المتبادل، أعلن شفيق الحوت، تعليق عضويته في أعمال اللجنة التنفيذية، معاهداً كل من عرفه بأن يبقى الجندي الوفي لقضية فلسطين، ولمنظمة التحرير الفلسطينية "التي كان لي شرف المساهمة في بنائها، وبصعب عليَّ أن أكون شاهداً على تدميرها وتصفية مؤسساتها وتشريد العاملين فيها". وحين وقِّعت اتفاقية أوسلو في 13 أيلول، أصدر بياناً يعلن فيه استقالته من اللجنة التنفيذية، ومن منصبه كسفير لفلسطين في لبنان. وقدَّم مداخلة تاريخية، تحدَّث فيها عن رأيه في الاتفاقية في اجتماع المجلس المركزي، في أوائل تشرين الأول، ختمها بإعلانه التمسك بالاستقالة: "انسجاماً مع قناعتي وإيماناً مني بأنني لست رجلاً لكل الفصول، ولكل البرامج السياسية، من تحريرها من النهر إلى البحر، إلى الدولة الفلسطينية المستقلة، إلى مشروع غزة ـ أريحا، وما يتطلبه ذلك من تحديات جديدة". استمر المناضل العنيد في عمله السياسي كمستقل: "تجنبت منابر التنظيمات الفلسطينية قدر المستطاع، وبقيت على مسافة واحدة منها تقريباً، وذلك تنفيذاً للاتفاق غير المكتوب بيننا، وهي اعتمادي كناطق باسم فلسطين في المناسبات الوطنية والقومية، باعتباري (مستقلاً) عن أي تنظيم".

خاض تجربة إعلامية مثيرة: "لا غنى عن النضال السياسي والإعلامي لدعم الكفاح المسلح وتفسير أسبابه وأهدافه"، ودعا الشعب الفلسطيني إلى تدوين تجاربه: "قبل ان تخوننا الذاكرة، أو نخونها نحن، فإن الأمانة تفرض علينا تدوين تجاربنا، ليستخلص منها الجيل المقبل الدروس، فلا يسمح للتاريخ بأن يعيد مآسيه أو يكررها". كما تضاعفت كتاباته في الصحف اللبنانية والعربية، والدوريات الفصلية. وبقي حتى اللحظات الأخيرة يكتب في الصحافة المكتوبة، ويشارك في الصحافة المرئية والإذاعية.

الأخ الكبير شفيق الحوت،

تهرب منا الكلمات، ونحن نستحضر كلماتك، عبر كتبك ومقالاتك، ونستحضر مواقفك الشجاعة النقدية، وإخلاصك اللامحدود.

تنتصب أمامنا محذراً من اليأس، مجدداً العهد، مؤكداً نهج المقاومة، داعياً إلى تحصين الكلمة بالفعل، ودراسة التجارب، والتدقيق في السياسات، واثقاً من النصر، مهما طال الزمن.

يسعدنا أن نردد كلماتك،

"لا بد أننا عائدون.. وسنجد يافا في استقبالنا عند مدخلها قرب نبع الماء المعروف بـ (سبيل أبو نبوت)، المحاط ببساتين البرتقال على مد النظر".

نعم، أنت لست عائداً فحسب، بل فلسطين عائدة إليك وإلينا أيضاً. "إنها مسألة وقت، مهما يطل الزمن". 

faihaab@gmail.com