تنشر (الكلمة) هنا المقالات الثلاث الأخيرة من كتاب الباحث المصري (تهافت الآخر)، الذي سنشر قريبا، وسبق ونشرت عددا من مقالاته في أعداد سابقة، وتكشف لنا تلك المقالات الأخيرة عن مدى تغلغل الآخر في بنية الذات العربية ونخره لها من الداخل، وعن الخلل الجوهري الذي انتاب بنية هذا المجتمع العربي، حتى أصبح في حاجة إلى نهضة جذرية وتغيير شامل.

تهافت الآخر واستراتيجيات تغلغله في الذات العربية

حازم خيري

(1) حتى آمالنا لم تسلم من أذى الآخر!
فى مجتمعاتنا العربية، فقدت الايديولوجيات والمفاهيم كثيراً من جاذبيتها! والكليشيهات التقليدية كالـ"يسار" والـ"يمين"، أو الـ"شيوعية" و الـ"رأسمالية" والـ"أصولية" لم يبق لها معنى! أولئك الذين يصبون بشوق إلى أن يعيشوا وإلى أن يكون لهم مواقف جديدة يُؤثرونها على المخططات الموضوعة فى قوالب جاهزة،  يبحثون عن اتجاه جديد، عن فلسفة ينصرف مضمونها نحو أولوية الإنسان لا أولوية الايديولوجيات والمفاهيم! هؤلاء الثوار بوسعهم تشكيل حركة تطمح فى آن واحد إلى تغييرات عميقة فى ممارستنا وفى تمهيدنا الفكري للحياة! بيد أنه لابد من توضيح نقطة لها أهميتها، وذلك أنه يوجد اليوم يأس واسع الانتشار جداً بين النابهين وذوي الرأى فيما يتعلق بإمكانيات تغيير مجرى الأمور. هذا اليأس هو، فى جزئه الكبير، راجع لما يعترى فهم ظاهرة الأمل من إساءة! البداية المنطقية، إذن، لهذا المقال هى دراسة ظاهرة الأمل والتعرف على ماهيته(1)! فهل الأمل، على نحو ما يرى كثيرون، هو ما لدى المرء من رغبات وأمنيات؟ فى هذه الحالة يمكن أن يكون أولئك الذين يرغبون فى اقتناء السيارات والبيوت والكماليات بأعداد كبيرة وأفضل نوع، من ذوي الأمل.. لكنهم ليسوا كذلك، إنهم أناس نهمون، على ما يبدو، بمزيد من الاستهلاك لا من ذوي الأمل.  

وإذا لم يكن موضوع الأمل شيئاً وإنما امتلاء، حالة من اليقظة أكبر، تحرر من السأم أو بعبارة أخرى، إذا كان موضوع الأمل هو الخلاص أو الثورة، فهل يكون ذلك هو الأمل؟ هذا النوع من الانتظار يكون من اللاأمل إذا لم يعكس سوى سلبية وتوقع، إذ أن الأمل يخفي، هكذا، الاستسلام والايديولوجية المحضة. لقد وصف كافكا هذا النوع من الأمل السلبي والمُنقاد، وصفاً رائعاً فى مقطع من كتابه "القضية". حيث يصل رجل إلى الباب الذى يؤدي إلى السماء (الشريعة) ويتوسل إلى الحارس لكي يدعه يدخل. فيجيبه بأنه لا يستطيع الآن السماح له بذلك. وعلى الرغم من أن الباب الذى يقود إلى الشريعة يظل مفتوحا،ً فإن الرجل يقرر أنه يُحسن صنعاً لو انتظر حتى يحصل على الإذن بالدخول! يظل الرجل يطلب بانتظام الإذن بالدخول، ولكنه يتلقى دائماً نفس الجواب أنه مازال لا يستطيع بعد الحصول على الاذن بالدخول. الرجل لسنوات طويلة يلاحظ الحارس باستمرار تقريباً، ويتعلم أن يتحقق حتى من براغيث ياقته الفرو. فى النهاية يصبح الرجل طاعناً فى السن، وإذ يحس أنه على شفا الموت، يسأل لأول مرة: "كيف جرى أنه لم يسع أى شخص غيري، طيلة هذه السنوات كلها، إلى الدخول؟" فيجيب الحارس: "لم يكن فى وسع أحد غيرك أن يحصل على الوصول إلى هذا الباب، بما أن هذا الباب كان مخصصاً لك. والآن فإنني أغلقه"!.

كان الرجل الشيخ طاعناً فى السن أكثر مما يجب لكي يفهم، ولكنه لم يكن فى وسعه أن يفهم أكثر لو أنه كان أصغر سناً. فهو، كمعظم أبناء مجتمعاتنا، يرى أن الآخر ـ وأقصد به هنا كل من يحرص على إبقاء الإنسان مغترباً ثقافياً، أى يحرص على إبقاءه مُستهلكاً لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا يملك الحق فى نقدها أو تطويرها(2) ـ  يملك الكلمة الأخيرة: إن قال لا فإنه لا يستطيع الدخول! ولو كان للرجل أكثر من هذا الأمل السلبي لأمكنه الدخول، ولأمكن لشجاعته فى مخالفة إرادة الآخر أن تكون الفعل المحرر الذى يمكنه أن يقوده إلى غايته. هذا النوع من الأمل السلبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشكل مطلق من الأمل يمكن أن يوصف كأنه رجاء فى الزمن. الزمن والمستقبل يصبحان المقولة الرئيسية لهذا النوع من الأمل. فما من شيء يُفترض حدوثه فى الآن وإنما بعد ذلك فحسب، فى اليوم التالي أو فى العام القادم، وفى العالم الآخر، إذا كان من المحال الاعتقاد بأن الأمل يمكن أن يتحقق فى هذا العالم. فوراء هذا الاعتقاد تجد نفسها وثنية المستقبل والتاريخ والأجيال القادمة، تلك التى تُعبد كأنها آلهة! المرء لا يفعل شيئاً، إنه يبقى سلبياً لأنه ليس شيئاً ولأنه عاجز، ولكن المستقبل سوف يكمل ما لم يستطع تحقيقه. هذه العبادة للمستقبل، هى استلاب الأمل!  فبدلاً من أن أكون أنا من يعمل أو يصبح شيئاً ما فإن الأوثان، المستقبل والأجيال القادمة، ستحقق لى مشاريعي دون أن يكون على ما أفعله..

إذا كان الانتظار السلبي هو شكل مموه لليأس والعجز، فثمة شكل آخر من القنوط، يتخذ تماماً القناع المقابل، قناع المغامرية، قناع اللامبالاة تجاه الواقع! ذلك هو موقف أولئك الذين يزدرون من لا يفضلون الموت على استدامة النضال! هذا الستار الراديكالي المُستعار من اليأس والعدمية هو متواتر لدى بعض العناصر الأكثر التزاماً فى مجتمعاتنا. فهم بليغو الأثر بجسارتهم وحزمهم، لكنهم يفقدون كل مواجهة بانعدام الواقعية والحس الاستراتيجي وأحياناً بانعدام حب الحياة! نمر جاثم هو الأمل الحقيقي، لا ينقض إلا عندما تجيء اللحظة!.

فأن يؤمل المرء يعني أن يكون مستعداً فى كل لحظة لاستقبال ما لم يكن قد نشأ بعد، دون أن ييأس! إن ضعاف الأمل، فى كل زمان ومكان، يستقرون فى الراحة أو فى العنف. والذين يكون أملهم حقيقياً يميزون كل إشارة حياة جديدة، ويتشبثون بها، فهم فى كل لحظة مستعدون للمشاركة فى انبثاق ما يجب أن يُولد!.

إغترابنا الثقافي وسلبية آمالنا:
ثمة علاقة وطيدة بين امتلاك الانسان، فى مجتمعاتنا المتخلفة، لأمل سلبي وبين إغترابه ثقافياً، لأنه إذا كان الاغتراب الثقافي، كما عرفته سلفاً، يعني بقاء الانسان مستهلكاً لثقافة، أى لطريقة حياة شاملة، لا يملك الحق فى نقدها أو تطويرها، فإن الأمل السلبي، وهو رجاء فى الزمن واكتفاء بالسلبية والتوقع، يُعد ـ بحق ـ نتيجة وسبباً لادامة الاغتراب اللعين، إذ يكرسه ويحول دون قهره! أبناء مجتمعاتنا العربية، أعنى معظمهم، يشبهون رجل كافكا العجوز! يأملون، لكنهم لم يُمنحوا ما يدفعهم للتصرف وفقاً لحركة عقولهم وقلوبهم، وما لم يُعط الآخر الآثم الضوء الأخضر فإنهم لا يكفون عن الانتظار .. انتظار جودو(3).

قارئي الكريم، أظنك الآن تُطالبنى بمزيد من الايضاح، وإليك ما تطلب!

قلت فى مقال سابق لى بعنوان "الله والحرية"، منشور على شبكة الانترنت، إن الآخر العربي/ المحلى (ومن ورائه الآخر الغربي/ العالمي والآخر الاسرائيلي/ الاقليمي) نجح فى الترويج، بدم بارد، لمسألتى التأثيم الالهى لحرية الفكر وإحلال نفسه محل الله، فما يفعله هو إرادة الله تجرى على يديه الملوثتين! أجل، نجح الآخر العربي/ المحلى، بنسخه المتعددة والمتشابهة،  فى تغريب شعوبنا ثقافياً، وتحويلها لمجرد مستهلك لثقافة، لايملك الحق فى نقدها أو تطويرها! اغتصب الآخر العربي امتياز نقد الثقافة العربية الاسلامية وتطويرها، وبات مُهدداً فى دمه وعرضه وماله من يجرؤ على سلب الآخر هذا الامتياز غير الانساني. النخب الحاكمة، تقف بالطبع فى طليعة قوى الظلام، وذلك باعتبارها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي! إنها لا تكف عن إيهامنا بأننا شعوب مستقلة، والحق أن دولنا لا تملك من الاستقلال الحقيقي سوى إسمه! فأى إستقلال هذا، وتواطؤ الآخر المحلى مع الآخرين العالمي والاقليمي لا تُخطئه إلا أعين الجبناء!

تجار الآلام يرتعون فى ربوعنا الطيبة كالأفاعى السامة، يطالبون شعوبنا، فى جرأة مخيفة، بتجنب جائحة الحرية، ويحذرونها من مجرد التفكير فى استعادة حقها المشروع فى نقد وتطوير ثقافتها العربية الاسلامية! يوهمونها أن فى انفراد الآخر العربي/ المحلى بفعل التفكير والنقد ارضاء لله وتجنب لسخطه وغضبه! أوهموا البسطاء أن الله لا يثق إلا فى عقل الآخر العربي، أما عقولهم ـ وياللغرابة ـ فما خُلقت لتُستخدم، وإنما لتستوعب ما تجود به قريحة الآخر! يالها من جريمة مُخزية، أورثتنا الذل والمهانة، على كافة الأصعدة وفى كافة الميادين. فى ظل أجواء ظلامية كهذه، يعجز فيها المغترب عن ممارسة أبجديات التفكير، نرى المغتربون فى كافة المحافل، يطلبون الفتوى، حتى فى أتفه الأمور!

أقول إنه فى ظل أجواء كهذه، يصبح منطقياً شيوع الأمل السلبي بين المغتربين، فاحتلال عقولهم يسلبهم إرادة الفعل، فنرى آمالهم مجرد رجاء فى الزمن واكتفاء بالسلبية والتوقع! ألم أقل إنهم يشبهون رجل كافكا العجوز! يُهدرون أعمارهم الغالية، والتى يستحيل تعويضها، فى انتظار أن يمن عليهم الآخر المحلى بتحقيق ولو بعض آمالهم، على تواضعها! إنهم فى انتظارهم خائفون، لا يجرؤون على مبادرة الفعل، فتحذيرات تجار الآلام لهم وتخويفهم إياهم بغضب الله، تزيد من سلبية آمالهم، فنراهم تجسيداً مريراً للانتظار.. انتظار اللاشيء! المؤلم هو أن الآخر العربي (ومن ورائه الآخر الغربي/ العالمي والآخر الاسرائيلي/ الاقليمي) يجد فى انتظار المغتربين لبانته، فيعمد لتثمينه، ويحوله لوثن يطالبهم بتقديسه. من هنا، قارئي الكريم، نجد تفسيراً لشيوع تمجيد الانتظار والصبر فى ثقافتنا العربية الاسلامية، فالواضح أن الآخر العربي/ المحلى نجح على ما يبدو فى تحقير الحاضر فى عيون المغتربين! ودليل ذلك ما نراه بيننا من تقديس للماضي، وسعي لاستعادته فى المستقبل، وكذا ما نراه من تقديس للمستقبل وهروب للأمام! 

هكذا ينفرد الآخر العربي بالحاضر، وإذا سُئل: لما لا تتعاطى الانتظار، وأنت تحرص على الترويج له! ساعتها يضحك الآخر العربي قائلاً: "الآخر العربي يأكل .. والذات العربية تشبع!". الحق، قارئي الكريم، أن مأساة أمتنا موغلة فى التعقيد والقدم، فما يحدث هو أن ثأراً قديماً لم تزل نيرانه تتأجج فى قلب الآخر الغربي/ العالمي، دافعه الغزو العربي للغرب، ذلك الذى أجج الآخر العربي يوماً نيرانه وسماه فتحاً مبيناً! خطيئة الآخر العربي وقتها أن غلفه برقائق دينية! ياله من ثأر مروع! أن يتولى آخر عربي/ محلى (ومن ورائه الآخر الغربي/ العالمي والآخر الاسرائيلي/ الاقليمي) مهمة تأبيد تخلف الذات العربية، عبر تغريبها ثقافياً وإدامة انتظارها إلى ما لانهاية! ولقارئي الكريم أن يُقارن بين خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما (وهو أحد أبرز رموز الآخر الغربي/ العالمي) فى القاهرة وخطابه فى أكرا ـ غانا التى زارها مؤخراً، ستجده فى غانا السوداء يشدو بالحرية لإفريقيا السوداء، أما فى القاهرة العربية فيحرص أوباما على تجاهل قضية الحرية، ويستبدل بها حديثاً انتهازياً عن الاقتصاد والتجارة والبيئة! تُرى ما الفرق؟! 

الفرق يعرفه المتخصصون، وأنا منهم، فالغرب فى تعاطيه مع إفريقيا يميز بين إفريقيا السوداء (إفريقيا جنوب الصحراء) وإفريقيا العربية (الشمال الإفريقي)! صحيح أن الغرب حرص على خلق ودعم آخرية محلية فى إفريقيا السوداء، إبان الحرب الباردة، لكن هدفه كان مواجهة المد الشيوعي فيها، وليس إدامة تخلفها .. والدليل أنه بمجرد إنهيار الكتلة الشرقية واختفاء الخطر الشيوعي، توجه الآخر الغربي/ العالمي بزعامة الآخر الأمريكي نحو تخليص إفريقيا السوداء من وباء الآخرية المحلية، وعمل ولا يزال على تحقيق الاستقلال الحقيقي لدولها، الأمر الذى دفع البعض لاطلاق مسمى "الاستقلال الثاني" على هذه المرحلة، اقتفاء بمرحلة خروج الأوروبيين من إفريقيا السوداء فى بداية ستينيات القرن الماضي! وقتها تساءلنا: وماذا عنا معشر العرب؟ ألم يأن لربوعنا الطيبة أن تتخلص من الآخرية العربية/ المحلية أسوة بإفريقيا السوداء؟! ولم يلبث الرد المؤلم أن جاء: وماذا عن الثأر القديم، أخرجتمونا من التاريخ مرتين، ولن نسمح بتكرار ذلك(4)!.

بيد أنه بوقوع أحداث الحادى عشر من سبتمبر، لم تنج النخب العربية الحاكمة، باعتبارها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العربي، من ثورة الغضب الأمريكي، وشهد النهج الأمريكي تجاه النخب العربية الحاكمة تحولات راديكالية، على الأقل نظريا! فلأول مرة تُثمن الولايات المتحدة  المقولات الأنسنية في خطابها الموجه للعالم العربي، على خلاف تثمينها السابق للنخب العربية الحاكمة، ومساندتها لها في تكريسها لمبدأ الاستقلال السلبي وإدامتها لتخلف الذات العربية! ولعل نظام الراحل صدام حسين كان بحق أبرز ضحايا الغضبة الأمريكية. إذ أنه طبقاً لتقرير اللجنة الوطنية الأمريكية الخاص بهجمات الحادي عشر من سبتمبر(5)، استند  تنظيم القاعدة بصورة ملموسة إلى الأتباع من مختلف الدول العربية، وهو ما بدا واضحاً في تشكيل المجموعات التي اضطلعت بتخطيط وتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد أهداف أمريكية، حيث حمل أعضاء تلك المجموعات جنسيات عربية مختلفة، فضلاً عن اضطلاع خالد شيخ محمد بالتخطيط لتلك الهجمات، فبرغم انتمائه لأصول عرقية غير عربية، إلا أنه نشأ وتربى في الكويت، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين في السادسة عشر من عمره. وفى الولايات المتحدة، حصل على مؤهله الجامعي في الهندسة الميكانيكية في 1986. ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلته التي قادته إلى التخطيط لهجمات سبتمبر 2001. وهى الهجمات التى أسفرت عن إزهاق آلاف الأرواح في دقائق معدودة، وتدمير برجين تدميراً كاملاً، فضلا عن  تدمير جزء من مبنى البنتاجون.

وكما هو معروف، لم تلبث الولايات المتحدة أن أعلنت أن الهجمات إعلان صريح للحرب عليها! وبذلك بدأ فصل جديد في تاريخ الاستراتيجية الأمريكية، خاصة في شقها المعني بالعالم العربي، فقد اعتبرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين، النخب العربية الحاكمة التي طالما نعمت بالمساندة الغربية لها، مسئولة عن تكريس الأجواء القمعية المؤهلة لإفراز أمثال مخططي و منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر! وهو ما شكل ـ من وجهة نظرها آنذاك ـ  تهديداً صريحاً للأمن الغربي بصفة عامة، والأمن القومي الأمريكي بصفة خاصة.  ولسوف أختم هذه الجزئية بسؤال أجابت عنه ممارسات الادارة الأمريكية الجديدة، وخطاب أوباما فى القاهرة: هل كانت الولايات المتحدة، بوصفها زعيمة العالم الغربي، جادة حين أعلنت على لسان رئيسها السابق جورج بوش(6)، فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر، أن اطاحتها بالنخبة الصدامية، إنما ترمى لمساعدة دول العالم العربي على التخلص من نسخ الآخر العربي، وكذا مساعدة الدول العربية على استبدال استقلالها الحقيقي باستقلالها السلبي، عبر جعل العراق نموذجاُ لما ينبغي أن تكون عليه الدولة العربية فى المستقبل؟! أم أن الاطاحة بالنخبة الصدامية جاءت لاستعادة الهيبة فحسب، والبحث عن بديل مُروض؟!..

نحو تثوير الأمل فى مجتمعاتنا:
قارئي الكريم، لم يبق لى الآن، بعد أن تطرق حديثى، الذى أظنه قد طال بعض الشيء، إلى تحليل ظاهرة الأمل، وتوضيح جناية الآخر على الأمل فى مجتمعاتنا ـ أقول لم يبق لى سوى الدعوة لأنسنة الأمل فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة، بمعنى أن نُفقد آمالنا سلبيتها ونجعلها آمالاً حقيقية، لا انتظاراً أبدياً. أعلم أن الاغتراب الثقافي لشعوبنا والآخرية البغيضة، خاصة الآخرية العربية/ المحلية، يقفان حجر عثرة فى طريق التثوير المنشود! وأعلم كذلك، ربما أكثر من غيري، صعوبة، إن لم أقل استحالة، تخليص أمالنا من تشوه لحق بها! غير أن هذا لا يبرر، ولا ينبغي له أن يبرر، فقدان الأمل، لأنه عندما يختفى الأمل، لا يبقى للحياة من معنى! ففعل أمل هو حالة من الوجود، إنه حيوية داخلية، حيوية شديدة، تدفع صاحب الأمل للتغيير والتطوير، لا لهدر الحياة. الأمل هو عنصر باطني فى الحياة وفى ديناميكية الفكر! فلنطمح إلى إحداث تغييرات عميقة فى ممارستنا وفى تمهيدنا الفكري للحياة! ولنميز كل إشارة حياة جديدة، ونتشبث بها! لنكن فى كل لحظة مستعدون للمشاركة فى انبثاق ما يجب أن يُولد! لنصرخ فى وجه الآخر: خلقنا الله أحراراً،  فليعش عقلك ولتعش عقولنا! 

(2) تُجار الآلام والمُزايدة على خصوصيتنا الثقافية

"قرأت خطاب السيد الرئيس الأمريكى باراك أوباما ـ الذى ألقاه بجامعة القاهرة ظهر الخميس 6/ 6/ 2009 ـ بشغف وعناية وتركيز أكثر من مرة، فأُعجبت به، وارتاحت نفسي إلى ما اشتمل عليه من أفكار قويمة، ومن معلومات جيدة، ومن كلمات سديدة.."
                                               شيخ الأزهر 

فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة ـ حيث لا تفهم القلة الأنانية التى تسيطر على مقدرات شعوبنا الحرية، إلا بأنها حرية احتفاظها بقوتها وثرائها، ولا تهتم أدنى اهتمام بنشر فوائد الحرية على الجمهرة العظمى من مواطنيها ـ لا شك أنه من المقبول أن نقول إنه فى جميع هذه المجتمعات، باستثناء دائرة ضيقة من الناس المحظوظين، لا يستطيع الرجال والنساء العاديين أن يفكروا فى الحرية بأكثر مما كان يفكر فيها العبد فى الدولة الإغريقية أو الرومانية القديمة! إذ أن الشيء الوحيد  الذى يضطر هؤلاء للتفكير فيه هو كيف يستطيعون إشباع حاجاتهم البدائية! أقول هذا لألجم طموح نفسي التى يؤلمها كثيراً أن تستشعر يوماً بعد يوم ضآلة حظوط الفكر الأنسني فى ربوعنا الطيبة! فكل دراسة للفكر الأنسني هى دعوة للتسامح، وكل دعوة للتسامح هى تأكيد لحقوق العقل! والخطر الأكبر الذى يواجه أى مجتمع متخلف دائماً هو رغبة أولئك الذين يسيطرون على مقدراته فى منع النظريات والسلوك الذى قد يُهددهم فيما يملكون! فهم نادراً ما يهتمون بالفضائل الممكن كسبها من اطلاق سراح عقول مواطنيهم، ولكنهم يهتمون فقط بتأبيد تخلفهم، لأن رغباتهم لا يُحتمل أن تتحقق إلا فى مثل هذه الأجواء الراكدة! ولهذا فإن نظرياتهم عن التجديد والتطوير تتركز دائماً فى خدمة تلك الرغبات. 

من هنا نتبين امكانية اندلاع الصراع الثقافي بين أبناء الثقافة أو الحضارة الواحدة، على خلاف الحديث الكلاسيكي عن أن الصراع الثقافي لا يكون إلا بين أبناء الثقافات أو الحضارات المختلفة! ولسوف أضرب مثلاً على ذلك بمجتمعاتنا العربية، فالمسيطرون على مقدراتها ـ أقصد الآخر العربي/ المحلي ـ يسعون لتأبيد تخلف أبنائها ـ أقصد الذات العربية ـ ، عبر تكريس اغترابهم ثقافياً، أى حرمانهم من حقهم المشروع فى تعهد ثقافتهم، أو طريقة حياتهم الشاملة، بالنقد والتطوير، واحتكار هذا الحق لأنفسهم! علاوة على سعيهم للحيلولة دون تعرية آخريتهم المحلية المستترة، والتى لا تراها عيون الذات العربية المغتربة! أقول إنه على خلاف فترات تاريخية بعينها كان الآخر العربي/ المحلى فيها هو نفسه الآخر العربي/ العالمي، نرى الآن الآخر العربي ـ ومن ورائه الآخر الغربي ـ يضطلع بمهمة تغريب شعوبنا العربية ثقافياً، ويسعي لتأبيد تخلفها! ولمن يسأل عن دوافع الآخر الغربي/ العالمي لدعم الآخرية العربية/ المحلية، أقول إن دوافع هذه الجريمة الآثمة ليست حديثة العهد، وإنما تضرب بجذورها فى التاريخ، فما يحدث هو أن ثأراً قديماً لم تزل نيرانه تتأجج فى قلب الآخر الغربي/ العالمي، دافعه الغزو العربي للغرب، ذلك الذى أجج الآخر العربي يوماً نيرانه وسماه فتحاً مبيناً! خطيئة الآخر العربي وقتها أن غلفه برقائق دينية!.

الجريمة الآثمة إذن هى دعم الآخرية العالمية والآخرية الاقليمية للآخرية المحلية فى اضطلاعها بمهمة تأبيد تخلف مجتمعاتنا، عبر تغريبها ثقافياً وإدامة انتظارها إلى ما لانهاية! ولقارئي الكريم أن يُقارن بين خطاب الرئيس الأمريكي أوباما (وهو أحد أبرز رموز الآخر الغربي/ العالمي) فى القاهرة وخطابه فى أكرا ـ غانا التى زارها مؤخراً، سيجده فى غانا السوداء يشدو بالحرية لإفريقيا السوداء، أما في القاهرة العربية فيحرص على تجاهل قضية غياب الحرية عن عالمنا العربي المغبون، ويستبدل بها حديثاً انتهازياً مستفزاً عن التجارة والبيئة! الآخران الغربي والعربي يبرران خلو خطاب أوباما من الحديث عن قضية غياب الحرية عن مجتمعاتنا، باحترام الرجل للخصوصية الثقافية لأبناء الثقافة العربية الاسلامية! والسؤال: هل حقاً يحترم أوباما خصوصيتنا الثقافية أم أنه، كأسلافه، يسعى جاهداً لتكريس اغترابنا الثقافي، ذلك الوباء الطليق فى ربوعنا؟

احترام لخصوصيتنا الثقافية أم تكريس لاغترابنا الثقافي:
ثمة بون شاسع يفصل بين احترام الخصوصية الثقافية لأبناء ثقافة بعينها وبين تكريس الاغتراب الثقافي لأبناء الثقافة نفسها! احترام الخصوصية الثقافية ـ فى رؤيتى المقترحة للفكر الأنسني ـ  يعنى احترام حق أبناء الثقافات المختلفة فى الاحتفاظ بثقافاتهم، وعدم دفعهم بعيداً عنها أو اجبارهم على التخلى عنها، سواء بحجة تخلفها أو عدم تناغمها مع قناعاتنا الثقافية! وكذا يعنى احترام الخصوصية الثقافية لأبناء ثقافة بعينها احترام حق أبناء هذه الثقافة فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، أى احترام حقهم ـ جميعهم وليس بعضهم ـ فى نقد وتطوير ثقافتهم! أما تكريس الاغتراب الثقافي ـ وعلى نحو ما أوضحت فى دراستى المهمة، الاغتراب الثقافي للذات العربية، الصادرة فى القاهرة عن دار العالم الثالث 2006 ـ فهو يعنى تكريس تنازل أبناء ثقافة بعينها عن حقهم فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، أى تكريس تنازلهم عن حقهم فى تعهد ثقافتهم بالنقد والتطوير! ويستوى فى تكريس الاغتراب الثقافي لأبناء ثقافة بعينها أن يضطلع به فريق من أبناء الثقافة نفسها، أو أن يقوم به من ينتمون لثقافات أخرى ـ مهما بلغ تطورهم وتقدمهم ـ، أو أن يقوم به أبناء الثقافة نفسها، بتوجيه وارشاد من أبناء ثقافة أخرى! أقول إنه ليس لفريق من أبناء ثقافة بعينها أن يحتكر امتياز نقد وتطوير الثقافة التى ينتمى إليها، وكذا ليس له أن  يحجب هذا الحق عن غيره من أبناء ثقافته، بزعم تفرده بالحكمة والأهلية و... إلخ! فهذا إن حدث، إنما يُعد تكريساً لاغتراب أبناء الثقافة المنكوبة بالآخرية المحلية، وليس لمن يمارس هذا التكريس أن يدافع عنه ويعتبر مناهضة الأنسنية العالمية له انتهاك للخصوصية الثقافية!

قارئ الكريم، أرانى قانعاً أن تشدق أولئك الذين يحتكرون حق نقد وتطوير الثقافة العربية الاسلامية، ويحرمون بقية أبناء ثقافتهم من الحق نفسه ـ بمقولة احترام الخصوصية الثقافية، إنما يرمى لخلط الأوراق وتضليل الذات العربية! تشدق هؤلاء ـ وأقصد بهم الآخر العربي/ المحلى ـ وتمترسهم وراء مقولة احترام الخصوصية الثقافية، يُصورهم فى عيون المغتربين من أبناء ثقافتهم على أنهم حُماة الثقافة، ويوفر لتواطئهم مع الآخرين الغربي والاقليمي الغطاء الكافي! إذ كيف للمغتربين أن يصدقوا أن حُماة الخصوصية الثقافية، هم أنفسهم شركاء لأبناء الثقافات الأخرى فى تكريس اغتراب أبناء ثقافتهم وإدامة تخلفهم؟! تشدق هؤلاء ـ وأقصد بهم الآخر العربي/ المحلى ـ وتمترسهم وراء مقولة احترام الخصوصية الثقافية، يُرهب الأنسنيين ويصورهم فى صورة الخونة، إن هم سعوا لفضح الآخر العربي ومخططه فى تكريس اغتراب وتخلف أبناء ثقافته! وكذا إن هم سعوا للاستقواء بالأنسنيين من أبناء الثقافات الأخرى! إذ سرعان ما يُتهمون من قبل تجار الآلام بخيانة الأوطان والتواطوء مع أبناء الثقافات الأخرى!

هكذا يُحكم الآخر العربي قبضته الحديدية على المغتربين، فنراهم ينقادون له بفضل إغترابهم، ويهاجمون الأنسنيين، رغم احترام الأنسنيين للخصوصية الثقافية وعدم متاجرتهم بها وعدم مزايدتهم عليها، على خلاف الآخر العربي الذى لا يمل المُزايدة على الخصوصية الثقافية، عبر سعيه المحموم لمغازلة مشاعر المغتربين، فى غيبة عقولهم التى نجح فى تغريبها وتكريس سيطرته عليها!أنا كأنسني مثلاً أحزن كثيراً عندما يُراسلنى عربي باللغة الإنجليزية، رغم إجادتى لها، لأن اللغة أحد أهم روافد خصوصيتنا الثقافية، والمحافظة عليها يصون هويتنا، بيد أنى فى الوقت نفسه أحرص على ممارسة حقي فى نقد وتطوير ثقافتى العربية الاسلامية، وأرفض إحتكار فريق من أبناء ثقافتى ـ الآخر العربي ـ لهذا الحق! ولكل من يطالع كتاباتى أن يتأكد من حرصى على آداء فريضة النقد!.. 

(3) توحش أصحاب الثروات في مجتمعاتنا

"ويلهم .. ذوي الأيدي المُلطخة بالسوء..
أيها الأصدقاء .. إذا ما لامستموهم صدفة!"
                             ناظم حكمت

ما قد نتصوره اليوم ضلالاً نُناهضه هو في الأغلب فلسفة الغد! ومجتمعاتنا لن تكسب شيئاً من رفض استضافة احتمال أن أية نظرية جديدة قد تكون صادقة. كما أن مجتمعاتنا لا يمكن أن تنجح في التقاط واختيار الآراء الصائبة إذا ظلت مُحاطة بأساليب القمع والتحريم. ولست أبالغ حين أؤكد أن أية قائمة بالآراء التي سبق مناهضتها قد تكون هي نفسها قائمة بالفلسفات الموجودة في زمننا الحاضر! من هنا تأتى قناعتي بإمكانية أن يكون الفكر الأنسني هو فلسفة الغد في ربوعنا الطيبة، رغم ندرة، إن لم يكن انعدام، المؤشرات المُبشرة بهذه الإمكانية! الاهتمام بالحرية يبدأ عندما يفيق الناس من الانشغال بمشكلة البقاء المُجرد، فهذا الاهتمام يوجد عندما تتوفر لديهم الفرصة ليفكروا فى موقفهم ويُدركوا أنهم لم يعودوا مضطرين إلى ذلك القبول اليائس للروتين الذى كان يبدو أنهم مغمورون فيه بلا أمل! الستر الاقتصادي والفراغ للتفكير هما شرطان مهمان للانسان الحر! الذين يعرفون حياة أغلب الفقراء، وخوفهم الدائم من الغد، وإحساسهم المُرعب بالكارثة الوشيكة، وبحثهم المتشنج عن أمان دائم التهرب، سوف يفهمون مُحاجتي انه بدون اطمئنان اقتصادي وفراغ للتفكير يظل طائر الحرية مُهاجراً. أصحاب الثروات، في أغلب الأحيان، إذا كان عليهم أن يختاروا بين ثرواتهم وبين شيوع الحرية في مجتمعاتهم، سوف يختارون ثرواتهم ويهدمون الحرية! يهدمونها بأنانيتهم وتوحش رغباتهم وتضييق الأرزاق على مواطنيهم!..

التضاد إذن قائم، بل ويكاد يكون حتمي ـ للأسف الشديد ـ، بين التمكين للحرية بين أبناء أي مجتمع، كلهم وليس بعضهم، وبين عدم لجم أصحاب الثروات في هذا المجتمع، وهم قلة بطبيعة الحال، بزعم احترام حقهم في الملكية والتربح! بيد أنه ـ وأقول هذا للتسهيل ـ قد لايكون التضاد مُهماً فى بعض الأحيان، وهو أمر نادر الحدوث على أية حال! أقصد المواقف التى قد لا يُضار فيها صاحب الثروة من تمتع مواطنيه بلحظات حرية حقيقية نقية، وكذا المواقف التى يكون فيها من مصلحة صاحب الثروة أن يتمتع مواطنوه بلحظات حرية حقيقية. ولسوف أحاول قدر استطاعتي فى السطور التالية إلقاء الضوء على بعض ملامح رؤية فكرنا الأنسني لكيفية التعاطي مع هذا التضاد المُزمن، لأنه وكما هو واضح لنا جميعاً، لم تنجح الفلسفات المأخوذ بها فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة (بشقيها الفقير والغنى)، وأظنها لن تنجح، فى التعاطي مع هذا التضاد المُرهق! حتى أننا أصبحنا مضرب الأمثال فى تخلفنا المُضحك! وكيف لا واخوتنا أثرياء النفط، ومن فى معيتهم من مواطنينا، يتسلون بالآيس كريم فى خيامهم المُكيفة بعرفة، أثناء تأديتهم لمناسك حجهم السياحي! أقول كيف لا نُصبح مضرب الأمثال فى تخلفنا، وتليفزيوننا الوطنى يُهدر ساعات الارسال فى تغطية انتخابات نوادى "أبناء الذوات"، مستغلاً جهل البسطاء وهوسهم بفرق هذه النوادى الرياضية! 

أصحاب الثروات وشهواتهم التحريضية:
قارئي الكريم، أرانى لا أقصد بالشهوات التحريضية لأصحاب الثروات، سوى ما يُفضي إليه هوسهم بالتملك والتربح من مؤازرة مُطلقة للجهود الرامية لتكريس إغتراب مواطنيهم (الذات) ثقافياً، وكذا التمكين لسلطان الآخرية الآثمة! ففي كنف الاغتراب الثقافي والآخرية لا يجد أصحاب الثروات صعوبة تُذكر فى تكديس ثروات هائلة، على حساب الذات المُغتربة وفى حماية الآخرية! ولك أن تتساءل أيها القارئ الكريم، عما يعنيه بمصطلحي الاغتراب الثقافي للذات والآخرية الاثمة. المصطلحان يرتبطان برؤية مُقترحة للفكر الأنسني، تُخالف القول الشائع بانه لكي تكون عبارة "الفكر الأنسني" ذات بريق ودلالة يُعتد بها فلابد لها أن تظل دوماً فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية! الأنسنية، فى رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني، تعنى أن يُحقق الإنسان، أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص التالبة:

(1) ـ معيار التقويم هو الإنسان.
(2) ـ الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
(3) ـ تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
(4) ـ القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. 
(5) ـ تأكيد النزعة الحسية الجمالية.   

وطبقاً للمعيار المأخوذ به فى رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني، للتمييز بين الذات والآخر، يُعد الإنسان، أى إنسان، أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! والمقصود بالثقافة هنا تعريف ت. س. إليوت الأنثروبولوجي لها بأنها طريقة شاملة للحياة، فلكل البشر، على تفاوت مراتبهم، ثقافاتهم الخاصة! وباستخدام نفس المعيار الأنسني، المُشار إليه تواً، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات المُستعبدة من جني ثمار الأخذ بالأنسنية..

فتطور التاريخ الإنساني ـ في رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني ـ لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا ـ وكما أسلفنا ـ لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الشيوعيين، فالآخر لا يرمي فقط لاحكام السيطرة الاقتصادية على الذات المغتربة، وإنما يتخطى ذلك ـ بلاإنسانية ـ إلى الحيلولة دون تمتع الذات بحقها الطبيعي فى نقد وتطوير طريقة حياتها! وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها. فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي للنيل من خصوصيتها الثقافية وتسعى لهدر ثروتها العقلية!!.

والآن، وبعد أن أوضحنا المقصود بمصطلحى الاغتراب الثقافي للذات والآخرية الآثمة، أظنك تُشاركنى الرأى، أيها القاريء الكريم، انه فى ظل أجواء راكدة كهذه، يصير منطقياً أن لا يجد أصحاب الثروات صعوبة تُذكر فى تكديس ثروات هائلة على حساب الذات المُغتربة وفى حماية الآخرية! وكذا يصير منطقياً أن يعمد أصحاب الثروات، وبتحريض من هوسهم اللامحدود بالتملك والتربح،  لتأبيد تخلف مواطنيهم، عبر تكريس إغترابهم ثقافياً والحيلولة دون تعرية الآخرية! ولتجار الآلام الذين يشتغلون بخلط الأوراق وتعمية مواطنيهم عن التضاد القائم والحتمي، بين التمكين للحرية بين أبناء أي مجتمع، كلهم وليس بعضهم، وبين عدم لجم أصحاب الثروات في هذا المجتمع، بحجة ضرورة احترام حق أصحاب الثروات المُقدس واللامحدود في الملكية والتربح! أقول لهؤلاء التجار إنه لا يُعقل أن يكون فى عدم لجم أصحاب الثروات إرضاء لله، خاصة والتاريخ الانسانى يؤكد أن التضاد قائم، بل وحتمى، بين التمكين للحرية وعدم لجم هؤلاء! ولتُجار الآلام الذين قد يتمترسون وراء القول بان التضاد لا يكون مُهماً فى بعض الأحيان، أقول إن ذلك يندر حدوثه، وإن الثروة يتم تناقلها بين أجيال تزداد تجبراً بمرور الزمن ويصير هوسها بالتملك والتربح تقليداً يزداد رسوخاً وصلابة. ضيافة الأرض للانسان قصيرة أيها التُجار، وليس من المروءة ولا من الرفقة الانسانية الصحيحة أن ترفل قلة فى رفاهة مُستفزة، على نحو ما نرى فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة، على حساب كثرة تُنفق أعمارها فى خوف وشقاء!.

إننى حقاً لا أفهم دواعى القبول بـ "القطط السمان" ـ أقصد المليونيرات والمليارديرات و... إلخ ـ فى مجتمعاتنا الهزيلة! فالأمر مُضحك ومُبك، وليس له ما يُبرره! اللهم إلا منطق تُجار الآلام وقبول المُغتربين له، على أنانيته وسخافته! غير أنى لا أود لقارئي الكريم أن يخلط بين رؤية فكرنا الأنسني لكيفية التعاطي مع أصحاب الثروات وبين الفكر الشيوعي، فنحن نقول بلجم أصحاب الثروات لا إبادتهم، وكذا نقول بمُعاقبة من يتوحش منهم باجباره على القبول بالستر الاقتصادي، الذى يتمنى مثلي أن يرفل فى غلائله، لتُتاح له فرصة التفكير! 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ لمزيد من التحليل لظاهرة الأمل راجع: اريك فروم، ترجمة ذوقان قرقوط، ثورة الأمل، (بيروت: منشورات دار الآداب، 1973).
(2) ـ راجع: حازم خيري، محنة شعوبنا إدراكها الساذج للآخر، مقال منشور على شبكة الانترنت.
(3) ـ "فى انتظار جودو"، مسرحية شهيرة للكاتب المسرحي صمويل بيكيت، ترتبط فكرتها بفكرة الأمل السلبي أو وثنية الانتظار، وذلك حين نُنفق أعمارنا، على أهميتها وندرتها، فى انتظار ما لا يأتى، نُنفقها فى انتظار اللاشيء.. 
(4) ـ راجع: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998)، ص 338 ـ 339.
(5) ـ اعتمد الكاتب في رصده لأحداث 11 سبتمبر على الرواية الأمريكية، ليس لكونها الأكثر مصداقية ، ولكن لكونها الأكثر تأثيرا في مجريات الأحداث راجع:
National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, The 9/11 Commission Report: Final Report of the National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, (New York: W. W. Norton, 2004).                                   
(6) ـ United States of America, The National Security Strategy of the United States of America, White House, September 2002.