نكتشف في هذا المقال حول رواية الكاتبة اللبنانية، أهم ملامح صوت أنثوي مفعم بالتمرد والرغبة في كسر الطابوهات بين شخوص تتحرك في أفق مخالف للصراع بسمو نحو الحب. كما تقدم الرواية توصيفا مركزيا للصوت الأنثوي وسبرا لأغواره، وهو ما أعطى قوة ضافيا للمادة الحكائية.

بين رهان الابتكار وأسئلة الذات

في رواية «اسمه الغرام» لعلوية صبح

إبراهيم الحجري

تعلن الروائية علوية صبح، من خلال العتبة الأولى لروايتها «اسمه الغرام»، عن نواياها التواصلية التي ترومها عبر متخيلها السردي؛ حيث تشكل مقولة «الغرام» بؤرة مركزية لفعل الحكي، وهي المحور الذي يدور عليه فلك الحكي. الغرام هو مبتدأ الحكي ومنتهاه، هو دليل الصراع بين الشخوص ورهانها في الآن نفسه، هو الحافز السردي الذي يشعل فتيل الحكاية ويشعب أحداثها، إن لم نقل إنه هو سر حياة الشخصيات على الورق، ولولاه لكانت الشخصية المحورية أُبيدت منذ الصفحات الأولى للرواية «لا شيء يقاوم الشيخوخة غير الحب» ص 71. لقد شكل هذا الرهان المفتاح القمين بتحريك عجلة الحدث وتسريع وتيرة أو إبطائها، بل هو التيمة التي شغلت بال الكاتبة، فبنت عليها أطروحتها الروائية، قاصدة بذلك سبر أغوار الجسد الأنثوي الغامض الذي يتصرف، لأسباب سوسيو أنثروبولوجية، عكس ما يجيش في خاطره من نوايا وغايات وحاجات ورغبات. وبحكم ضعف هذا الكائن، فهو يقبر أهواءه في الذاكرة مصحوبة بحياته الحقيقية، مضحيا بهذه الحياة لفائدة الانتصار لأوهام الجماعة ونظمها ومثلها، مغلبة بذلك صوت المجموعة البشرية على صوت الذات المقبور في المفكرة. وتصبح الكتابة هنا في هذه الرواية السبيل الأوحد للخروج من ورطة الصمت، ضدا على النسيان والإقبار، من أجل تحرير الأوراق الخفية المأسورة في العلبة السوداء للذات الأنثوية. هذا العالم الغامض والغريب من الأسرار والأحزان والطرائف تفتحه علوية صبح من خلال نموذج أنثوي يدعى «نهلا»: «كان لديَّ إحساس بأن نهلا ستعود وتظهر قبل انتهاء الرواية، لكني لا أعرف متى وكيف. ثم أعدت قراءة ما دونته على الورق وهي تحكي لي حكايتها، ربما تكشف لي تلك الأوراق شيئا، ولعلي أستهدي أيضا على مصيرها من حكايتها، فازداد إحساسي بظهورها ثانية من دون أن أعرف متى، أو في أي ظرف أو حالة» ص 11.

إذا كان الرجال قد حرروا رغباتهم كتابة كما فعلا، فإن هناك ما يجعل البوح بالرغبات الأنثوية لدى المرأة من قبيل التابوهات المحرمة التي تفتن الرجل وتحد من هيبته، خاصة حينما تعرب عن حبها وشغفها برجل غير الرجل الذي ترتبط به بحبل الزواج، على عكس الرجل الذي تبيح له وضعيته الثقافية أن يحب أكثر من امرأة وبالتالي الزواج بها. أما المرأة فممنوع عليها أن تعرب عن حبها إلا سرا، فكيف باستطاعتها إعلان حبها لرجل غير زوجها. إن ذلك من شأنه إحداث ثورة في القيم والمفاهيم «الضحك بصوت عال وممنوع عيب، وحب الحياة التي تخافها أمي ذنب وحرام، والدندنة بالأغاني كفر ومسخرة، كما قال لها الشيخ. تمنعني أيام عاشوراء من مضغ اللبان الذي أحب مذاقه السكري» ص 72. وهذا ما تريد فعله الرواية انطلاقا من جعل البطلة عنوانا عريضا لفتح هذا الباب الموصد أبد التاريخ.

وليست نهلا وحدها من فتحت علبتها السوداء للكاتبة، بل كانت تمهيدا لعلب أخرى سرية فتحتها سعاد وهدى وغيرهما مشرحات نتوءات الرغبات الدفينة للجسد في اشتهاءاته ونزواته وتحولاته مع الزمن، مرتكبا حينا الخطيئة، وباحثا حينا عن الفضيلة، وفي كل الأحوال تروم مثل هاته الاعترافات، التي تشبه ملفات الطب النفسي العيادي، حفظ الذاكرة الجسدية، وتحريرها من كارثة السهو والنسيان، فالجسد ضعيف جدا بحكم تعرضه للمرض والموت والاندثار؛ لذلك فالبوح، وتدوين البوح، وتخزين أفعال الجسد وهواجسه وشهواته السرية انتصار ضد هذا الضياع الذي يهدد الذاكرة البشرية الكامنة، فبغيابها كأنما الشخص عاش في حياته عيشة مستعارة بينما تظل العلبة السوداء تحتفظ بكراسات الحياة الحقيقية إلى يوم القيامة، ذلك هو الكتاب الذي سيؤخذ باليمين أو بالشمال.

ويبدو الجسد الأنثوي من خلال هذه الاعترافات أشد تعرضا لحرارة الشهوة من جسد الرجل، غير أن له القوة على الصبر وقهر الرغبات والحربائية التي تجعل له أكثر من صورة وأكثر من تمظهر: إنها لعبة المرايا التي تجسدها الشخوص النسائية التي تضمنتها هذه الرواية. ففي نهاية المطاف كل النساء المعبرات عن اعترافاتهن، الواضعات تجارب أجسادهن رهن إشارة القارئ، هن في واقع الحال مرايا متعددة لشخصية واحدة ما دامت الشخصية النسائية تعيش على أرض الواقع، بحكم إكراهات سوسيوثقافية، أقنعة مختلفة كي تنسجم مع المحيط، وكي توفق بين رغباتها الحقيقية ورغبات المجموعة البشرية التي تعيش في كنفها. إنها تضطر لعيش حياة سرية خارج أسوار الحياة الاضطرارية إما عن طريق التحايل وإما عن طريق الخداع والخيانة.

تستعيد المرأة من خلال فعل الحكي عن الذات علاقتها بجسدها أيضا عبر ذكر ما يفرح الحواس وما يثيرها وما يجعلها تشمئز. ومن مرحلة لأخرى تسرد مواجع أفول نبض هذه الحواس بالحيوية المعتادة والنشاط المعهود، ما يولد ردود فعل عكسية محبطة، خاصة في مرحلتي الهرم والشيخوخة القاسيتين. وتمتاز الروائية بدقة الوصف، هذه التقنية خولت لها الرصد العميق لحالات الشخصيات وتحولاتها من حالة سيكولوجية إلى أخرى؛ إذ يتوقف السرد كثيرا ليمنح الفرصة للكاتبة كي تصف شخوصها والأفضية التي تتحرك فيها(...).

ليس من السهل أن توفر الروائية هذه المادة الضخمة كأساس لمعمارية روائية هائلة محكمة الصنعة والبناء، وليس من السهل هنا أن تتخلص المرأة الراوية من أنانيتها كي تحكي عن الذات خاصة ما يتعلق بالحميميات، وحتى إن اعتمدت الروائية على الذاكرة وعلى الحواس والتجارب الشخصية والعلاقات مع النساء القريبات والبعيدات، فإن الأمر ليس بالعمل الهين، خاصة على مستوى تطويع المادة الخام، وتأسيس الخطاب بشكل كهذا، بما يوحي بالمقدرة الهائلة للكاتبة على الصوغ وخلق الانسجام بين عوالم مختلفة داخل سياق وظيفي محكم. كما يدل ذلك على سعة الخيال عندها، وشساعة المتخيل المبني على عجائن الملاحظة اليومية وحدة الذاكرة ويقظة الحواس، فضلا عن القدرة على اقتحام النسيج المجتمعي والتعايش معه من أجل الإحساس به وأخذ البيانات التي يحتاجها. ففي نهاية الأمر تعتبر الروائية ناقدة اجتماعية؛ لأنها في الوقت الذي تسخر فيه من قيم وتذمر قيما أخرى، فإنها في الآن نفسه تبني قيما بديلة يقوم عليها عالمها التخييلي الافتراضي.

ومع أن الرواية مزقت كل أستار الخجل والخوف في الصوت النسوي ...فإن ضرب الطابوهات لم يعد بالرهان الذي يعول عليه في ابتكار فني روائي مثير بحكم أن وسائط فنية أخرى سبقت بكثير في تمزيق كل الحواجز، خاصة منها الوسائط السمعية البصرية: فيديوهات الأغنية العارية، والكلام الإباحي، سيديهات الجنس الخليع والمتوحش، قنوات الجنس الفاحش على الباربول، مواقع الدردشة الخليعة، ومدونات التواصل الإباحي المباشر.. لذا من الضروري التوجه نحو موضوعات أكثر غورا على المستوى الإنساني العربي كالمواضيع المتعلقة بسؤال الهوية والذات المتمزقة بفعل الاحتكاك غير المتكافئ مع الآخر، وأزمات الفقر والموت البطيء والظلم الطبقي وتبضيع الكائن البشري.. بدل الانكفاء على موضوعات الرغبة والأنانية والبوح الذاتي والشذوذ الإباحي؛ لأنها موضوعات لن تفك الأزمة الثقافية إن لم تزدها تعقيدا، فضلا عن كونها موضوعات استُهلكت ما دمنا نعيش الإباحية في كل شيء حتى في الشوارع، فبات الجسد الأنثوي بحكم ابتذاله شيئا لا يثير إلا نادرا.

 

ناقد وقاص