ذاكرة ليست للنسيان

محمود درويش... ناقدا أدبيا ومفكرا إنسانيا

يحيى بن الوليد

يحار الناقد، الجاد، في البحث عن المدخل اللائق لدراسة منجز محمود درويش الشعري الثري الذي ضمن له موقعا مميزا في خريطة الشعر العربي والعالمي. ولا ينافسه في هذا الموقع أي شاعر عربي إذا ما ذكّرنا بأنه كان قد باع، أو بالأحرى بيع له، ما يزيد عن مليون نسخة منذ العام 1977، وأن أعماله الكاملة، وهي في أربعة مجلدات، بلغت، حتى الآن، طبعتها الثمانية عشرة، جنبا إلى جنب ترجمات شعره التي تزيد عن خمسين لغة. ويتضاعف المشكل أكثر إذا ما نظرنا إلى منجزه في وحدته السياقية الكبرى وفي مساراته المتماوجة ومحطاته الفاصلة ومستوياته المتعددة. هذا بالإضافة إلى مشكلات أخرى تتعلق بتلقي شعره وجماهيرية قصيدته وإنشاده الذي لا يخلو من "مسرحة"، مما يجعلنا بإزاء نص آخر غير النص المكتوب. ودون أن نتغافل عن الواقع الثقافي والتاريخي، المغاير، والاستثنائي، الذي هو إفراز له، مما يفرض مقاربة مغايرة لا تنحصر في دائرة الشعر بمفردها التي برز فيها أكثر. وقد استطاع، ومنذ أول قصيدة له بعنوان "أختاه" التي نشرها في مجلة "الجديد" (العدد 5، أيار 1958)، أن يخطف الانتباه وأن يشكل "ظاهرة" لافتة في الشعر والثقافة العربية سواء.

ولا يبدو غريبا أن يحظى شعره بسيل من القراءات والدراسات الكاشفة عن ذلك النوع من "الأفق" الذي تتحدث عنه الدراسات التي تعنى بالتلقي والتأويل، مما كان يحفز ـ ومع إصدار كل عمل من أعماله ـ على تنشيط الآلة النقدية ودفعها إلى اجتراح مفاهيم مغايرة في سياق المقاربة القائمة على "التأثر المتبادل" الذي تؤدي دلالته تلك "الكتابة" القائمة على ذلك النوع من "التدخل الخلاق" و"الإضافة الوازنة" لا "الملاحقة الباهتة" و"الاستعادة اللاقطة". ومن هذه الناحية فقد استطاع أن يستدرج نقادا كثيرين إلى منجزه سعيا منهم إلى الكشف عن جوانب ذلك "الجوهر" الذي هو قرين ذلك "المستحيل" المتمثل بـ"الشعر الصافي" الذي نذر نفسه للبحث عنه وعلى النحو الذي ضمن لشعره، وبناء على آليات السبر والتجربة، نوعا من "الانغراس" في عمود المعرفة والوجود. وللحق فقد تمكن محمود درويش من نقل "الرسالة الصعبة" التي هي رسالة الشعر ذاته في تشابكه مع نص التاريخ ومن خارج دائرة أي نوع من لوثة المناقلة التي تبعد الشعر ذاته عن الالتباس بالتاريخ بمعناه التقدمي الطردي. إجمالا فقد كان الشعر، وسواء في فلسطين أو العالم العربي، على حال وصار على حال أخرى مع محمود درويش إذا جاز أن نعتمد هذا القياس، النافر، في سياق التشديد على أهمية شعره البالغة.

وحتى إن كان يصعب حصر أو جرد ما كتب عن درويش فإن الكتب الموضوعة حول شعره جديرة بالتأكيد على "مرجعيته" التي كانت في أساس تحقق قصيدته المركبة بسبب من تعدد مستوياتها وبسبب من غناها الصوتي والدلالي والتركيبي والتداولي. هذا وإن كان لا يزال الكثير من دارسيه ينظرون إليه في ضوء القضية الفلسطينية ومن خلال ذلك التوصيف المسكوك أو التسمية المغلقة "شعراء الأرض المحتلة" التي كان الراحل رجاء النقاش وراء إشاعتها من خلال كتابه المبكر حول شعر محمود درويش "شاعر الأرض المحتلة" (1971)، وقبل ذلك تسمية "شعراء المقاومة" التي كان قد أطلقها غسان كنافي في كتابه "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة" (1966) الذي حظي فيه درويش الشاب بمكانة لائقة. وهو التوصيف، وفي تنويعاته المصاحبة، الذي لا يزال البعض يستند إليه في تدبر دلالات شعر محمود درويش وذلك على نحو ما فعل شاكر النابلسي في كتابه "مجنون التراب" (1987) وأحمد فاعور في "الثورة في شعر محمود درويش" (1989) وجمال بدران "محمود درويش، شاعر الصمود و المقاومة" (2001)... إلخ. ولا يزال هذا النمط القرائي، الاختزالي، هو الغالب مقارنة مع النمط المغاير الذي يسعى إلى دراسة شعر درويش في بنياته الداخلية أو النصية وفي مصادره الثقافية على نحو ما نقرأ في "أكثر من سماء: تنوع المصادر الدينية في شعر محمود درويش" لسحر سامي (2001) و"التكرار في شعر محمود درويش" لفهد ناصر عاشور (2004) و"الرمز الفني في شعر محمود درويش" لفتحي محمد أبو مراد (2004) و"بنية القصيدة في شعر محمود درويش" لناصر علي (2001) و"تحولات التناص في شعر محمود درويش" لخالد الجبر (2004) و"مراوغة النص" لحسين حمزة (2001). ودون أن نتغافل، هنا، عن بعض القراءات التي سعت، وفي سياق التحرر من النمط القرائي التنميطي، إلى التشديد على الأعمال الأخيرة لمحمود درويش التي سعت إلى الالتباس بـ"القصيدة السيرية" وكل ذلك في إطار من "نص الوجود"، أو "القيلولة الوجودية" (كما نعتها درويش)، وعلى نحو ما فعل عبده وازن في "الغريب يقع على نفسه" (2006). وأما الدراسات التي تنظر إلى محمود درويش من خارج دائرة الشاعر، وعلى نحو ما فعل تهاني عبد الفتاح شاكر في "محمود درويش ناثرا" (2004)، فلا تزال، وقد يكون ذلك من باب الحيف أو الظلم النقدي، محدودة جدا مع أنها تفيد، كثيرا، على مستوى إضاءة جوانب درويش الشاعر.

ونسعى بدورنا، في هذه القراءة، إلى أن ننظر إلى محمود درويش من خارج دائرة الشعر التي عادة ما نحصره فيها، وهي نظرة ـ وكما أسلفنا قبل قليل ـ لا تسعف على الكشف عن الوجه الآخر الذي أسهم، بدوره، في دفقه الشعري ولا سيما إذا ما ذكرنا بأن محمود درويش كان يقرأ خارج الشعر أكثر مما كان يقرأ في الشعر، كما قال في حوار من حواراته الكثيرة، حتى ينأى بشعره عن "التأثير المباشر" لـ"النصوص الكبرى" أو "المعتبرة". وهو ما يبدو جليا في شعره الذي تسنده بوارق ولمع فكرية... برع في تسريبها في النسيج النصي لشعره، عكس آخرين، وفي المشرق والمغرب، ممن ارتموا في الاختيار نفسه دون إدراك لذلك الخيط، الدقيق، الذي يصل ويفصل في الوقت ذاته بين الشعر والفكر مما جعل من نصوصهم "مختبرات" دالة على "الخواء اللغوي" و"اليباب الثقافي". فلا يمكن أن نفهم شعره في معزل عن الموسيقى والتشكيل والتاريخ والاتنولوجيا. ومن هذه الناحية فهو يشبه أجداده الشعراء أمثال المتنبي وأبي العلاء المعري وغيرهما من الشعراء، العرب وغير العرب، ممن لا تسعف الآلة النقدية بمفردها على تدبر دلالات الإبداع المتفاضلة في أعمالهم.

ونطمح، هنا، إلى النبش في جبهة النقد التي لا يمكن أن نخطئها في سياق دراسة جبهات محمود درويش التي تتوزع على الشعر والنثر والفكر والمقال والحوار والمداخلة. ويتمظهر هذا النقد في شكل بوارق نقدية وفكرية متناثرة في حواراته العديدة التي هي جديرة بالتأكيد على جانب الناقد المنفتح على تحولات المعرفة وأسئلة الوجود وسواء في وحدته الصغرى التي هي وحدة فلسطين (المتشظية) أو وحدته السياقية الكبرى التي هي وحدة الإنصات لما يحصل في العالم ككل هذا وإن كانت مرجعيته "عربية" في المقام الأول كما سجل عليه صديقه إدوارد سعيد. تصورات جديرة، كذلك، بالتأكيد على ناقد يتفوق على العديد من المتفرغين، وبالكلية، للكتابة في مجال النقد. وكما قال بودلير "يمكن تحديد مئة شاعر في حين يصعب تحديد ناقد واحد" في دلالة على دور الناقد والنقد في حضوره المستقل لا التابع للعمل الشعري أو الأدبي بعامة. وقد تصدر أهم الآراء النقدية في شكل ملاحظات ناتجة عن الخبرة ودالة على منظور نقدي أعمق من النظرية نفسها حتى وإن كانت ليست مبرمجة سلفا أو ليست مسجلة في النقد الأدبي كما يقول محمود درويش الذي كان قد أدلى برأيه أو بأول "شهادة ذاتية" في الشعر منذ العام 1961 بمقاله الموسوم "رأي في شعرنا" في مجلة "الجديد" الثقافية الأسبوعية (العدد 9) التي كان يصدرها الحزب الشيوعي في حيفا والتي كان يرأس تحريرها محمود درويش نفسه. "وبمراجعة ما جاء فيها يمكن تأصيل الحداثة في مشروعه الشعري على قاعدة الحاجة إلى تجديد العلاقة بين الشاعر الفلسطيني، الذي بقي في وطنه، وبين كل ما هو أساسي في الثقافة العربية والثقافة العالمية" كما قال أنطوان شلحت في مقال مركز سعى فيه إلى دراسة المقالات التي نشرها درويش على مدار الستينيات في مجلة "الجديد". والمقال معنون بـ"على جبهة الصراع مع الثقافة الإسرائيلية محمود درويش ودلالات "الحاجة إلى الحوار"، وهو منشور ضمن عدد خاص "محمود درويش المختلف الحقيقي" من مجلة "الشعراء" (الفلسطينية) (العدد 4 ـ 5، ربيع وصيف 1999).

وهناك أكثر من شاعر ومفكر يضرب عن فكرة الحوار، وهو تحفظ له ما يبرره وإن من وجوه فقط. ويمكن أن نعترض على الفكرة نفسها، لكن من ناحية المحاوِر الذي يتطاول على الشعراء والكتاب والمفكرين متكئا على منطق "سؤال ـ جواب" في سياق "الرواج" أو "الاستهلاك الثقافي" الذي تدعمه ماكينيات الصحافة المهترئة. ومحمود درويش بدوره يتحاشي الحوارات الكثيرة. والحوار، في تصوره، يستحق من الجهد ما تستحقه الكتابة، وقد يجد أحيانا أن الكتابة أسهل من الحوار؛ بل إن الحوار "كتابة شفوية" لا تخلو من صعاب وتستلزم جهدا كبيرا. ولذلك فهو يلح على "الصحافي الجيد" و"العارف"، وخصوصا إذا كان شاعرا أو كاتبا، حتى يتحقق "شرط الندية" بينه وبين محاوره وتتحقق بالتالي ـ وفي الحوار ذاته ـ تلك "الرياضة الذهنية" ـ كما ينعتها ـ التي تكون قرينة "المنفعة المعرفية المتبادلة". وكما أن الحوار معه يظل متجدداً باستمرار، ويظل "أشبه بالرحلة إلى عالم ملتبس بين الواقع والتاريخ والحلم والجمال..." كما قال أحد محاوريه. فالحوار القائم على "منطق الشراكة" و"الاستفزاز المعرفي" لا يخلو من كبير أهمية، وخصوصا إذا كان المحاوَر بارعا ومتألقا كما في حال محمود درويش وزميله الراحل إدوارد سعيد (1935 ـ 2003) الذي كان آسرا على هذا المستوى بل وارتقى بالحوار ـ والمقال أيضا ـ إلى مصاف "الصناعة الثقافية الثقيلة" ذاتها في قوامها على "التحليل" لا "الجدل" الذي هو أسهل من التحليل كما يقول إدوارد سعيد نفسه. فالحوار جبهة لتعميق أسئلة الأدب والفكر، وكل ذلك في المنظور الكاشف عن انجذاب الطرفين معا إلى الثقافة في "إسهامها" في التحويل المجتمعي الملموس.

وفي ضوء منطق الشراكة سالف الذكر لا يبدو غريبا أن نشدد على محاوِرين محددين بخصوص محمود درويش أمثال عباس بيضون ("الكرمل"، العدد 78، 2004) وعبده وازن ("الحياة" (في حلقات)، 12/ 2005 وحسن نجمي ("القدس العربي"، 26/ 02/ 2004)، وكذلك الناقد المتميز صبحي حديدي الذي يعد من أهم المتخصصين في شعر محمود درويش (حوار "القدس العربي" (وبالاشتراك)، 12/ 02/ 1993). وكما أننا سنستعين بحوارات أخرى كحوار "بيت الشعر الفلسطيني" ("القدس العربي"، 20/ 04/ 1999)، وحوار "أخبار الأدب" الذي أعادت نشره جريدة "الاتحاد الاشتراكي" (المغربية) (05/ 01/ 2003)، وحوار "القناة الثانية المغربية" ("القدس العربي"، 23/ 03/ 2005). وفي مقابل ذلك لن نشير إلى حوارات أخرى بدا لنا أنها لا تستجيب لموضوعنا. وأغلب محاوري درويش، من الأسماء السابقة، من "المنحازين" ومن "المتورطين"، وبالمعنى الموجب والمحمود للكلمتين، في شعره وشخصه الجذاب والساحر. وهذه الحوارات تكمل بعضها البعض، إضافة إلى أنها كاشفة عن ناقد أدبي نابه ومفكر إنساني يقظ يعتقد في جدوى "النسق" و"القلق" و"النقد" و"عدم المهادنة". ولا ينبغي أن نتغافل عن أن الحوارات التي نستند إليها، في موضوعنا، تعود إلى زمن قريب؛ إضافة إلى أنها كفيلة، في تصورنا، بتقديم تصور متكامل بخصوص موضوعنا.

وفي الحق يصعب، وعلى درويش نفسه، وهو الذي أمضى قسطا كبيرا من حياته "منفيا متجولا"، حصر جميع الحوارات التي أجريت معه وبدءا من الحوار المعنون بـ"محمود درويش: حياتي وقضيتي وشعري" الذي كان قد أجراه معه، في موسكو، وقبل أربعين عاما، محمد دكروب. وقد صدر الحوار، ضمن عدد خاص "أدب المقاومة في فلسطين"، في مجلة "الطريق" (تشرين الثاني ـ كانون الأول، 1968). وأعاد محمود درويش نشره ضمن مجلة "الجديد" (العدد 3، آذار 1969). ويقول المحاور بأنه كان أول حديث ثقافي أجراه كاتب عربي مع محمود درويش خارج فلسطين (انظر: محمد دكروب: في هذا العدد من الكلمة).

وقد بدا لنال أن نحصر أفكار محمود درويش المتناثرة في تصورات محددة في مقدمها تصوره للقضية الفلسطينية الذي هو تصور مفكر، وتصوره للشعر ومهامه، وتصوره لدور النقد والناقد، وتصوره لقصيدة النثر التي صارت ـ في ذهن الكثيرين ـ علامة مائزة ودالة على الشعر والعصر معا. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ـ التي ما تزال ـ ورغم الانشقاق الحاصل في البيت الداخلي ـ تستأثر بالوجدان العربي ـ فلا يمكن البتة أن نتصور محمود درويش الشاعر والمفكر من خارج سؤالها اللاهب والحارق. ولا نتصور أنه يرفض أن يقرن بها، ذلك أن العلاقة بينهما أشيه بعلاقة السباق بالميدان أو الإطار بالزجاج. ولا يبدو نشازا أن نقول بأن شهرة درويش تعود، وفي جانبها الأكبر، إلى فلسطين أو إلى كون أنه ذلك الفلسطيني الذي أدرك كيف يخدم قضيته بالقدر نفسه الذي تخدمه قضيته. ومن هذه الناحية فهو أشبه بإدوار سعيد الذي نال بدوره شهرته، ورغم ترسانته الأكاديمية الصلبة، من ارتباطه بفلسطين التي نذر "سلاحه الفكري" لـ"نصرتها" داخل الفضاء الأمريكي المعادي للعرب، هذا وإن ظل لا يفكر في العودة إليها عملا بمبدأ "شرف المنفى" و"نيويورك الحربائية" التي تليق، أكثر، بالمنشقين والمنفيين والمثقفين.

والظاهر أن العلاقة بين محمود درويش وإدوارد سعيد واردة، وهي قابلة لأن تدرس من وجوه كثيرة. ويهمنا أن نشير، هنا، إلى أن إدوارد سعيد كان قد خص شعر محمود درويش بنص نقدي ثاقب "تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية" سيرا على عادة صاحب "الاستشراق" في الكتابة القائمة على "التكثيف" وتجاور الأفكار وتداخل "التحليل" و"التعليق". وقد نشر النص، ومترجما، ضمن ملف مجلة "الشعراء" سالفة الذكر؛ وكما أعاد نشره مترجمه صبحي حديدي في جريدة "القدس العربي" (اللندنية) (12/ 08/ 2008) في إثر وفاة محمود درويش. وفي هذا المقال يتحدث إدوارد سعيد عن مرجعية درويش العربية (والإسرائيلية بدرجة أقل ولأسباب واضحة) ووضعه (وكشاعر أساسا) الوطني المميز وغير الرسمي، وصداقاته المنتقاة، ونشاطه السياسي الحذر، وقلقه المتواصل، وأسلوبه الناري والمتطاول... وغير ذلك من الأفكار التي تغني عن قراءة ذلك السيل من الكتابات ولا سيما تلك التي أخذت في التدافع في إثر وفاته. وكما تجدر الإشارة إلى أن محمود درويش بدوره نعى إدوارد سعيد بنص شعري "طباق" (2003)، نص لا يمكن التغافل عنه في سياق تدبر دلالات موضوع "إدوارد سعيد وحال العرب". وفي هذا النص يشير درويش، وبلغته الشاعرية، وفي حال إدوارد سعيد دائما، إلى نيويورك والهوية... والمستشرق الذي يلعنه إدوارد سعيد في دلالة على المنظور العربي القومي الذي ظل يستحضر الاستشراق والموقف الرافض له.

وتبدو خلفية محمود درويش، في نظرنا، وبخصوص تصوره لـ"فكرة فلسطين"، مماثلة لخلفية إدوارد سعيد التي تتأطر ضمن "النزعة الإنسانية الجذرية" التي تنص على نوع من "التعايش السلمي" بين الشعبين الفلسطيني واليهودي، هذا وإن كان صاحب "ورد أقل" لا يملك جرأة الإعلان عن "العلمانية" التي اشترطها سعيد في ترتيب هذا التعايش بين الدولتين. ويمكن أن نرد ذلك إلى "الفضاء الوطني" المتمثل برام الله التي آثر أن يختم فيها حياته وعلى مقربة من "الألغام" وخارج "المنفى" أو "شرف المنفى" الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل. هذا بالإضافة إلى أن محمود درويش، وهنا يكون بعض الاختلاف بينه وبين سعيد، وعلى مستوى الدرجة لا النوع، لم يكن يعتقد في جدوى "المفاوضات". وبسبب منها، وهو ما فعله إدوارد سعيد أيضا، قدم استقالته من اللجنة التنفيذية "احتراسا" منه على ما قد يترتب على توقيع أو، وبتعبيره، "مغامرة" "إعلان المبادئ" مع إسرائيل في خريف العام 1993. فـ"الحوار مغلق مع الإسرائيليين" و"لا يوجد أي مشروع عند الإسرائيليين للتفاوض مع الفلسطينيين، وليس عند الفلسطينيين إلا أن يطالبوا باستمرار المقاومة ثم التفاوض والحوار". هذا بالإضافة إلى أن "المجتمع الإسرائيلي يتجه نحو اليمين لحد الوصول إلى حدود الفاشية"، غير أن هذا "الاتجاه العام" لا ينبغي أن يفضي إلى تلك "النظرة الأحادية" لـ"المجتمع الإسرائيلي" لأنه "هناك أفراد ومجموعات، صحيح صغيرة وهامشية، لكنها تدعو للسلام، وهناك بعض الأكاديميين صحيح أنهم منبوذون ومحاصرون ولكن لا نستطيع أن نتجاهلهم أو أن نضعهم في خانة واحدة مع التيار العام للمجتمع الإسرائيلي".

بل إن "القبول بفكرة أن الإسرائيليين جميعا وحدة سياسية واجتماعية هو ما تريده الصهيونية وقيادة إسرائيل" كما قال درويش في مقابلة أجريت معه العام 1970. و هذا ما يبرر احتفاءه، اللاحق، ببعض هؤلاء الأكاديميين، ولا سيما من "المؤرخين الجدد" المعارضين لـ"أسطورة اختلاق إسرائيل الكبرى" في مجلته "الكرمل" التي كان قد أنشأها منذ العام 1981. وقبل ذلك تجدر الإشارة إلى عمله، وقبل العام 1970، وهو ما أومأنا إليه من قبل، محررا ومترجما في صحيفة الحزب الشيوعي في إسرائيل "راكاح"، بل و"انتمائه" لهذا الحزب الذي كان يقول بـ"التعايش السلمي" بين الدولتين. فقد دخل عالم الصحافة باكراً، في أقل من العشرين من عمره. وفي السياق نفسه، وكما يقول إدوارد سعيد في مقاله السالف، "لم يسبق لأية شخصية أدبية فلسطينية أخرى أن امتلكت تأثيرا مشابها، ولا يستثنى من ذلك الروائي إميل حبيبي الذي فاز بجائزة إسرائيل عام 1992 وأدانه درويش بسبب قبولها". وقد بلغ هذا التأثير حد "نقد الثقافة الإسرائيلية" الذي بموجبه بدا محمود درويش ذلك المثقف الفلسطيني الذي "لا "يلعب مع ظله" ولا "يحاور وجهه في المرايا" وإنما يحدّق في وجه "الآخر". وهذا التحديق مقرون بالطموح إلى إجبار "الآخر" على أن يحفر ملامح الفلسطيني في نظره" كما يقول أنطوان شلحت في مقاله السابق ("الشعراء"، ص 154). وحتى نعود إلى لغة إدوارد سعيد: فقد كان محمود درويش أكثر إصرارا على "سرد الحكاية الفلسطينية"، وكل ذلك في إطار من الشعر في عناصره المتكاملة التي تصل ما بين الماهية والأداة والمهمة.

وثمة، وسواء على مستوى فلسطين أو غير فلسطين، "كارثة" تبعا للمفردة الأثيرة والمتكررة في كتابات إدوارد سعيد وتعليقاته الحادة. وهذه الكارثة متجذرة في التاريخ البشري ذاته الذي هو وكما يتصور محمود درويش "تاريخ من العنف والوحشية وليس تاريخا أنيقا، ولم تقده ولا مرة واحدة لا الفلسفة ولا الشعر ولا المسرحية ولا الموسيقى". ومن ثم منشأ السؤال الصادم الذي طرحه درويش نفسه: "وهل من وقت للشعر في زمن الوحشية؟". فمن الجلي، إذا، أننا نرغب في الانتقال إلى الفكرة الثانية المتعلقة بتصور درويش للشعر وإمكاناته على مستوى التصدي لـ"البربرية". أجل لا يمكن المقارنة بين الشعر والحرب، ومقارنة من هذا النوع لا يمكنها أن تكون إلا جرداء أو صلعاء. ثم إن القصيدة، وكما قال درويش في أكثر من حوار، لا يمكن لها أن توقف زحف الدبابات وسرعة الطائرات وسقوط الصواريخ المتطورة. ولا سيما في فلسطين التي "تحول فيها الموت اليومي إلى ما يشبه نشرة الأحوال الجوية" تبعا لقياس درويش التمثيلي جنبا إلى جنب اقتلاع البشر والشجر والحجر وعلى مرآى من العالم أو "الغرب المتصهين" من وجوه عديدة. غير أن ما سلف لا يحول، في تصور درويش، دون التشبث بـ"وهم القصيدة" في سياق "الرد" و"المقاومة" بمعناها الأنبل والأشمل. وإلا ما الذي جعل درويش نفسه يقول، في حوار تلفزيوني مع القناة الثانية المغربية، وفي سياق "حصار 2002 في رام الله والمقاطعة"، بأنه "كلما كان يكتب سطرا إلا وكان يشعر بأن الدبابات تبتعد عنه مترا". ومن هذه الناحية، وللتاريخ، ومن خارج أي نوع من الربط الميكانيكي، فقد ارتقى درويش بالقضية الفلسطينية إلى مصاف "القضية ـ المعيار" الدالة على "مقياس السياسة في العصر" كما قال إدوارد سعيد في كتابيه "تأملات حول المنفى" و"السلطة والسياسة والثقافة". ولذلك صار الكلام عنه أو الاحتفال به، أي درويش، احتفالا ببلاده وأهله من ناحية مصاحبة أو موازية.

ولا يبدو غريبا في ظل هذا التواشج الإنساني العالي والنبيل، أن يفخر درويش بأنه "ولد في فلسطين قبل أن توجد إسرائيل" و"أنه أقدم عمرا من دولة إسرائيل" التي دمرت قرية "البروة" التي كان قد ولد فيها قبل ست أو سبع سنوات على "النكبة" والتي خصها بنص معنون بـ"البُروة" ضمه غسان كنفاني في كتابه سالف الذكر. ولا يبدو غريبا أيضا أن يقلب "الجنرال الدموي" آرييل شارون شفتيه في الموضوع "حاسدا" الفلسطينيين على شيئين: علاقتهم بالأرض التي رفعها الفلسطينيون من مسألة سياسية ووطنية إلى مرتبة القداسة، وحبهم للشاعر محمود درويش. غير أن "العلاج" أو "التشفي" من داء "الحسد"، وكما شخص، وفي الحين، وبطريقة ساخرة، درويش "بسيط جدا" ويتمثل في إرجاع الأرض لأهاليها. و"مقولة" شارون هاته، وكما يسترسل درويش، دليل على أن الشعر الفلسطيني استطاع أن يخترق الحصار السياسي والتاريخي.

فمن الجلي، إذا، أن درويش يعتقد في جدوى "الواجهة الثقافية" على مستوى التصدي للوحشية، ثم "إن التهويد العنيف لفلسطين ما كان من الممكن تنفيذه لولا تجنيد كل النخبة الثقافية، وليس وزارة الأديان وحدها، من أجل تنفيذه" كما يقول أنطوان شلحت. وكل ذلك من خلال جبهة الشعر أو جبهة القصيدة التي "تقاتل" من خلال "التباسها" بالقضية، لكن اعتمادا على تداخل الأخلاق والجمال أو تداخل القضية ذاتها والجمالية لكي لا تتحول القصيدة إلى "منشور" أو "بيان عابر". فقد كان، ومنذ بداياته الأولى، شديد الوعي بعدم اختزال الشعر في منطق "التصفيق" و"الجماهيرية"، بل أنه يستبعد تسمية "الجماهير" ولا سيما "العمياء" التي تتحدث عنها العلوم الاجتماعية. ولذلك كان حريصا على عدم قراءة نصه الشهير "بطاقة هوية" ("سجل أنا عربي"...) الذي كانت الجماهير تطالبه بإنشاده أينما حل، وبدء من خروجه الأول إلى لبنان (1970) الذي سيستبدل فيه بالقصيدة السابقة قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا"، وعيا منه بعدم انصياع الشاعر للجمهور وللقضية التي تسلخه عن الزمن ذاته والصيرورة والتلقي المتجدد؛ بل إن عدم الانصياع هذا يقع في صميم "خدمة القضية" كما لاحظ عباس بيضون في شهادة "المختلف الحقيقي". غير أن درويش ظل حريصا على "علاقته الجدلية"، كما يصفها، مع "القارئ. ولعل هذا ما جعله يكون "جماهيرياً ونخبوياً في آنٍ واحد"، وربما لم يُؤتَ لشاعر أن يكون قريباً من قرائه وبعيداً منهم مثلما أوتي لمحمود درويش كما قال عبد وازن.

وكما أن هذا الوعي الحذر هو الذي جعله ينفتح على "الوجود" الذي هو بتعبيره "متحف الذاكرة الحقيقي، مقابل ذاكرة المتاحف"، بل إنه صرخ: "لقد آن لشعرنا أن يتشابك مع سؤال الوجود والمأزق الإنساني، مع سؤال الدائم الإنساني الذي ليست له علاقة مباشرة بالاحتلال ولا بالتحرر ولا بالوطن، ولا بالمنفى ولا بالدولة ولا بالحكم الذاتي". وقد انخرط درويش إن لم نقل دشن هذا الاختيار الشعري من خلال جملة من العناوين التي أخذت في التوالي منذ مفتتح التسعينيات حتى وإن كان ذلك أدى إلى بعض الانخفاض في مبيعات أعماله. وفي الحق فقد أسهم النقد الأدبي العربي بدوره في "محاصرة النص الفلسطيني" عن طريق الربط الجزافي بين الشعر والقضية الفلسطينية، ذلك أن الاستناد إلى "الهوية الفلسطينية" (أو "لعنة الفلسطيني" كما نعتها درويش في موضع آخر) لا يتم إلا في حال الشاعر الفلسطيني. ولقد رأى في هذا "الموقف" نزعا من "العنصرية النقدية" (في أخبث تجلياتها) التي دعا إلى الإقلاع عنها قائلا: "آن لنا أن نكف عن عدم تطبيق أدوات النقد العامة على الأدب الفلسطيني، وأن يحاسب الأدب الفلسطيني كأدب وليس كتعبير عن معاناة شعب وبشر يسعون إلى الاستقلال وهذا يبرؤهم بالتالي من النقد الأدبي".

ويتضاعف المشكل أكثر إذا ما ذكّرنا، ومع درويش نفسه، بأن الاحتلال، الاستيطاني الصهيوني الكولونيالي، بدوره يحرص على أن يعزل الإنسان الفلسطيني عن الكلام على موضوع الحب والوجود... وأن يحصر تفكيره في حمم الاحتلال البركانية وبما يؤكد "المهمة الحضارية" أو "الإلهية" (؟) لـ"الدولة العبرية". والمؤكد أن القليل من النقاد العرب من أدرجوا شعر محمود درويش ضمن مشهد الحداثة في الشعر العربي المعاصر جنبا إلى جنب شعراء أمثال سعدي يوسف وأدونيس وبلند الحيدري... ثم إن من حشره ضمن هذه الأضمومة فقد استند، وفي الأغلب الأعم، إلى تسمية "شعراء الأرض المحتلة" كما في حال الراحل العلامة إحسان عباس في كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" (1978) الذي يعد من المراجع الأساسية في موضوع الشعر الحر في العالم العربي.

يبدو جليا مدى تصور درويش للشعر الذي يتعالى على الظرفي المناسباتي، فهذا الأخير لا بد من أن يتشابك مع سؤال الكون والوجود والإنسان أيضا. غير أن هذا التشابك لا يمكنه التحقق في معزل عن "الصنعة" أو "الصانع" الذي تحدث عنه خورخي لويس بورخيس في كتابه "محاضرات في الشعر" تبعا للترجمة الفرنسية و"صنعة الشعر" تبعا للترجمة العربية. فالشعر "صعب" و"طويل سلمه" و"نزع ضرس أهون علي من قول بيت شعري"... وغير ذلك من الأقوال المأثورة في تراثنا النقدي والبلاغي. ولا يخفي درويش أن الشعر له "متطلبات" وأنه "عمل شاق"، ويشرح هذه الفكرة قائلا: "لا أستطيع أن أكتب في مكان لا توجد فيه قواميس أو مراجع أو انسيكلوبيديا. في الكتابة الشعرية أحتاج مراجع كما لو أنني أقوم ببحث، بينما القصيدة في ظن الناس خاطرة، لا، الشعر ليس خاطرة. إنه عمل بحث شاق، يحتاج إلى التدقيق في المراجع والمرجعيات والعودة الدائمة إلى المكتبة، إن القصيدة بحث". غير أن ما سلف لا يحول دون التشديد على عنصر "الموهبة" الذي ينص عليه درويش أيضا، فالشعر "موهبة ومهنة في آن واحد". هذا بالإضافة إلى ما يقرؤه خارج مجال الشعر كما في حال عمله "أحد عشر كوكبا"، وسواه، الكاشف عن "مقروء" في مجال الفكر والتاريخ... جنبا إلى جنب "العزلة" التي "يدمنها" كما يصف درويش والتي يمكن إدراجها ضمن "طقس الكتابة الحميم" الذي يحرص على توفيره له تلبية لنداء أو مس الكتابة. ويبدو أن الحوار، الأول، الذي أجراه معه حسن نجمي، وبحس الشاعر أيضا، وعملا بوصية رامبو "إنما الشعراء إخوة"، جدير بأن يكشف عن جوانب كثيرة من هذا الموضوع المتعلق بـ"المختبر الشعري" (السري) و"تقنية الكتابة" التي نادرا ما تم محاورة درويش فيها.

وفيما يتعلق بالنقد أو التنظير النقدي الذي يلجأ إليه بعض الشعراء، ومن العالميين الكبار، لا من الأقزام كما في حال بعض النماذج العربية التي تحرص على "التسويق" لـ"مشاريعها الباذخة"، فإن محمود درويش يتحفظ بخصوص هذا النوع من التنظير الذي يفضي إلى نوع من الخلط بين الشعر والنقد. "ينبغي أن يمر النص بدون كوادر حزبية، أن يعبر ويخترق ويصل بدون ترويج إعلامي". والشعر، في تصوره، أسبق دائما وسريع التطور وأكثر من النقد الذي يحتاج إلى نظريات. وحتى إن كان لم يكتب عن الشعر إلا قليلا، ولم يول للتنظير الشعري إلا قليلا، فإن حواراته تكشف عن أفكار نقدية لامعة وبعضها يستجيب لعمله الشعري الخاص. مواقف كثيرة، بل ومكرورة في أحيان؛ والأهم أنها محكومة بـ"نسق" هو نسق درويش في دنيا الإبداع أو باحة التجربة. أفكار يتعالى فيها صاحبها عن "التجريح"، بل وعن "لعبة الإحالة" على الأسماء إلا في حالات نادرة جدا. وقبل أن نعرض لبعض هذه المواقف لا بأس من أن نشير، وهو ما يمكن استخلاصه ابتداء، إلى أن محمود درويش لا يبدو مرتاحا أو مطمئنا إلى "الرطان النقدي المعاصر" الذي يجعل، وفي نماذجه الغالبة، من الأدب مطية للبرهنة على "نجاعة المفاهيم الإجرائية" لا "اشتراطات النصوص التاريخية والجمالية". ولذلك نادى بضرورة "الدور الكلاسيكي" للناقد الذي كان قرين "الإخلاص للأدب" الذي كان قد تحدث عنه الناقد الرائد محمد مندور منذ زمان. وفي ضوء هذا الدور الكلاسيكي يمكن أن نفهم تشديد درويش على العلامة سالف الذكر إحسان عباس (1920 ـ 2003) الذي تطاول عليه بعض "بنيويي زماننا من العرب"، إحسان عباس الذي كان معجبا بشعر درويش لحد أنه بكى له ذات مرة.

قلنا ثمة أفكار نقدية كثيرة متناثرة في حوارات درويش من مثل تلك التي تخص "الحداثة" التي "تحققت عندنا فقط في الشعر وربما في وزارة الداخلية وأجهزة الأمن". أو كما قال في حوار آخر فنحن "نعيش زمن ما قبل الحداثة إلا في... الشعر وفي وزارات الداخلية!!" و"الآن عندنا تسمية جديدة هي ما بعد الحداثة. ونحن ما زلنا نعيش في عصر ما قبل الحداثة" وتلك هي حال "الفوضى النظرية". وفيما يتعلق بـ" "شعر الرواد"، ومن ناحية الحداثة ذاتها، فقد "كان شعر تبشير بها أكثر منه تحقيقا لها". وفيما يخص فلسطين وجيل محمود درويش تحديدا فهو "يمثل "سلاح الهندسة" في الشعر الفلسطيني وعلى الجيل الجديد أم يطور جماليات القصيدة" ودون كبير اكتراث بـ"الاحتلال" وما إذا كان "شرط الكتابة وجود الاحتلال؟"... إلخ. ثم إن "الشعر الصافي" الذي يحلم به محمود درويش لا يلامس من خارج دائرتي "اللغة" و"التجربة" ذلك أن "صفاء اللغة في صفاء التجربة"، وقبل ذلك فـ"الشعر يجدد حياة اللغة دائما[...] ويحميها من الشيخوخة والترهل". و"لكن في كل كتابة هناك فكر ما. فالشاعر ليس آتياً من اللغة فقط، بل من التاريخ والمعرفة والواقع"، فـ"القصيدة"، ومن وجوه عديدة، "محمول ثقافي" أيضا". إلا أن "اللغة الكبيرة انتحار. لغة الملاحم الكبرى والانتصارات الكبرى انتهت". و"التجريد" بدوره لا يقل خطورة عن هذه "اللغة"، والمقصود التجريد الذي يولي أهمية لـ"الأفكار" في معزل عن "الحواس" مما "قد يوصل إلى حذف اللغة" وبالتالي إلى ما يسمى "شعر بياض". فـ"على الفكر والفلسفة والمعارف كلها أن تعبّر عن نفسها في الشعر عبر الحواس، عليها أن تنصهر في الحواس وإلا تحولت مقولات". وموازاة مع "الحواس" ثمة "النظام" الذي "لا تتشكل القصيدة خارجه" والذي هو "إدارة العلاقات بين عناصر النص الشعري"، وغير بعيد عن "النظام" ثمة "البناء المحكم" الذي "يمنع النص من المجانية والاسترسال المؤدي إلى الانهيار"... إلخ.

وفيما يتعلق بسؤال "الجمهور" و"التلقي" الذي كثيرا ما لازم محمود درويش فـ"ماذا نعني بالقارئ أو الجمهور"، فـ"هذا مصطلح يثير بعض الغموض". ولا يبدو غريبا أن يقول درويش جازما "صرت زاهدا في الجماهيرية بمعناها الواسع"، خصوصا وأنه "لا القلة معيار نوعية ولا الكثرة كذلك، فالشاعر لم يكن يوما جماهيريا كما يظن الثوريون، ولم يكن طالب عزلة كما يظن النخبيون، الحقيقة الجمالية هي حقيقة نسبية". و"كل عمره له تعبيره وقدراته"، غير أن ذلك لا يحول دون الانفتاح على التيارات والاتجاهات وسواء العالمية منها كما في حال "السوريالية" التي "أثرت في شعر غيرها أكثر مما أثرت في ذاتها" أو تلك المتضمنة في تراثنا الغني كما في حال "التصوف" الذي يبدو درويش "شديد الإعجاب بنثره لا بشعره"... إلخ. غير أن المقروء أو الموهبة والمهنة غير كافيتين بمفردهما، ومن ثم و"لكي يطلع شاعر كبير يجب أن يتوفر شعراء كثر". هذا بالإضافة إلى "الهزيمة" التي يقر بها ("أنا شاعر مهزوم") جنبا إلى جنب "القلق" الذي لازمه، بل وجعله يشكك في ثلاثة أرباع مما كان قد كتبه: "لو أعدت كتابة دواويني لاكتفيت بخمسة" كما قال في حواره مع عباس بيضون. وهو القلق الذي أفضى به إلى "أمراض قلب دائمة" أفضت بدورها به إلى عمليتين جراحيتين للقلب ذاته بموجبهما "جاور" "وحش الموت الفاغر فاه باستمرار" كما وصفه سارتر بل و"حدّق" فيه تبعا لمفهوم كيركارد "التحديق في الموت" الذي استند إليه جابر عصفور في الكتابة عن التجربة ذاتها، "شعرية الموت"، لدى درويش.

وفي الحق فحوارات درويش لا تخلو كذلك من مفاهيم متناثرة مثل مفهوم "المقاومة الجمالية" ومفهوم "المتخيل الجزئي" الذي تبناه والذي يضاد "المتخيل الشمولي" الذي هو قرين الكتابة عن فلسطين كـ"فكرة" لا كـ"علاقة" ولا كـ"مكان جزئي"، وهذا المنحى الأخير يبدو جليا في "لماذا تركت الحصان وحيدا" الذي أفضى إلى مفهوم "الامتداد الأسلوبي" الذي سرعان ما سيتوالى في أعمال درويش اللاحقة جنبا إلى جنب مفاهيم أخرى كـ"التعاقد الجدلي" مع القارئ و"الشعر الصافي" و"المقاومة الجمالية"... وغير ذلك من المفاهيم التي تنأى عن "التخريب اللغوي" و"العلف الإيديولوجي". وكل ذلك في منظور أرحب بموجبه يستحضر درويش التبدلات العالمية، ولا سيما من ناحية معطى العولمة، التي بموجبها تبدو "الحرية" و"التحرر" و"الهوية" و"الخصوصية" و"الجماهير"... "مفاهيم بالية". وربما في هذا السياق أمكننا الإحالة على كتاب فؤاد نصر الله "تجليات العولمة الثقافية والسياسية في شعر محمود درويش، 1995 ـ 2004: مقاربة حضارية أدبية" الذي سعى فيه صاحبه ـ وكما يظهر من عنوانه ـ إلى تدبر دلالات شعر درويش في ظل تداعياتها. غير أنه سيكون من البلادة حشر درويش في "فخ العولمة"، فحسه الوطني والإنساني بارز... وأبعد من جميع أشكال "التنميط" و"القولبة" التي تفرضها "العولمة الكاسحة".

ويبقى أن نختم بموقف محمود درويش من قصيدة النثر الذي قيل فيه الشيء الكثير، ومصدر ذلك قصيدة النثر ذاتها التي أثارت نقاشا ـ وإن من باب المبالغة ـ يفوق النقاش الذي أثير حول القضية الفلسطينية. فلسطين التي "تقطن داخل كل عربي" كما قال درويش. وكثيرا ما اتهم درويش، واعتمادا على تصريح له، بـ"معادتها"... مع أن التأمل في المستوى التلفظي ذاته لخطابه يقول شيئا غير هذا، هذا وإن كان يتحفظ بخصوص ما هو سائد منها. ذلك أن "انتشارها"، وفي تصور درويش وغيره، لا يخلو من "فوضى". وكما أن تصور درويش للشعر باعتباره "عملا شاقا" (كما أسلفنا) لا يجعله يطمئن لما هو "رائج" منها، إذ لا يزال العديد من كتابها يميلون إليها من باب "الاستسهال" و"الهروب من القواعد". وربما هذا ما قصد إليه درويش حتى وإن كان يقول بأنه ليس لديه أي تحفظ عليها؛ والتهمة التي لاحقته، وكما يواصل، في أنه ضد قصيدة النثر زمناً هي باطلة. ومن هذه الناحية لا يبدو غريبا أن يثير كلام درويش أكثر من "رد" مقارنة مع شعراء آخرين مكرسين رفضوها بالواضح ودون أدنى تحفظ (أحمد عبد المعطي حجازي، مثلا) لكن دون أن يثير كلامهم أي رد فعل كما في حال الشاعر الأبرز محمود درويش الذي تفترض فيه "عصابات" أو "ميليشيات قصيدة النثر" نوعا من "الأبوة الرمزية".

إجمالا فموقف درويش من النثر عامة لا يخلو من "تثمين" يبلغ حد "التمجيد"، والنثر كما قال عنه الجد الجاحظ "فضّاح الشعراء". ودرويش بدوره كتب نصوصا نثرية في غاية من "الإمتاع والإقناع". والنثر، في نظره، لا يقل أهمية عن الشعر. وهو الذي كان يقول: "أحبّ من الشعر عفوية النثر"، وهو الذي كان يعلن عن إعجابه بقول الشاعر باسترناك: "أجمل ما في القصيدة ذلك السطر الذي يبدو نثرياً". والملاحظ في شعره، ولا سيما في المرحلة الأخيرة، أن ثمة حوارا بين النثر والشعر. لقد عرف كيف يستفيد من قصيدة النثر وكيف يسربها في اقتراحاته الجمالية. وهو الموضوع الذي عالجه صبحي حديدي في أكثر من مناسبة، وأبرزها مناسبة الحديث عن مجموعة "سرير الغريبة" (1999)، ومن خلال ما أسماه بـ"التفعيلة المنثورة" و"النثر التفعيلي"، وذلك لوصف تلك "المساحة المشتركة التي يخلقها درويش بين الوزن والنثر". وفي السياق نفسه رأى آخرون في أعمال درويش الأخيرة، ومنذ ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" (1995)، أن درويش يكسر، قليلا، الغنائية العالية، التي اشتُهرت بها قصيدته، عبر النزول إلى "خفوت النثر وخجله الإيقاعي". وكما تتأكد القصيدة نفسها، قصيدة النثر، وفي السياق نفسه، ودلاليا أو رؤيويا هذه المرة، من خلال الاهتمام بالتفاصيل والإعلاء من شأن اليومي والهامشي والعادي والمطرح... أي كل يحيل على مفهوم "المتخيل الجزئي" سالف الذكر.

والظاهر أن درويش حتى وإن كان من المدافعين، وبوضوح، عن مسألة الموسيقى في الشعر، ومن المخلصين لإيقاع الشعر، فإن ذلك لم يمنعه من الاحتكام إلى تحقق الشعرية في القصيدة وسواء كانت موزونةً أَو نثرية. ومن ثم فإن اعتراضه، وربما انطلاقا من هذا الاعتبار الجمالي، هو على أن تكون هذه القصيدة "الخيار الشعري الوحيد" و"الحل النهائي للمسألة الشعرية التي لا حلَ نهائياً لها"... وعلى أن يحصر النقاش حول مستقبل الشعر والحداثة الشعرية العربية الراهنة فيها؛ فهذا "إجحاف" و"استبداد فكري" كما يلخص. وفي هذا الإطار يمكن استيعاب قوله: "أنا أتعلّم من قصيدة النثر" و"أنا من آخر المدافعين عن قدرة قصيدة التفعيلة على أن تستفيد من اقتراحات أو من تصورات قصيدة النثر ومشروعها، وأن تكتب الرؤيا الجديدة لقصيدة النثر كتابة موزونة". و"لم أَكف عن القول إن قصيدة النثر التي يكتبها الموهوبون هي من أَهم منجزات الشعر العربي الحديث، وإنها حقَقت شرعيتها الجمالية من انفتاحها علي العالم، وعلي مختلف الأجناس الأَدبية. ولذلك تستطيع هذه القصيدة أن تطور إيقاعاتها وبنيتها" في أفق يضمن لها "تأسيس طريقة كتابة مغايرة للشعر التقليدي والحداثة التقليدية". وكما يلخص فـ"قصيدة النثر تبدو جوابا شرعيا في مواجهة الملل والإعادات في شعر التفعيلة والعمودي".

فمن من خلال ما سبق تبدو "الحاجة إلى الحوار" ماسة وملحة في حال الشاعر محمود درويش طالما أنه يرقى بهذا "الحوار" إلى مستوى "النص" الذي بموجبه يتكشف ذلك الناقد الأدبي المتناسق وذلك المفكر الإنساني العميق الذي يضيء "مشروعه الشعري والثقافي" بالقدر نفسه الذي يضيء به الشعر العربي والثقافة العربية، المغلوبة. "النص" الذي هو "حجة علينا"، والذي يسارع بنا نحو "الانتساب" لـ"أفقه المتجدد". تلك هي "لعنة" محمود درويش الذي "ولد شاعرا" كما قال عنه خصومة ومحبوه، وتلك هي "ذاكرته" التي ليست لـ"النسيان".  


ناقد وباحث من المغرب