حركية الرؤيا في «أحمد الزعتر»

غالية خوجة

 

ليدين من حجر وزعتر
هذا النشيد لأحمد المنسي بين فراشتين
مضت الغيوم وشردتني،
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني
نازلاً من نخلة الجرح القديم إلى تفاصيل
البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن
الرماد وكنت وحدي
ثم وحدي..
آه يا وحدي؟ وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيماً ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين
وساعداً يشتدُّ في النسيان
ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين
*  *  *
لم تأت أغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق
هو أحمد الكوني في هذا الصفيح الضيق
المتمزق الحالم
وهو الرصاص البرتقالي.. البنفسجة الرصاصية
وهو اندلاع ظهيرة حاسم
في يوم حرية
ياأيها الولد المكرّس للندى
قاوم
*  *  *
سيجرفنا زحام الموت فاذهب في الزحام
لتصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين
واذهب إلى دمك المهيأ لانتشارك
واذهب إلى دمي الموحد في حصارك
لاوقت للمنفى..
وللصور الجميلة فوق جدران الشوارع والجنائز
والتمني
كتبت مراثيها الطيور وشردتني
ورمت معاطفها الحقول وجمعتني.

تمثل القصيدة الجديدة التي بدأ "محمود درويش" يباغت ملامح بنائها، من ديوان "أحبك أولا أحبك 1972" حتى كتاباته الأخيرة ومنها، "لماذا تركت الحصان وحيداً1995"، نوعاً من الخروج الجدلي على التوجه الاحتجاجي، الغنائي، التفجعي الذي يسم القصيدة التي كان يكتبها سابقاً، كما تمثل محاولة لتشكيل النص وفق مايتطلبه الآن الدرامي المستمر، من عناصر متراكبة البنية حتى يتمكن من استيعاب الواقع والمخيلة، ويصوغ تراجيديا العصر "مسيرة فلسطين".(1) إن القصيدة بدأت تلقي بنفسها داخل مدارات البحث عن البناء الدراما ـ أسطوري، عن البناء الدراما ـ ملحمي لتُفتِّق مكنونات اللغة من خلال الحالة الشّعريّة المتدرجة في أبعاد الحداثة، المتنامية من العمق إلى العمق، قارعة ما غرست من شظايا، محاولة الانفتاح من الداخل على دراما ـ الملحمة/ الأسطورة. الحالة الشّعريّة التي تضمَّخت بشفق يختار سماءاته لينتزع من حركية الأبد تسارعها/ تماوجها مهيئاً هلام الرّؤيا في بوحه الآخر، بوح الأرض والحرية والكلمة الشهيدة.

ذلك البحث يبلغ ذروته في الدرويشيات "كان ما سوف يكون" و "من سماء إلى أختها يعبر الحالمون" و "أحمد الزعتر". حيث كسر الشاعر المألوف حين تجنب الانفعال السطحي، وباشر الغوص في عمق الحالة الفاعل، مؤسطراً بتداخل وهاج بين الحق والخلود، متمثلاً في النبوة (أحمد/ محمد الكوني)، وبين حدث القصيدة "تل الزعتر" الملحمة/ الرمز للثورة الفلسطينية ككل. إذاً، من خلال هذه الرّؤيا حقق "محمود درويش" خلود نصه الفني الذي أمسك بالتناقضات كأبعاد درامية تتوتر وتنفرج، تلغي الزمن لتشحن دلالاتها بنبوءة تلاحق المستقبل وتحيط بالماضي فاضحة الحاضر. كل ذلك من خلال حركات متفاعلة، متشابكة، تسفح الائتلاف بالاختلاف ناهضة بحركية الصراع. هذه الحركية الموغلة في التفاعل الجدلي تَتذرع بالتوتر لتقفز على المفاعلة وتطفو في زمن أبدي، مفرِزة زمن التيه، حيث الاغتراب بلا ملامح يتشعب في حلكة الدالة، يتشعب بهدوء شامل، منفصل لاكتشاف الذات/ متصل بالعمق النصي، وفائض ببذور حركة جنينية تمرُّ من الغياب إلى الحضور، وتتجلى على شكل رحيل داخل السؤال:

«عشرين عاماً كان أحمد يلتقي بنقيضه
عشرين عاماً كان يرحل».

هذا الاتصال/ الانفصال، يشكل حركية تنقذ الدلالة من مباشريتها، وذلك عندما تشحن أصداء وظلال هذه الدلالة بشحنة رمزية تؤهلها للإيحاء بعنف الوعي الدرامي الذي ينمو ويختمر متفجراً، ناسفاً الثبات (من/ إلى) الداخل الفاعل، المتغير، والذي يعلن عن ملامح باهتة، ضبابية، ويكشف بومض خاطف الجدل المتحرّك بين الذاكرة/ الحلم/ الرّؤيا/ الطاقة التركيبية المختزنة في النص، فهذا الإيحاء الرمزي الذي ينمو لينسف وينفجر، ليعلن ويكشف ويغيِّر، إنما هو يومض باستمرار ليستدعي نقيض الحركية عن طريق طاقة هدامة تظهر وتختفي كظلٍّ يحرك رماده في الخفاء محفّزاً الانقطاع على توتر جديد، مفاعيله لاتهب إلا بعد الذروة المحتدمة، تهب في غنائية الفراغ والعدم، متحولة إلى حركية استنطاقية داخل الصور، وهنا تقوم هذه المفاعيل بشحن الصور دلالياً شحناً ظَلَّ يتحول إلى إمكانيات متعددة:

«وأحمد العربي يصعد
كي يرى حيفا
ويقفز»

فاستنطاق المعنى درامياً تشفه ارتجافات الكلمة، وتنشر مفاعيله بين طاقتين: الذاتية/ الكونية (أحمد العربي)، وبين الطاقة النقيضية "الذاتموضوعية".

«ومن الخليج إلى المحيط من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدون الرماح»

أما الانتشار المنقبض لتلك المفاعيل وحركيتها، فهو الصراع المتنامي بين الطاقتين. صراع إيجابيته تكمن بأن مفاعيله مورقة الأشلاء تصب في العدم ويحاصرها النقيض بإبادتها كلما اكتملت، ثم تتحفز من تقاطع جديد، وتتقدم بحركية هدّارة تشكل الرمز المنقبض بانبساط أبعاده الملفتة للأضداد المضمرة/ الظاهرة، التي بدورها، تحرض حركة الجدل، وتنشط لتتجلى بحشد من الصور المتفجرة في أبعاد الرّؤيا المسكونة بجدل الحركة النصية التي تتداعى داخل حركة الحلم اللولبية، متوسمة الأبعاد الإيقاعية، حيث يشتد الانفصال/ الاتصال بتفرد يغمر تلك الصراعات.

«تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه..
لتقتله..».

لكنه رغم القتل، يبقى المتفرد الذي تنبع منه زرقة المعاني ويخضور الرّؤيا والكلمات:

«إن التشابه للرمال وأنت للأزرق»

ولأنه الأزرق، أي لأنه البدء والأبد، البحر والسماء، لأنه ذاك الذي يريد ألا ينتهي، فإنه يُلْحِدُ بالتشابه، وهذا ماتؤكده الصراعات الملحدة برؤاها للواقع، المستبطنة، والتي تنشئ صوراً متداخلة، بتراكبية منصهرة درامياً توحي بزمن ثابت استوعب اللحظة الانقباضية التي لاانبساط لها: الماضي/ الحاضر/ المستقبل، رغم الزج السردي لمسيرة العذاب المترامي «عشرين عاماً»:

(1) ـ الماضي المستمر:
«أنا الرصاص البرتقال الذكريات». إنه التعلق الثابت بالخلفية المتعددة لدلالات الرصاص (الحق)، البرتقال (يافا.. الوطن.. فلسطين)، الذكريات (الطفولة.. الاغتراب). ومن هنا تزاوجت الدلالات مع رعبها المتداخل بدم أنبت قصائده مُلتفَّاً بجمالية وحشية، جمالية لها صوت الفولاذ الصاعد من جوف الجبال والزعتر والحلم. تختزل تدرج غيبها لتستحضر توجُّساً قلقاً آخر.. كلما امتد هذا الهجس من الرعب إلى الإنبات، اصطدم برعب أكبر تحشره الذاكرة التي قد تمضي به كقلق ٍ متجدّد يحاصر القصيدة بما لايمضي.

(2) ـ الحاضر:
«أنا البلاد وقد أتت وتقمصتني». انقسام دلالي يتوزع بينه وبين قوة الماضي ليحتشد مصرّاً على الثابت الأزلي، على أرضه كعلاقة امتلاء أبدية تتخالط منسجمة مع الكون وتكوين القصيدة، وحاكمة لغنائية القصيدة كإيقاع تلتحم به الصور وتمتد لترسخ في الالتزام.

الالتزام بتواتر الماضي في الحاضر، تواتر لم يتراكم في الصور فقط، بل، تراكم في الواقع أيضاً. لذلك فإنّ هذا الانقسام الدلالي طغى بين طاقتيه (التوزع/ الاحتشاد)، ورغم التفاوت بينهما، طغى من قاع النص، على روح النص المرفرفة، ليبصم شحناته مخلِّفاً تواتراً التحامياً آخر ينفكُّ بالتصعيد من خافية المعنى إلى واعية الكلمة.

(3) المستقبل:
«أنا الذهاب المستمر إلى البلاد». تناقض جدلي يبعثر الحلم/ القوة، ليستمر بين مد الرّؤيا وجزرها، مربكاً أبعاده بإسقاط قلق غير مستقر على قلق غير مستقر. وهو لايتعاكس ضمن الحالة إلا من أجل أن يعكس رؤى النص الراحلة بدورها من النص إلى الوطن.

ضمن هذا التكثيف المنسجم تتراكم حواسّ الصور ومضات، لهجتها: القشعريرة والانفجار الداخلي محاولة بذلك الاستغراق كأفضل تكامل، ممكن، صاعد إلى الحلم، وممتزج بين المجرد والمحسوس حيث تتهيأ بنْية القصيدة، في هذا المنعطف، لأن تتسع مع مايتوتر من الإيقاع الرّؤيوي، المتحدي لانفتاحه الدلالي بدينامية تنبض بالاحتمال داخل ذاكرة الدم، فتغادر الطاقة محدوديتها المنغلقة إلى الإزاحية المتبارقة، منبسطة بالأثر الخافي للمحاورة الصدامية:

«جسدي هو الأسوار فليأت الحصار
وأنا حدود النار فليأت الحصار».

وما لهب الأثر هذا سوى دينامي الوَقْع المتحول، المتخطي، والذي يناغم التوحد ـ الاتصال بالحلم الطاقة، الحلم الذي يراكم الرّؤيا في صور يتفجر بعضها بفعل بعضها الآخر. فمن خلال هذه العملية الاحتكاكية، تفرز الصور تشعبها متوسلة في ذلك تناقض الملامح المتماوجة تحتها، وبينها، حيث تزلزل الداخل، كاشفة ضغط الحركية الدرامية بأبعاد مسرحية كامنة، تتحول إلى مشهد غير واضح المعالم، ينفجر أيضاً في مشهد أوسع هو النص الشّعري ذاته، مرسباً الفضاء الخلاق، مزبداً ماسواه، مالا ينفع من التصادم:

«وأبحث عن حدود أصابعي
فأرى العواصم كلها زبداً».

فما بين أحمد الكوني، الناري، البنفسجي، الأزرق، البرتقالي، وما بين سواه من زبد، تتزلزل حالة القصيدة احتدام دلالات يهدر بين نقيضين:

فعندما يتحول هذا الاحتدام من صراع خارجي (بين الذات ونقيضها) إلى صراع داخلي (بين الذات والذات) فإن القصيدة تتجاوز بنيتها المتنامية، ومن ثم فإنها بتصاعدها الذي كان رتيباً تلغي الصبغة التجريبية للصراع البادئ وذلك لتدفق مايعمق هذا الصراع بتوقُّدٍ ازداد وضوحاً ليبرز انبساطاً كاشفاً لانكسارات الصراع، حيث تنتفي الرّؤيا في جرح الماء، لا، في جرح الكشف:

«سائراً بين التفاصيل اتّكأتُ على مياه
فانكسرت».

إنه التدمير الداخلي، وحواريته تتراءى بتراكم صور عبرت الجمل الوصفية وتوالدت بكثافة تختزل دلالاتها حالة مشرقة المأساة تتوزع في جسد النص/ ميتافيزيقا النص. لتنسرح منكفئة بين الأثر والقشعريرة، ومولدة من مزاوجتهما حركية ظلالية تضيء الكوامن، مؤكدة على شحن المسار الدرامي، بتغريبة تنشطر بين الذات والوطن، لتتجاوز الطاقة السلبية، بارزة في الحلم الذي يلاحق المستقبل، وينفرج تحولياً، دافعاً ماتخفيه الاحتمالات بعنف التناقض، تلك الاحتمالات المستنطقة لرماد الطاقة، والتي حاولت الاستغراق في الرّؤيا/ الحلم، لتقطف تلاوين حساسيتها ووهجها، وتسربها إلى أرواحنا لتتخذ من جروحنا وحواسنا وطناً جديداً:

«ولكن كلما مرت خطاي على طريق
فرت الطرق البعيدة والقريبة
كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة
كم أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجر».

كل الأمكنة زبد، والحلم وحده جمرة النزيف الماكثة في الأرض والنص، لذلك نلمس كيف آخى الشاعر "درويش" بين النزف والحلم:

«التجأت إلى نزيفي/ التجأت إلى الحصار/ التجأت إلى رصيف الحلم».

طاقة تنفتح على جدلية التفاعل العلائقية التي تصب في نقيضها، وذلك حين تتمكن القصيدة لامن اللجوء، بل، من مسك الحركة الدرامية وقت صيرورتها ومضيها باتجاه التوتر ضمن حركة أبدية تحتوي الامتصاص المتخارج بطاقة حدسية، مستقبلية:

«صاعداً نحو التئام الحلم»/ «سنذهب في الحصار حتى نهايات العواصم».

نتبين من خلال ذلك، أن للقصيدة بنيتين: نازلة، وصاعدة. فهي من جهة تنزل باتجاه أعماق الذات مخلفة الأثر الغائر. ومن جهة أخرى، هي تتصعد باتجاه الحلم مشابكة أثرها الناتئ الذي يغور بعلاقة التضاد. الأثر الذي يمحو الانكسار على تنوعه، كما يمحو مفاعلة الصور، وذلك حين يتجاوز ما مَحا، عن طريق توليد صور تقود بدورها إلى تناقض جديد، يقود بالتالي، إلى تفاعل جدلي جديد مخلفاً الأثر المزدحم بالتوتر المنسرح/ المنكفئ، إلى أن يصل إلى ذروة تكثيف تصب في التلاشي، أو العدم، ظاهرياً/ حيث تسقط قبل أن تنجز الحلم، أي، قبل أن توصل التناقض إلى نهاياته، وتكمل منبثقة من الموت اللاحق، بنيتها المتخطية إلى الأمام، البنية التي لم تكتمل، والتي أخفت بدورها الباطن بصراع آخر، أظهره الشاعر كانبعاث غرائبي السيميولوجيا، وذلك بعد نزفه الضوء بالضوء مزهراً مايحتمل الانفتاح:

«تلك مساحتي ومساحة ـ الوطن ـ الملازم
موت أمام الحلم/ أوقد شمعتي من جرحي المفتوح للأزهار».

هكذا ينتشر التوتر الجدلي في هاوية النص التي تنفرج لاهثة خلف توتر جديد يتقدم الصّورة نفسها نحو تفرع خفقي متداخل إلى الأمام يتفرع الخفق دون أي انكسار في النص ومتوالد بدلالات تحمل دلالات أخرى على التفجر بوساطة تضاد قابل للانزياح بين دلالة وأخرى، وبين الدلالة الواحدة المتماوجة بين الطاقة ولونها اللامستقر:

«وأحمد العربي يصعد كي يرى حيفا
ويقفز
أحمد الآن الرهينة
تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه..
لتقتله ».

هذا التماوج اللامستقر يفرز حركية تعارضية متضمنة من الغياب إلى الحضور، من المجرد الأبعد إلى المحسوس الأقرب، حيث تتجسد علائقيات هذه الحركة المتضادة، بصور بسيطة تنحو إلى الوجود، الوصف، الحزن اليومي. وبصور أخرى موغلة في التجريد، مكثفة الغامض متاهات مليئة باحتمالات تغيب فيها ملامح الدلالة، لكنها، رغم هذا التغيُّب فهي تضيء عتمة الصور لتمنحها معارج المعنى المنبسطة في أبعاد الطاقة الإبداعية المتقاطعة بمدارات تزيح لغة النار بلغة الماء وتزيح لغة بينهما بمناورة تفيض على السبح بالامتلاء:

«وأحمد العربي كان اغتراب البحر بين رصاصتين»
«وأعد أضلاعي فيهرب من يدي بردى»

وهذا السبح يقودنا إلى شفافية الصوفية التي لم تتدرج إلى عمقها الآخر، لكنها حاولت باستمرار الاتحاد بـ الكل/ المطلق/ الكوني. فكانت أشبه بالحلول. هذا الحلول هو اللاثبات الإبداعي. عندما ينكشف على نفسه، ويتحول رافداً التناغم بـ لاتناغمه، مظهراً تآلف المفارقات وصراعها باتصال منفك/ بانفكاك متصل، يتدرج الأبعاد الرؤيوية عبر أطوار النص ذات الحركة المتوترة/ المنخفتة. وذلك طبقاً لانقباض ذاكرة الرمز على الحلم، وانبساط الحلم في ذاكرة الرمز، حيث التوتر المكثف ينفرج من قاع البنية مانحاً تفاصيلها بعداً إيقاعياً متماوجاً بين الغنائية وبين دفقه المتوتر الأقصى.. ففي هذا الحيز كفضاء متداع، تبرز حركة الإيقاع الملحمية، كأسطورة تغترب حتى ابتداء الصور في مكنوناتها، بعد التقاطع الجدلي:

«الآن أكمل فيك أغنيتي، وأولد من غبارك/
أنا الرصاص البرتقال الذكريات وأنا البلاد وقد أتت وتقمصتني».

فحركة الإيقاع رغم اعتماده ظاهرياً على التفعيلة والرتابة التي تصل إليها بطاقتيها الإيجابية/ السلبية إلا أنها داخلياً تحمل إيقاعات العناصر المختلفة والممتزجة، والهادرة كمصابيح القيامة والنبض والحرية وتحديداً في صور القصيد التراكبية.

أما ماقصدته بالطاقتين فهو:

ـ الإيجابية: التوتر المتصاعد الهدير، الذي يحضر مقترناً بالإيماء العلائقي، مسقطا المتجاذب من نبض المبدع على حدّه المتنافر، ليمنح أبعاد الطاقة تحولها المتناثر بلولبية طوفانية تصل العتمة الرؤيوية بالعتمة اللغوية، مجسدة صراخ الضوء بارتجافات النص:

«فاذهبْ عميقاً في دمي
اذهب براعم».

ـ السلبية: لأن هذا التوتر لم يستطع تكثيف أبعاده في إيقاع ذاكرة الدم المتضمنة في نبض الاحتمال. لم يتجاوز نفسه إلى انقباض أعمق. لم يولّد مابعد الطاقة الإيجابية. بل، مكث كبعد إيقاعي يواصل الوضوح، رغم محاولته كشف الإيقاع المختزل في الطاقة الإيجابية (تكرار اللازمة):

«مضت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني».

اللازمة التي إذا ابتعدنا إلى غيومها وجبالها نكتشف وقعها الصلب والراسخ ونستنتج حركيته التي تطمس الزمكانية الخارجية في زمكانية خلّفتها، وتظهر بأبعاد الوقْع الدينامية، الأبعاد المتداخلة بتنافر، والمتجاذبة بتقاطع حاملة مايقدح تسارع زمكانيتها المبدع بتموّجات تنقلت من مرئياتها إلى الصعوبة إلى الحدْس.

إن قصيدة «أحمد الزعتر» تتجاوز بكيفية ما الشكل الشّعري، وبنيته المتعارفة، معتمدة، كما تراءينا، على إيقاع الحركات والصور، وعلى مسرحة الدراما التي احتاجت صوت الشاعر المحفز لتقدم النص إلى الأمام، لتتماسك الطاقة التركيبية ولتحاول الإمساك بالإدهاش كحدس مكتنه يضفي الملحمي/ الأسطوري. ضمن محاورة رائية تضيء ما غار من الانعكاسات لتنفصل عما أوحت به متصلة بتوتره المتواتر بين الانقطاع ونقائض ذلك الانقطاع. كذلك حاولت أن تركب التنامي ليكون فيضها الآخر، كما حاولت إثقال الفعل الكشفي، لكنها، رغم ذلك، وبدل أن تسقط الإلماع على أبعاده، سقطت في التقريرية والتطويل وكمّ الصور التي تتحلق حول دلالة واحدة، بمعنى أن الشاعر لم يستطع أن يتخلى عن حدود التفجع الغنائي، رغم أنه حاول أن يتخذ محور التوتر، محوراً خلاسياً ليمنح لغته حريتها النزاعة نحو التعدد. نحو اللازمكانية، نحو توليف المتنافر، نحو البياض المختلف وما تنامى منه قزحياً. لذلك وعلى اعتبار أن الانفعال الواحد سيطر على القصيد، فإن الصور لجأت أحياناً إلى النفس الخطابي، الاحتجاجي الذي أدى بانفعالاته، لا، إلى مداهمة الأبعاد وتفتيقها وقطعها، ومعانقتها، بل، أدى إلى تسطيح الدراما:

«ياأيها المتفرجون تناثروا في الصمت
وابتعدوا قليلاً عنه كي تجدوه فيكم».

وأيضاً:

«ياأيها الولد الموزع بين نافذتين».

كما أن المعنى (بأصواته وحركاته، وظلاله، وفضاءاته) بدل استنطاقه الإزاحي، وامتصاصه للتماسية من خلال الكل بالجزء ضمن دينامية تشكيلية تناور صدماتها التقاطعية وتدفق تسربها التراكمي بدل ذلك، أتى المعنى متضمناً الانفعال الحماسي المجسّد بالهروب، وتلوّى برومانسية تذكّر إلى حد بالشعر القديم:

«التجأت إلى نزيفي».

تلك ندوب عميقة خرجت عن الذاكرة الاعتيادية للشعر متحركة كردة فعل طبيعية ولدت شرارتها قصيدة مأخوذة بتجاوز البنية النمطية، القديمة. قصيدة تحشد الومضات الجدلية ضمن موجات تتفجر داخلياً مندغمة بمنتهاها، معبرة عن الوجود والتجريد بحركية الصراع المتحول إلى علاقات تفاعلية، تتوهج بين الذاكرة/ الرؤيا/ الحلم/ والعناصر الأخرى، لتحتل بنية النص، وتعريها كما عرت الواقع، متشكلة بطاقات إزاحية تتجاوز ذاتها، لتتصارع من جديد مع احتمالات البياض والياسمين.

ولأن "محمود درويش" لم يستطع الخروج عن الماضي الشعري، إلا بتراكبية بسيطة بدأت مع "أحمد الزعتر" وامتدت إلى مجموعته "لماذا تركت الحصان وحيداً" فهو لم يدرك الارتقاء الطبيعي للقصيدة العربية التي بدأت تعلو على نفسها، لم يدرك أن الشعر (الشعر الحقيقي المبدع) لايتوقف على/ عند شكل، ولا يمكننا أن نحكم على الشعر من خلال سواده فقط أي من خلال جسده الذي كتب به، وإلا كان حكمنا حتماً ناقصاً. كما فعل شاعرنا "درويش" حين قال:

«أرى أن نصوص قصيدة النثر تحمل ادعاء نظرياً أكثر من تحقق شعري، فقصيدة النثر ليست شعراً ولكني أخاف من ميليشيات قصيدة النثر فهي توحي بالسهولة لمن هم ليسوا بشعراء وأنا أعبر برفضي لقصيدة النثر بأنني أمارس قصيدة التفعيلة فقط. هنالك خلل في مايسمى قصيدة النثر التي يكتبها الشعراء مثل (أنسي الحاج، محمد الماغوط، سركون بولص، وأمجد ناصر، ووليد خازندار وغيرهم). أنا لاأفهم لماذا نفرط بثروتنا الإيقاعية. ومتى كان طموح الشعر أن يصبح نثراً!؟. قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة جنسان مختلفان ولا أعرف لماذا نظل نسميها شعراً. وأنا أدعو كتاب قصيدة النثر أن يخوضوا الصراع نصاً لنص وليس بالتنظير النقدي والدعاية الإعلامية والحملات التشهيرية في المقاهي والنميمة الجارحة. عليهم أن يقدموا نصوصاً أرقى مما تقدمه قصيدة التفعيلة وعليهم ـ باختصار ـ أن يبحثوا عن تسمية أخرى (نثرية) لقصيدة النثر».(2).

لن أتوسع كثيراً في محاورة رأي "درويش" ذلك لأن لكل منا رؤيا وموقف من الحياة، من الوجود ونقيضه، من التجربة الإنسانية والفنية وخاصة منها الشّعريّة كونها مركز نقاشنا. وأضيف لما ذكرت بأن القصيدة الماهوية ـ النهائية لم تكتب بعد. وإنما كل مانفعله ونحترق به ومن أجله، هو سعينا تجاه هذه القصيدة التي ربما نكتبها يوماً وذلك حين نسبق المجهول ونتعالى معه عليه متحدين تماماً بالمطلق وتحولات هذا المطلق. وهذه نتيجة منطقية لشعر يتجاوز مخيلته وصوره الممتلئة بالدهشة والذهول والخلق. وهذا ماسيحدث ذات زمن، ذات موت، ذات أبد أو قيامة، غير جاهلين بأن لاشيء يملك أن يصمد أمام التحول والارتقاء إلى اللاتناهي. ولأن الشّعر لن يتوقف عند تفعيلة محمود درويش أو ينتهي. فإنه سيظل الخلق النافي الخالق. فلو كان الشّعر مجرد تفعيلة لكانت أغلب مقالات الصحف ذات إيقاع "الخبب" شعراً، ولَكُنّا اعتبرنا نثراً أشعار رامبو المترجمة إلى عربيتنا دون تفعيلة، ولَكُنّا اعتبرنا قصيدة "فو" لشاعرها الصيني "لوتشي 303م" لاتنتمي بأي شكل للشعر لأنها نثرية والتي وشى فيها بأجمل توهج للشعراء:

«نحن الشعراء نصارع اللا وجود
لنجبره على أن يمنح وجوداً
ونقرع الصمت
لتجيبنا الموسيقا
إننا نأسر المساحات التي لاحد لها
في قدم مربع من الورق
ونسكب طوفاناً
من القلب الصغير
بقدر بوصة».

بعد هذه اللمحة التي لم أستطع أن أفصلها عن قصيدة "أحمد الزعتر" أعود لأثبت ماتراءاه يوسف سامي اليوسف حول ذات القصيدة:

«ففيما يخص التقنية يمكن القول بأن "أحمد الزعتر" أنموذج للقصيدة التي تتقوم بسبيكة من الشذرات الوقائعية المتمحورة حول انفعال واحد وحول صورة خيالية واحدة يمكن تسميتها الصّورة الأس. أما الانفعال الذي يخدمه الخيال التصويري واللغة الغنائية المركبة فهو الفجيعة، كأنما الشّعر المقاوم لايملك أن يتنفس بغير الفجيعة، إذ الفجيعة هنا تؤسس وتمتد. وأما الصّورة التي يخدمها الخيال التصويري ويعززها بكامل ثقله فهي صورة الصمود أو الرسوخ على الموقف المجابه. وهنا تكمن ثنائية الأساس، فلئن كانت الفاجعة تستوطن جذر الأشياء فإن الصمود يؤسس قاع النفس»(3).

خاتمة، أتساءل: إلى متى يمطر الجرح أوطانه بعيداً عن مدن الرماد، إلى متى تغترب سماءاته في سماءاته.. ونحن نعكس محروق الحلم في شرود البحر؟


كاتبة من سوريا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمود درويش ولد عام 1941 في فلسطين
(1) ـ أستفدنا بطريقة (حرفية) و(تداخلية) من محاورة (محمد لطفي اليوسفي) لقصيدة أحمد الزعتر/ تجليات في بنية الشعر العربي المعاصر/ سراس تونس/ 1985، ص67، وما بعد.
(2) ـ محمود درويش نقلاً عن ملحق الثورة الثقافي عدد/54/ الأحد 23/ 3/ 1997 والمشار فيه إلى أخبار الأدب 7/ 2/ 1997.
(3) ـ الشعر العربي المعاصر، يوسف سامي اليوسف/ منشورات اتحاد الكتاب العرب/ دمشق 1980 ص 260.
ملاحظة: للأمانة أذكر أن محمود درويش غير رأيه مؤخراً بقصيدة النثر معتبراً أن لها إيقاعات مختلفة، وما يهمه فيها هو (الشعر).. فالقصيدة وبأية هيئة، بأيّ شكل، بأيّ إيقاع كانت، إمّا أن تكون شعراً أو لا شعراً.. وهذا ما أعلنه عبر القناة الفضائية (LBC) في برنامج (حوار العمر) يوم الأحد 15/ 7/ 2001.. لاسيّما وأن تجربة الموت الثانية لدرويش أدامه الله قد أنجبت (الجدارية) ذات الجمالية الانبعاثية شعراً وروحاً وجسداً وإيقاعاً وألواناً وبنية تركيبية تتناغم بتمايز الحضور الشعري لذات محمود درويش على صعيد تجربته، وعلى صعيد تجربة الشعر العربية والعالمية أيضاً.