بذرة خضراء جديدة

آخر أُمنيات محمود درويش

توفيق أبوشومر

هل كان الشاعرُ يعرفُ بأن قصدة (لاعب نرد) ستكون قصيدته الأخيرة؟ سؤالٌ دفعني لأن أعيد قراءتها من جديد بعد موت الشاعر بيومين، لأكتشف بأن القصيدة كادت تحوي جُماعَ فلسفته الشعرية، فلسفته في الحياة والعدم، وفلسفته في المعتقدات والمفاهيم، وفلسفته في الأمل والألم، وفي الوراثة والحظ والمصادفة. لقد اكتشفت أن قصيدة «لاعب نرد» ليست ككل القصائد، بل إنها مفتاحٌ أبواب شاعريته ومخزن ذكرياته، وهي القصيدة التي نثرها في كل أشعاره السابقة، ولما خشي من استغلاق الرموز والأحجيات في قصائده السابقة، تركها لنا قبل أن يموت بأيام معدودةٍ مفتاحا، نُفكك به كل رموزه وأحجياته، وعرضها في ست لوحات!

اللوحة الأولى: التسيير
اختار الشاعر قصيدته الأخيرة (لاعب نرد) ليؤكد نظرية التسيير والجبر، فهو يُقرِّرُ فيها بأنه كائنُ مُسيَّرٌ،تحركه مكوكات الحياة على مغازلها، فابتدأها بإنكار صورته وهيولاه تمهيدا للعثور على ذات الشاعر، فهو يبدأ بالعدم لينتهي إلى الوجود، ويبدأ بالمرارة لينتهي بالأمل، فهو وفق فلسفة الإنكار، لا ينتمي إلى أي وجود، وليس ابنا للطبيعة، فهو ليس صخرة صقلتها المياه لتصبح صورتُها الجديدةُ على صورته، وهو في الوقت نفسه ليس وليد عشق الريح للقصب ليصبح نايا، يعزف آلام الرياح:

مَن أنا لأقول لكم
ما أقول لكم؟
وأنا لم أكن حجرا صقلته المياه
فأصبح وجها
ولا قصبا ثُقبِّته الرياحُ
فأصبح نايا

فقد اكتشف الشاعرُ بأن ولادته كذكرٍ ضمن عائلته الصغيرة والكبيرة، كانت بمحض الصدفة والحظ، واكتشف أيضا أن له صفات أسرته وملامحها، وأنه ورث منها جينة عاداتها وأمراضها، خجلَها وتجهمها، كسلَها ومللها، وهو المُسيّر الذي لم يخترْ شيئا من صفاته، فهو كقطعة نقود ألقتْ بها آلةُ الصك إلى الحياة.

وانتميت إلى عائلة مُصادفةً
وورثتُ ملامحًَها والصفاتِ وأمراضَها
خلالا في شرايينها
وضغط دم مرتفعا
خجلا في مخاطبة الأم والأب والجدة والشجرة
فشلا فادحا في الغناء

ها هو الشاعر لا يرى في حياته سوى جينات الألم والبؤس والكآبة،حتى أنه اكتشف الغزلَ مصادفةً، ولم يره أو يتعلمه، لأنه ليس موجودا في جينات أسرته. وأن الصدفة وحدها هي التي أنجتْهُ من موت محقَّق، حين تأخر في ركوب الحافلة التي تحطمت في رحلة مدرسية، ونجا مصادفة من حادث الطائرة لأنه نسي أن يركبها لأنه نؤوم الضحى، وأن الصدفة وحدها هي التي جعلتْه مصابا بجن المعلقات أيضا
فهو إذن ابن الصدفة.

اللوحة الثانية: خيارات الشاعر
يتمنى الشاعرُ في رحلة صدفته أن يختار ثلاثة خيارات، فإما أن يكون زيتونةً، أو خبيرا بمملكة النمل، أو حارسا للصدى. ومن الغريب أن خيارات الشاعر كانتْ مطابقةً لملامحه الموروثة ذاتها، فهل كان يبحث عن مشيئة أخرى غير الصدفة، فيكون هو المُسيِّرَ، لا المُسيَّر؟ فالزيتونةُ هي جينة عائلته الكبيرة والصغيرة، هي رمز الخلود، ووشم الدعة والسلام، وأمل الناجين، وسرمدية البقاء. والزيتونةُ هي عشيقة الأرض، باعثة الأمل والعطاء، حاضنة الحياة. أما خبيرُ مملكة النمل، فهي صفةُ وراثته الثانية، حيثُ يتغلغل كالنمل في جذوره، ويتوحَّد في مملكته ليعطي ملامحه وصفاته لنسله الآتي. أما أمنيته أن يصبح حارسا للصدى، فهي أن يكون ما كان، عازفا على أوتار الزمان البعيد، مغنيا أغاني الرعاة، في وادي عبقر، وشاعرا من شعراء المعلقات.

كان يمكن ألا أكون مُصابا بجنِّ المُعلَّقة الجاهلية
ربما صرتُ زيتونة
أو خبيرا بمملكة النمل
أو حارسا للصدى

ولم تنجُ قصائدُ الشاعر أيضا، من بين أصابع لاعب النرد، فقادته رميةُ نردٍ على رقعةٍ من ظلام، فهي الآسر، وهو الأسير لإرادتها، يمتثل الشاعرُ فقط لإيقاعاتها، فهي أيضا موروثُ جينيُّ من موروثات الشاعر، وما قصائده إلا صوفية الألفاظ، حسيّة المدلول والمعنى:

إن القصيدةَ رميةُ نرد
على رقعة من ظلام
تشعُّ وقد لا تشع
فيهوي الكلام
كريش على الرمل
..........
صوفيةٌ مفرداتي
حسيةٌ رغباتي

أما قصائده صوفيةُ المفردات، حسيةُ الرغبات، فليست سوى لوحةٍ من الشؤم مكتوبة بدمٍ أسود، تشبه الليل حين يعتصره قطرةً قطرة:

هو هذا الذي يكتبُ الآن هذي القصيدة
حرفا فحرفا، ونزفا فنزفا
على هذه الكنبةِ
بدم أسود اللون
لا هو حبرُ الغراب، ولا صوتُه
بل هو الليل معتَصَرا كلَّه
قطرةً قطرة

اللوحة الثالثة: جِينةُ الخوف
ورث الشاعرُ أيضا جيناته الوطنية من أسرته الكبيرة التي تستظل بالمأساة، وتعيش لحظات الرعب والخوف من المجزرة، المجزرة التي شهدها بمحض الصدفة أيضا أمام باب الكنيسة، وكانتْ نجاته أيضا مصادفة، لأنه كان أقل من هدفٍ عسكري، وأكبر من نحلة.

نجوتُ مصادفةً.. كنتُ أصغرَ من هدفٍ عسكريٍّ
وأكبر من نحلة تنتقل بين زهور السياج.

وقد أفقده الخوف ذكرياتِه الصغيرةَ،فهرب من خوفه ليتحول إلى سنونوة تدور حول بقاياه التى يحيا بها محلقا في سماء الوطن، ناعيا حظَّه المشؤوم في تحليقه الأزلي فوق جيناته القدرية الموروثة التي يتعذب بها كما سيزيف حاملا الصخرة إلى الأبد.

مشى الخوفُ بي، ومشيتُ به حافيا
ناسيا ذكرياتي الصغيرة
فصرتُ مجازَ سنونوةٍ لأحلِّقَ فوق حُطامي
ربيعا خريفا
أعمِّدُ ريشي بغيم البحيرة
ثم أُطيلُ سلامي على الناصريِّ الذي لا يموت
لأن به نفسَ الله
..........
من سوء حظي أن الصليب
هو السلم الأزلي إلى غدنا.

اللوحة الرابعة: خطيئة الشهرة
وما الشهرةُ والتربُّع على العرش عند الشاعر سوى الهاوية، بما تحمله الهاوية من عُزلة واعتزال، فهو أسير شهرته، وطريدُ نبوغه، يُسيِّره الآخرون بهما، فيحسُّ بالعجز عن الطيران، فهو إن مشى فوق قمته التي صنعها الآخرون له، فإنه يمشي بلا قدمين، وإن طار، فإنه يطيرُ بلا جناحين، فالقمة عنده في هذه الحالة تساوي بالضبط الهاوية.

فيالكِ من قمةٍ
تُشبه الهاوية

اللوحة الخامسة: التفكيك
وما الشاعرُ بصولجانه سوى صورةٍ أخرى من صور الفتى الأسطوري نرسيس، الذي غوى صورته وعشقها عندما أطال النظر في مرآة ذاته، وظل الفتى نرسيس يحملق في صورته المعكوسة فوق الماء إلى أن نبتت في المكان زهرةٌ تشبهه في خُيلائها، هي زهرةُ النرجس. ولم يكن نرسيس وزهرة النرجس، سوى مخلوقٍ صنعه الناسُ، وابتدعوه، ليجمِّلوا به خيالهم ويضعوه بروازا في بيوتهم،حتى ولو كان الثمنُ أن يشنقوا جمال الفتى الأسطوري إلى ألأبد. وفكك الشاعرُ أسطورية نرسيس مرة أخرى، كما أعتاد أن يفكك كل أنماط الآلهة، وفق نظريته، في أن البشر هم الذين يصنعون الآلهة والأساطير، على الرغم من أنها ترفض أن تكون آلهة وأسطورة. فلو رأى نرسيس صورةً أخرى في المرآة لأحبها وتنازل عن أسطوريته.

وهو يفكك الصُّدْفةُ والحظُّ، فليسا هما سوى مجموعة من الأساطير المبثوثة في ثنايا الحياة، فالصدفة هي حدّاد القّدّر، وساعي بريد السماء، ونجار تخت الوليد، ونعش الفقيد، وخادمُ آلهة في أساطير، وليست تلك الآلهة سوى إحدى إبداعات البشر، غير أن الآلهة تحولوا إلى أساطير، بفعل الباعة والمتاجرين. وما أصحاب القمم والآلهة كلهم عند الشاعر سوى عبيدٍ لأسطوريتهم،

نرسيسُ ليس جميلا، كما ظنَّ
لكنّ صُنَّاعَهُ ورّطوه بمرآته
فأطال تأمله، في الهواء المقطر بالماء
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تُحملقُ فيه
ولو كان حُرّا، لما صار أسطورة.

وهكذا لا يقتصر أسلوب تفكيك السائد والمعتاد والمقدس على الآلهة والأساطير، بل إن الشاعر طبَّق نظريته ذاتها على الأوطان ذات المزارات والآثار، التي يقتتل أهلها على قداستها، لأن نبيا مشى بالصدفةِ في تضاريسها، فغدتْ من يومها مِلكا لأتباعه، بعد أن أصبحت خريطتها الجغرافية على شكل صورة قدم. كما أن بلادا أخرى ضحَّتْ بتضاريسها، لا لأجل قدمِ نبي مشى فوق تُرابها، بل لأنها تحتوى على قبور جنودٍ ماتوا فوقها مضحين بأرواحهم، لأجل القادة، المغرمين بالغنائم، حتى ولو كانت أثمان الغنائم أكواما من الأجساد وأنهارا من الدماء.

ومصادفةً صارتْ الأرضُ مقدسة
لا لأن بحيراتها وربَاها وأشجارها
نسخةٌ من فراديسَ علويةٍ
بل لأن نبيا تمشَّى هناك
وصلّى على صخرة فبكتْ
وهوى التلُّ من خشية الله، مغمىً عليه!
..........
ومصادفة صار منحدرُ الحقل في بلد
متحفا للهباء
لأن ألوفا من الجند ماتت هناك
من الجالسين دفاعا عن القائدَيْن
اللذين يقولان هيّا، وينتظران الغنائم في خيمتين
حريريتين من الجهتين.
يموتُ الجنودُ مرارا ولا يعلمون
إلى الآن مَن كان منتصرا؟!.

ويواصل الشاعر تفكيك الأساطير المعتادة، فالسرابُ أيضا، ليس خدعةً وتضليلا للمسافر الظمآن، كما جاء في الروايات والأقاصيص والأمثال المأثورة، بل هو حافزٌ للحياة، وباعثٌ للأمل وشاحذٌ للإبداع:

لولا السرابُ
لما كنتُ حيّا إلى الآن.

اللوحة السادسة: الأمل
يُفاجئنا الشاعر في آخر القصيدة "المفتاح" بأنه يخلعُ ريشَ الغراب، ودمَ الليل الأسود، ويلبس بياض النهار ولون الحاضر من جديد، ليبعث في نفوسنا الأمل، من الألم، والصباح من الجراح، ويرتدي زيّ الشاعر المهجري إيليا أبي ماضي حين قال:

أيها الشاكي وما بك داءٌ
كيف تغدو إذا غدوتَ عليلا؟
وترى الشوك في الورود وتعمى
أن ترى الندى فوقها إكليلا!
فيقول:
حين تبدو السماءُ رماديةً
وأرى وردةً نتأتْ فجأةً
من شقوق جدار
لا أقولُ: السماءُ رمادية
بل أُطيلُ التفرُّس في وردة
وأقول لها، يا لَهُ من نهار!

ويأبى الشاعر أيضا قبل وفاته بعشر دقائق، بعد أن ينادي طبيبه ليكتب وصيته الأخيرة، إلا أن يفاجئنا بأن دقائقه العشرة الأخيرة تكفي ليغني آخر أغنياته، ويُخيِّب ظنّ العدم. وليست أغنيته الأخيرة سوى أغنية الاخضرار والأمل والبعث من جديد في صورة بذرة خضراءَ جديدة.

فأنادي الطبيب، قبل الوفاة بعشر دقائق
عشرُ دقائق تكفي لأحيا مُصادفة
وأخيّبَ ظنَّ العدم!
..........
أحبكِ خضراءَ
يا أرضُ... خضراءَ تُفَّاحةً
تتموج في الضوء والماء خضراءَ
ليلُكِ أخضر
فجرُك أخضر
فلتزرعيني برفق
برفق يد الأم في حفنةٍ من هواء
أنا بذرةٌ من بذورك خضراء!.