لا أحد يندم على الحرية

محمود درويش في اللغة الهولاندية

بنعيسى بوحمالة

سينزل إلى السوق الثقافية الفلامانية والهولاندية في بحر نونبر الجاري، تزامنا مع افتتاح معرض أنتويربّ للكتاب ببلجيكا، ديوان "ورد أقلّ" للشاعر الفلسطيني محمود درويش، مرفقا ببعض القصائد من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا"، مترجما إلى اللغة الهولاندية من طرف الشاعر البلجيكي جيرمان دروغنبرودت، وذلك في طبعة أنيقة لمنشورات "بّوان" تضمّ الأصل العربي للقصائد ومقابله باللغة الهولاندية وتقع في مائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط. لوحة الغلاف للرسام الفلسطيني إسماعيل شمّوط أمّا مقدمة الترجمة فهي من توقيع الناقد المغربي بنعيسى بوحمالة.

ولد جيرمان دروغنبرودت عام 1944 ببلدة روليغيم الواقعة في مقاطعة فلاندر الغربية ببلجيكا ويقيم في ريف مدينة ألكانتي الإسبانية منذ عام 1987. يعدّ من ألمع الشعراء الأروبيين المعاصرين وأحد المبرّزين في كتابة قصيدة النثر في معياريتها الخلاّقة التي توائم، دونما اختلال يذكر، بين مشترط التكثيف العالي واقتضاء المجازية المفتوحة.. تأثر، عميق التأثّر، بمعتقدات الشرق الأقصى، كالبوذية والهندوكية والطاوية والزّن، وبالتصوف الإسلامي، جلال الدين الرومي بخاصة، تأثّره بالشعريات اليابانية، قصيدة الهايكو وقصيدة التانكا، والصينية، قصيدة الشّي، والكورية والهندية.. كما تدين مخيّلته بالكثير للآفاق الشعرية والروحية المذهلة التي اجترحتها نصوص شعراء مرموقين من عيار الإسبانيين ميغيل هرنانديث وخوصي آنخيل بالنطي والإيراني سوهراب سيبّيهري.. يكتب الشعر باللغات الفلامانية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والكاتالانية.. ومن دواوينه الأساسية: "الأربعون" 1984، "غيبة محسوسة" 1993، "هل تعرف البلد؟" 1995، "محاورة مع الماوراء" 1997، "الطريق" 1998، الذي كتبه في الهند ساعيا إلى استبطان جوهر الروحية الشرقية واستثمار تداعياتها و إشارياتها المتراكبة، وقد ترجم إلى اثنتي عشرة لغة، منها الصينية التي نقله إليها الشاعر الذائع الصيت بي ضاو والعربية التي نقله إليها الشاعر الحداثي المعروف فؤاد رفقة، و "فجر المغني" (بدون تاريخ) الذي ترجم هو الآخر إلى عدة لغات منها الفرنسية التي ترجمه إليها الشاعر جاك آنصي والعربية التي ترجمه إليها الناقد بنعيسى بوحمالة، أمّا آخر إصدار شعري له فهو "نور مضادّ" 2004، الذي هو بمثابة قدح شعري مبطّن للانهيار الأخلاقي والسياسي والإعلامي الذريع الذي يحياه الغرب، وقد ترجم بدوره من اللغة الإسبانية التي كتب بها في الأصل إلى لغات منها الإنجليزية والهولاندية والرومانية والعربية، التي نقله إليها المترجم المغربي شراطي الرداد، كما توّجته جامعة أوفيديوس الرومانية كأفضل عمل شعري أجنبي خلال الدورة الأخيرة لمعرض الكتاب برومانيا، هذا فضلا عن ترشيحه لجائزة بوكينكس التي سبق وأن نالها الشاعر.

إلى جانب الكتابة الشعرية سيعرف جيرمان دروغنبرودت بترجماته الحصيفة والموفّقة لتجارب وأعمال نوعية في الشعر العالمي، ويكفينا أن نلمع إلى نقولاته السديدة لأشعار راينر كونز، ميغيل هرنانديث، وخوصي آنخيل بالنطي.. وكذا وضعه لأنطولوجيات للشعر البلجيكي، المكتوب بالفرنسية، والألماني والنمساوي والإسباني والكاتالاني والمكسيكي والصيني والكوري والياباني (أصدر منذ عامين أنطولوجيا تضم مختارات من متون شعراء الهايكو اليابانيين الكبار: باثيو، بوسون، إيسّا، شيكي). وبالمناسبة سيعرض له معرض أنتويربّ في دورته لهذا العام، بالإضافة إلى ترجمته لأشعار محمود درويش، عملين آخرين أحدهما عبارة عن ترجمة إلى الهولاندية لقصائد مختارة من دواوين الشاعر الروسي غينادي آيغي بينما يتعلق الآخر بترجمة، إلى نفس اللغة دائما، لقصائد بعينها من الآثار الشعرية للشاعر الإغريقي الشهير يانيس ريتسوس. تبقى الإشارة إلى أن الشاعر يشرف على مجلة "بّوان" للشعر المعاصر، والتي تصدر في طبعتين واحدة إسبانية وأخرى بلجيكية، مثلما يدير موقعا شعريا شخصيا على شبكة الإنترنيت.

لقد قرّ نظره على ترجمة ديوان "ورد أقلّ" بالذات لأنه يشكّل، فيما يرى، منجزا مفصليا في تجربة محمود درويش الشعرية من نواته الأدائية والتعبيرية والتخييلية الصلبة سوف تتفتّق، في رحاب تجربته، جملة شعرية مستجدة أصلب وأبلغ من جملة بداياته الشعرية، سيمثّل لها بعيّنة قصائد سيترجمها من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا". وإذ اطّلع على الترجمتين الألمانية والإسبانية لـ "ورد أقلّ" ألفى الأولى مغرقة في صرامتها اللغوية، متقشفة فوق اللزوم، بينما الثانية مندفعة في معجميتها واستعاريتها سواء بسواء عنّ له أن ينجز ترجمة بديلة تتلافى سلبيات الترجمتين لكن مع الاستئناس، بهذا القدر أو ذاك، بإيجابياتهما. على أيّ وسيّان تعلق الأمر بترجمته، سابقا، لأحد دواوين فؤاد رفقة، أو بترجمته الحالية لديوان محمود درويش فإن هذه الالتفاتة الدالة من لدن جيرمان دروغنبرودت نحو أسماء وأعمال شعرية عربية لهي بمثابة احتفاء رمزي بالثقافة العربية ككلّ التي لا يكفّ عن الإشادة بها وتثمين أدوارها في عالم لا غنى له عن الولاء لقيم الاختلاف والتسامح والتبادل. وفيما يلي نصّ المقدمة ـ الدراسة التي أعدّها الناقد بنعيسى بوحمالة خصّيصا لهذه الترجمة: 

لا أحد يندم على الحرية (*)

بنعيسى بوحمالة

ـ1ـ
ولد محمود درويش يوم 13 مارس 1942 بقرية البروة الواقعة في الجليل. هاجر مع بعض أفراد أسرته إلى بيروت على إثر الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 وتعرضت أسرته إلى مصادرة كافة أراضيها. التحق عام 1949، في بيروت، بالمدرسة الابتدائية إلا أنه ما لبث أن عاد متسللا إلى وطنه وهناك أتم دراسته الابتدائية. التحق بالتعليم الثانوي عام 1955 وهو العام الذي نشر فيه شعرا لأول مرة.

حصل على الباكالوريا عام 1960 وعمل مباشرة في الصحافة. تعرض للسجن عشرات المرات ابتداء من عام 1961 وللإقامة الإجبارية عام 1967. غادر فلسطين مضطرا عام 1970 إلى موسكو وفي عام 1971 سوف يرحل إلى مصر ويعمل بجريدة "الأهرام". انتقل إلى لبنان عام 1973 فكان ارتباطه أكثر بمنظمة التحرير الفلسطينية وبالصراعات السياسية والإيديولوجية كما بالحركة الشعرية. أسس عام 1981 مجلة "الكرمل" الأدبية. أقام في تونس ثم باريس وهو يعيش اليوم برام الله في فلسطين.

تعرف محمود درويش على الآداب العالمية، خاصة أعمال برتولد بر يخت وألكساندر بوشكين وفلاديمير مايا كوفسكي وفدير يكو غارسيا لوركا... المترجمين إلى اللغة العبرية التي يتقنها، ثم اتسعت معرفته، لاحقا، بحركة الشعر العالمية من خلال اللغة الإنجليزية. من إصداراته الشعرية: "عصافير بلا أجنحة" فلسطين 1960, "عاشق من فلسطين" فلسطين 1960، "حبيبتي تنهض من نومها" بيروت 1969، "أحبك أو لا أحبك" ـ بيروت 1972، "مديح الظل العالي" تونس 1983، "ورد أقلّ" الدار البيضاء 1986، "لماذا تركت الحصان وحيدا" بيروت ـ لندن 1995، "سرير الغريبة" بيروت 1999، "جدارية" ـ بيروت 2000، "لا تعتذر عما فعلت" ـ بيروت 2004، "الأعمال الكاملة" بيروت 1971، وقد صدرت منه طبعات عدة. ترجم شعره إلى الكثير من اللغات، كما نال جوائز تقديرية عربية وعالمية منها جائزة سلطان العويس ( الإمارات العربية المتحدة)، جائزة لينين للسلام ( الإتحاد السوفياتي)، وجائزة الأمير كلاوس ( هولندة).

ـ2ـ
إننا بإزاء شاعر لا يتوقف عن تجديد أدائه الشعري وموضوعه الشعري كليهما مستشرفا هكذا، وعبر كل ديوان جديد، آفاقا شعرية مبتكرة ومكتسبا، بالتالي، مراسا أكثر بممكنات القصيدة ومفاعيلها السحرية سواء داخل فضائها اللغوي والثقافي المحصور أو على الصعيد الإنساني الأشمل، ولأنه كذالك فهو يمثل، إلى جانب السوري علي أحمد سعيد (أدونيس)، والعراقي سعدي يوسف، رأس الحربة في الشعرية العربية المعاصرة، مبيعات دواوينه غالبا ما تحقق أرقاما قياسية أما قراءاته الشعرية، هنا وهناك في الأركان الأربعة للمعمورة، فترتقي إلى مرتبة الحدث الثقافي والإعلامي الاستثنائي وذالك بفضل نبرته الإنشادية الجاذبة التي تذكرنا بسلالة كبار المنشدين في مختلف الثقافات الشعرية الإنسانية: العربي الكلاسيكي أبو الطيب المتنبي، والروسي يفغيني يفتشنكو، والأمريكي ألان غينسبرغ، والفرنسي سيرج بّي..هل نقول لربّما كان من حسن طالعه أنه فلسطيني وإلاّ لما كان لاسمه هذا الحضور القوي في الوسطين الثقافي والجماهيري سواء بسواء؛ لعل هذا المأزق هو ما سيجعله يصيح ذات مرة قائلا: "انقذونا من هذا الحب القاسي" طالبا من المثقفين والإعلاميين وعموم القراء تقييم قصائده وقصائد زملائه الفلسطينيين: سميح القاسم، عز الدين المناصرة، مريد البرغوثي، أحمد دحبور.. بعيدا ما أمكن عن انفعالاتهم، المشروعة على أية حال، بالمأساة الفلسطينية، أن يتعاملوا معها بنصيب من الموضوعية، والصرامة في آن معا، لأنه يرفض أن يتقاعس شعريا بدعوى التزامه بقضية شعبه وأن تصبح هذه الأخيرة معيار الحكم على شعره.. "لست مراسلا حربيا للقضية الفلسطينية!" هكذا صرح مرة أخرى ملحّا على ضرورة التمييز بين هويته الفلسطينية وهويته الشعرية. إذن والشاعر يتمسك بهذه القناعة فإنما هو يسعى إلى التخفيف من سطوة صورة شاعر المقاومة الفلسطينية التي وضّبها له المتخيّل الثقافي والإعلامي العربي خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، أي من إغراء أسطورة شاعر الأرض المحتلة الذي سيأخذ بزمام خرجته الشخصية، لا كما خرجة موسى الجماعية في العهد القديم، من مسقط الرأس، الأرضي والرمزي، "البروة"، الناعسة على مرمى حجر من عكا، ياقوتة أرض كنعان، إلى أين؟ إلى مصر المحروسة مرورا بموسكو، إلى، ويا للمفارقة، من حيث خرج موسى منذ قرون ببشر مضطهدين ـ بفتح الهاء ـ لن يتأخر التاريخ، تاريخهم، عن أن يلقي في بالهم الجمعي ألاّ ضير في أن ينقلبوا بدورهم إلى مضطهدين ـ بكسر الهاء ـ ويسلوا مزاجهم المرهق، من مشقة الرحيل، باضطهاد ذرية كنعان مستخدمين آخر تكنولوجيا التطهير العرقي والثقافي، هناك في أرض الرب الموعودة! قبل خرجة الشاعر الشخصية الدالة، بمعنى والشاعر في اللب من الرزء الوطني الباكر لم تكن القضية الفلسطينية أبدا، على نحو ما عن لتفكير جان بول سارتر الشقي في وقت من الأوقات، قضية اصطراع بين عدالتين متكافئتين وإنما كانت بالأحرى، ولا تزال كذلك، قضية تنازع بين مضطهد ـ بكسر الهاء ـ ومضطهد ـ بفتح الهاء ـ ففي بدايات الشاعر، وفي غضون توضّع كياني جماعي عنوانه الناظم هو الاضطهاد، سوف لن يكون عصيا، إذن، على وعيه، وعي الشاعر/ الفتى آنذاك، أن يدرك من الفور ما تحوجه قصيدة البدايات على وجه الإجمال، فالأولوية هي، إن سياسيا أو أخلاقيا، للشاغل الوطني، لأرض مصادرة، لهوية قيد التلاشي، لآلام الشتات، لأشواق العودة إلى الرّحم الكونية الأولى.. أما التأنق الجمالي فلا غضاضة في إرجاء أمره إلى حين. في هذا السياق ستتخلّق، إن شئنا، دواوين الشاعر الأولى، فالوطن جغرافيا متعّينة في جهة معلومة من الكرة الأرضية وليس جسما طائشا في الهباء، ولأن الأمر كذلك فستوطّن القصيدة نفسها، في هذا الطور من مساره الشعري، على تعضيد تعالق الشعري مع الأرضي، الهوياتي، والذاكري.

فالمفردة الشعرية كانت مدعوة بقوة الأشياء، شأنها شأن الخيال والرؤيا الشعريين، إلى التجذّر في التربة الأولى والاحتفاء ببلاغة بيّارات البرتقال وحقول الزيتون وكروم العنب..كانت مطالبة بصيانة رمزية مدائن الخليل، الناصرة، بيت لحم، والقدس، وتهجية هامات الأنبياء والكهان والحكماء والحالمين والمحاربين الكنعانيين القدامى العظام..كانت منذورة لتمجيد مرقد إبراهيم، كنيسة القيامة، وزقاق الجلجلة.. وحدج القوامات الباذخة للجدّات السحيقات بنظرتها الرؤوم..وبتعبير رديف كانت ملزمة بالمناورة بين حدّي الطبيعي والتاريخي، الواقعي والأسطوري، الدنيوي والقدسي، مسترفدة، في هذا المنحنى، الميثولوجيا الكنعانية والمحكي الإنجيلي..بإدمان استذكار أمومة رمزية وحدها الأنا الشعرية من تدرك فداحة افتقادها وتشمّم نكهة قهوة صنعتها يدا أم ليس مثلها سائر الأمهات، نكهة لا تتوانى عن تبديدها النكهات المتشابهة لمرطّبات/ منغصات مقاهي المنافي الباردة.

لقد كان على المفردة الشعرية، ومعها الخيال والرؤيا، أن تركز نشاطيّتها، بأثر من جسامة النكبة، على تفعيل استراتيجية متماسكة لنوستالجيا كيانية وروحية إلى مسقط رأس أرضي ورمزي غير قابل للنسيان موازاة مع هبة شبيبة فلسطين حانقة لاستعادة جدارة وطنية آن لها أن تستعاد. وإذ هي، أي المفردة الشعرية، تحرّض الجموع الفلسطينية وتؤازرها، تبشّرها ببزوغ فجر الحرية وتنبئها بغدها الكريم، إنها وهي تفعل هذا كانت تستبصر، عمقيا، طلعة بعل، إله الخصب الكنعاني، من العتمات، وذلك بتصميم من عناة، أفروديت الكنعانية، على هيئة زرع وثمار ونضارة، بما هي المضارع المجازي لحياة حرة كريمة والرؤياوي لانبعاث تاريخي يعقب زمنا من الانطماس.

ـ3ـ
أما وقد نضجت خبرات الشاعر بالوجود والتاريخ مثلما ارتقت مداركه الشعرية والثقافية فقد آن الأوان لمراعاة عنصر التأنق الجمالي الذي تم إرجاؤه، كما ذكرنا، إلى حين، واتخاذه حاجة حيوية في القصيدة لا تشطّب على الحاجة النضالية بقدر ما تمنحها أفقا تعبيريا وأسلوبيا وتخييليا وترميزيا أكثر انفتاحا وثراء. ومن هنا فما من شك في أن دواوين الطور الثاني من مساره الشعري، مثل "حصار لمدائح البحر"، "هي أغنية هي أغنية"، "ورد أقل"، "أرى ما أريد"... وبصفة أخص الدواوين المتأخرة في هذا الطور، مثل "أحد عشر كوكبا"، "لماذا تركت الحصان وحيدا"، "سرير الغريبة"، "جدارية"، "لا تعتذر عما فعلت"، لتؤكد أن شاعرا من طرازه بمقدوره أن يستجيب لمشترطات الكتابة الشعرية الأصيلة والمقنعة وذلك من غير أن يتنصّل، ولو بمقدار درّة، من اعتناقه لنكبة شعبه وموالاته لتداعياتها المأساوية.

ففي ديوان "ورد أقلّ"، وبدءا من حمولة العنوان ينبسط للتو الفضاء الدلالي والرمزي الذي تنسجه قصائد الديوان، بمعنى أننا في صميم من الجرح الفلسطيني، في القلب من محنة شعب يندر في معيشة الورد، قرينة الجمال والسلم والبهجة، ويكثر الرصاص، قرينة العنف والدم والمأتمية. إن ذات العناصر والتلوينات التي نجدها في دواوين سابقة للشاعر تستعاد لمرة أخرى في هذه التجربة، كالأرض والزمن والتّيه والذاكرة والحلم والأمل..لكن في إطار اقتصاد شعري مركب قوامه جملة شعرية مقتضبة ذات قابلية للتدوير الإيقاعي، جملة شعرية تومىء أكثر مما تحكي، تتلفظ بها أنا شعرية قد تتقنّع بقناع النبي يوسف،ضحية تآمر إخوته، تغشى اللحظة الفادحة لعشاء أخير، تستجير بمريم، الأم الرمزية الاستثنائية، تتماهى مع زمن إغريقي متعال مجراه بين هشاشة البطولة ومأساويته (أخيل) وجبروت مخيلة تفصل للبشر توضّعات ومصائر وفقا لمشيئة أرباب الأولمب ( إسخيليوس)، أنا شعرية آخذة بزمام ارتحالها في جغرافيا مديدة تبدأ بالشام وتنتهي باليمن مرورا بسومر، تنوء بغصّة ضياع قرطبة، التماعة الضوء الحضارية في سديم العالم وظلامه، لكن وجهتها المسطّرة هي فلسطين، لا بقعة غيرها، حقا:

هنالك ليل أشدّ سوادا... هناك ورد أقلّ.
ولكنني سأتابع مجرى النشيد، ولو أن وردي أقلّ.
ـ "هنالك ليل".
أمّا لماذا متابعة مجرى النشيد ذاك رغم قلة الورد فلأن:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيّدة
الأرض، أمّ البدايات أمّ النهايات. كانت تسمّى فلسطين. صارت تسمّى
فلسطين. سيّدتي: أستحق الحياة، لأنك سيّدتي، أستحق الحياة.
ـ "على هذه الأرض".

وإذن يتعلق الأمر بارتحال من أرض إلى أخرى هي نفسها والعكوف، بمنتهى المحبة والامتلاء، على تعميدها من جديد، على منحها تسمية شعرية أكثر منها تاريخيه، تعّينها، تخصصّها، وتنتشلها، بالتالي، من بين فكّي كمّاشة اللامعنى والنسيان, أو لم تكن هذه هي الوظيفة التي ارتآها بول سيلان للشعر؛ تسمية الذوات والحقائق والأشياء.. مثلما ارتآها له مارتن هايدغر معتبرا أن الفن، ومنه الشعر، هو أداة تجوهر الموجودات وانبثاقها ضدّا على قوى الممانعة والإبطال؟

"ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة"، كذا سيقول الشاعر مقارنا بين رحابة الحلم الشعري وضيق التفكير السياسي. فأن يسارع القادة السياسيون الفلسطينيون إلى استلام جزء ضئيل من أرضهم المغتصبة، نتيجة اتفاقات أوسلو التي ستباركها تلك المصافحة التاريخية التي شهدتها حديقة البيت الأبيض بواشنطن صيف 1993، والقبول بامتيازات سياديّة مقزّمة فهذا ممّا ينسجم مع التفكير السياسي الذي يستحكم فيه الوازع البراغماتي وليس الطوباويات الإيديولوجية، لكن بالنسبة إليه، بوصفه مواطنا شعريا قبل كونه مواطنا دنيويا، فإن الحذر والتّرقب، في منقلب تاريخي داهم الفلسطينيين أنفسهم فأحرى الآخرين، أمر جدّ طبيعي، هو من قضى سني عمره حالما بفلسطين متعالية، موصولة بالذاكرة، يرسم خارطتها المجاز لا المسوّدات التفاوضية، كان محتّما عليه أن يتريث، بل وأن يماطل هاجس العودة إلى مسقط الرأس، ولو أن "لا أحد يندم على الحرية"، كما قال عقب اتفاقات أوسلو، ذلك أنه مملوك لحلمه وليس فقط لانتظارات شعبه القريبة المدى، أو لنقل إن كانت السياسة في غير ما حاجة إلى إفلات الفرص والإخلاف بالمواعيد التاريخية فإن القصيدة، على العكس من ذلك، ليست في عجلة من أمرها.

من هنا سوف تتخذ تجربة ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" شكل حوار بين أب وابنه، بين إنسان عاش تصاريف النكبة التي اقتلعت شعبا من أرضه والطفل المقيم في ذاكرة الأنا الشعرية، حوار حول الشجرة التي كانت هنا.. العصافير التي كانت هناك.. الدار التي كانت هنا.. الجيران الذين كانوا هناك.. حول الحيوانات والصداقات والمباهج.. حول الروائح والمشاهد والأصوات.. التي تؤثث وطنا ذاكريا لم يعد قائما الآن. وفي غضون هذا الحوار الاسترجاعي الموجع لا يني يتنامى قدح شعري مبطّن وأليم للتدحرج المباغت، المريع، الذي تحياه أيّما ثورة وطنية، فيأتي على طلاقتها ويغتال ما فيها من اندفاع وتوثب، بل وشاعرية. فقد انتقلت القضية الفلسطينية من صعيد الماهية الثورية إلى صعيد الكيان المؤسّسي المتعقّل لذا فإن انتصار الشاعر للحصان الوحيد، المتروك لمصيره الكابي، إن هو إلاّ انتصار شعري لثورة واعدة اختار صانعوها، على حين غرّة، الاستراحة من وعثاء حرب أبدية لا تنتهي ونفض أيديهم من غد بعيد المنال، تماما كما ترك الأب، ذات زمن، الحصان وشأنه في وطن سيغدو عرضة لموت كاسح ماعدا في ذاكرة طفل سيصرّ، وقد كبر، على استعادته حيّا لا ميّتا، معافى غير منقوص:

لماذا تركت الحصان وحيدا؟
لكي يؤنس البيت، يا ولدي،
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها.
ـ "أبد الصّبار".

وإذا كان من حق الثوار ـ الفرسان أن يستريحوا، ومن حق أب ـ جيل أن يتعب فيترك الحصان لمصيره الكابي، كما قلنا، فالظاهر أن في جعبة الأنا الشعرية بقية من عزيمة، من معاندة، كيما توالي مسيرها الشّاق، اللانهائي، صوب وطن مستحيل تبنيه القصيدة، وطن ينبلج من ثرى الذاكرة لا من مداد المسوّدات التفاوضية:

ـ يا أبي، هل تعبت
أرى عرقا في عيونك؟
ـ يا ابني تعبت... أتحملني؟
ـ مثلما كنت تحملني يا أبي،
وسأحمل هذا الحنين
إلى
أوّلي وإلى أوّله
وسأقطع هذا الطريق إلى
آخري... وإلى آخره!
ـ "إلى آخري وإلى آخره...".

ـ4ـ
ولو أنه غير ممسوس مباشرة بالمأساة الفلسطينية فإن الشاعر الصيني بيي ضاو، المقيم في أمريكا، لن يقوى على كظم انفعالاته الشعرية وهو يزور، في ربيع عام 2002، ضمن وفد البرلمان العالمي للكتّاب الذي ضمّ البرتغالي خوسي ساراماغو و الإسباني خوان غويتيسولّو والفرنسي كريستيان سالومون والأمريكي راسل بانكس والنيجيري وول سوينكا والجنوب إفريقي بريتن برينتنباخ، مدينة رام الله المحاصرة من طرف القوات الإسرائيلية تضامنا مع محمود درويش، بل ومع شعب برمّته، فكان أن كتب قصيدته العميقة والجارحة "رام الله" التي منها:

في رام الله
تشرب الآلهة الماء في جرّة من خزف
قوس يسأل وترا عن الجهات
طفل يخرج ليرث المحيط
من حافّة السماء.

إذا كانت هذه حال شاعر قادم من بعيد يقوده حسّه الإنساني لا غير فما بالنا بمحمود درويش الابن الشرعي لحصار مطبق يعاني منه شعب منذ ما يزيد على نصف قرن والذي سيؤرّخ للحظاته القاسية بقصائد ستمسي علامات فارقة في المشهد الشعري العربي المعاصر، كقصيدة "حالة حصار" التي تقوم فيها المفردة الشعرية مقام درع خرافي يحمي شعبا أعزل من همجية عمياء تتعكّز على زمجرة دبّابات الميركافا وأزيز حوّامات الأبّاتشي! أو قصيدة "طباق" التي يرثي فيها صديقه المفكر الفلسطيني ـ الأمريكي إدوارد سعيد و يرثي معه هوية جمعية عرضة للتدمير.

إن فلسطين لهي، بالنسبة إليه، طروادة الزمن الحديث، لذلك لن نستغرب أن يعتبر نفسه شاعرا طرواديا، ضمن الشريط الوثائقي "محمود درويش: حيث الأرض هي اللغة" (1998) الذي أنجزته السينمائية المغربية ـ الفرنسية سيمون بيتون، فما نعرفه هو الرواية الإغريقية لتلك الحرب الضّروس، هو أمجاد المنتصرين: أغاممنون، مينيلاوس، عوليس، أخيل، أجاكس.. التي خلّدها هوميروس، و، بالتالي، فنحن لا نملك حقيقة هكتور، بّاريس، إينياس.. لأن "طروادة لم ترو حكايتها" كما يؤكد، في حواره مع الشابة الإسرائيلية أولغا برودسكي المتعاطفة مع الفلسطينيين، في الفيلم الوثائقي ـ الخيالي الكبير "موسيقانا" (2004) للمخرج الفرنسي ـ السويسري الطليعي جان ـ لوك غودار، الذي سيسند إليه، رفقة خوان غويتيسولّو، دورا بارزا يؤديه داخل أنقاض المكتبة الوطنية لسراييفو، طروادة الأخرى.. أليس كذلك؟

هذه إذن قسمات الشاعر العربي الذي ينقل جانبا من منجزه الشعري إلى اللغة الهولاندية الشاعر المحنّك جيرمان دروغنبرودت، وكأنّما هو يردّ بهذا الصنيع دينا لأن القراء العرب أتيح لهم أن يتمتّعوا بكتابته الشعرية ولو من خلال ديوان "الطريق"، الذي نقله إلى اللغة العربية الشاعر الحداثي الكبير فؤاد رفقة، وقصيدة ـ ديوان "فجر المغني"، الذي ترجمه كاتب هذه السطور.

حقا إن ترجمة الشعر لهي خيانة، مثلما يقول المثل الإيطالي الشهير، أو لنقل "إن الشعر هو ما يضيع في تضاعيف الترجمات" وذلك وفقا لما قاله الشاعر الأمريكي روبرت فروست، الأثير لدى جيرمان دروغنبرودت، لكن ما يضمن نجاح هذه الترجمة الشعرية من لغة ثقافة أعطت أسماء فكرية وإبداعية كبرى كالفيلسوف ابن رشد، والشاعر أبي الطيب المتنبي، والروائي نجيب محفوظ.. إلى أخرى اقترنت بأسماء من نفس الوزن والأهمية كالفيلسوف سبّينوزا، والرسامين رامبرانت وفان غوغ.. هو أن من يتولّى أمرها شاعر على قدر من العمق والحساسية مثلما هو مترجم محترف، خبير بشتى الآفاق الشعرية واللغوية.

ناقد من المغرب
المصدر: جهة الشعر