الوقوف على حافة الصّمت

قراءة في أدب محمود درويش

محمّد الغزّي

أوّل ما يبادهنا في قصيدة الشاعر محمود درويش قدرتُها على التحوّل والتطوّر. فهذه القصيدة ما فتئتْ ترتدّ على نفسها تنتهكُ القوانين التي تسنها، وتنقض المواثيق التي تبرمها، وتتركنا عزلاً نبحث عن وجوه التأويل والمناسبة، ونقلب في إشفاق أدواتنا النقدية. فدرويش، مثلما أشرتُ في دراسة سابقة، ظلّ يسيرُ ماحياً آثار خُطاهُ، ما يكتبه يعودُ عليه فيشطبهُ، وما يؤسسه يرجع عليه فيقوّضه. فالكتابة عنده خروج مستمر من الأماكن المأهولة، ودخول دائم في الربّوع الخالية، لا شيء ثابتٌ في قصائده، كلُّ شيءٍ فيها إلى تحول وتغير مستمرين. لذا وجب على القارئ أن يتدبر كلّ مرة النتائج التي استصفاها يراجعها ويعيد تقويمها.‏  

بحث ممضّ‏
لكنّ هذه القصائد تبقى على اختلاف مراحلها، وتقاذف المسافات بينها تهجسُ بسؤال واحد هو سؤال الكتابة. هذا السؤال قد تجلّى في أشكال عديدة وأساليب كثيرة لكنه بقي، مع ذلك، واحداً في تعدد أشكاله وتكاثر أساليبه. فقصائد محمود درويش إنْ هي إلاَّ إعلان عن تصوّر مخصوص لفعل الكتابة، لوظيفتها الانطولوجيّة والكيانيّة... الكتابة من حيث هي نشدان للمعنى، بحثٌّ ممضٌّ من أجل الظُفر به. لا شيء يُسوّغُ فعل الكتابة عند درويش، غير ذلك النشدان، وهذا البحث. ولعلّ هذه القدرة العجيبة على الاستمرار في تعقب المعنى وملاحقته هي التي قادت الشّاعر إلى درىً تعبيرية جديدة، هي التي قادت قصائده إلى الوقوف على حافة الصمت، على حافة الموت.‏

إنَّ القراءة الإيديولوجيّة قد أخطأت السبيل إلى ذلك السؤال، سؤال الكتابة، فلم تتمكن من الظفر به، لأنها عدت الدوال محض وسائط لمعان تقع خارجها، محض أعراض لأغراض أخفى فطمست بذلك جوهر القصيدة وحولت لألاء نارها إلى رمادٍ.‏

إنَّ الناظر في مدونة الشاعر يلحظ، ببديهة النظر، اختفاء صورة الشاعر الرّائي الذي يبشر وينذر، وحلت محلها صورة الشاعر الأكمه الذي يتحسس مسالك العالم بعصا اللغة. كلّ رسالته تتمثل في تجديد إهاب الحياة من خلال تجديد إهاب الكتابة، فالشعر إذ يدير الأسماء على غير مسمياتها فإنه يجدد علاقتنا باللغة، ومن ثمة يجدد علاقتنا بالوجود، مطلق الوجود.‏

ومثل الأكمه الذي لا يرى الأشياء يكون الشّاعر:‏
أرى ما أريد من البحر... إنّي أرى‏
هبوب النّوارس عند الغروب، فأغمض عينيَّ‏
هذا الضياء يؤدّي إلى أندلس‏
وهذا الشراعُ صلاةُ الحمامُ عَليْ‏
أرى ما أريد من الليل... إنّي أرى‏
نهايات هذا الممرّ الطويل على باب إحدى المدن‏
سأرمي مفكّرتي في مقاهي الرّصيف سأجلس هذا الغياب‏
على مقعد فوق إحدى السّفن‏

إن "الغياب" هو مولد الدلالات، منه تتحدر الصور يأخذ بعضها برقاب بعض في ضرب من التداعي الذي لا يرد هذه الصور قد تتبدى للوهلة الأولى فوضى لا ينتظمها خيطٌ يشدّ مفترقها، ويجمع مختلفها فبعضها يخاطب جارحة النظر، وبعضها يخاطب جارحة السمع، وبعضها يخاطب جوارح في الإنسان ألطف. غير أنَّ هذه الصور تظل على اختلاف ألوانها، وتباين أطيافها، منشدة إلى دلالةٍ واحدة هي دلالة "الغياب" لكأن الشعر لا يبدأ إلاَّ حين تختفي الأشياء وتذوب ولا تترك خلفها غير ذكرى رائحة، غير ذكرى صوتٍ بعيدٍ. في هذه اللحظة ينهض الشعر ليقاوم النسيان، ويعزز ملكة التذكر وليرسي كينونة الإنسان الداثر أمام كل ماهو متغير.‏  

اختبار العالم
كل قصائد درويش تهجس بهذه الدلالة كان هذه القصائد هي الشهادة على الزمن يجرف كل الأشياء، لكأنها الشهادة على الشعر يقاوم ذلك الزمن، يمسكه من قرنيه ويمعن في منازلته.‏

وتتجلى هذه الدلالة أقوى ما تتجلى في قصائد الشاعر الأخيرة. هذه القصائد أفصحت عما ظلّ في المجاميع السابق مضمراً خفياً مستتراً.‏

إن الشعر في هذه القصائد لا يخبر عن العالم وإنما يختبره، يكشف عنه، يمسك به. فوظيفة الشعر، في هذه القصائد تتمثل في إحكام قبضة اللغة على الوجود، في احتوائه وامتلاكه.‏

لقد اختفت في هذه القصائد أطياف الرؤيا النبوية التي تحكمت في مجاميع الشاعر السابقة، ووجهت صورها ومجمل رموزها ومن خصائص هذه الرؤيا أنها تعدّ الشاعر إنساناً مخصوصاً برسالة، يمضي مبشراً بنبوّته، مفتوناً بالموت يتوّج تمرده وقامت مقامها رسالة أخرى تقول: "إنه لا يمكن الانتصار على الموت أو تجاهل نداء الحياة".‏

كل ما يحيط بالشاعر يرشح بمعاني الموت (والموت هو الاسم الآخر للغياب) لكنّ الشاعر يستنفر كلَّ طاقات اللغة ليواجه هذا الموت بحيوات كثيرة.‏

هذا الإحساس القويّ بالموت يلتهم كلّ الأشياء لم ترافقه في قصائد درويش نبرة ندبٍ وتفجع. فدرويش، كما أوضحتْ في دراسة سابقة، هو بالرؤيا الأورفيه أمس رحماً. هذه الرؤيا التي استقرّت في الذاكرة الثقافية رمزاً للفرح واكتمال الارتواء.‏

ضمن هذه الرؤيا يصبح عمل الشاعر الغناء، ووظيفته صناعة اللغة وعلة وجوده التأمل.‏

على هذا بات الشّعر حيلة الشاعر حتى يحتمي من الموت، ويرجئ تحلل الأشياء وتفسخها. فالكتابة هي الدّرع الباقية بحملها الشاعر تردّ عنه عوادي الزمن، هي حجته الأخيرة على إمكان البقاء، على أمكان المقاومة.‏

هكذا يصبح الإقبال على الموت ذريعة للإقبال على الحياة والاحتفاء بها.‏

خذني إلى ضوء التّلاشي كيْ أرى‏
صورتي في صورتي الأخرى فمنْ‏
سأكون بعدك يا أنا جسدي وراءك أم‏
أمامك من أنا "يا أنت كوّني كما كوّنتك‏
ادهني بزيت اللّوز كلّلني بتاج الأزر‏
واحملني من الوادي إلى أبديّتي‏
البيضاء...".‏

إنَّ المتكلم يزفّ إلى الموت مضمّخاً بزيت اللّوز، مكلّلاً بتاج الأرز. فالموت بداية أخرى، ولادة ثانية، خروج إلى الأبدية البيضاء، انفتاح على مطلق الخلود، مطلق المعرفة.‏

كلّ العبارات التي أهاب بها الشاعر وأدار عليها قصيدته لا تُحيل على فجيعة الموت، فما ثمّة في هذه القصيدة غير الكلمات الطافحة بالحياة، الطافحة بالغبطة: كروم التين، الضّوء، زيت اللوز، الورود، الشفق الجميل حتّى لكأنّ القصيدة نعيٌ للموت لا نعيٌ للحياة.‏

غير أنّ هذا النفس الرواقي لا يخفي عنّا حقيقة أن الشاعر لم يعد يبصر فعل الزمن في الأشياء والكائنات من حوله وإنما أصبح يبصره فيه في الجسد والحواس، في الجرح الذي يحمل في وحدته وهو ينحدر "إلى قاع الجليد"، في شرايينه "تبزغ منها الورود".‏  

دهشة وفضول‏
عند وصيد هذه التجربة يصبح الشّعر ضرباً من الاستدراك على الزمن والزوال والبلى. ففعل الكتابة هو، في جوهره، فعل وجود، عن طريقه لا يفتأ الإنسان يبتكر ذاته، ويبتكر العالم من حوله ومن ثمة فهو نفيٌ للموت، واستبصار في مطلق الوجود.‏

كالحياة تماماً مثل الموت أحد ينابيع الشعر القصيّة وأصلاً مكيناً من أصوله البعيدة، بل ربّما بدا في العديد من الآثار الإنسانيّة الملهم الأول للكتابة، الحصن الذي ترعرعت فيه، البيت الذي عاشت في كنفه.‏

إن كل الأشياء تصبح من أثر تكرار بعد تكرار مألوفة يقبلها المرء فلا تثير فضوله إلا الموت فإنه يظل مصدر دهشة لا تنطفئ... مصدر فضول لا يخمد... لهذا عدّ القادح الأول لنار السؤال... القادح الأول لغواية المعرفة....‏

والناظر في قصائد درويش يلحظ أن سؤال الموت هو قرين سؤال الشعر وريفه، فكلاهما ذهابٌ إلى القصي والبعيد، وكلاهما انفتاح على المجهول والمخفيّ. كلّ كتابات درويش تجمل فضول مغامر يريد أن يرى ويعرف يقايض الأمن بالخوف، والسكينة بالاضطراب.قط لم تخنه بصيرته قط لم يضلّه حدسه.. لقد أدرك الطريق. فخلف الجبال الزرق تمتد الأبدية البيضاء.‏

أعلى من الأضواء كانتْ حكمتي‏
إذ قلتُ للشيطان لا... لا تمتحني‏
لا تضعني في الثنائيات واتركني كما‏
أنا زاهداً برواية العهد القديم وصاعدا‏
نحو السّماء... هناك مملكتي.‏

إنَّ محمود درويش وهو يستدعي سؤال الموت يحيل عن وعي منه أو عن غير وعي على الكثير من النصوص التي احتضنت هذا السؤال يبثّ فيها الحياة وينفخُ فيها الرّوح، يخرجها من صدفة صمتها ويدفعها إلى الكلام من جديد: نصوص الأساطير، شذرات الفلاسفة، القصائد الجاهلية بحيث تصبح قراءة درويش إدلاجاً في ليل الروح، روح الإنسان على وجه الحقيقة والإطلاق.‏  

تآلف الحاضر والماضي:
كلّ قصيدة تنطوي على حوار يعقده الشاعر مع أسلافه الموتى من شعراء وصناع أساطير ورجال حكمة. وخلال هذا الحوار لا يشحن الشاعر قصيدته بقوّة الماضي فحسب وإنما يشحن ذلك التراث أيضاً بطاقة الحاضر فيبرزه في هيئة جديدة. وكلّ أثر كبير إحياء لآثار أخرى، إيقاظ للأرواح النائمة فيها، تحريرٌ لطاقتها الرمزية والتخييلية...‏

هكذا نلفي كل أثر كبير يشع على زمنين اثنين الحاضر والماضي، يصل أحدهما بالآخر، يجمع بينهما جمع تآلف وانسجام، كلّ ذلك من أجل حماية تاريخ الروح، كتابته، صَون إرثه الجميل.‏

أجل ما فتئ درويش يذكرنا بأن هناك أسئلة مركوزة في أصل الجنس، لا يمكن أن تكبر أو تهرم أو تموت... قد تتغير طرائق عرضها، وأساليب أدائها غير أن جوهرها العميق يظل باقياً... هذه الأسئلة هي التي تدفع الإنسان إلى نشدان المعنى أي إلى كتابة الشعر.‏  

المصدر: الأسبوع الأدبي العدد 1025 تاريخ 30/ 9/ 2006م