دراسة نوعية في ضمائر قصيدة محمود درويش

«تلك صورتها.. وهذا انتحار العاشق»

ممدوح السكاف

يعمد الشاعر محمود درويش في هذه القصيدة إلى استعمال عدد من الضمائر المتنوعة بين مخاطب وغائب ومتكلم ويوظفها في سبيل خدمة وحدة الشعور العام الجمعي للإنسان المشرّد المنفي من وطنه فلسطين بفعل الاحتلال الصهيوني له، فالشاعر المغني يتحدث هنا باسم الشعب الفلسطيني الممزق والمهان بعد أن خسر أرضه ووجوده وجميع هذه الضمائر وغيرها تتحد في النهاية التراجيدية لمأساة النزوح وتتداخل في شخصية الشاعر الرمزية التي تعبر عن الواحد الكُلّ وتمثل نموذج "البطل المناضل". ‏

تنتظم هذه القصيدة ثلاثة ضمائر رئيسة يتمحور حولها بناؤها القصصي ويستمد منها قدرته على التنامي والتصاعد نحو "العقدة" ثم الارفضاض في حركة مطردة متكررة تسير على نمط المد والجزر ضمن عالم من الحوارات الخارجية (قال ـ قلت ـ قالوا ـ قلنا) وفي إطار مساحة نوعية من المونولوجات النفسية الداخلية تنصبّ بجماعها في صيغة من السرد الحكائيّ المشوّق أحياناً وقالب من الوصف الشعري الأخاذّ أحياناً أخرى وتنصهر كليّاتها في وحدة الأجناس الأدبية وقدرتها عن طريق التفاعل العضوي الذاتي على تشكيل جنين جنس أدبي جديد يتوالد من رحم التجربة، وتحل فيه مفرداتها الفنية في التناول والصياغة ويعبر عن معطى أدبي مستحدث قادر على تمثل دينامية العصر الحديث وتطوراته التقنية في مختلف مجالات الحياة وانعكاس هذه التطورات على فن الأدب بوجه خاص.‏

هذه الضمائر الثلاثة التي ألمحنا إليها آنفاً، إنما تمثل ضمائر البطولة في بناء القصيدة الفنيّ، وسنحاول في هذه المراجعة التحليلية أن نحدد فيما يلي هوية كل منها وصفاته ودلالاته التاريخية والمعنوية ودوره على صعيد الفعل والحركة وقدرته على تمثل عضويات الشخصية على المستوى الإنساني وعلى المستوى الدلالي أي على صورة الواقع وعلى صورة المثال.‏

1 ـ ضمير البطل:
وهو راوي القصيدة وشاعرها والمعلق على أحداثها ـ يأخذ دور الجوقة في المسرحية اليونانية القديمة ـ وتقدّمه القصيدة في إطار ضمير المتكلم، بمختلف تنويعاته وصياغاته وتبدلاته الموشورية وخاصة في مقطعها الأول، وهو يمثل الفلسطيني المشرد الراغب في العودة إلى أرضه المستلبة بعد تحريرها من غاصبيها، ويتحدث بصيغة المضارع المفردة التي هي لغة الدراما والمبدوءة بألف المضارعة المهموزة (أريد ـ أعرف ـ أشتهي ـ أرتدي) ويمثل الأنا الشعرية، ويقتحمه في أثناء تدفقه السردي للحدث القصيدي مونولوج داخلي عن طريق التداعيات الحلمية أو التعليقات الخارجية فينتقل الشاعر به من عالم الحاضر المفرد الموجود إلى عالم الماضي المفرد الغائب، وهذا الاقتحام من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب إنما يتكرر بالطريقة نفسها صياغةً تعبيريةً وموسيقا تقطيعيةً في التداوير الثلاثة على الشكل التالي كما أسلفنا:‏

وأريد أن أتقمَّص الأشجار:‏
(قد كَذِبَ المساءُ عليه).‏
أشهد أنني غطّيته بالصمتِ قرب البحرْ‏
وأريد أن أتقمص الأسوار‏
(قد كذب النخيل عليه)‏
أشهد أنه وجد الرصاصة‏
وأريد أن أتقمص الحراس‏
(قد كذب الربيع عليه)‏
أشهد أنه عرف البداية.‏

وتقدم القصيدة ضمير البطل هذا الذي يمكن أن نطلق عليه تعريف أو اصطلاح (هو) بصورة نبي يستشرف الحوادث ويرهص بها (كنت أعرف أن يوماً ما سيأتي) وفدائي يقاوم ويستشهد في سبيل قضيته (كنت شاهده وشاهدها وصرت شهيدة وشهيدها) (آتي من الشهداء إلى الشهداء) وبطل أسطوري يصارع البحر والعواصف ومفاجآت القدر (لكم انتصارات ولي حلم، دمي يمشي واتبعه إليها ـ لكم انتصارات ولي يوم وخطواتها، فيا دَمي اختصرني ما استطعت) وعاشق يفنى في حبيبته ـ طبعاً هي الأرض أو فلسطين ـ حتى العظم، ويزخر بشهوة جنسية لافحة لا تجد سبيلاً إلى الانقضاء والانطفاء إلاّ في احتضان المعشوقة والالتحام بها حتى الموت، (أحب يمامةً سميّتها بلداً) ومتصوف، كل شيء يحل في جسده وجسد حبيبته حتى الذوبان ورعشة الحشرجة:‏

قد قالت لنا الأيامُ‏
تلتقيان، تلتحمان، تنهمران‏
قلتُ: لها انفجارات،‏
كأن البرتقال لهيبها الأبدي‏
تنفجرين تنفجرينَ في‏
صدري وذاكرتي‏
وأقفز من شظاياك الطليقة وردةً‏
ورصاصة أولى‏
وعصفوراً على الأفق المجاوز...‏

وكما يمزج ضمير البطل (هو) حالة المتكلم بالمخاطب، على الرغم من طغيان حالة حضور (الأنا) الفاعلة في مسار القصيدة من أولها إلى آخرها بشكل مزدحم ومفرط في الذاتية ويدل على نرجسية مطلقة واعتداد شخصاني وثقة لا نهائية بالنفس مبالغ فيها وقد لا تكون مسوغة، كذلك فإن ضمير المتكلم الغائب يندغم بضمير الحاضر المخاطب أو ينحرق فيه تعبيراً عن تداخل الصورة ـ الواقع، بالصورة ـ الحلم، والشعورية باللاشعورية، والسلب بالإيجاب، والداخل بالخارج، كل ذلك في لعبة أسلوبية تعتمد على المقابلة اللفظية الحديثة لتوكيد نظر (البرّاني) بـ (الجوّاني) وكشف مرآة الأعماق والتحديق في أغوارها:‏

سجّان يا سجّان، لي وجه يحاول أن يراني لي وجه أحاول أن أراه‏

ثم عندما يشتد الحصار وتضغط الأنشوطة على ضمير البطل الراوي (هو) ـ أي الفلسطيني المشرّد ـ الحاضر في نفسه حضوراً أساسياً متمركزاً على نقطة ثقل أساسية هي أنه صاحب قضية وحق مستلب يناضل من أجل استرجاعه، والغائب في نفوس أغلبية الضمير العالمي غياباً محزناً، والمسكون بآثار الدعاية الصهيونية الكاذبة (إنهم عرب بداة جهلة متخلفون قذرون، ما يزالون يسكنون الخيام ويريدون طردنا من أرضنا التي عدنا إليها بعد مئات السنين من التيه، ويتطلعون ـ وهم الهمج المتوحشون ـ إلى رمينا في البحر وجعل أجسادنا طعماً للأسماك) أقول عندما يشتد مثل هذا الحصار من كل جانب وجهة على ضمير تتداخل الضمائر المتكلمة فرديّها وجماعيّها بعضها ببعضها الآخر في ذات هذا البطل حتى يصبح الغائب هو المتكلم والعكس صحيح كذلك... تضيع الهويّات والمسميات وتمحي العلامات والقسمات وتغور الدلائل والمدلولات وتزول الحدود وتنهدم السدود:‏

أنا المتكلم الغائب/ سأنتظر انتظاري كنت أعرفني‏
أنا المتكلم الغائب/ يغيب ـ رأيت عينيها ـ شهدت سقوط نافذتي‏
عادوا إلى يافا وما عدنا‏
قال لي أو قلت لي: أنتم مظاهرة البروق وهم نشيد الاعتدال‏
بيني وبينك ـ نحن ـ فلنذهب لنلغينا ويتّحد الوداع‏

2 ـ ضمير البطلة:
وهي قطب الرحى الثاني في القصيدة وجوهر ديالكتيكها حيث تدور حولها الأحداث المضادة وتستقطب اهتمام الشاعر البطل وتعيش في وعيه ولا وعيه وتمثل طموحه وغضبه وإحباطه من جانب ورؤيته الإيجابية المعانقة للتفاؤل والأمل والإشراق الروحي من جانب آخر. وقدّمتها القصيدة في إطار الضمير المخاطب على الأغلب، وعلى الأقل في إطار الضمير الغائب وهي تمثل الحبيبة الضائعة الغريبة المفقودة الحزينة التي اختطفها أعداء حبيبها وسلبوها حريتها وسيادتها حين لم يستطع (هو) الحفاظ عليها وصيانة وجودها لأسباب أغلبها خارج عن حدود إرادته وظروف أوضاعه.‏

والحضور الشخصي كفاعلية فاعلة لهذه البطلة محدود في القصيدة فهذه الحبيبة يتحدث عنها الشاعر أو البطل أو العاشق من منظوره هو وحسب قناعاته وإيديولوجيته وتصوراته الذاتية والموضوعية ويقدمها من زاويته هو ولا تتحدث هي عن نفسها مطلقاً أي ليس لها نجاواها أو همومها ومونولوجاتها فعلياً وفنياً في بنية القصيدة على عكس شخصية البطل الذي يطرح نفسه على المستويين: الحاضر كوجود عن طريق السرد والوصف والماضي كذكرى عن طريق النجوى أو (المّنلَجَة).‏

وتقدّم لنا القصيدة أو بالأحرى الشاعر ضمير البطلة هذه الذي يمكن أن نطلق عليه تعريف أو اصطلاح (هي) بصورة الحبيبة الحريصة على بقاء بكارتها مصانة انتظاراً لافتضاضها من قبل الحبيب (هم يبحثون عن البكارة ويمارسون الغزو في خلجان جسمك) أو بصورة الأرض الخصبة المعطاء (حدقت في جرحي وقمحك ـ للأشعة فيهما وطن يدافع عن مسافته) أو صورة المدينة المهدمة أو الصامدة (موتي أو اختصري هنا موتاك ـ كوني ياسميناً أو قذيفة ـ والحلم يأخذ شكله فيخاف لكن المدينة واقفة، في قمة الجرح الجديد وفي انفجار العاصفة) وصورة البحر اللانهائي (ولي زنزانة جنسية كالبحر قال حبيبتي موج وأمضى عمره في الحائط المتموّج...).‏

وتنوّع القصيدة تقديم ضمير البطلة في أزمنة الفعل وصياغاته، فيتحدث عنها الشاعر ويصورها بحالة الماضي عندما يريد طرحها أمامنا كمستلبة من جرّاء قدرها الغاشم وبصيغة المضارع (الحاضر أو المستقبل) عندما يريد طرحها أمامنا كمقاومة صامدة ضد أعدائها، وبصورة الأمر عندما يريد التعبير عن التوحد بها والاندماج في ذاتها وغنائها بشكل شاعري:‏

واخرجي من أي ضلع خنجراً أو سوسنة‏
وادخلي في أي ضلع خنجراً أو سوسنة‏

وفي لحظة العشق المتناهي والحلول المستسلم يتداخل ضمير البطلة (هي) في وحدة جنسية منصهرة في ذاتها الذاتية تعبر عن جسدانية روحية مرتعشة وبرعمة أرضية منسكبة تتسلل أضواؤها الساطعة إلى بنية اللغة بتجلياتها المختلفة وإلى فلسفة العلاقة بين الضمائر التي تتوازن في الأنساق اللغوية توازناً فنياً مدهشاً يعطي أفقاً موسيقياً ومعنوياً لا يحد من الغرابة التركيبية التي لا يمكن أن تأتي بشكل مصادف، وإنما هي نتيجة شغل شعري خفيّ كما في قول الشاعر مثلاً:‏

(وقفت كعادتها فعاد من انحناءتها إلى قدميه)‏

ويعبر الشاعر عن صيرورة الاندماج بين الضمائر وحلولها في بعضها بعضاً وانصهارها في بوتقة التجدد والتغير والتحوّل عبر عملية ولادة بنيوية جديدة عندما يجعل الضمير (هو) يصبح (أنا) في مثل قوله:‏

هو أنتِ‏
أنتِ أنا‏
يغيب الحاضر العلني‏
يأتي الغائب السريّ‏
يلتحمان، يتّحدان، في المتكلم‏
المفقود‏
بين البحر والأشجار والمدن الذليله..‏

ويكبر حجم (هو) الذي يمثل ضمير البطل ويتسع وجوده وتتمدد مرتسماته إلى أن يصبح في القصيدة رمزاً لـ (هم) أي الرجال الفاعلين في كل عملية جنسية، يعني (حربية) ويكبر حجم (هي) التي تمثل ضمير البطلة ويتسع وجودها وتتمدد مرتسماتها إلى أن تصبح في القصيدة رمزاً لـ (هنّ) أي النساء المفعولات بهنّ في مثل هذه العملية التي يُمْثِّلْنَ فيها دور المشارك المتلقي (أي الأرض التي ستتحرر بحرثها) وبذلك تتحقق مقولة جدلية الجنس التي تمثل في التحليل الأخير نوعاً من الحلول الجسداني والمشاركة الوجدانية والثنائية المتكاملة بين قطبي الذكورة والأنوثة:‏

وأصدق الراوي وأنكسر:‏
الرجال‏
يبقون كالندم.. الخطيئة‏
والبنفسج فوق أجساد النساء‏
وأصدّق الراوي وأنفجر‏
النساءُ‏
يذهبن كالعنب.. الغبار‏
وضربة الحمى‏
على الذكرى، وأجساد الرجل.‏

3 ـ ضمير العدو:
وهو ضمير مناوئ، كاره لكل من ضمير البطل وضمير البطلة، يمثل السلبية في أقصى حالاتها، والبغض في أجلى صوره، عندما يجهد في تحقيق إبعاد العاشقين (هو وهي) ضميري الموقفين المتكاملين عن بعضهما بعضاً لئلا يتجسد باقترابهما من نقطة الصفر تحررهما من أسره ووجودهما الفعلي، ويقف حائلاً، مانعاً وسداً عالياً، أمام رغبة أي منهما بلقاء الآخر أو نضاله في سبيل ذلك، لأنه قوي مدجج بأسلحة متنوعة مادية ومعنوية. لكن حضوره على ورق القصيدة ذكراً وفاعليةً حضور محدود مقنن على الرغم من أنه يمثل جرثومة الداء وأصل البلاء في الحركة الجدلية وصراع البقاء في العالم الفكري لتشكيل القصيدة حياتياً: إنه العدو الصهيوني العنصري الغاشم بمختلف أشكاله وصوره، وصفاته، العدو الذي يقف صخرة صلدة في وجه عودة العاشق (هو) ـ الفلسطيني المشرد ـ إلى معشوقته (هي) ـ أرضه المستباحة فلسطين ـ ويحارب على كل الجبهات للقضاء عليه (هو) والإبقاء عليها (هي) لتصبح معشوقة الصهاينة. ويتبدل اسمها من فلسطين إلى إسرائيل وتفقد هويتها العربية وانتماءها القومي وتسقط في أغلال الاحتلال وتذوب في ماهيّته.‏

وتقدم القصيدة هذه الضمير أحياناً بصيغة جمع المذكر وأحياناً قليلة بصيغة المفرد المذكرة، أي (أنا) بصيغة (هم) و(أنا) بصيغة (هو) كضميرين ملحقين بالأفعال، فهي تعني الفاتحين المحتلين (رأيت الذكريات من شباك جارتنا وتسقط في جيوب الفاتحين) وتعني كذلك الغزاة البرابرة الذين أجلوا شعباً عن أرضه وشرّدوه في أصقاع العالم وسرقوا وطنه وأقاموا به ( والغزاة يمشطون يديك من آثار ظهري) وتعني في صوره ثالثة أولئك القراصنة البدائيين الذين استباحوا بحر الوطن المستلب وخلجانه (فاحتفل القراصنة البدائيون والمتحضرون بجثة) وعندما تقدم القصيدة صورة هذا الضمير على شكل (هو) تقدمه مرة كسجان يحاور صمت معتقله فلا يجيبه (حاور السجان صمتي، برتقالاً، قال صمتي هذه لغتي وأرّختُ اللقاء) ومرة أخرى على هيئة جلاد يحارب الذكريات ويمنع مسجونيه ومجلوديه من ممارستها (النهر يعفيني من التاريخ والجلاد أعفاني من الذكرى).‏

لكن القصيدة ـ بفهم مبكر من الشاعر لنفسية العدو وقدراته وعدم الاستهانة بها (فِعلَ العرب حكومات وشعباً بعد نكبة عام 1948) لم تقدم هذا الضمير أبداً على أنه جبان خائف أو ضعيف متشرذم غير واثق من نفسه ومن آلته الحربية، بل قدمته دائماً ـ برؤيتها الاستشرافية العقلانية الموضوعية ـ في صورة إيجابية لصالحه وصالح منافعه ومكاسبه، سلبية نسبياً ـ للعرب وليس لصالحهم وصالح استردادهم حقوقهم المغتصبة من قبل الكيان الصهيوني العدواني المتغطرس.‏

(*) اعتمدت في دراستي هذه القصيدة المنشورة في مجلة (شؤون فلسطينية) ع 41/42/ والصادرة لاحقاً عن مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية ضمن كُرّاس مستقل عام 1975.‏

المصدر مجلة الموقف الأدبي لعدد 427 تشرين الثاني 2006