لم تتعرض العلاقة بين البنت وأبيها لهذا الحفر الوجودي الذي تتسم به كتابات مي التلمساني كما يتحقق هنا في أحدث نصوصها. بعدما ترسخت مكانتها الأدبية منذ روايتها الأولى (دنيازاد) وعبر روايتها الثانية (هليوبوليس) ومجموعتيها القصصية (نحت متكرر) و(خيانات ذهنية).

في انتظار أن يموت أبي قصة قصيرة

مي التلمساني

الباب مغلق. والنور المتسرب بين ضلفتيه مصدر اليقين الوحيد بأن ثمة وجودا خلف الكتلة الصماء. لا صوت لا حركة، فقط ذلك الوميض الواهن مبرر الانتظار حافز الأمل الممض. غير بعيد عن الباب، رجل لا أتبين ملامحه يلوح لي بذراع مشرعة. لا أفهم إشارته، هل يريدني أن أذهب إليه أم يقصد أن أنتظره ريثما يأتي؟ هو لا يأتي وأنا لا أغادر مكاني، متشبثة بحقي في المرور لو انفتح الباب. هكذا تبقى إشارته معلقة في ضمير الغائب. بعد قليل يتركني إلى حالي، أهمس لنفسي، وأنا ألصق وجهي بالباب، وأتلهى بعد أضلاع الخشب المكسوة بالبلوط. أنصت إلى طرقات يدي للمرة الثانية، وما من مجيب. الباب لا تحوطه أسوار، يقف وحيدا في العراء موصدا في وجهي ولا سبيل للدخول إلا عبره. باب قائم بذاته، مكتف بثباته في مواجهة الريح، مزعج حقا لأن قيامه هنا بلا أسوار، بلا داع، وسط هذه الصحراء البيضاء كالثلج، يبعث على الملل. الرجل الذي كف عن التلويح ينتظر مثلي. لا صوت لا حركة. يفرض قانون الانتظار احترام تلك المسافة، وذلك الخوف المباغت أن نكون كلانا على عتبة زمن واحد حيث يمكن أن نتشابه أخيرا. 

بعد شهر واحد سيبلغ أبي عامه الثمانين ويموت. سأكون عندئذ في الأربعين، وسأشبه الرجل الواقف هناك، في منتصف عمر لا يتقدم ولا يتأخر. لو متُ في الثمانين سأكون في نفس عمر أبي، وسألحق به عند نفس النقطة في الزمن. ولو كان هذا الرجل هو أبي فلا شك أنه في الأربعين، ويريدني أن أعود إليه لنلتقي في شرخ عمر واحد. الآن، نقف أنا وهو متباعدين كأنما داخل الباب وخارجه، في برزخ الاحتضار. بعد شهر واحد، سيكون ممكنا أن ألملم زمن أبي المبعزق في صرة وألقي بها  في البحر، صرة حياة ثقيلة بالسنين، في بحر تطفو على سطحه حياة الأطفال وترسخ في قاعه حياة العجائز.

أي لحظات الصمت الممتدة أمام باب موصد، يحدث أن يعيد الإنسان طرح الأسئلة البديهية للمناقشة إما لقضاء الوقت أو لاختبار قدرة الذاكرة على القفز بين الأحداث. مثلا هل هذا الرجل الواقف هناك هو أبي وهل أنا ابنته؟ هل يمكن أن ألتقي أبي وأنا في نفس عمره؟ وماذا يحدث لو أنني بعد أربعين عاما من الآن صحوت على الجانب الآخر من الباب؛ وكان كلانا في الثمانين؟ هل أجد في الذاكرة عندئذ ما يذكرني به وهو في الأربعين؟ هل سأجده كما هو في ذاكرتي أنا؛ أم في ذاكرة الصور التي خلفها بعد رحيله؟  فكرت أن أختصر المسافة إليه، أن نتبادل الأدوار الآن كما كنا نتبادلها بيسر يفاجئنا في فترة مرضه التي امتدت نحو عشر سنوات. كان الوجود ساعتها يتخذ شكل الحلزون أحيانا، وأحيانا أخرى شكل الدائرة. يظل في دوران مدوخ أو ينغلق على بدايته، لا يهم. لكننا كنا نحتفظ بخط رجعة يسمح باعتدال الميزان. كنت أتذكر أنه أبي، حينما ينسى هو أنني ابنته. الآن وهو يموت لم تعد هناك مساحة لألعاب التبادل. فلا شك أنه يموت وأني سأكون حية من بعده، ولا أحد يمكنه أن يتوقع غير ذلك.

في شكل الحلزون، كان أبي مرحا كعادته، بسيطا، ماكرا، عنيدا، لكنه كان أيضا يلوذ بالصمت.  كان من أهل برج العذراء ولا يؤمن بمدارات الحظ والمصادفة. أما أنا فكنت حزينة غالبا ولكن بشيء من الخفة، بسيطة في تعقيداتي اليومية، ماكرة كما يمكن لامرأة أن تكون ماكرة. عنيدة وصموت. من أتباع السرطان الذين يدركون أن للقمر سطوة وسلطانا. في زمن لا أذكر ملامحه، جلسنا متجاورين في قاعة عرض بوسط المدينة نشاهد فيلم أورفيوس لجان كوكتو. كنا صامتين صمت المتعبد حين ابتلعت المرآة أورفيوس ـ جان ماريه، حبيب كوكتو وبطله الأوحد. ابتلعته في مائها العكر، وبدا وكأنها ابتلعتنا معه حيث أمكننا لثانية ـ هي الدهر كله ـ أن ندرك أننا لسنا كائنات منفصلة كما توهمنا. إنما تربط بيننا شبكة معقدة من الضرورات المطلقة. فيلم بلا ترجمة، بلغة نفهمها دون الآخرين، سر مفضوح ودافئ  نحمله إلى القبر كالغنيمة. قلت لنفسي ذلك المساء وأنا أشاهد جمال جان ماريه من وجهة نظر كوكتو: في العلاقات المثلية، ليس ثمة رجل وامرأة، ثمة أب وابنه. عندما التفت أورفيوس إلى الوراء، ويا لها من التفاتة، كان قد قرر أن ينقض عهده مع إله العالم السفلي. ليس لأنه لا يطيق صبرا على رؤية زوجته يوريديس؛ ولكن لأنه اكتشف أنه يفضل ملاك الموت على حبيبته وقرة عينه. اكتشف أن غواية الموت أقرب إليه من الوريد. و إلا فما الحياة بلا موت يتكرر؟ ما الحياة لو لم تكن فيها ملائكة مثل ماريا كازارس، مريم التي أحبها الشيطان فصار عبدا لها؟  ما معنى الوجود لو لم تكن تلك المرآة يتأمل فيها نفسه وينتحب؟  قرر أورفيوس أن يظل حبيس المرآة عند تلك الشفرة الحادة التي ينتفي فيها وهم الوجود من العدم. شفرة المرآة اعتراف ذليل بأني أنا إياك، مثل عبد وسيده لفهما شبح الحب والموت. ثلاث طرقات على الباب والباب مغلق بمتراس وطلسم.

ـ من أنت؟
ـ أنا أنت.

الكلمة السحرية التي فشلت في فض طلسمها، كلمة المتصوف لمحبوبه وجواز مروره من بوابة الزمن العنيدة. قال أورفيوس للموت الماثل أمامه على هيئة امرأة: أنا أنت. وبكى كوكتو وقال: أنا والموت والشعر واحد. ذلك المساء سألته بمكر: أبي، هل تحبني؟ ابتسم لي ولم يجبني، فلكل ذي مكر من هو أمكر منه. كررت سؤالي بعناد، ولم ألق سوى التجاهل. عندئذ لذت بالصمت وكان الصمت لغة بيننا.

بعد شهر سيبلغ عامه الثمانين ويموت. سينسى أشياء كثيرة وهو ينتقي ذكرياته الجديرة باصطحابه إلى عالم النسيان، مثلا أني ولدت بعده بأربعين عاما بالتمام، وأننا سافرنا كثيرا أنا وهو على خلاف المعتاد في أسرتنا. وأننا نعود دائما لنلتصق ببعضنا البعض وفق ما هو معتاد في أسرتنا، إلا في تلك المرات القليلة التي لم تكن فيها العودة ممكنة. بعد الموت، وأحيانا بعد الميلاد. سينسى أنه سافر عام 1948 وأنني سافرت عام 1988، السفرة الأولى، للمدينة نفسها، كلانا في الثالثة والعشرين أو قريبا منها، وأن هذا كفيل بأن يجعلني أقيس حياتي بحياته. لو اكتملت الدائرة سأموت في الثمانين مثله وأصبح أختا له في العمر. لو لم تكتمل، سنظل نلهث في مدار الحلزون. سنعرف.

في الدائرة المحكمة التي أغلقها علينا، كان مولدي يوم عرس. كنت عارية تحت عينيه وكان قد أتم عامه الأربعين حين رفعت صوتي بضحكة خطفت قلبه وطارت صوب الميدان. انفرطت أسنانه كحبات اللؤلؤ وأسماني اسما، التصق بي وعرفت خلايا وجهي خلايا شفتيه. كنت عارية تحت ماء الدش الساخن حين أسرعت أختبئ من نظرته الخمسينية. انفتح الباب عن غير قصد وكنت أقف خلفه قصيرة القامة وغضة وحبات عرق لا أدري من أين جاءت راحت تغطي وجهي وتمسح عنه آثار الصابون. أغلق الباب بإحكام وهو يبتسم لذكرى صورتي الأولى التي ومضت في ذهنه، وصوت ضحكتي الأولى التي أعادت لقلبه الحنان. هل كبرت؟ وهو أيضا. غزال خجول وأسد كهل وطيب. عار تماما أمامي، بأعوامه السبعين وزيادة على مقعد متحرك. أحمم جسده الذي تغضن مثل حبة التين، رغم أن الكتفين كالحرير، والساقين كساقي طائر عجوز يغطيهما الزغب. عار ومستكين يستمتع بماء الإبريق الدافئ ويسلم عينيه المغمضتين لرغوة الصابون المعطر. بيد واحدة يمسح عينيه، و بيد واحدة أضغط على ظهره، وبيد واحدة ينظف ما بين فخذيه، وبيد واحدة أصب الماء على رأسه، وبيد واحدة يستند على ذراعي ويهم بالوقوف، وبيد واحدة أمسح أسفل ظهره. أي اليدين يده وأيهما يدي؟ وكيف بلغت يده عامها السبعين بهذه السرعة؟ فكرت وأنا أساعده على ارتداء ملابسه أننا بحساب الزمن المغلوط  نلتقي أحيانا عند نفس المنحنى. كنت منذ أيام قد بلغت الثلاثين حين عثرت على صورة قديمة له وهو في نفس عمري تقريبا، صورة التقطت له في باريس يبتسم فيها لصديقة ستصبح فيما بعد زوجته. بدا لي وأنا أتأمل الصورة، وكأن الماضي قد التهم المستقبل، وكأن الحاضر أبدٌ موجعٌ. هل رأى برجسون شيئا كهذا حين كتب عن الزمن؟ هل رأي عرينا الكامل محصورين بين حدين لا ثالث لهما، الأبد والعدم؟ هل رأى التقاء طرفي النهر؟

كان يفضل أن يعلمني الفصاحة ويغفل عن تعليمي الحساب، حتى اختلفنا في تعريف الفصاحة وكيفية التعامل مع الأرقام، هو واضح وثابت؛ وأنا متلعثمة وقلقة؛ وكلانا يحسب على طريقته. هكذا افترقنا، واتسع سرداب الحكاية لي وله وللأعوام الكثيرة المنقضية والقادمة، لتلك الفصاحة التي أسميها كتابة ذهنية وأكره التسمية، ولحسابات تعلمتها دون مساعدة من أحد، اتسعت الحكاية لطائرة في قيد الاحتمال. ولباب نقف على جانبيه وندق معا لعل أحدنا يفتح للآخر، لصوت بيدبا الفيلسوف، وصوت شهرزاد الحنون، وهما يتناوبان تفسير البلاغة لعقلي المتعب. لصوت كارمن ماريا كالاس بنبرته الوقحة، وصوت دون خوسيه التعس وهو يردد : وي...جو ليه توييه، ما كارمن، ما كارمن. يقتلها ببساطة، يقتلها ويندم، يقتلها ويناديها مسحورا بلون الدم، مفتونا بملمس الجسد الرخو، ملتاعا لانتصارها الأكيد عليه حتى في موتها. تنزوي الموسيقى في حزن النداء الأخير فيما تنشد المجموعة نشيد احتفال رخيم في خلفية المشهد. لا آلات نحاسية تطن. ولا طرقة بيانو واحدة للاحتفاء بهذا القتل النبيل. مجرد لحن كمان حزين يتخفى في حنايا الختام ويبكي، تماما كما تتخفى الفصاحة في بلاغة الصمت.

كان يقرأ وكنت أشرب كوب الكاكاو المحلى بالسكر واللبن. لا أطيق اللبن! مستغرق في القراءة، مستغرقة في مجاهدة الغثيان. أستمد شجاعتي من صوت كالاس وهي تتحدى بصلف دون خوسيه، من معنى اسم كارمن بيزيه، روكسان فرقة Police ، ساتين الطاحونة الحمراء، من رأسه المائل فوق صفحة الكتاب، من رأس كارمن المائل على صدر دون خوسيه، من تفاهة الغثيان ورأسي المائل فوق الكوب، من امتناعه الصارم عن التفوه بكلمة حبيبتي وهو يناديني. ما كارمن، يقولها ويموت بموت أمه وحبيبته. فاسمها هو مبتدأ الحب وهو منتهى الوجود، وما بينهما حياة ٌ لا طائل منها. يموت وهو ينتظر أن تناديه ليلبي النداء صاغرا، وهي لن تناديه وهو لن يهنأ بموت سعيد. أعرف ويعرف أبي أن السكوت لغة بيننا، لذلك لم يقل لي ضعي الكوب جانبا وانسي إحساسك بالغثيان. لم يقل أنصتي وفكري في معنى أن تنتهي أوبرا بلحن خافت للوتريات يصاحب قتيلا.  فقط سرح ببصره بعيدا عن السطور، وخيم ظل الموت على عينيه لثوان تكفي لقيام حضارة وانهيار أخرى. ران على الغرفة صمت النهايات المحبب، صمت كارمن يهدهده صدى الاحتفال الأخير، صمت دون خوسيه وقد أدرك أن الحب لن يعرف طريقه إلى قلبه ثانية. وحده صوت أنفاسي بدا عاليا، وكان جسر جديد قد امتد بيننا.

منذ أيام عادت العفاريت تسكن الصوان وتستقر أسفل الفراش، عادت رائحة السيجارة الخامسة التي تنهي اليوم مخلوطة بصوت الشاعر في إذاعة المساء وهو يرتل: لغتنا الجميلة، عاد شعور بالعطش يجتاحني في الثالثة صباحا، وحلم الخامسة يوقظني على نشيج. كلها مؤشرات أعرفها. بعد شهر واحد سيكون في طريقه للأرض هناك وسأكون في طريقي للأربعين هنا. ليل أسود سيخيم على حياتي من بعد. سيكون من الضروري أن أحلق في السماء إحدى عشرة ساعة كاملة لأشهد نهاية حياته. وحين أضع قدمي على أرض المطار سيكون رجال أشداء يضعون الكفن في حفرة عميقة فلا أراه ولا يراني ولا تتلامس خلايانا أبدا. ربما تتأخر الطائرة، وربما أتلكأ أنا في اتخاذ قرار السفر، ومن الجائز أيضا أن تقنعني نفسي الأمارة بالسوء أن الاقتراب لا يلغي المسافة وأن الأفكار لا تحدث إلا في الدماغ وما عدا ذلك لا شيء قابل للحدوث أصلا. في حلم الليلة الماضية، كان الباب موصدا كعادته، وكنت نائمة عند عتبته حين أيقظني صوت. كان الهاتف يرن وكنت أحلم أني اليومَ قد بلغتُ الأربعين.