محمود في خيمته الأخيرة!

محمد الأشعري

لم يكن ليهتم بموعد موته. لم يكن ليهتم بأن يموت أمس أو اليوم أو غدا. كان مهتما بأن يعيش كل حياته المتاحة. لقد فعل كل ما كان يريد أن يفعله. "ولم يعتذر عما فعل". قبل بضع سنوات خرج من قاعة العمليات بما يشبه المصالحة مع الموت، وبصورة شعرية لم يلبث أن دسها في "جداريته" العميقة. لقد التقى بالموت "صيادا يتربص به في منبع ماء!" لماذا لم يمض الصياد الى مبتغاه؟ هل هو الحذر الشعري للظبي، وعطشه، هو ما أجل اقتناص الطريدة؟! ها هو الصياد يعود لنفس النبع، وها هو الظبي يتنازل عن حذره، ويتبع عطشه غير آبه بالأجل المحتوم. نوع من المودة المدروسة، والتواطؤ المنظم، بين الطريدة والقاتل، تجعل الأمر خاليا من كل تربص أو خديعة. نوع من "سلام الشجعان" بين رجل لا يريد أن يفقد أناقته، ولا يريد أن يمر في شارع بدون قامته كلها، وكائن ينظم هذا العبور الرهيب بين ضفتين.

إنه الشاعر الذي رأى رأى شجر الجليل، وورد بيروت، وثلج موسكو، وليل باريس.. رأى فكرة تكبر. ودولة تضيق رأى حدودا تمحي. وأخرى تنبت داخل العين رأى جداول شعر عند قدميه، وأخرى في سحاب بعيد هو الذي رأى رأى الممكن والمستحيل، رأى المدهش والمألوف رأى إخوة يوسف ينزلونه الى غيابات الجب ورأى يوسف يأوي إخوته إليه. رأى "الحصان الذي ظل هناك وحيدا" ورآه يركض خلفه في بياض المصحة.

هو الذي رأى رأى الشعر مستحيلا في القضية. والقضية مستحيلة في الشعر.

رأى جسدا يستأذنه في بناء وطن بنبضه. ورأى روحا تكتب على عجل قصيدتها الأخيرة.

رأى أصدقاءه الشهداء، نائمين في مراثيه المورِِِقة ورأى أعداءه يرفضون "الخروج من أحلامه" ويبنون سورا حولها.

رأى فجرا يجئ، وليلا يجئ، في لحظة واحدة.

هو الذي رأى رأى أحمد العربي واقفا في حاجز، ينتظر العبور من عين الإبرة.

ورأى نفسه جبلا يعبر من نفس العين.

عاش محمود حياة أحبها وأحبته.

حياة جرب كل آلامها ولذائذها، ومفاجآتها وعذاباتها الصغيرة والكبيرة وحقائقها وأوهامها.

في الشعر نصب الخيمة الكبرى لرحيله الدائم. لم يغادر أبدا هذه المنطقة الغنية بمخاطرها وأهوالها ووعودها السخية.

كلما جنحت به الحياة وشرطه الفلسطيني هنا أو هناك، لم تزغ روحه، ولم يفقد الطريق الى خيمته.

في ذهابه يرتفع الى مقام حلم تحقق. وليس إلى مقام أسطورة.

ندرك وهو ينأى، أننا معه اكتسبنا رغم كل إعاقاتنا المزمنة لغة جديدة، وجمالا جديدا، وتجربة إنسانية وشعرية مكتملة قل نظيرها في التجارب الشعرية الكونية. تجربة لا مكان فيها لشيء بدأ قبل أوانه أو توقف قبل تمامه، أو جاء بعد أوانه.

ندرك وهو يغادرنا أنه أهدانا رغم كل الهشاشة واليأس المحيطين به صرحا إبداعيا غير مثلوم.

ندرك وهو يغادرنا أن قلبه كان يرفض عن حق أي شيء "زائد" عن هذه التجربة الرائعة.

ندرك أنه مضى في "الوقت الذي يلائمه"، ليس من حق أحد أن يبتكر له وقتا آخر. ولا حياة أخرى.

ندرك أننا كنا محظوظين جدا، إذ عشنا في عصره وأتيح لنا أن نراه، ونسمعه يقرأ، ويعزف على العربية أناشيد الأرض كلها.

كنا محظوظين جدا، لأننا قرأنا قصائده فور انبثاقها من أحشائه.

كنا محظوظين لأننا انتظرنا قصائده، فوصلتنا، وأصبحنا بعد قراءتها أشخاصا آخرين.

أما بالنسبة لمن منا كان أوفر حظا فاقترب منه، وصادقه ونسج معه وشائج تلك الأخوة التي لا يتقنها أحد سواه، فإن يدرك الآن كم كان ممتعا ورقيقا وأنيقا.

كما كان كريما وعزيزا.

كم كان شفافا في محبته وخصومته وغضبه، كم كان حفيا بالحياة، رافضا لاختزالها، كم كان قادرا على رفع الحزن الى أرقى مراتب الوجود الإنساني. كم كان قادرا على السخرية والضحك ومقاومة الغباء، ومراوغة الآلام المحدقة به. كم كان قادرا على جعل الكلمات أجنحة للآخرين حتى وهو مكسور الجناح.

بهذا الاكتمال النازف، مضى محمود الى الخيمة التي حضّر فيها منذ أمد بعيد، طفولته الخالدة. 


شاعر ووزير الثقافة المغربي السابق