شاعر المنفى والروح المرفرفة

أمجد ناصر

 

منذ قرأت تلك القصيدة في عام 1977 وأنا مفتون بها. ليست قصيدة محمود درويش "كان ما سوف يكون" أهم قصائده (ولا وجود لحكم قيمي قاطع كهذا في الشعر)، كما أنها ليست منعطفا في ديوانه. المنعطف الذي جاءت في سياقه حدث قبلها بسنين: مذ كتب "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا". ثم توالت مطولاته ذات النفس الملحمي الغنائي أمدا بعد الخروج من بيروت. هناك سبب يخصني، شخصيا، في استمرار هذه الفتنة التي علامتها حفظي لها، تقريبا، عن ظهر قلب، وما كنت معروفا، قط، بحافظة قوية. هناك كيمياء خاصة بيني وتلك القصيدة لا أعرف، بالضبط، العناصر التي تتكون منها. يتعلق الأمر ربما، بالوفاء للزمن، الاصدقاء، مكان الخطوة الأولى، مصائر الرفقة والصداقة. وهذه العناصر تشكل، تقريبا، مسرح تلك القصيدة المهداة لصديقه الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي قضى حرقا، ذلك العام، في شقته بنيويورك. بعد نحو ثلاثة عقود يتوفى ادوارد سعيد في نيويورك. لم يمت حرقا، مثل راشد حسين وسيجارته بين شفتيه، بل في ختام معركة بطولية مع السرطان استمرت ثلاث عشرة سنة. كان محمود درويش قد طالب، منذ اغتيال ماجد أبو شرار، أصدقاءه ان يتوقفوا عن الموت. ان يعقدوا هدنة معه. أن يمنحوه، على الأقل، سنة بلا موت. سنة بلا رثاء. سنة ليموتوا معا أو يعيشوا معا. لكن الموت، جنرال الغيب المدجج بالأرواح المنهكة، لا يقبل بهدنة من أي نوع. كثيرة هي مراثي محمود درويش. يمكن لها أن تؤلف ديوانا حديثا في الرثاء الذي تختلط فيه الذات بالآخر، فلا تعرف، في بعضها، هل يرثي الشاعر صديقه أو يرثي نفسه. فموت الصديق هو، أيضا، نوع من موت ذاتيٍّ. سقوط شيء ثمين، يصعب تقديره، في طريق الرحلة. مراثي درويش كثيرة في الشعر والنثر (آخرها رثاؤه المؤثر لممدوح عدوان) لكن تستوقفني بينها قصيدتان. قصيدته المهداة لراشد حسين وتلك المهداة الى ادوارد سعيد. ولأمر ما فإن مسرح القصيدتين هو نيويورك. هنا أستعيد مقارنة بين القصيدتين لا أدري إن كانت أعجبت محمود في حينها.

تبدأ قصيدة "طباق" بوصف قيامي لنيويورك. بعدها يقول درويش انه التقى هناك ادوارد سعيد قبل ثلاثين عاماً، وتنتهي القصيدة بلقائهما الأخير في نيويورك وكان سعيد يقاوم حرب سدوم على أهل بابل والسرطان معاً على حد تعبير درويش. أوجه الشبه التي لاحت لي بين القصيدتين هي التي أغرتني بالوقوف على المشترك والمختلف ليس فقط بينهما وبين الشخصين المحوريين فيهما، بل الزمنين والخطابين الشعريين اللذين يتخللانهما ويعتملان في متنيهما. أول وجه شبه بين القصيدتين يبدأ من اسم علم (الشارع الخامس في نيويورك).الثاني: القصيدتان مكرستان لصديقين فلسطينيين منفيين قضيا في نيويورك. الثالث: ان نيويورك التي تدور فيها القصيدتان تظهر لمحاً، ومعطوفة على الشخصين المحوريين، ولا تغادر نعتها السلبي الاّ عندما يتعلق الأمر بادوارد سعيد، شخصياً، فهنا تصير مكاناً محايداً، بلا نعت تقريباً. فلم تكن، على ما يبدو، إقامة الرجلين في نيويورك واحدة. ففي حين ان راشد حسين لا يرى زمانه ولا مكانه، ولا حتى بدنه، فيها، يبدو ادوارد سعيد أكثر سيطرة على المجال وتمكناً منه. إلى هنا تنتهي أوجه الشبه التي تطفو على سطح القصيدتين ليبدأ المختلف.

دعونا نرى راشد حسين في نيويورك. فالصوت الذي يقول في "كان ما سوف يكون": أشتهي أن انتهي،لا أحلم الآن بغير الانسجام اشتهي أو انتهي، "لا ليس هذا زمني"، ليس صوت محمود درويش. انه صوت راشد حسين المقذوف في زمن ومكان ليسا زمنه ومكانه. فإذا لم يكن الزمان والمكان الحاضران (السبعينات، نيويورك) هما زمان ومكان راشد حسين، فأين هما يا ترى؟ إنهما في الماضي المشترك بين الشاعرين الصديقين: في مطعم خريستو الذي كان يرمي فيه راشد حسين شعره، في عكا التي تصحو من النوم وتمشي في المياه، في مكان الخطوة الأولى، أرض الحلم، الريح المواتية، الذراع المعانقة، وحتى في سجن الناصرة الذي يتمنى أن يكون طليقاً وراء أسواره. تلك هي الكينونة الحقيقية، التحقق الأكيد، الوجود الفاعل، الشعر، النضال. ما عدا ذلك ليس الزمن زمناً ولا المكان مكاناً.حتى الشعر الذي يعطي الزمان والمكان قوامهما، كثافتهما، لا يتنزل برحماته أو لعناته عليه. شاعر القصيدة (درويش) يقول لنا عن راشد حسين انه لم ينشر سوى جزأين من أشعاره الأولى وأعطانا البقية، فالشعر لم يعد يحط على القلب بعد أن ابتعدت يافا. في نيويورك، وفي القاهرة (مسرح آخر للقصيدة) يعاود الماضي حضوره:انه الشيء الوحيد المشترك، الآن، بين الصديقين اللذين تباعدت خياراتهما وتغيرا. راشد حسين، كما يصوره درويش، يلح على الماضي، وعندما يلمح تراخياً في نظرات صديقه إليه يبكي ويسأله: تغيرتَ؟ـ تغيَّرتُ، ولم تذهب حياتي عبثاً.التغير يقع، لكنه ليس تغيراً نحو الأسوأ عند درويش،ان خياره (لنقل ما لم يقله النص) خروجه من الأرض المحتلة لم يكن بلا طائل. ثم تنتهي القصيدة بـ "الموتيفة" الساحرة التي تعمق بعدها الغنائي المشحون: "كان ما سوف يكون فضحته السنبلة ثم أهدته السنونو لعيون القتلة".

لا شيء في رحلتنا هذه مع راشد حسين يمكن أن يجد له قاسماً مشتركاً مع ادوارد سعيد، لا درويش الشاعر والانسان الذي كتب "كان ما سوف يكون" قبل قرابة ثلاثين عاماً هو نفسه، ولا علاقته بادوارد سعيد هي نفس علاقته براشد حسين، رغم أن نيويورك لا تتغير في القصيدتين كثيراً. فما الفرق بين التابوت وباب الهاوية الكهربائية التي بعلو السماء؟ اول الفروق بين القصيدتين يبدأ من غياب الماضي المشترك بين درويش وسعيد. صحيح ان الاثنين فلسطينيان، ولكن لا ماضي فلسطينياً شخصياً يربط بينهما. انهما يلتقيان على فلسطين الفكرة. فلا حيفا ولا يافا ولا الناصرة ولا الأم التي ستقول آه تظهر في "طباق" فهما لم يمشيا على ساحل فلسطين ولم يخطرا شابين في الجليل، ولم يسجنا في الناصرة. قد يحضر الماضي في "طباق" لكنه ليس ماضياً شخصياً. انه ماضي الجماعة على ما يبدو: "إذا كان ماضيك تجربة فاجعل الغد معنى ورؤيا، لنذهب لنذهب إلى غدنا واثقين، بصدق الخيال ومعجزة العشب". الغد هو الذي له ثقل في "طباق"، أو في الأقل، في مستهلها عندما يلتقي درويش بادوارد قبل ثلاثين عاماً. إنه غد مسلح بالخيال لا يذخر من الماضي إلاّالتجربة، التي تحيل، عندي إلى العام وليس الخاص. الغد، الفجر، الريح، البوصلة، الأمام، الربيع، السنونوة، البشارة مفردات تتكرر في "طباق" لتصنع فارقاً بين رؤيتين وشخصين. رؤية راشد حسين الشعرية المتشائمة المتكئة بثقل على حجر الذكريات في كان ما سوف يكون، ورؤية ادوارد سعيد المفكر، العقلاني، المتفائل بالارادة والقادم، المؤمن بجدوى الفعل في الراهن، لينبلج الغد من رحمه الهش. ادوارد سعيد غير راشد حسين الذي يبدو وجهه شاحباً كشمس نيويورك، يدخن ويرمي سيجارته في كبد الشاعر ويشتهي أن ينتهي. سعيد يصرخ بالفجر بعد أن يلعب التنس ويختار بدلته بأناقة ديك، ويشرب قهوته بالحليب. كما أن موضوع الهوية مغاير. راشد حسين يعرف أن هويته هناك (فلسطين)، بينما لا يستطيع ادوارد سعيد أن يحدد هويته. إنها هوية ملتبسة:أنا من هناك، أنا من هنا ولست هناك ولست هنا.

إنه الفلسطيني الذي صار المنفى جزءاً لا يتجزأ من هويته.المنفى، عند الفلسطيني، هوية يعرّف بها. فلا يمكن تعريف الفلسطيني أو حتى فهمه من دون معرفة سؤال المنفى.المنفى، الهوية الواضحة الملتبسة، الحق، القوة، الواقع والاسطورة هي من أبرز مكونات أعمال درويش الأخيرة ولا تشذُ عنها "طباق". لكن اللافت في هذه القصيدة هو تقنية الحوار التي يعتمدها درويش لاستنطاق حياة المنفيّ وتمزقاته الوجودية والفكرية بين الهنا والهناك، بحيث أن صوت الشاعر يكاد أن يكون أخفّ الأصوات ولهذا، عندي، سبب. ففي هذا الحاضر الخفيف، إن لم يكن الركيك، لم يعد درويش، نفسه، واثقاً ان هناك شيئاً صلباً وراسخاً. كل شيء، رجراج. الصلابة فكرة وليست حياة. هي ذي العلاقة المعقدة بين الشعر وزمنه.