محمود درويش غارسيا لوركا العرب

نذير العظمة

 

توقف قلب محمود درويش عن النبض لكنه لم يمت... انتقل إلى المقلب الآخر، وما يزال صوته الشعري العذب يصدح في ذاكرتنا القومية وذاكرة الإنسان عن مأساة شعب بأكمله هُجّر من أرضه.. من قراه ومزارعه وبيوته وبياراته التي تشع برائحة أيديه المحبة حتى لكأن البرتقال كان هويتها ورمزاً لها.‏

وقد قيض لهذا الشاعر الرائع وجيله أن يسطروا الملحمة الفلسطينية قصائد تقفز من الوجدان.. وتنبض من القلب وتحكي سيرة نضال عز نظيره في تاريخ الإنسانية. مدن بأكملها سُحبتْ من تحت شعب آمن.. قُتّل أبناؤه وشيوخه وأطفاله ونساؤه إلى حد الإبادة. ليسكن فيها يهود مهاجرون من أوربا بالدرجة الأولى عانوا من الاضطهاد النازي بخاصة والغربي بعامة.. واخترعوا خرافة حديثة أشبه بالخرافات التوراتية القديمة.. وادعوا أن فلسطين أرض ميعادهم.. وحق لهم فهي في زعمهم «أرض بلا شعب» لشعب بلا أرض. وقامت الصهيونية على هذا الزعم مسلحة بالمال اليهودي والمصالح الاستعمارية، ووظفت نفسها في خدمة القوى الغربية مالاً ورجالاً وخبرات ومعلومات جندتها في النزاعات الأوربية بدء بالمحور (ألمانيا وإيطاليا) والحلفاء مروراً بالرأسمالية والشيوعية. وتهريب الخبرات النووية من طرف إلى طرف، وانتهاء بمغازلة الصين كقوة واعدة في المستقبل.‏

هذا التحدي الظالم لحقوق فلسطين التاريخية وشعبها الباسل ولّد حركة مقاومة بطلة تجمعت شرائحها في جبهة ثورية واحدة لترد على الخرافة والظلم وتواطؤ المصالح الاستعمارية بنهضة شعبية سمّها مقاومة.. أو سمّها ثورة لكنها حركة دائمة لا تهدأ حتى تحقق الحلم بالوحدة والنهضة والدولة. وتعري مزاعم الصهيونية التي سوّقت نفسها هنا أو هناك في النزاعات العالمية.‏

المقاومة بالبندقية جزءٌ من هذه الثورة جوهرها الدفاع عن الحضارة والعدالة والإنسان. ولكن المقاومة بمفهومها الأوسع عبرت عن نفسها بالمعرفة والفن والشعر. وولد تاريخ ناصع في حومة اللهب.. لم تكن استراتيجياته الدفاعية في ساحات النضال منفصلة عن إيقاعات الدبكة وجمال الثوب الفلسطيني. وهدير القصائد.. ودرامات المسرح.. وقاتل المقاومون بكل الوسائل المتاحة لتثبيت الهوية المغتصبة.‏

هذا المناخ النضالي العام أدعى لخلق الملاحم.. لكن المعاناة الدائرة على الأرض فجرت الوجدان قصائد.. ما تزال تصدح في بال الأجيال سيما أن كثيراً من شعراء المقاومة كانوا ممن عانوا من لهيب العراك تهجيراً وتشريداً وسجناً وقتلاً واغتصاب حق وأرض. واختلاس ممتلكات ومال وتزوير تاريخ واقتلاعاً من أرض الوطن.‏

والقانون الدولي لم يسكت عن هذا فحسب بل أظله بالرعاية والحماية.. يا لها من مأساة إنسانية في الجوهر.. ومحلية وطنية في المظهر.. هذا التناقض أشبه بالتناقض الدرامي في مسرح سوفوكليس الذي يلمع إليه محمود درويش في بعض قصائده.‏

فدرويش في شعره يعبر عن تراجيديا الشعب الفلسطيني ولكن بصوت غنائي. ويختزل دماء المآسي التي لا تعد ولا تحصى مآسي الإنسان في أرضه وبيته وحقله ومدنه، يقتل جهاراً نهاراً، ويحمى هذا القتل بالبروتوكولات الدولية.. هل هنالك دراما أكثر تناقضاً من دراما الشعب الفلسطيني التي ما تزال دائرة على المسرح؟!‏

وما الذي يجعل صوت محمود درويش عذباً نابضاً متألقاً في هذه العتمة التاريخية غير الإيمان بالإنسان والانتماء إلى حضارة ما تزال بذورها تعطي العالم فنوناً وثمرات.. محمود درويش من مدينة الناصري السيد المسيح.. فتح عينيه على الاضطهاد والعذاب والتحامل. عانى الأسر والسجن والاغتراب في أرضه ووطنه وبيت أبيه.. من محتل غاصب ومستوطن غاشم.‏

كيف واتت صوته الشعري تلك العذوبة تحمله إلى وجدانات الناس وقلوبهم دون حواجز. لولا أن تتنفس رئتاه بأنفاس المصلوب.. وعبق صوته برخامة أصوات الشعراء الأنبياء. فالحرية في شعره تعانق العبودية لتبعث الإنسان في قلب حجّره الاضطهاد والطغيان على المقلب الأوربي. فجاء إلى أرض المسيح ليصلبه مرة أخرى في ضوء التاريخ.. وبسلطة روما الجديدة الباغية في البيت الأبيض الأحمر في آن.‏

الصورة الشعرية المتألقة تنزل من القلب الصادق كالثمرة من الشجرة في نصوصه المبكرة تتكلم عن الفلسطيني كشجرة زيتون مباركة. يكاد زيتها يضيء.. يفترسها الطمع اليهودي. ويصادر بركتها بالبغي والعدوان.‏

لا بد إذن من الصمود.. لا بد من القتال.. لا بد من التضحية بالجسد الفاني من أجل بقاء الروح الإنسان والجسد والحضارة، الرحم الذي حمله المسيح إلى العالم كله وأضاء التوحيد مشعاله للبشر في كافة أنحاء الأرض بالوحي والحق والمعرفة.‏

لا عجب إذن أن يرشح درويش في حياته أكثر من مرة إلى جائزة نوبل، فالضحية تعانق الجلاد مزودة بمحبة الإنسان والله وتسمو بالوحي الإنساني على معراج النور.‏

في مقدمته الموجزة لأعماله الشعرية الكاملة المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت (1973) والتي احتوت على نتاجه في المراحل الأولى قبل الخروج إلى بيروت يؤكد على لغته الشعرية المميزة والمتطورة وانتمائه إليها ولكنه يلمع أن وجهه في المرآة القديمة.. لا يعني أن يستمر على نفس الصورة في المراحل اللاحقة. لا سيما بعد خروجه من الأسر. يحتفظ بحق المغامرة الشعرية مع بركة الجذور وطفولته الشعرية. لكنه منفتح على التطور والتراث الشعري عندنا وفي العالم.‏

ويعبر عن هاجس صادق نبيل رافقه في شتى المراحل. ألا وهو أن يقبل شعره بمعايير العطش إلى الإبداع. وأن يقوّم في هذا الإطار. لا إطار الحماسة والخطابة الفارغة. وهو لعمري تطلع حق لعب دوراً أساسياً في تطوير القصيدة الدرويشية من أغنية سلسة عذبة مكتنزة بالعاطفة إلى قصيدة لا تقل عذوبة.. ولكنها ـ تحمل أسئلة وتأملات تجعلها ذات بعد إنساني وكوني يمكن أن يتذوقها العربي وغير العربي.‏

ومن هنا نفهم كيف يرجو قراءه ألا يطلبوا منه أو من شعره أن يصفق للقادة أو يحمس المناضلين.‏

بعد عشر سنوات من التعبير عن هذا الهاجس في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة يعود ويؤكد على هويته الشعرية المرتبطة بالإبداع في مقابلة في مجلة الكرمل 1983 في العدد السابع بعد الخروج من بيروت. ومنذ قصيدة «سرحان يشرب القهوة في الكفتيريا» يخرج درويش في شعره من وحدة البيت والغناء الذاتي إلى وحدة القصيدة والتأمل الحضاري والإنساني والكوني. يتصل بتساؤلات النفس وحيرتها الجميلة دون أن يتنكر إلى جذوره الحضارية في مجموعته «إحدى عشر كوكباً» التي يمكن أن نعتبرها رائعة أعماله.‏

فالقصيدة عنده لم تعد إيقاعات مشحونة بالصور بقدر ما أصبحت وحدة مدورة أعطاها التحرر من القافية ووحدة البيت القدرة على الاسترسال التأملي والفكري لأزمة الإنسان والوطن والحضارة‏.

ولعل التدوير في قصائد شعر التفعيلة الذي مارسه درويش في قصيدة «سرحان...» أعطاه حرية أوسع في طرح الهموم الفكرية بالإضافة إلى الهموم النفسية بلغة شعرية فيها مرونة النثر وحلاوة الشعر وإيجازه وتكثيفه.‏

بعد قصيدة «سرحان...» المطولة هذه عبرت قريحته الشعرية عن نزعة وميل إلى التجريب مجارياً شعر الحداثة.‏

في قصيدة بيروت التي على إتقانها وإحكامها ظلت الجملة الشعرية فيها والإيقاعات أكثر انتماء إلى البنيات الشعرية المتداولة في حركة الحداثة الشعرية العربية. ما تزال وحدة البيت ظاهرة فيها ولو أنها وظفت في خدمة وحدة القصيدة. وما يزال الغناء وهيمنات الوجدان هي الغالبة.‏

أما في مجموعته «إحدى عشر كوكباً» فكأنما محمود درويش يتغنى بقصيدة روائية (من الرواية والسرد) الذي يقابل النزعة الغنائية السائدة في شعرنا عامة.‏

لا يستعين فيها بالصورة الشعرية البيانية المعروفة بل تتحول الأفكار إلى صور وتساؤلات ورؤى كثيراً ما يمتزج فيها البصري والسمعي لطرح أسئلة شعريتها تكمن في غير الإجابة.‏

مؤطرة بالتاريخ الضائع في الأندلس الذي يذكرنا بالتاريخ المذبوح في فلسطين. يحلم بالعنقاء لينهض من الموت.‏

والكمنجات التي تئن في القصيدة تذكرنا بنغمات لوركا الإسبانية ونفحاته الدرامية في شعره.‏

فحركة المقاومة الفلسطينية ليست معزولة عن حركات المقاومة عندنا وفي العالم من ناحية روحها وأهدافها وتجلياتها الشعرية والفنية. كما أن قياداتها كانت على اتصال ملموس بحركات التحرر إلى درجة التنسيق أحياناً ضد قوى الاحتلال والعدوان.‏

والعقائد المناهضة للإمبريالية الغربية واستراتيجياتها الشعرية والفنية وجدت سبيلها إلى مخيلتنا الإبداعية وتطلعاتنا الفكرية لاسيما مع محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم. هؤلاء كانوا بمثابة مناة واللات وعزى الشعر الفلسطيني المقاوم. ولكن بالرغم من المؤثرات الماركسية في خلفياتهم العقائدية والسياسية إلا أن توفيق زياد انفرد بينهم يتبنى الموقف الفني للواقعية الاشتراكية في شعره. بينما اتصل شعر محمود درويش والقاسم اتصالاً وثيقاً بشع الوجدان والغناء (Lyric). فكلا الشاعرين يعبر عن الذات في تناوله للموضوع. والذات حاضرة على امتداد القصيدة. بينما نجد توفيق زياد يقدم الموضوع على الذات كما في قصيدة (غاليليو 400 عام) مثلاً لا حصراً، ولدراسته في الاتحاد السيوفياتي وإقامته هناك أثر في ذلك، وشعراؤنا هؤلاء أقرب إلى غارسيا لوركا وبابلو نيرودا منهم إلى لويس أراغون وبول إيلوار، فالتعاطف الماركسي عند هذين ظل محكوماً بالقناعات السريالية التي انتموا إليها في مراحل التكوين فانعكس ذلك على رؤياهم وحدسهم الشعري وتعاملهم مع اللغة بالرغم من توظيفهم للشعر والفن في خدمة أغراض حركة المقاومة.‏

إن أي تطور في مضمون القصيدة العربية يؤدي إلى تطورات في شكلها وأسلوبها والاتجاهات الشعرية التي تعبر عنها.‏

وما من ريب أن التحديات العقائدية والوجودية المداهمة للوجود العربي التي فرضتها عوامل الاستعمار والاحتلال والاستيطان استدعت استجابات لا في الفكرة والصورة والعبارة بل أدت إلى تعبيرات ثورية وجذرية في اللغة والإيقاع ومفهوم القصيدة والإلهام الشعري والفطرة والصناعة، وكان لمحمود درويش حصة الأسد في الإضافات الجديدة قصائد بأشكال متعددة ولكنها انبثقت من جوهر واحد.‏

فلينم محمود درويش قرير العين وليطمئن أن شعره معظم شعره تتلقاه بمعيار الإبداع والإضافات على تراثنا الشعري لا بمقدار الخدمات التاريخية التي أداها في ساحة المعركة فحسب.. وأن وقوده الشعري سيدفع عرية التاريخ باتجاه فلسطين النهضة والوحدة.‏

إن شعراء الحركة السريالية في فرنسا أراغون وإيلوار وغيرهما. لم يكونوا أكثر نجاحاً منه في شعرهما المقاوم. إنهم جميعاً ابتكروا من المقاومة ثيمة فنية مبدعة وعلامة على انتصار الإنسان على الشر بالانتماء والحرية.‏

لقد استطاع درويش أن يوفق بين الإبداع والوظيفة الاجتماعية والوطنية في مجمل قصائده. لأنه بالمشاركة يصدر عن معاناة واقعية للأزمة. فمنفعتها للحركة الوطنية والمقاومة لا تعتم على قيمتها الإبداعية والجمالية.‏

وختاماً ليس من المبالغة أن نقول: إن محمود درويش في حياته وشعره هو غارسيا لوركا العرب..‏

فلنستمع إليه وهو ينشدنا افتتاحية مجموعته الشعرية: «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي» بلغته وصوته في خاتمتنا هذه:‏

في المساءِ الأخير‏
على هذهِ الأرض‏
في المساء الأخير على هذهِ الأرض نقْطَعُ أيّامَنا‏
عن شُجَيْراتِنا، ونعدُّ الضُّلوعَ التي سوف نحمِلُها معنا‏
والضُّلوعَ التي سوفَ نَتْرُكُها، ههُنا... في المَساءِ الأخيرْ‏
لا نُوَدِّعُ شيئاً، ولان َجِدُ الوَقْتَ كي نَنتَهي..‏
كلُّ شيءٍ يَظَلُّ على حالِهِ، فالمكانُ يُبَدِّلُ أحلامَنا‏
ويُبَدِّلُ زُوّارَه. فجأةً لم نَعُدْ قادِرينَ على السُّخْرِيَة‏
فالمَكانُ مُعَدٌّ لكي يستضيفَ الهباءَ... هُنا في المساء الأخيرْ‏
نَتَملّى الجِبالَ المحيطة بالغيمِ: فتْحٌ.. وفَتْحٌ مُضادّ‏
وزمانٌ قديمٌ يُسلِّمُ هذا الزمانَ الجديدَ مفاتيحَ أبوابِنا‏
فادْخلوا, أيُّها الفاتِحونَ، مَنازِلَنا واشْرَبوا خَمْرَنا‏
مِن مُوَشَّحِنا السّهْلِ. فاللّيْلُ نَحْنُ إذا انْتَصَفَ الليلُ، لا‏
فَجْرَ يَحْمِلُهُ فارِسٌ قادِمٌ مِنْ نَواحي الأذانِ الأخير...‏
شايُنا أَخْضَرٌ ساخِنٌ فاشْرَبوهُ، وفُسْتُقُنا طازَجٌ فكُلوه‏
والأسِرّةُ خَضْراءُ مِنْ خشَبِ الأرزِ، فاستسْلِموا للنّعاسْ‏
بعد هذا الحِصارِ الطويلِ، وناموا على ريشِ أحْلامِنا،‏

الأسبوع الأدبي ـ لعدد 1115 تاريخ 16/ 8/ 2008م