مطلوب محاولة عالمية لإنقاذ هذا الشاعر

رجاء النقاش

 

(هذا هو مقال الناقد الراحل رجاء النقاش حول محمود درويش وشعره وقضيته وهو من أوائل المقالات التي عرفت بالشاعر في مصر خاصة، ننشره هنا كوثيقة شاهدة على ألق البدايات).

عندما كنت في بيروت في اوائل هذا الشهر سمعت من الصديق الفنان غسان كنفاني ان محمود درويش الشاعر العربي المقيم داخل اسرائيل قد تم اعتقاله مرة أخري.. وانه الآن موجود في احد السجون الاسرائيلية. ومحمود درويش هو شاعر عربي شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وهو واحد من ربع مليون عربي ظلوا مقيمين داخل اسرائيل بعد سنة. 1948م وهم يخضعون لقوانين اسرائيل ونظامها الذي يعاملهم أسوأ معاملة ويعتبرهم دائما "مواطنين من الدرجة الثانية".. ومن بين هؤلاء العرب الذين يعيشون في اسرائيل منذ 1948م الي اليوم خرجت الي الحياة مواهب فنية عربية لامعة من الكتاب والشعراء، ويحدد لنا كتاب "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة" الذي اصدره غسان كنفاني عدد هؤلاء الكتاب والشعراء فيقول انهم يبلغون 28 كاتبا وشاعرا من بينهم 8 من اليهود الشرقيين، والنماذج التي تسربت الينا من خلال الاسوار الاسرائيلية، والتي كتبها الادباء العرب هناك، تؤكد ان الاتجاه الاساسي الغالب علي الادب العربي في اسرائيل هو اتجاه المقاومة، وهذه ظاهرة طبيعية ومنتظرة.

فالعرب في اسرائيل لم يستسلموا للمحنة، ولكنهم يعيشون علي أمل كبير في أن يعودوا كما كانوا في يوم من الايام أصحابا لفلسطين، أرضهم، وأمهم، والتراب الذي ولدوا عليه وزرعوا فيه البذور وحصدوا فوقه الثمار.. ومات أهلهم وأحبابهم في حناياه. فالشعور الحقيقي للعرب في اسرائيل هو الشعور بالرفض للواقع الذي فرضته عليهم ظروف استعمارية قاسية، ومن هذا الشعور الصادق العميق في نفس كل عربي ظهر هذا الأدب الذي يستحق أن نسميه أدب المقاومة العربية في فلسطين. وخلال السنوات الاخيرة وعلي ضوء ما تسرب الينا من داخل اسرائيل ظهر الشاعر محمود درويش كواحد من ألمع شعراء فلسطين.. وواحد من ألمع شعراء الجيل الجديد في الوطن العربي كله، إن في شعره صفاء، وحرارة، وقدرة فنية عالية، وهو في شعره يذيب الحزن في الغضب، فيقدم قصائد حية مليئة بالعذوبة الفنية، وهي قصائد مليئة في نفس الوقت برؤيا النصر علي المصير الحزين الجارح الذي اصاب العرب في فلسطين سنة 1948 حين قامت دولة اسرائيل.

وقد اصدر محمود درويش حتي الآن ديوانين من الشعر.. الاول هو (عصافير بلا أجنحة) والثاني هو (عاشق من فلسطين). وقد اسعدني الحظ بالحصول علي النص الكامل للديوان الثاني. وفي هذا الديوان يتألق محمود درويش كفنان ومناضل معا، والواقع أن قصائد الديوان تضع محمود درويش في صف شعراء المقاومة المعروفين في العالم كله، هؤلاء الذين قاوموا النازية، وقاوموا الاحتلال في كل مكان من الارض.. في عصرنا الحديث، واعتقد ان هذا الديوان يستحق مناقشة فنية وفكرية واسعة، ولكنني استأذن القراء في أن اترك هذه المناقشة جانبا وارجو أن اعود اليها في مقال قادم. اما اليوم فانا اريد أن اطرح شيئا آخر للمناقشة، لماذا لا نستفيد من قصة محمود درويش في معركتنا الراهنة ضد العدوان الاسرائيلي؟

انني اقترح بالتحديد: أن نقوم بمحاولة عالمية لانقاذ محمود درويش من سجون اسرائيل. ولن تكون هذه المحاولة مجرد ضجة مفتعلة، فهي تتصل بقضية عادلة لانها قضية شاعر كبير يتعرض لاضطهاد بسب أدبه وفنه ورأيه، وهي قضية عادلة من ناحية أخري لانها تتصل بالقضية الاساسية.. القضية الأم.. قضية فلسطين.. وقد يقول قائل: هل نثور ونغضب من اجل شاعر واحد في سجون اسرائيل. مهما كانت قيمة هذا الشاعر وأهميته. ونحن الآن أمام محاولة عدوانية لاعتقال ما يقرب من مليون ونصف مليون عربي داخل اسوار اسرائيل بعد عدوان 5 يونيو؟ والحقيقة ان هذا الاعتراض معقول حقا، ولكنني اعتقد ان اثارة قضية محمود درويش عالميا سوف تخدم القضية الكبري، وسوف تساعد الجهود الاخري المبذولة في كل مكان من اجل هذه القضية الاساسية العادلة.. ومن اجل النصر في هذه القضية.. هناك جهود تبذل علي المستوي السياسي، وجهود تبذل علي مستوي الجماهير العادية في العالم كله.. فلماذا لا تكون هناك محاولة أخري لتجميع المثقفين من رجال الفكر والفنانين والكتاب والقراء حول هذه القضية؟

ان المثقفين يلعبون دورا خطيرا الي ابعد الحدود في التأثير علي الضمير العالمي، سواء كان ذلك متصلا بالجانب السياسي للقضايا العالمية، أو متصلا بالرأي العام الدولي.. فالمثقفون هم في الحقيقة الذين يقودون الضمير العالمي ويؤثرون في أحكامه وفي رؤيته للقضايا المختلفة، ان صوت برتراند رسل الآن ـ علي سبيل المثال ـ هو أقوي من أي صوت آخر في العالم، انه هو وحده يمثل هيئة أمم أعضاؤها الآلاف والملايين من المثقفين في انحاء العالم كله. كل ذلك لان هذا المفكر العظيم الذي تجاوز التسعين من عمره.. قد رصد نفسه نهائيا لخدمة السلام العالمي، وللدعوة من اجل نجاح هذه القضية العظيمة العادلة، واذا كان أبناء فيتنام ـ علي سبيل المثال ـ مازالوا صامدين في وجه العدوان الامريكي ومازالوا قادرين علي التصدي الصابر الحاسم لهذا العدوان.. فلاشك ان من بين عناصر صمودهم: عطف الرأي العام العالمي عليهم، وقد كسبوا هذا العطف بجهود متعددة من أهمها وابرزها تلك المحاكمة التي اقامها برتراند رسل للرئيس الامريكي جونسون.. وفضح فيها التدخل الامريكي في فيتنام.. لقد كانت هذه المحاكمة فرصة واسعة وواضحة أمام الرأي العام العالمي ليعرف كل شيء عن هذا العدوان الامريكي و"ليكره كل شيء فيه وينكره.

ولاشك أن موت شاعر كبير مثل "فردريكو جارثيا لوركا" في الحرب الاهلية الاسبانية.. كان بقعة دم التصقت بأنصار الاستبداد واعداء الشعب الاسباني الذين استعانوا بكل الوسائل الارهابية للقضاء علي حرية الاسبان وثورتهم... لقد كان دم "لوركا" تهمة زلزلت سمعة فرانكو وانصاره خلال الحرب الاهلية الاسبانية.. ولايزال هذا الدم حتي اليوم ـ وسيظل ـ عالقا بتاريخ الذين اسالوه وموقف المانيا النازية من الثقافة والمثقفين كان من بين الاسباب القوية التي حطمت سمعة النازية وفضحتها أمام العالم كله.. لقد كانوا يحرفون كتب الفنانين الكبار والمفكرين الكبار.. وكان أحد المسئولين النازيين يعلن بجرأة وصفاقة تلك العبارة المشهورة ". كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي". ولم يكن النازيون يشعرون بالخجل من مثل هذه الكلمات والمواقف أيام قوتهم وسطوتهم وتصورهم الجنوني: ان صفحات التاريخ تمر تحت اقدامهم.. وانهم يستطيعون ان يفعلوا ما شاءوا لانهم سوف يكتبون تاريخ البشرية كلها من جديد علي هواهم. ولكن النازية انهارت وسقطت، باخطائها في حق الانسان والحضارة وعلي رأس هذه الاخطاء بل والجرائم، موقفهم من الثقافة والفن والفكر.

واذا كان من الضروري الآن بعد أن قطعنا هذه المرحلة من نضالنا الطويل: الا نرفض التعلم من أعدائنا اذا كان هناك ما يجب ان نتعلمه.. فيجب أن نتذكر شيئا له مغزاه". ان الحركة الصهيونية قد اعتمدت اعتمادا جوهريا علي الدعوة الادبية والثقافية عموما. فقد ابرز الصهيونيون ابرازا لا حد له: موقف هتلر من الكتاب اليهود والفنانين اليهود.. لقد ابرزوا علي سبيل المثال ما فعله بمؤلفات "كافكا" حيث احرقها ومنع قراءتها وتداولها، وابرزوا ما فعله بكتابات توماس مان وستيفان زفايج وغيرهما من الكتاب والفنانين، وكان لهذه المواقف التي اتخذها هتلر دورها المزدوج في اثارة السخط علي موقفه من اليهود وفي اثارة العطف ـ من ناحية أخري ـ علي اليهود.. وما يتبع ذلك من امكانيات استغلال هذا العطف في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية. الي جانب ذلك كله فقد تعود الصهيونيون ان يبرزوا الادب الذي كتب عنهم وعن قضيتهم علي مستوي عالمي، مثلما فعلوا في قصة الخروج "اكسودس" والتي كتبها "ليون اوريس"... فقد تحولت هذه القصة الي فيلم مثلته جان ودورد وزوجها بول نيومان. وطبعت منها طبعات عديدة وساعد الصهيونيون علي انتشار ملايين النسخ منها بصورة هائلة في العالم كله، وفعل اليهود ذلك ايضا في رواية "دافيد الروي" التي كتبها السياسي اليهودي الانجليزي "دزرائيلي" والذي كان واحدا من ابرز رؤساء الوزارات الانجليز في القرن الماضي. لقد "روج" الصهيونيون لهذه النماذج الادبية ترويجا ماديا ومعنويا لا حد لهما.

هذا ما يفعله الصهيونيون بقضيتهم.. انهم يستغلون كل ما يمكن استغلاله، وكل ما يمكن أن يؤثر في الضمير العالمي.. وذلك للدعوة الي قضيتهم.. وليس هناك أي افتعال أو بعد عن حقائق التاريخ عندما تقول: ان الحركة الصهيونية من الناحية السياسية قد سبقتها بوقت طويل حركة أدبية واسعة تدعو اليها وتمهد الطريق أمامها. هذا هو ما يفعلون بقضيتهم التي لا تقوم علي العدل ولا علي الحق.. فماذا ينبغي علينا ان نفعله نحن أصحاب القضية العادلة والحقيقية؟.. ان من واجبنا الا نترك فرصة سليمة دون استغلال لكسب العالم معنا! وهذه فرصة لنا ولاشك وليست فرصة لاعدائنا.. أن تضطهد اسرائيل شاعرا موهوبا أصيلا مثل محمود درويش.. ان باستطاعتنا ان نجعل هذا الموقف قضية مشتعلة في أوساط المثقفين.. في شتي انحاء العالم. وذلك بالطبع يقتضي منا ان نبذل جهدا في ترجمة قصائد هذا الشاعر الموهوب، وهي قصائد ذات مذاق انساني يمكن أن يحس بها الناس في أي مكان: وهذه المهمة يجب أن يتبناها الاستاذ يوسف السباعي عن طريق مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا. عن طريق هذا المؤتمر يجب أن تتم ترجمة قصائد محمود درويش الي مختلف اللغات ونشرها في شتي انحاء العالم، خاصة ان هذا المؤتمر له فروعه في آسيا وأفريقيا وله اتصالاته العالمية الواسعة التي يمكن عن طريقها ان تتحول قضية محمود درويش.. الي قضية تهز ضمير المثقفين في العالم كله.

علي أن من الضروري أن يسبق هذا العمل محاولة لنشر أشعار محمود درويش بين المواطنين العرب.. فليس في الوطن العربي سوي نسخة أو اثنتين من هذا الديوان تسللتا من داخل اسرائيل حيث طبعتا هناك ثم صودرتا بعد الطبع بأيام.. وفي ميدان نشر شعر محمود درويش يمكن لوزارة الثقافة ان تقوم بدورها في تقديم اشعاره للمواطنين العرب. ومن الممكن أيضا أن تساهم منظمة تحرير فلسطين في تبني هذه القضية والمساعدة علي نشرها ـ عن طريق مكاتبها المختلفة في العالم كله. المهم.. ان نأخذ القضية بصورة جادة... وأن تعتبرها قضية ساخنة.. والا تكون هذه السطور التي كتبتها عند الذين يقتنعون بها في مؤتمر كتاب افريقيا وآسيا.. أو في منظمة فلسطين.. مجرد سطور في الهواء! لان من أبأس عيوبنا ان نتحمس بسرعة ثم ينطفيء الحماس.. ويتحول الي أمان وذكريات، وكلمات في الهواء، وتضيع كل هذه القضايا البسيطة الواضحة التي يمكننا من خلالها ـ رغم بساطتها ـ ان تصل الي ضمير الدنيا كلها.. ونؤثر في هذا الضمير.. من خلال قصيدة جميلة.. أو لوحة.. أو قضية شاعر سجين مثل محمود درويش. والقضايا الكبري لا تكسبها معارك الحرب فقط.. وانما تكسبها معارك السلام أيضا... وربما قبل معارك الحرب.


مجلة "المصور" 22 ديسمبر 1967م