شعري تعرض للكثير من القراءات المغرضة

وهناك إفراط في التأويل السياسي لقصيدتي

أجرى الحوار: حكيم عنكر

يعتبر هذا الحوار مع الشاعر الراحل محمود درويش، والذي أجراه الشاعر والصحفي حكيم عنكر ليومية المساء المغربية وأعادت القدس العربي نشره بعدها، آخر حوار يجرى مع الشاعر الراحل محمود درويش.

من بيته في عمان جاء صوته عبر الهاتف، كما هو، الصوت الذي يتكلم وكأنه ينشد، لا فرق بين آرائه التي يقولها جهارا في المجامع، أو التي يقولها وسط الأصدقاء. ومنذ زمن أصبح محمود درويش واضحا في آرائه في الشعر وفي القضية، لا فرق، يقيم بينهما. ردّ على الهاتف مباشرة، لم يكن معه أحد في البيت، وربما حتى الخادمة، مسرّحة في إجازة يوم الأحد. اخترقتُ عليه خلوته، هو المتبرم دوما من الأحاديث الصحافية. كنت أدفعه دفعا إلى الحديث، وكان يجيب بإجابات مقتضبة، لكن كان عليّ أن أمطره بسلسلة أسئلة تبدو مثل حديث اعتيادي، أو مثل شخصين يتحدثان في صبيحة أحد عن الشعر والحياة وعن قارة الأصدقاء والأعداء، وما يبدو أنه مشترك عربي.

هنا نص هذا الحوار الهاتفي بمناسبة منح بيت الشعر في المغرب للشاعر محمود درويش العالمية، تلك الجائزة التي «الأركانة» جائزة اعتبرها درويش عربون محبة من المغاربة. وسيتم تسليم درع الجائزة في حفل ينظم بالرباط يوم 24 تشرين الأول القادم، تعقبه قراءات شعرية للشاعر الكبير محمود درويش بمسرح محمد الخامس.

كيف استقبلت فوزك بجائزة منحها إياك بيت الشعر في المغرب؟

عبرت للأصدقاء المغاربة في بيت الشعر عن تقديري وشكري وحييتهم على هذه الالتفاتة تجاهي.

هل هي تأكيد لعلاقتك بقارئ شعرك في المغرب؟

بالفعل، أنا أعتقد أن هذه الجائزة هي تأكيد لعلاقة القارئ المغربي بشعري، وهي علاقة تترجم من خلال الأمسيات الحاشدة والجماهيرية التي أحييتها خلال السنوات الماضية في المغرب. أعتبر نفسي محظوظا على هذا المستوى، لأني كلما أحييت أمسية في المغرب ازددت ثقة في هذا الجمهور وفي القارئ المغربي، ولذلك فهذه الجائزة هي رباط متجدد مع قارئ الشعر هناك.

من عمان ومن رام الله، تمضي في مواصلة الكتابة، هل يشعر محمود درويش بأنه حقق منجزه الشعري؟

ما زلت أواصل الكتابة بذات النفس، وأحاول،قدر إمكانياتي أن أواصل مشاريعي الإبداعية، كما أني أواصل حياتي بين عمان ورام الله، وإن كنت أقضي وقتا أكبر في رام الله. أحاول أن أكتشف إمكانيات إبداعية أخرى، وأن أطور مشغلي في الكتابة، وأعتبر أن هذا هو دور الشاعر، أي المزيد من البحث في أشكال الكتابة.

تعرض شعرك للكثير من القراءات المغرضة، هل يدخل هذا في إطار حملة منظمة عليك؟

هذه الحملات عانيت منها خلال مسيرتي الشعرية، واشتدت في السنوات الأخيرة، ولقد ألفتها مع الوقت واعتدتها، فأي نص أدبي، مهما كان،لا يمكنه بتاتا أن يفلت من التأويل، وفي الكثير من الأحيان، التأويل المغرض. لقد تعرضت قصيدتي إلى التأويل السياسي المفرط، وكأن هم النقاد الوحيد هو البحث عن موقف ما ثاو في القصيدة يدين محمود درويش ويجرح وطنيته.

لقد انكشف الغطاء عن مرامي مثل هذه القراءات المفرطة في استعمال التأويل السياسي.

هل كان الأمر يتعلق بحملة منظمة من قبل خصومك تحت غطاء أدبي؟

لا أعتبرها حملة منظمة بالمعنى الكبير للكلمة، ولكني أعتبرها تأويلات لأناس يحبون بأن يذهبوا مذاهب أخرى في سيرتي الشعرية، حتى وإن كان الأمر يوحي أحيانا بان الأمور تخرج عن إطار القراءات الفردية إلى العمل المهيكل والمنظم. لكني أتعامل مع هذا الهجوم في حدوده، وأضعه في إطار الشعور بالغيرة، والغيرة كما تعرف هي شعور إنساني.

لكن الغيرة قد تكون مدمرة؟

بطبيعة الحال، إذا خرجت عن إطارها الإنساني.

هل يرتبط شعور الغيرة من قبل خصومك الشعريين بصراع الأجيال؟

دعني أقول لك، إنه في العالم العربي لا يوجد صراع أجيال أو إنه بالأحرى يوجد فهم مغلوط لصراع الأجيال، كما أنه لا يوجد نقاش صحي على هذا المستوى، حيث ينزلق النقاش فجأة من النقاش الأدبي إلى التخوين.

في مرحلة ما، هل أحسست بأنك مستهدف صراحة؟

من الطبيعي جدا أن أحس في لحظة من اللحظات بأني مستهدف، وأن كل تلك الحملة التي أتعرض لها هي حملة منسقة، لكن مع ذلك كنت أقول إنه لا يمكن إرضاء جميع الناس، فهذا أمر من قبيل المستحيلات، لذلك تركت المنتقدين وخصوم تجربتي الشعرية يقولون ما يريدونه، فكانت النتيجة أن انتهوا إلى الصمت.

بخلاف هذا، هناك شبه إجماع على مكانتك الشعرية في العالم العربي؟

قد يكون في كلمة إجماع الكثير من المبالغة، ولكني أستطيع القول إن ما أسميته إجماعا، هو، في حقيقته، حصيلة التراكم الذي حققته في مسيرتي الشعرية، وهو تطور جاء من خلال الإمعان في تطوير أدوات الكتابة الشعرية نفسها من تجربة إلى أخرى ومن عمل إلى آخر. وبالتالي، فإن هذا الاجتهاد من قبلي في تطوير أدوات الكتابة الشعرية كان يثير المجايلين لي أو من يعتبرون أنفسهم متضررين مباشرين من حضوري الشعري، وكان أن تحول النقاش حول شعري من مسألة أدبية ونقدية إلى مسألة شخصية، مما يعطي انطباعا بأن الساحة الثقافية العربية عموما صعبة المراس، ولا يمكن إجراء حوار ثقافي ثقافي فيها بدون دخول أطراف أخرى على الخط.

لكن صراع الأجيال هو أمر واقع، لا يمكن أن يفلت منه أي جيل؟

مصطلح صراع الأجيال يحتاج إلى تدقيق، وإلى تحديد معرفي، كيف نحدد الجيل؟ هل بالاعتماد على معيار السن أم ماذا؟ إذا كان الأمر كذلك فإن السن ليس معيارا لتحديد الجيل. كم من مبدع متقدم في السن ومن الشيوخ أكثر شبابا من المبدعين الشباب أنفسهم، الأمر يرتبط عندي بالنوعية الشعرية، وبالإبداعية وليس بشيء آخر.

هل لهذا السبب عدت إلى المتنبي وأحييته؟

أنا لم أحيي المتنبي، فالرجل شاعر كبير، وشعره خالد على مر الأزمنة، ولكني عدت إلى التأكيد عليه، ولكي أقول إن المتنبي يلخص جماليات الشعرية العربية، كما أني عدت إليه من منطلق الإشارة إلى الأبوة الشعرية للمتنبي، فأنا لا أؤمن بمقولة قتل الأب، ولو حدث هذا فإن ذلك لن يكون إلا بالمعنى المجازي.

أنت عمود شعر المقاومة، هل ما زال يرضيك هذا النعت؟

لقد آن الأوان كي نعيد النظر في هذا التوصيف، وكي نعيد النظر في كل شعر يسمي نفسه شعر المقاومة. أعتقد أن كل شعر يدافع عن الحياة وعن حق الناس في الحياة هو في النهاية شعر مقاومة، مقاومة الاضطهاد والقتل والنفي والاستغلال. ومن هذا المنظور أقول: ما كل قصيدة سياسية مباشرة وركيكة هي شعر مقاومة. إن هذا قتل للشعر، وبالتالي لا تكفي المقاومة كي يكون شعر منحط، على مستوى قيمه الجمالية، شعر مقاومة.

في أعمالك الشعرية الأخيرة، نلاحظ مساحة أكثر للنثر في قصيدتك، وحضوراً لليومي، وخفوتاً للصوت العالي، وكأنك مقبل على شراهة التهام الحياة؟

بالفعل، يحضر النفس النثري في قصيدتي التي أكتبها الآن، وهو نفس يعود بالأساس إلى التطور في تجربتي وتطور وعيي الشعري. وهذه الشراهة التي تكلمت عنها هي إصغاء إلى الحياة. أريد أن أصغي بعمق إلى الحياة، وأن أبعد قصيدتي عن كل نمطية، فالقصيدة بالنسبة إلي هي بحث في الأشكال وهي مصالحة للذات مع العالم.

نصوصك الشعرية هاجرت إلى فضاءات ولغات أخرى وإلى أجناس إبداعية أخرى، مثل الموسيقى أو التشكيل أو المسرح، كيف ترى هذه الهجرة؟

الهجرة إلى فنون أخرى وإلى فضاءات لغوية مغايرة هي إثراء لتجربة الشاعر وحياة أخرى لنصوصه، كما أنها محاولة لإجراء حوار بين هذه الفنون، لكن الأمر في نظري، يحتاج إلى تفكيك أكبر، وإلى قدرة على تحويل قوة النص الأصلي.

وأنت تؤكد على النفس «الجداريات» منذ الملحمي في قصيدتك، لماذا تفرد له هذه المساحة الواسعة في نصوصك؟

قصيدتي هي بطبيعتها قصيدة ملحمية، لا يتعلق الأمر بطول القصيدة، ولا بمساحتها، ولكن بالمناخ العام الذي تسبح فيه، وهو مناخ تراجيدي أكيد. ومنذ ما بعد الجداريات وأنا لا أكف عن منازلة نفسي، وأعتقد أن على الشاعر أن ينازل الشاعر، في شبه مراجعة للتجربة. أنا لا أخطط لتجربتي الشعرية، ولكني في نفس الوقت أراقبها وأطورها.

بعيدا عن الشعر، كيف تعيش يومياتك مقسمة بين عمان ورام الله؟ وكيف تراقب الوضع الفلسطيني؟

أغلبية وقتي أقضيه متنقلا بين عمان ورام الله، وإن كنت أقضي معظم الوقت في رام الله، ويمكن أن أقول إن الوضع الفلسطيني هو وضع مؤسف، ولسوء حظي فأنا أعيش في زمن فلسطيني ليس مثاليا، وأرجو أن تتغلب الأطراف الفلسطينية على خلافاتها، وأن تكف حماس وفتح عن الصراع على سلطة فلسطينية وهمية في ظل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

ولماذا يستعر الصراع بين حماس وفتح، ولماذا لا ينجح الحوار بين الطرفين كل مرة؟

أنا نفسي أحار في الأسباب التي تجعل الحوار بين حماس وفتح يفشل، مع العلم بأن مشروع السلام الفلسطيني الإسرائيلي قد فشل، ومشروع تحرير فلسطين قد فشل. لا بد، في نظري، من إيجاد صيغة مشتركة للخروج من الوضع الداخلي الفلسطيني الراهن، وأتمنى أن تنجح محاولات التفاهم التي تجري في الآونة الأخيرة بين حماس والسلطة لردم هوة الخلافات.

هل يعود هذا الفشل إلى كون الحوارات التي تجري غير مؤطرة جيدا؟

أعتقد أن الخروج من الخلافات الداخلية لن يكون ممكنا إلا إذا كان مؤطرا بأطر سياسية، وهذا يعني أن تكون هناك قوة ثالثة،غير فتح وحماس، موجودة في المجتمع الفلسطيني، ولها قوة التأثير، وهذه القوة يمكن أن تكون هي المجتمع المدني الفلسطيني الذي يتمتع باستقلالية في الرأي وفي القرار والذي يمكن أن يلعب دور خلق توازن في الصراع بين الأطراف الفلسطينية، وهذا واجب المثقفين وواجب القوى المستقلة الفلسطينية التي يمكن أن تكون قوة اقتراحية للخروج من الوضع الفلسطيني الراهن.


شاعر وصحافي من المغرب