في هذين النصين الجديدين يمنح الشاعر المغربي لغته للفقد والغياب وما ينسجه من انكسارات ومن متاهات الزمن الذي يمضي، وهو يوجه ضرباته القاسية التي تزيج من الحياة رواسي لاتقل رسوخا عن الأطلس المغربي. لكنه الوله الذي يجعل للذات أفقا آخر للخلاص والتحقق، حيث الذات في مفترق التيه، ولكنها على ناصية الأمل معا.

قصيدتان

عبداللطيف الإدريسي

 

1. آخِرُ الكفْرِ

إلى الكاف والكاف المعجمة

سائِحَةٌ أَنْتِ في دُروبِ ماضٍ لا تَثْقَفينَهُ

وَسابِحٌ أَنا في الخَطيئَةِ - حَدَّ الغَرَقِ -

في اتجاهِ قادِمٍ أَجْهَلُهُ

فَضاؤُنا أَقْصاهُ ديجورٌ أَرْخى سُجوفَهُ

وَبَعْدَهُ الشّرودُ الأَزَليّ

 

إكْسِسْواراتُنا شاشَةُ أَلْعابٍ لِقَتْلِ ما تَبَقّى مِنَ الزّمَنِ الموْقوتِ

ما نورُ سَيِّدي صاحِب الأنْوارِ بِساطِعٍ

إلاّ اسْتِعارَةً مِنْ ضَوْئِكِ

لَنْ يَسْتَقِيَ ابْنُ المسْكِ الصَّغير شَذاهُ

إلاّ مِنْ مُحِّ ريقِكِ

لَنْ تُزاحمَكِ الصُّوَرُ المتَباعِدَةُ لِبِدايَةٍ

شَهِدَها بَرابِرَةُ العَهْدِ القَديمِ

وَ "جوبا" بِكِلِّ حاشِيَتِه

وَبَنو هِلالٍ في سمَرِها

وَلَنْ تَفيضَ

إلاّ عَنْ ذاكِرَتِكِ

 

كِلابُ وَقِطَطُ المعْمورَةِ حافِظَةُ عِشْرَةِ الزّمانِ

تَتَناقَلُها ذِكْرى

في دُجى اللَّيْلِ وَقَفْرِ المكانِ

عَبْرَ نُباحٍ وَمُواءٍ سَرْمَدِيّين

يخْتَرِقان صَمْتَ اللَّيالي المهْجورَة

يَأْنَسُ لَهُما أَهْلُ الجزُرِ

وَكُلُّ المجلِيّين

المنفِيّين

المبعَدين

تُصاحِبُهُما نَغْمَةُ الوُتار1

وَالعَيْطَةُ بِكُلِّ مَوْجاتها

وَخَريرُ الشايِ اليابِسِ

القادِمِ مِنَ الشَّرْقِ وَهُوَ يُفْرَغُ في الكُؤوسِ

مُخْتَلِطةً بهَمْسِ لَيالي البَيْداءِ الأَثيرِ

وبِأَهازيجِ جِبالِ الأَطْلَسِ

وَهِيَ في المهْدِ

وَحينَ تَرَعْرَعَتْ

وَعِنْدَ الهرمِ

مَصْحوبَةً بِأَكْوابٍ مِنْ صافِيَةٍ

وَبِصَلاةِ البَحْرِ المتَصاعِدَةِ مِنْ الأعْماقِ

المَمْزوجَةِ بِأَريجِ طَحالِبَ تَنْضَحُ راقِصَةً عَلى نوتاتٍ مِنْ مَدٍّ وَجَزْرٍ

وَبِلَوْنِ الكافيار

 

سَيِّدَتي أَنْتِ سَبيلي

وَنهارُ لَيْلي

وَأَمْني وَقْتَ ضَياعِ الأَصْدقاءِ

أَنا الَّذي لا أومِنُ لا بِالصَّداقَةِ

وَلا بِالصَّديق

خَريفي عَلى زَهْرِكِ تَرَبَّع

وَصَيْفي شَدَّ رِحالَهُ إلى دِفْئِكِ

فَأَيْنَ لي بِصَديقٍ طِبْقَ أَصْلي؟

 

سَيِّدَتي أَنْتِ طَوْطَمي الأَبَدِيّ

صَنَمي الأَخير قَبْلَ الكُفْرِ

جَزيرَتي بَعْدَ الطوفان

أَبوحُ لَكِ

وَبَوْحي عِبادَةٌ لي فيكِ:

لَقَدْ حاوَلوا إزاغَتي عَنْ كُفْري

أَرْسَلوا إلي الزيغَ مَرَّة في صُورَةِ أُسْطورَةٍ

عَلى ظَهْرِ سَفينَةِ المجانينِ

تَسْتَجْديني في أَنْ أَسْطُرَ تاريخَ سَيِّدي صاحِبَ الأَنْوار

وَسَيِّدي ابْن المسْكِ الصَّغير

- ما سَيِّدي ... إلاّ سيّدتي

-  قُلْتُ وَالكِبْرِياء يَعْتَريني -

أَهْداب كَيْنونَتي مِنْ عِطْفِ ...

سَيِّدَتي

- ما سَيِّدي ... إلاّ سَيِّدَتي

- أَضَفْتُ وَمَلامِحُ سَحْنتي نوتات عَلى صَفْحَةٍ بَيْضاء -

نَفْحُ طيبي الَّذي يَنِزُّ عَرَقاً نَبْعُهُ...

سَيِّدَتي

- ما سَيِّدي ... إلاّ سَيِّدَتي

- قُلْتُ ثالِثَةً وَأَنا أولَدُ ثانِيَةً -

قَرينَتي في الهيامِ وَالتّيهِ ...

سَيِّدَتي

أنتِ يا صَديقَتي في الشُّرودِ الأَزَليِّ

 

أَيُّها الأَطْلَسِيُّ

يا جاري الفائِض

ما لَكَ تَنْصُبُ هَكَذا جِبالَكَ الشامخَةَ

طَمَعاً في ذِرْوَةِ الذُّرى

وَتَسْهَرُ لَياليكَ عَلى نورِ شمْعَتي

وَقنْديلِ سَيِّدَتي

تُطْعِمُني عَضّاتِ سمكِ القرْشِ

وَتَطُمُّني بِالعارِ

بَيْنَما جارُكَ الهنْدي تَرْقُصُ أَمواجُهُ عَلى نَغَماتِ تْسونامِيَةٍ

يُريدُ بها إيقاعي في دَرْبِ الزيغان

 

أَيُّها الأَطْلَسِيّ

أَصْرُخُ في عُمْقِ أَحْشائِكَ

مِنْ أَعْلى صَخْرِةٍ نُقِشَتْ عَلَيْها قُبور الفينيقيّينَ

وَأَشْياء أُخْرى

وَأُطِلُّ عَلى يمٍّ لم تَذْكُرْهُ أَساطيرُ العَهْدِ القَديمِ

لمْ يُلَوِّثْهُ دَمُ الأَنْبِياءِ

وَلا الفَراعِنَةِ

بحْرٌ اصْطَنَعَهُ هِرَقْل كَأْساً يَروي بِهِ ظَمَأَ خَلِيلَتِهِ

أَنَّكَ لَنْ تَنالَ مِنْ زيغي شَيّا

لأَني عَلى سَيِّدَتي صُلِبْتُ

وَفيها دُفِنْتُ

عاشِقاً لما تَبَقّى مِنَ شَجَرِ الزَّيْتونِ وَأَسْرابِ الحمامِ

مُمارِسا كُلّ أَنْواعِ المروقِ

 

أيُّها اليَمُّ

آخِرُ الكُفْر كانَ

حينَ نَسِيَني مَعْبودي

وَأَنا لَهُ كَنود

رَأَيْتُني

وَكُلّي إيمانٌ

والجاً - مِنْ غَيرِ رَجْعَةِ –

بابَ

سَيِّدَتي السَّرْمَدِيَّة

 

بيزوس المحروسة 27 أبريل2010

 

 

 

2.  صَنَمي لَيْسَ لِلْبَيْعِ

{إلى أبي الذي أصبح يمرّ عليه الوقت دون أن يعي ذلك، في ذكرى المواقيت التي لم نقضها مع بعض..}

رَأَيْتُني وَقَدْ مَرَّ عَلَيَّ الزَّمانُ

وَما أَدْرَكْتُ مِنَ الوَقْتِ الَّذي يَقْرِضُني شَيْئاً

حَسِبْتُني أُطَوِّعُهُ

هُوَ مُرَوِّضي

 

رَأَيْتُني جَذْلانَ تارةً

وَأُخْرى كَظيماً تَعْباناً

مَحْبوراً

أيّامَ العيدِ

حَزيناً

لَيْلَةَ الميلاد

أَبْكي مَرَّةً

وَمَرّاتٍ أَتَهَمَّعُ

طوراً أَسْعَدُ قَبْلَ البُكاءِ

وَطَوْراً بَعْدَهُ

وَأَطْواراً يَرْكَبُني الشَّجَبُ

هَكَذا وَدَوَلَيْك

أُوَلِّدُ الأفْراحَ مِنَ الأَتْراحِ

وَالأَتْراحَ مِنَ الأَفْراحِ

أُفْرِغُ

- وَذو التُّرَّهات –

كُؤوساً مِنْ نَبيذٍ رَحيقُهُ الإفْكُ

وَما رَأَيْتُ مِنَ الفائِتِ المنْحَدِرِ شَيْئاً

افْتَرَضْتُني أُطَوِّقُهُ

وَنجْمي آفِلٌ

 

رَأَيْتُني أُصَفِّقُ

وَأُصَفِّرُ

عارِياً

في الأعَراس

عِنْدَ المحَجِّ

مُرْتَدِياً جميعَ أَنْواعِ الأَتْراس

أَتَعالى ما فَوْقَ الأَعْلى

طَمَعاً في ذِرْوَةِ الذُّرى

لأَنحَطَّ بَعْدَها إلى أَقْصى عُمْقٍ في القاعِ

وَأُعيدُ الكَرَّ بَعْدَ أَلْفِ فَرٍّ

وَما رَأَيْتُ أَنَّ صَنَمي المنْحوتَ

الَّذي عَبَدْتُني

كانَ مُبَرْمجاً - في الشَّيء اللَّدُنيّ –

لِلْبَيْعِ بِالمزادِ العَلَنيّ

قَبْلَ وُصولي

وَبَعْدَ ذَهابي

- لَقَدْ وَصَلْتَ مُتَأَخِّراً أَيُّها الخضْرُ -

لا أَريدُهُمْ أَنْ يَفْقَهوا قَوْلي

وَلا أَنْ أَصْحُوَ

وَلا أَنْ يُكَلِّمَني لا هارون

وَلا هاروت ولا ماروت

لَكِنَّني صَحَوْتُ

أَيُّها الخِضْرُ

وَعِنْدَما تَنَبَّهْتُ لِذَلِكَ

كانَ قَدْ فاتَ الأَوانُ

فَصَرَخْتُ بِأَعْلى ما تَبَقَّى مِنْ صَوْتي

مِنْ أَعْلى ما تَبَقَّى مِنَ انْحِداري :

- صَنَمي لَيْسَ لِلْبَيْعِ

 

في أَحَدِ الأَسْواقِ

بَيْنَ آخِرِ اليَقَظَةِ وَبِدايَةِ النُّعاس

رَأَيْتُني كَمَنْ أُذْنُهُ بَيْنَ أَصْبُعَيْ نخّاسِ المواقيت

يُساوِمُني القادِمُ مِن الزَمانِ المتَواري

القاصِدُ الزَّمانَ المتَواري

صِحْتُ مَعَ الأَعْمى

وَقَدْ لَزِمَني ما لا يلْزَم :

- يا أبي ..

هَذا ما جَناه عَلَيَّ جَدّي!

 

بيزوس المحروسة، 27 مارس 2010

 

--------

(1) آلة الوتار آلة موسيقية