مرة أخرى نبدو وكأننا ندور في حلقة مفرغة، فالدعوة التي تنطوي عليها رسالة إبراهيم يزبك في مجلة (العصر الحديث) العراقية قبل سبعين عاما هي نفسها الدعوة التي انطلقت منها مجلة (الكلمة) وعبرت عنها افتتاحيتها في العدد الماضي. فهل ثمة أمل في أن نتقدم للأمام؟ وأن نبلور مادعته الصديقة الشاعرة إيمان مرسال في رسالتها لي بالخطاب الثالث لنكون حقا جديرين بذاكرتنا، ولنتخلص من أنشوطة هذه الحلقة الجهنمية المفرغة؟

إلى الأدباء الديموقراطيين في الثقافة العربية

إبراهيم يزبك

في هذه المرحلة الخطيرة التي تمشيها الأقطار العربية، وإنها لوثيقة الالتحام بالنضال الطبقي المسيطر على الغرب، يجب على الأدباء الذين يكتبون باللغة العربية ويدعون للفكرة الديمقراطية أن يتعارفوا ويلموا (شعوثهم) ويتعاونوا لأنهم بعد مدة قد بدأت طلائعها تطل سيكونون القادة الحقيقيين في توجيه تفكير الجماهير إلى أهداف التحرر من أنيار الإقطاعية الكثيرة الأسماء والعديدة الأنواع: جنسياً ومالياً وروحياً والتي تنتهي جميعها في دائرة واحدة لتستعبد الإنسان.

وإذا كان تعارف هؤلاء الأدباء في الماضي صعباً، وتعاونهم عسيراً، لأنهم كانوا قلائل يكاد عددهم يحصي باليدين الاثنتين ولان بلدانهم كانت في شاغل ملحاح مستعجل صرفهم ـ مؤقتا ـ عن هذا التعارف فلم يبق لهم اليوم أي عذر في النكوص عن التعاون وهم يزدادون عدداً ـ اللهم زد وبارك! ـ وبلدانهم دخلت في طور جديد جعل لها بعض مناعة الاستقلال مهما ثقلت قيود هذا الطور عليها وجماهيرهم بدأت تستيقظ ضمائرها ويتفتح وعيها وتتذوق لذات الانتصار

إن الجهاد الدامي الذي أعلنته الأقطار العربية على محتليها لم يقف مهادناً، والتفسير العلمي لهذه المهادنة هو انتصار النضال الديمقراطي على مبدأ السيطرة والاستعباد. ولكن لا بد لنا من الاعتراف بان هذا الانتصار رافقته وأيدته وظاهرته عوامل وعناصر سياسية واقتصادية ترجع في أكثرها إلى الأزمة التي يتخبط الغرب في دياجيرها ففي أول مناسبة يخف تأثير تلك العوامل والعناصر كان يقضي ـ لا سمح الله ـ على حكم الجبهة الشعبية في فرنسا فان البلدان التي تتكلم العربية تواجه عندئذ خطوباً جسيمة وتنقض أول ضربة من هذه الخطوب على كل شيء شعبي، عملاً بمبدأ الاستعباد، وانتقاماً له من انتصار النضال الديمقراطي عليه. ونحن نعلم أن المسيطرين على المجتمع الإنساني باستطاعتهم تسخير كل شيء فيه ـ حتى التعاليم الروحية! والقوانين. ورجال الدين. لخدمة أغراضهم. فلن يعجزوا عن إيجاد كتلة (بلدية) جديدة من الطراز الحديث يكون أفرادها أحط واسفل وألأم من أفراد الكتلة التي استخدمها العهد الماضي لمحاربة أماني الشعب، استمرت المهادنة ومشت بالبلدان العربية في طريق الاستقلال فالدعاة للفكرة الديمقراطية سيقومون بالدور الرئيسي في إيجاد تيار قوى لرفع مستوى الحياة الشعبية وخلق جيل جديد يعلن الذل الذي عشنا فيه، فنحن على كل إذن أدباء الديمقراطية في زمن أحوج ما نكون فيه إلى التعارف والتضامن والتعاون.

إن الأدباء والمتأدبين الذين يدينون بالفكرة الشعبية في بلداننا يكثرون سنة بعد سنة؛ ويوما بعد يوم، وأني قمين بأنهم يصبحون كثرة ضخمة مذ يتعارفون ويضمون إليهم عدداً كثيرين من الحائرين الذين يعبدون في أعماق قلوبهم اله الديمقراطية، ولكنهم يجهلون ما يعملون أمام التيارات الرجعية الكثيرة الرقصات البهلوانية والمظاهر الكشكشية.

إن الأديب، الأديب، الذي سمت مواهبه ونضجت إنسانيته هو في الغالب ديمقراطي النزعة. وما القول بان الأديب يجب أن يتجرد عن أية دعاوى وأية نزعة ويكون للأدب وحدة، بقول هراء، بل قول مسموم تدسه مطابخ الرجعية في صحونها الزاهية، وألوانها الدسماء. لتصرف الملهمين عن خدمة الديمقراطية. فيظل السواد الأعظم من العالم عبداً في قبضة المسيطرين.

إن المجتمع الحالي قائم على أسس معضمها ـ وكدت أقول كلها ـ مربوط بعناصر اقتصادية وصارت ذهنيته بحكم هذا الارتباط ذهنية: من يعيش ليربح المال، لا: من يربح المال ليعيش! وبما أن الأديب مصور (فوتوغراف) المجتمع، ناموسه (سكرتيره) فمن الصعب إن لم اقل من المستحيل أن لا يتأثر بتلك الأسس. وما دام المجتمع قائماً على هذه الدعائم وهي تؤدي حتماً إلى النظام الطبقي، ولا يمكن أن يرمي هذا النظام إلى وحدة إنسانية شاملة (الأديب للأدب وحده) ـ فلا بد للأديب أذن من أن يصطبغ بلون عمله.

انتهينا إلى حيث نقصد من هذه الكلمة:
قلت أن الشعب ما يزال تحت انيار الإقطاعية الكثيرة الأسماء والعديدة الأنواع: جنسياً ومالياً وروحياً وليس من أديب واع وصادق يرضي بهذا العيش. كل أديب حتى أولئك الذين استعبدتهم (ظروفهم الخاصة) أو أعمت بصائرهم ثقافة الرجعيين، يرى عندما يخلو إلى نفسه ويفحص ضميره: أن هذا المجتمع ظالم، دنس، رديء، كلب، ولكن معظم الأدباء المعروفين في العالم العربي يكونون من صميم الشعب العائش تحت الانيار، يجارون لسوء الحظ هذه الأوضاع، لأنهم مخدرون بالنزعات الخيالية، والمعتقدات التصوفية والتقاليد الموروثة عن القرون الوسطى. والذين يماشون المجتمع ويخدمون إقطاعيته عن تعمد وسابق تصور وتصميم هم فئة ضئيلة فعلينا إذن أن نتعارف ونلم (شعوثنا!) ونتعاون كي نهدي زملاءنا الحيارى والتائهين والمخدرين سواء السبيل ونضمهم إلى صفوفنا.

إن الأدباء الدعاة للفكرة الديمقراطية في الأقطار العربية يستطيعون أن يخلقوا في عشرين سنة جيلاً شعبياً جبارا يمرح بالسعادة والخيرات وذلك بتصويرهم المجتمع كما هو: يجب أن تخرق (عدسة) الآلة التي يصورون بها جميع الحجب وان يفهموا الشعب الحقيقة عارية كما هي. فان الديمقراطية والأدب الواقعي (رياليسيم - Realism) أخوان لا يفترقان.

فإلى هذا التعارف وهذا التعاون فلتدع الصحف الأدبية الديمقراطية وقد بدأت تكثر، وتنتشر وتنمو وتثمر والحمد له! وحبذا لو تقوم إحداهما بدعوة كتابنا المعروفين بهذه النزعة إلى عقد اجتماع تنبثق منه فكرة التنظيم العملي الصحيح.

أيها الأدباء الديمقراطيون، أدباء النبل والخير، إن بلدانكم اليوم هي أحوج ما تكون إلى أقلامكم النزيهة، وأفكاركم الحرة، وقلوبكم المحبة، فتعارفوا واتحدوا وتعاونوا. وإن المستقبل الأبيض الهانئ المبارك، يبسم للديمقراطية!

من مجلة (العصر الحديث)، العدد 4، السنة الأولى، الثلاثاء 15/حزيران/1937، مجلة علمية اجتماعية نصف شهرية، صدرت في بغداد عام 1937.