ظل سؤال الموت يشكل زخما لافتا للفلسفة المعاصرة، لكن، مواجهته شعريا أضفى على النص الشعري زخما أقوى. هنا، قصيدة للشاعر الأردني/ الفلسطيني تعيد لشعرية الموت بلاغتها الخاصة. وتدفعنا لتمثل السؤال لا كغياب، بل كعودة لهذا "المسح البصري" الدال الذي يقوم به الشاعر لماضيه وحاضره ومستقبله.

حينَ يأتي الموت

موسى حوامدة

حينَ يأتي الموتُ

سأبصقُ في وجهِ الحياةِ؛

أقنعُ نفسي أنَّ الدُنيا بائسةٌ،

والناسَ كلَّ الناس ديدانٌ صفراء.

 

حين يأتي الموت

سأزرع الغروب في حديقة الوداع؛

أعلنُ هزيمةَ الإنسان

وألقي فلسطينَ

في دفتر الغياب.

 

حين يأتي الموت

سأرمي زهرةَ الخلود

في وجه جلجامش

وأهزأُ

من نصائح الأطباء.

 

حين يأتي الموت

لن أساومَه

لِيُحرِّضَ المُقرَّبين

على حفلات النواحْ؛

... كُلَّما كان عددُ المشيعين أقلّ

كان ضميري أكثرَ بياضاً،

وكلَّما كانت الدموع أقلّ

كانت أخطائي أجمل.

 

لينصرفِ المُعَزّون

قبل تدشين البياض..

لينصرفوا؛

ليست لي حاجةٌ إلى مديح ناقص،

ليستْ حسناتي مشجباً للنفاق،

لينصرفِ الأوغادُ؛

ما نفعُ الزَفَرات لأطباق السماوات؟

 

لينصرفِ المحسنونَ

            طيبو القلب،

            مخلصو النوايا.

ماضيَّ

حاضري

وغدي مات

ولستُ حريصاً على فرصةٍ للنجاة.

 

حين يأتي الموت

لن أعتذر للريح التي تَنفستُها

ولا للخيطان التي لامَسَتْ جسدي،

لن أعتذر للماء الذي شَربتُ

ولا للوهم الذي تلبسني

أو توهمت،

ولا للبلاد التي ظلت عالقةً في ظهري كالسلحفاة..

 

لن أعتذر لأحدٍ

أو بلد.

ربما أُحرِّرُ روحي من فساد الكون،

أسرد لِذاتي طِيبَتي الكاملةَ

وأناقةَ الربيع في كتاب الصيف؛

ربما ألمسُ وجه أمي بيدين نظيفتين،

أسمع سعالَ أبي

أشمُّ رائحةَ صدره بلا معجزات.

 

حين يأتي الموت

سأقطعُ المسافةَ بين الحياة والموتِ

برجفةٍ شبقيةٍ عابرةْ،

تماماً، كما حدثت تلك الشهقة المدوية،

في المرة الأولى،

على رَدْفَيِ الأرضِ العذراءْ.

 

جبالٌ لا تلهيها صلاةٌ

ولا أدعيةٌ عن مُناداتي

تموتُ معي؛

تمشي في جنازتي،

بكامل العنفوان تُحيي حفلَ الختام.

 

حين يأتي الموت

سأهربُ إلى حضن أمي

ووجهها الناعم؛

إلى يديها الرقيقتين

ونظرتها الغريبة،

سأحملُ لها سريرتي الكاملةَ،

أعترفُ لها بهفواتي العديدة؛

بعجزي عن تحرير رقبتي من دنسِ الشهوات؛

بغفلتي السابقة عن مصادفةِ الحكمة؛

بطيبة التين والزيتون؛

باضطراب الذاكرة؛

بموت الناس، جميعاً،

عند انحسار النعمة.

 

لن أصرخَ نادماً على مسقط رأسي،

لن أموتَ حزيناً لأني لن أدفن في طين بلادي،

لديّ من الخيال

ما يجعلني أضمُّ ترابَ العالم بين يديّ.

 

في كلِّ ذرة من الكون

جسدي هناك،

لن أموتَ غريباً في أي مكان،

لدي في كل مربعٍ جثةٌ كاملة.

 

أسمعُ دبيبَ الخوف

يسري في أوصال الكائنات.

لن أصرخَ مرتعداً،

لستُ شجاعاً أكثرَ مني

ولستُ جباناً لأهرول خلف قطار الفرصة الضائعة،

لا أملكُ طاقةً على الهروب من اللُعبة.

 

أضحكُ بملء شدقيَّ،

أضحك ـ إن أسعفني فكّايَ ـ

على الذين يبكون من الموت

يحسبونه عدوهم الوحيدَ،

بينما تناسَوا أنَّ الزوال

لغةٌ فيزيائية قديمة؛

تناسَوا أنَّ الموت لم يأتهم من الغيب

ولا من ربَّات الجحيم،

بل من تعلقهم بالحياة،

ومن أجسادهم المعطوبة.

 

اكتملتْ رحلة الأسى،

انكسرتُ بكلِّ بطولتي،

بكاملِ شجاعتي،

بملءِ إرادتي،

وفي كل معاركي الوجودية والحياتية انهزمتُ،

وتلكَ كانت فضيلتي.

كلَّما كان عدد المشيعين أقلَّ

كانت حريتي كاملة.

إيماني بالله حَمَلني بخفةِ الملائكة،

لست في حاجة إلى الملقن والمقرئ؛

لست في حاجة إلى المراثي والنواح،

فلستُ ذاهباً إلى حفلة خداع هناك؛

إنني

      عائدٌ

            مني

                  للأزل.

 

 

Musa.hawamdeh@gmail.com

إحدى قصائد المجموعة الشعرية (موتى يجرون السماء) والتي ستصدر قريبا عن دار أرابيسك في القاهرة.