يتناول الباحث تعريفات الثقافة، ويجادل في مفاهيمها كحقائق جامدة أو كحراك يعكس سياقها التاريخي، ويؤكد على أن الثقافة ليست فعلاً نخبوياً. كما ويشير إلى خصوصية ثقافة الشعوب، وضرورة أنسنتها من خلال تواشج المعنى المنتج مع رقي الذائقة والقيم.

التنمية الثقافية بين الفعل الثقافي وأنسنته

عبد الإله محرر

كل إنسان، انطلاقاً من أصوله، وسطه واختياراته يشكل مقاربة ثقافية. ويتعلق الأمر بتحليل الفعل الثقافي وتعبيره، وآفاقه علماً أنه عند دراسة طقوس وتعبيرات أية جماعة وأي مجتمع وأي شعب، يظهر جلياً أن المجال الثقافي ليس له حدود. فالميتولوجيا، واللغة، والممارسات، والطقوس الشعائرية والاحتفالات، كل هذا يشكل ما يمكن تسميته بالثقافة، وبالتالي ليس هناك تعريف محدد ومضبوط للثقافة. لكن هناك عملياً، ترجمة لعالم متحرك يبدي تعبيرات تترجم ضمنياً الجانب المتعلق بالإدراك الحسي والشعور والخيال والتأمل، هذا التفاعل يؤدي الى الانسجام مع وداخل هذا العالم المتحرك. بل ويتجاوزه بالفعل الثقافي الفني والإبداعي، تعلق الأمر بالتأويل، والمزاج، والإخراج، والتعديل لمحصول ومنتوج الواقع، أو بارتداد التأمل على الواقع، علماً أن هذا الانعكاس يدخل كذلك في الواقع ويساهم في تعديله.

الثقافة هي كل لا يتجزأ، تأخذ شكلاً حسب المعطيات الزمانية والمكانية، وتشريعات عرفية، أحياناً عجيبة! تنبثق عن الأذواق، الأحاسيس، الانفتاح، الفضول، الاكتشاف والحب. والثقافة ضرورية للإنسان في البحث عن السعادة والتوازن، دونها ينتعش الجهل والعنف، ويتراجع مستوى الشعوب ويكثر التلاعب بالأخلاق والقيم. الكل يتفق على أنه ليس للثقافة معنى محدداً، هل هي مجموع المعارف التي تؤهل الفكر لتطوير معناه النقدي وذوقه ورأيه وأحكامه؟ هل هي مرادف للحضارة أم أنها كما قال ادوارد هيريو: "الثقافة هي ما تبقى عن نسيان كل شيء" هل ما اعتمدته الفلسفة كتعريف يجيب على جميع الأسئلة والتساؤلات؟ أي أنها "ما ينقل عن الأجيال السابقة من مجموع الاعتقادات والحقائق التي تعطيها قوة الصواب لأنها تعلم كحقيقية في السن الذي يكون فيه الفرد لا يكتسب وسائل التمييز"، وهذا يشكل دوغمائية مفروضة على العقل. بينما التطور الطبيعي لكل ثقافة يكمن في إعطاء العقل إمكانيات القدرة على التفكير والتقييم والتمييز، "وليس فرض حقائق جامدة. الثقافة تمنح للفكر القدرة على إعادة تقييم هذه الحقائق حسب الزمان والمكان، علماً أن مقارنة ثقافة بأخرى تساعد على تطوير المعرفة وتؤكد الحقائق أو ترفضها.

الثقافة ليست محايدة
عبر مراحل التاريخ لم تكن هناك يوماً ثقافة محايدة، فهي تعكس منطق القوة في سياق اجتماعي-سياسي. فكل فعل سياسي يعكس مقاربة ثقافية. في هذا الإطار يدخل العامل الإيديولوجي، وما يصاحبه من تدابير دفعت باختراع تقنيات جد متطورة تسمح بالبث الواسع أو التقليص إلى أدنى الحدود للمعلومة والمعرفة أو تشويهها، وكذلك بتوجيه أو استغلال الخبر والتواصل، وبالتالي التحكم القبلي في إنتاج الثقافات ونشرها عبر كثير من الوسائل. وبما أن التعامل مع الثقافة يخضع إذن لعلاقة مزدوجة ترتبط باستهلاك الثقافة من جهة، وبالخلق والاختراع والمشاركة في إنتاجها من جهة أخرى، فإن التحكم فيها وضبطها وتحصينها لا يتم إلا بتنميتها، وجعل كل فرد، وبالتالي كل جيل يقبل ويستهلك ويطور تعبيرات عصره.

الثقافة وعبقرية الشعوب
العلاقة بالثقافة تحددها هواجس فهم المعطيات التاريخية مكانًا وزماناً للعبقرية الخصوصية لكل شعب، تعبيرات التاريخية وتراثه، تعبيرات حياته اليومية، تعبيرات قيم مرحلة معينة مروراً عبر الأجيال. فمنذ الإنسان البدائي عرفت الإنسانية عدة تحولات عبر مراحل التاريخ، إلى أن جاء الفن اليوناني مستغلاً كل الذكاء: الفكر المنطقي ووضوح أفكار المبدعين، هذا الفن عرّف أكثر بشخصية الإنسان، وعكس الحياة كما كانت تعاش قبل 25 قرناً من طرف شعب خلاق ونشيط. لقد استطاعت الإنسانية الاحتفاظ بهذا الموروث الثمين الذي شكّل أسس عصر النهضة Renaissance، أي إعادة الحياة بإعادة اكتشاف أفلاطون. وعبقرية الشعوب رفعت من وثيرة التحولات بفعل التقدم التقني الذي أصبح يساهم بنسبة كبيرة في التعديلات التي تطور الثقافة، باختراع وسائل متطورة للتعامل مع الحاجة، وكذلك التعبير السينمائي الذي يسمح بإخراج مغاير للواقع ويطوره. وبهذا الخصوص فالتكنولوجيا سمحت للإنسان بأن يرى نفسه يعيش، ويعرف ما يميزه. وهذا يؤهل للنقد والتصحيح.

الثقافة والإنتاج
إذا كانت العلاقة بالإنتاج تطبع ثقافة شعب في العمل، فهذا الشعب بتراثه وأصوله، ثرواته وعبقريته، يحدد أشكال ثقافته، لأن الثقافة ليست بالفعل النخبوي بل هي التي تنتج النخبة، أي النخبة المبررة، وليس بمفهوم النخبة أولاً، بمنطق أن الخلق يعني السبق كما هو مكرس في مجال الاختراع للحفاظ على المكتسب الفردي أي حقوق الإنتاج. وهذا محفز واحتكاري في آن واحد لأنه يعطي الحق للسبق ويحرم الآخر من فخر اختراع مكرر، وضمنياً يخلق نخبة محتكرة للامتياز. وبما أن الثقافة لا يعتمدها المجتمع إلا بتعبير معترف به ومتراض عنه بشكل واسع، وأن حقل ومحيط تأثير السبق لا يقبل التكرار، فإن التطور يفرض نفسه إيجابياً أوسلبياً، وأصبح التطور السلبي ينمو بشكل سريع، الشيء الذي يجعل الفعل الثقافي الإيجابي لا يتجاوز مصدره. بطبيعة الحال فالديمقراطية كما قال فرانسوا ميتراند: "هي كذلك حق مؤسساتي في الغباء".

الثقافة والرقابة
إدراك ما يحيط بالثقافة من مخاطر وظواهر ثقافية سلبية، يبرر منطق الحاجة إلى الرقابة، لكن ليست تلك الرقابة التي تمارس بالمنع وبشكل يكبت الحريات باسم الضمير، بل يتعلق الأمر بخلق آلية تطبق بشكل رفيع للتقليص من بعض الحريات، وذلك بعدم تشجيع بعض المظاهر المضرة بالنشاط الثقافي، أي التقليص إلى حد ما من حرية التعبير بالنسبة للفنانين، والمبدعين في جميع المجالات، بالطبع ليس كل الفنانين على قدر سواء في خدمتهم للمجتمع. وحين نقول فنانين فإننا نستحضر العباقرة الذين صنعوا وأطروا شعوباً راقية ورفيعة. وكذلك يجب التفكير في مستقبل الذين صدّقوا أنهم مبدعين كباراً، لكن مستواهم ظل دائماً ضعيفاً ولم يشكل وجودهم إلا ثقلاً على مجتمعاتهم، ناهيك عن دورهم السلبي في تأطيرها. لكن، يجب الانتباه الى أن أينشتاين وبيكاسو ونيتش تعرضوا للرفض واعتبروا بدون قيمة قبل أن يثبتوا العكس.

الثقافة والسمعي البصري
دشن تطور السمعي البصري نموذجاً جديداً لمجتمعات تنتج ثقافة جد متطورة دون أن تكون كلياً، في حاجة إليها، مجتمعات الفرجة. ما أدى إلى تحويل البحث التقليدي عن معنى الأشياء وعن إمكانيات تحيين مختلف المعاني الكونية، والتجارب الإنسانية، إلى نزوات حينية ومتعة متواضعة تسير نحو اللامعنى. فالمشكل لا يكمن في فهم معاني الأشياء، بل في إنتاج الأشياء التي تستحق البحث عن معناها. في عصر السمعي البصري، أصبحت الثقافة خاضعة لتأثير هؤلاء الذين لا ينحدرون من منابع اجتماعية مثقفة، وهنا يكمن التحول السلبي، هناك اجتياح لثقافة لقيطة بدون مراجع لا تتغذى من قطاعات المجتمع المعنية بالمعرفة و بتنمية الثقافة. بل بالقنوات الفضائية المختلفة بدل المدرسة، وبالصحافيين بدل نساء ورجال التعليم، وبالنجوم بدل الأمهات والآباء، هذا المشهد جعل الإبداع الغني بالمعلومات والمضامين والمعاني الحقيقية لا يتوفر إلا على أقل الحظوظ في الترويج والرواج على مستوى الإعلام، بينما كل الحظوظ مع الأعمال الرديئة، والمرشحة بأن يكون لها صدى واسعاً. إنه صراع بين الذكاء الغبي والغباء الذكي. فالذكاء الغبي يأتي بالخلاصات والدراسات ذات المضامين والمعاني الحقيقية ويعجز عن الوصول إلى العقول والأحاسيس، وبالتالي لم يعد له مكان وسط مجتمعات يسيطر عليها الغباء الذكي المنتج للأعمال الرديئة ويبدع في كيفية ترويجها إعلامياً وواقعياً، حيث يجد له صدى لدى العقول التي أصبحت مؤهلة لالتقاط كل ما هو مثير ويفتقد معنى.

أصبحت القنوات الفضائية تشكل الوسيلة الأكثر قوة لإغناء أو إفقار ثقافة الغد. علماً أنه لا يمكن إغناء الفكر بدون حوار ونقاش. فإنتاج البرامج التلفزيّة لا يسير وفق مبدأ السمعي البصري الإنساني الذي بإمكانه المساهمة بشكل قوي في تنمية الثقافة، الفضائيات سلبت للإنسان كل الوقت الذي يمكن استغلاله في القراءة، علماً أن لا شيء يحل محل الكتاب الذي يشكل آلية مهمة للمعرفة والتأمل، اللذان يساهمان في تفتح الفرد وفي تنميته. فالمجتمعات في حاجة إلى التأطير الكتابي والخطابي، وحده يخلق التقارب بين الفكر والفعل، وبالتالي تنمية الثقافة بالمعرفة الناتجة عن التأمل، والمتعلقة بالإدراك والحب والفعل.

معرفة القدرة على الفهم والإدراك
تبتدئ من البيولوجي وتنتهي بالثقافي، فحسب ج. ب. شنجوه CHANGEUX: "التربية تقوي وتزيد من غنى الاتصال بالنسبة للخلايا العصبية - neurones - وبالتالي يصبح التطور ثقافي أكثر مما هو بيولوجي". فالعلاقة بين الأجيال مثلاً، تتغير طبيعتها بمجرد ما يتغير المكان. الإنسان الحالي هو نتاج لتطور مرتبط أكثر بالتربية المكتسبة من الإرث البيولوجي، حيث البسيكو-اجتماعي يسيطر على البيولوجي، أي أن المكتسب يدبر الفطري ويروضه، لذلك فالإنسان المثقف يرفع من إمكانياته في الإدراك والفعل، بل ويتجاوز الانتقاء الطبيعي.

معرفة القدرة على الحب والإرادة
كل فعل ثقافي ناتج عن إرادة دافعها الحب والرغبة الصادقة فهو إنساني والقدرة على الحب تفرض القبول المتبادل والتسامح حتى النهاية التي يجب أن تجعل من كل فرد مرجع للباقين. إنه لمن الخطر أن يعيش الإنسان بذكاء شرير تجاه نفسه، ويعيق تطور إدراكه الثقافي. علماً أن هدف الإنسان، بكل بساطة، هو السعادة، والسعادة ليست طبعاً إلا ثمار الحب باعتباره الطاقة التي تشغل الإرادة، لكن القدرة على الحب تبقى رهينة بتجنب خطأين متوازيين:

الخطأ الأول هو ترك الحيوان الوحشي الذي يسكننا يتطور ويكبر مند ما قبل التاريخ، والذي يتحكم في عاطفتنا، شهواتنا وغرائزنا، يبرر الإرادة في القوة، يحفز هروبنا إلى الأمام، ويرجح ذوقنا في الوهم، في الخطأ وفي الخيال الذي يطمس رؤية الحقيقة.

الخطأ الثاني هو التخلي عن القيم الإنسانية والاستسلام إلى عقلانية وهمية تؤدي إلى ممارسة المثالية والدوغمائية بكل أشكالها. يقول علماء النفس، الأنا والوعي لا يمثلان إلا جانباً صغيراً جداً ودقيقاً في النفسائي، يتعلق الأمر حسب ج. ب شنجوه: Changeux بالعقول المكونة للروح: الزاحفي le reptilien، الذي يعيش الحاضر، الحوفي Limbique le الذي يشتغل على الماضي والتجارب السابقة سارة كانت أم مؤلمة، والنيوكورتيكس Néocortex الذي يفتح المجال المخيالي، ويشتغل على المستقبل. وحسب كريستيان بواغون Boiron، في كتاب مصدر السعادة: "كل من هذه العقول ضروري لتوازن الإنسان، وبالتالي لسعادته: الزاحفي: مسؤول على مراقبة وتدبير الفيزيولوجيا العضوية، الحوفي: مسؤول على المحافظة على الجنس البشري والفرد، و النيوكورطيكس Néocortex هو منبع التقدم والتطور، والتناغم بين هذه العقول يعني أن الوعي في صحوة دائمة"

نستخلص أن الانسجام النسبي لهذه العقول يؤهل إلى أنغمة الذات باستمرار، وبالتالي التفتح والانفتاح المؤدي إلى تنظيم سيادة الثقافة على الطبيعة الفردية أو الفطرة وإلغاء كل الطابوهات وكل ما هو وهمي، مع الجمع بين الذكاء والوجدان، هذا وحده كفيل بالسير نحو المعرفة الهادفة التي تدفع إلى التحليل الجدلي للموضوع وللشيء، الأمر الذي يشكل عقلانية صادقة ومخلصة لكياننا تلمس وجودنا العميق وتسمح للعقل بإيجاد الروح، باعتبار أن هذه العقول مسؤولة نسبياً، على توفير وتدبير وصفة سعادة الإنسان، وهي بالتتالي: الاندماج في اللاوعي الجماعي، والشعور باكتساب هوية، والانفتاح على الحياة والعالم.

معرفة القدرة على الفعل
استهلكت قرون من تاريخ الإنسانية ويلاحظ أن كل ثقافة تحتمل تكنولوجية وكل تيكنولوجيا تعد ثقافية. فالنشاط الإنساني يفترض آليات ثقافية أو يدوية تفرض بروز وتطور تكنولوجيا. مثلاً التكنولوجيا الصناعية الحديثة هي امتداد، عبر مراحل، لثقافة إنسانية في مكان ما ومن أجل منفعة ما. لذلك فأي شيء نفعي فهو ثقافي. لأن دراسة وتحيين أي هدف يأتي عن طريق الحاجة البشرية. خصوصاً وأن هذه الآليات التكنولوجية أصبحت اليوم قاطرة للتنمية الثقافية باعتبارها نشاط يخدم الفيزياء والرياضيات من الناحية التجريبية ويشكل فرصة تكوين مهني أولي بإدماج المعرفة الفيزيائية في التعامل مع الأشياء، وبالتالي اعتبار الفعل التقني بأنه فعل ثقافي.

الفعل الثقافي والطاقة
الإنسان يجمع بين الروحي والمادي، بين الحيوان والشيطان، والربط بين العقل واليد كوسيلة أساسية في التنفيذ، لا يمكنه خلق إلا ما هو إنساني. تطور هذه العلاقة أدى إلى اختراع آليات تمدد حركة اليد، منذ تلك البدائية إلى الحاسوب وكل التكنولوجيات الحديثة، أي من الطاقة العضلية تم استعمال الحيوانات إلى المنابع الطاقية الخارجية الموجودة في الطبيعة، سنلاحظ أن الطاقة هي المحرك الأساسي لتنمية الثقافة. وهي كذلك أساس التواصل، الذي بدونه لا تكون الثقافة حقيقية ولا قابلة للتطوير. لذلك فإن كل إبداع لم يعرض ولم ينشر يعتبر فعل غير ثقافي. وكل فكر ولو كان يحمل كل حلول الإنسانية إن لم يجد اللغة الدقيقة والمحكمة لتحريره وإخراجه من العقل، سيبقى لا شيء ولن يشكل فعلاً ثقافياً، ومنبع الطاقة هنا يتجسد في العمل الجماعي الذي وحده يخلق التكامل. فالطاقة تمكن من الخلق الثقافي وترجمته إلى الواقع، فكل الآليات التي يستعملها الإنسان الآن في تعامله مع الحاجة ترتبط بالطاقة، بل ولا تصلح لأي شيء في غياب الطاقة، لكن يجب ألا ننسى أن الإبداع في مجالات الرسم والكتابة واللحن كأفعال ثقافية جد مهمة وأساسية في تنمية الثقافة، لا يتطلب إلا آليات بسيطة لتمديد اليد لكنه لا يخضع للطاقة.

في الختام لا بد من التذكير بأن الإعلام حوّل في العمق شروط الإنتاج والخلق الثقافي والفني، وكذلك شروط استقبال واستهلاك هذا المنتوج، فطريقة الإنتاج تحول وتغير المنتج نفسه، الشيء الذي يؤثر على قيمة المنتوج، كذلك المتاجرة في الميادين الثقافية تؤثر على قيمة الإبداع، فقد أصبح أكثر تعقيداً أن نتسائل جدياً عن الثقافة أو البحث عن محددات دلالاتها في المجتمع المدني الحداثي. وعن مستقبلها المحتمل أو المفترض، أو عن نهايتها باعتبارها منتوج العلاقة الأزلية المباشرة بين الإنسان والمادة. لكن يمكن زرع الأمل بالوعي، وحده يسمح بإدراك أن ثقافة الطبيعة تخضع لسيطرة الحيوان الإنساني الذي لا يمكن ترويضه وتربيته إلا بالثقافة التي تتغذى بالمعرفة، وطبعاً يجب خلق التوافق بين الثقافة والاكراهات الاجتماعية، لأن وثيرة الحياة لم تعد تعطي للإنسان الوقت والفرصة ليرى ويلاحظ ويقيم ويختار. "في أحد أيام فصل الربيع كان جان جوريس يتجول في الغابة حيث التقى بامرأة تحمل فوق ظهرها حطباً ثقيلاً، فسألها عن جمالية الغابة، فأجابته المرأة: ساعدني كي أسحب هذا الحمل من على ظهري ويمكنني حينئد أن أرفع رأسي لأرى جمالية الغابة والطبيعة".

الثقافة هي مجهود مستمر يجمع بين العمل والترفيه والحب في إطار تناغم مبني على قاعدة اجتماعية، حيث كل فرد يتكلم لغته دون أن يجهل لغة الآخرين، والمصالح المختلفة تنسج على قاعدة مشتركة، فالمجتمعات المقبلة أو المجتمعات الجديدة ستكون في حاجة إلى كل أفرادها، على مستوى تصحيح التفاوتات المادية، وعلى مستوى المشاركة في تنمية الثقافة التي تجد مكانها في الحياة اليومية، في العمل، في الترفيه وفي كل الممارسات، حيث تخلق بدور التنمية التي تقاس بدرجة جودة الروابط الثقافية بين المجتمع وأفراده وبالعلاقات المتبادلة بين هذه الأفراد. فالمجتمعات التي يكون فيها الفرد قادراً على التواصل مع الآخرين، وعلى المشاركة في أنشطتها، هي المؤهلة للتواصل مع المجتمعات الأخرى وللمشاركة في الأنشطة الكونية، بمعنى أن التنمية الثقافية المحلية هي أساس المشاركة في التنمية الثقافية الإنسانية الكونية. يقول جان جوريس: "بتوجهه نحو البحر، يبقى النهر وفياً لمنبعه" أي أن المسار الطبيعي الميداني هو الذي يقوده إلى البحر حيث تصب كل الأنهار.

 

mouharrir@hotmail.com