يستدعي الكاتب السوري اللحظات الأخيرة من حياة السينمائي والمبدع الكبير الراحل عمر أميرالاي، أحد العلامات المهمة في تاريخ السينما العربية عموما والسينما التسجيلية السورية على الخصوص. وبموازاة نص الرحيل، نتعرف على تلك التفاصيل الأخيرة من حياة المبدع الكبير من خلال توثيق خطي.

في وداع رجل شجاع

الساعات الأخيرة في حياة عُـمَرْ أميرالاي أبو السينما التسجيلية الواقعية السورية (1944-2011)

طريف يوسف آغا

عتبة أساسية:

بدأت بكتابة هذه المقالة بعد يومين من وفاة مخرج الأفلام التسجيلية الوقعية العالمي عمر أميرالاي الذي توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة في بيته القريب من ساحة عرنوس في دمشـق بعد ظهر السـبت 2 ربيع الأول 1432 الموافق 5 شـباط / فيبراير 2011 رحمه الله.

اعتمدت في التفاصيل الواردة في هذه المقالة على رواية والدتي التي كانت متواجدة بجانب شقيقها الفقيد حين وافته المنية.

بقلم: طريف يوسف آغا ابن شقيقة الفقيد، كاتب وشاعر مغترب في أمريكا لم يكن هناك شيئا غير عادي صباح السبت 5 شباط/ فيبراير 2011 في بيتنا في منطقة الشيخ محي الدين في دمشق. كان العام الماضي (2010) شديد الوطأة على الأسرة بشكل عام وعلى أمي بشكل خاص حيث فقدت العديد من الأقرباء العزيزين على قلبها. ففقدت قبل أشهر قليلة شقيقها، وقبله عمتها، وقبلهما زوجة خالها. وزوجة خالها، والتي كانت أيضا أمها الروحية، هي السيدة الفاضلة حياة شبارو والدة المخرج السينمائي الراحل وموضوع هذه المقالة عمر أميرالاي.

وكانت أمي وعمر قد اعتادا وبعد وفاة والدته حياة شبارو قبل حوالي العام أن يكون لهما اتصالا هاتفيا شبه يومي للإطمئنان وتبادل الأخبار وأحيانا استرجاع الذكريات، وكانت أمي تستغل هذه المكالمة لتوجيه الدعوة له لتناول الغداء أو العشاء في بيتنا. وهذه المكالمة هي التي ستعيدنا إلى صباح يوم السبت المذكور:

الساعة العاشرة صباحا

قامت أمي بالإتصال ذلك الصباح واستمرت المكالمة لربع ساعة تقريبا. وقالت أن حديثهما كان عاما وعاديا كما هو كل يوم: كيف حالك وماهي الأخبار وماهي مشاريعك اليوم وهل اتصلت مع أخيك عصمت (المغترب في ألمانيا)، وهو بدوره سألها عن أبي وعنا وهكذا.

الساعة الثانية عشرة والنصف بعد الظهر

اتصل هو بها هذه المرة، وقال لها أنه بدأ يعاني من صداع مفاجئ وتعرق بارد وأنه بحاجة لطبيب. قامت أمي على الفور بالإتصال بطبيب إسعاف يعمل في مركز قريب وتعرفه الأسرة معرفة جيدة، واتصلت كذلك بإحدى صديقات العائلة.

الساعة الواحدة بعد الظهر

وصلت أمي إلى بيته ووصل الطبيب بعدها بدقائق وكذلك صديقة العائلة. كان عمر مايزال يعاني من الصداع والتعرق البارد. وقد أكد الطبيب بعد فحصه أنه كان أيضا يعاني من إرتفاع الضغط.

أعطاه دواء لتخفيض الضغط، وأسبرين أطفال لتمييع الدم، وحبة لدر السوائل لمعالجة التعرق، وحبة بينادول للصداع.

الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر

تحسنت حالته حيث عاد الضغط لمستوى مقبول، وانخفض التعرق والصداع.

الساعة الثانية والربع بعد الظهر

غادر الطبيب بعد أن اطمئن على استقرار حالته، ولكنه نصح باستدعاء طبيب اختصاصي قلبية واجراء فحوصات أكثر تفصيلا، وطلب استدعائه فورا إذا دعت الحاجة.

 

دقائق بعد ذلك

جرى الحديث بين عمر من جهة وبين أمي وصديقة العائلة من جهة ثانية عن هوية طبيب القلبية الذي سيتم استدعائه لإستكمال الفحوصات. فقال لهما بأنه يعرف طبيبا وأن رقم هاتفه موجود في الغرفة المجاورة. سألته أمي عن المكان فقال لها بأنه سيحضره بنفسه، فساعدته على النهوض ومشت معه وهي تسنده خشية أن يصاب بالدوار ويسقط على الأرض. وقد حدث بالفعل ماكانت تخشاه، فبعد عدة خطوات قال لها أنه دائخ وأنه على وشك السقوط. سارعت أمي هنا بوضع إحدى يديها خلف رأسه وحاولت بالثانية أن تبقيه واقفا، ولكن قامته الطويلة وفارق الوزن جعلا محاولتها لإبقائه واقفا شبه مستحيلة. فهوى إلى الأرض جارا لها معه، وشاهدت أمي في هذه اللحظات، وحين كانت تصرخ باسمه لتمنعه من الغياب عن الوعي، شاهدت كيف بدأ سواد عينيه بالاختفاء  ليحل مكانه البياض، وكيف تحول لون وجهه إلى الأزرق الداكن لتسمع حشرجة الموت تخرج من فمه.

بين الإجهاش بالبكاء وبين الإنصعاق وعدم التصديق، سارعت أمي بالاتصال بالطبيب الذي لم يكن قد مضى على مغادرته دقائق. ثم عادت إلى عمر محاولة مع صديقة العائلة إعادته إلى الوعي، وكان بعض أفراد الجيران قد سارعوا إلى المكان بعد سماع صوت السقوط على الأرض وسماع أصوات الإستغاثة.

وصل الطبيب في غضون دقيقتين أو ثلاثة، فباشر بإجراء الإسعافات الأولية من تنفس إصطناعي والضخ اليدوي للقلب ولكن دون جدوى، كان مؤشر مقياس الضغط يشير إلى الصفر.

الساعة الثانية والنصف بعد الظهر

أعلن الطبيب رسميا وفاة عمر أميرالاي، وأعلن أن سبب الوفاة حسب الأعراض الظاهرة هو (إنسلاخ الشريان الأبهر).

تم نقل الجثمان إلى مستشفى الطلياني القريب حيث بقى فيها حتى موعد الجنازة في اليوم التالي الأحد 6 شباط/ فيبراير 2011 ودفن في مقبرة العائلة في جبل قاسيون.

انتهت المقالة

كتبت ُ هذه القصيدة في وداع خالي مخرج الأفلام التسجيلية العالمي عـمر أميرالاي الذي توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة في دمشـق السـبت 5 شـباط / فيبراير 2011 في القصيدة العديد من الإشـارات لأعماله ومواقفه، وقد يكون من المفيد قرائة لمحة عن حياته لإدراك كافة المعاني الواردة. رحمه الله.

 

في وَداع ِ رَجُـل شُـجاع ْ

عـمر أميرالاي (1944-2011)

 

يا عُـمَرُ لا أجِـدُ اليومَ كَـلِمات ٍ

على وداعِـكَ قادِرة ْ

فالأُسـرَةُ لاتُصَدِقُ بَعـدُ أنَّـكَ رَحَـلتَ

ودُمـوعُ مُحِـبيكَ بَـينَ مُسَـلِّـمَة ٍ وناكِـرة ْ

***

يا عُـمَرُ كُـنتَ دائِـماً في أسـرَتِـنا عَـلامَـة ْ

وفي العـالِم ِكُـنتَ بِفَـنِّكَ عَـلَّامَـة ْ

الفَـنُ الذي طالَـما أبدَعـتَ بِـهِ

سَـكَنَ الذُرى واسـتَقطَبَ الأقـلامَ

***

يا عُـمَرُ كُـنتَ دائِـما  لأُسـرَتِـنا صَرحَـاً

بَينَ الآخَـرينَ بِـهِ نَفتَخِـرُ

ورَمـزاً لَطـالَما عَشِـقنا مَـعانيهِ

ومَـثَلاً مِـنهُ المِـثالِيةُ تشِـعُ وتَنتشِـرُ

***

يا عُـمَرُ ياصاحِـبَ المَلامِـح ِ النَـبيلَةِ

لِلقُـلوبِ صورَة ٌعلى الوجـوهِ تَنعَكِـسُ

كُـنتَ دَوماً لِلمَبادئ ِ حارِسـها وراعيهـا

والضَمائِرُ كُلَما مَرِضَتْ، أتَتكَ الدواءَ تلتمِـسُ

***

ياعُـمَرُ بِـكَلامَـكَ كُـنتَ سـائِد ْ

وبِصَمْـتِكَ كُـنتَ كَـالزاهِـد ْ

بِوقـارِكَ كُـنتَ كَـالراهِـبْ

وبِفِكـرِكَ كُـنتَ مَـوهوباً وواهِـبْ

***

يا عُـمَرُ حَـباكَ اللهُ مَـوهِـبَة ً

لَيـسَ عَـليها غُـبارٌ ولا اخـتِلافُ

أنكَـرَها الجاهِـلونَ والكـارهونَ والحسـاد ُ

وأنصَـفَها مَـن يُعـرَفُ عَـنهُمُ الإنصافُ

***

مِـن ْ خَـلفِ الكَـاميرا أثَـرتَ الزوابِـع ْ

بِـلا رُتوشٍ صَوَّرتَ حَـقيقَةَ الواقِـع ْ

ورَفضتَ دوماً إضافَـةَ المَكـياج

بالأبيَضِ والأسـوَدِ كُـنتَ رائِـع ْ

***

الإصلاح ُ رَفَعـتَ رايَتَـه ُ

والفَسـاد ُ وثَّـقتَ بَشـاعَـتَه ُ

والجُـرأة ُ كُـنتَ مِمَنْ أرسـى قَواعِـدَها

والتنازلُ ما عَـرِفتَ يَوماً وَضاعَـتَه ُ

***

ما كـانَ للمُسـاوَمَـةِ في قاموسِـكَ وجـود ْ

ولا كـانَ سُـلوكُـكَ بحـاجَةٍ لمُخـتارٍ وشُـهود ْ

ما كُـنتَ بحـاجَةٍ لِلوصايَـةِ مِـن أحَـد ْ

فالأخلاقُ عِـندكَ ما كانَتْ شَـيئاً يَذهَـبُ ويَعود ْ

***

اِسـتمَعتَ لِلضُعَفـاء ِ وحـاوَرت الأ قـوياء ْ

ولاحَـقتَ راكِـبَ المَرسـيدِسْ وراكِـبَ الحِـمارْ

وسـألتَ هَـذا مِـنْ أيَـنَ لَـهُ هَـذا؟

وسـألتَ ذاكَ أحَـقاً يَعـرِفُ لَـونَ النَهـارْ ؟

***

أنتَ وبَعضُ أصدِقائِـكَ كُـنتُم ُ الفُرسـان ْ

وَضَعتُـمْ أصابِعَكُـمْ عَـلى الجِـراح ْ

ورَفَعتُـمْ رايَـة َ الإصلاح ْ

لَمْ يوقِـفكُمُ التَهميـشُ ولامَنَعَتكُـمُ الرِماح ْ

***

ما كـانَتْ ذَقْـنُ أحـدٍ عِـندكَ مُمَشَّـطة ْ

صاحِبُ النَـعلِ الذَهَبي أثَـرتَه ُ

و ابنَة ُ ذي الفَـقارِ أقَمـتَ لَـها مَحكَـمة ْ

وعلى ضِفـافِ الفُـراتِ سَـطَّرتَ مَـلحَمة ْ

***

حَـياةُ القريَـةِ خَـلقتَ مِـنها مأثَـرة ْ

وتأسَّـفتَ على الدَجـاج ِ وبَكَـيتَ القُـنَيطِرة ْ

والحُـبُ في مِـصرَ كَشَـفتَ أسـبابَ وأدَه ُ

ورأيْـتَ في مَـصائِبِ قَـوم ٍ لِفوائِـد ِ الغَـيرِ مَـعبَرا

***

قالـوا أنَّـكَ تُـغَرِدُ خـارجَ السُـربِ

ودَعـوكَ لِلغِناء ِ مَعَ باقي البَلابِـلْ

وعَـرَضوا عَـليكَ جَـزيلَ المَـزايا

فلا التَفَـتَّ إليَهمْ ولاكُـنتَ لِعُـروضِهِمْ سـائِـلْ

***

ثُـمَ قـالوا أنَّـكَ تَغـوى المُشـاكَسـة ْ

وأنَ أعمالَـكَ بِـدونِهمْ بالنَجـاح ِ يائِسـة ْ

فإذا بكَ تَبـلُغ ُ قِـمَة َ الهَـرَم ِ

وإذا بتَـقديراتِهمْ تأخُـذُ عَـلامَة ً بائِسـة ْ

***

ولَكِـنكَ وبِحِـرَفيَّـةٍ عـالية ْ

حافَظتَ مَـعَ الجَميع ِ على شَـعرَةِ مُـعاوية ْ

فكُـلُ مَـن وافَقَـكَ ومَـنْ اخـتَلَفَ مَـعكَ

شَـهِدَ على فَنِّـكَ الراقي وأخلاقِـكَ السـامية ْ

***

يا عَـزيزي هِـيَّ كَـلِمَة ٌ

كُـنتَ دَومـاً لِلناس ِ توَجِـهَها

فالعِـزَة ُ في طَبعِـكَ مؤَصَـلَة ٌ

والأصالَة ُ كُـنتَ خَـيرَ مَـنْ يُمَثِـلُها

***

رَحَـلتَ اليومَ ياعُـمَرُ بِصَمـت ٍ

وصَمـتُكَ في الحَـياة ِ كـانَ جَـدُ أنيـقْ

وعَـربيٌ أمْ تُـركيٌ أمْ شَـركَسيٌ كُـنت َ

فكـانَ يَفـوح ُ مِـنكَ مِـنَ الشـام ِ عِـطرٌ عَـتيقْ

***

 

ربيع الأول 1432/ شـباط 2011

هيوسـتن/ تكسـاس