لم تكن الثورة المصرية، ولا حتى بقية الثورات والانتفاضات العربية، مفاجئة لمن تابع الخطاب الأدبي العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، فقد ارهص الأدب بتلك التغيرات، وقدم ملامح الأفق الاجتماعي والسياسي المسدود الذي كان لابد من الثورة عليه حتى ينفتح الأفق على أمل جديد، وعلى مستقبل جدير بهذه الأمة.

استشراف الرواية المصرية للثورة

صبري حافظ

منذ زمن بعيد بعيد .. وبالتحديد في شهر مارس عام 1973، وقبل حرب اكتوبر بستة أشهر غادرت القاهرة إلى بريطانيا، وكانت القاهرة التي تركتها لاتزال حتى ذلك الوقت قاهرة مرحلة عبدالناصر، وخاصة في فترة مابعد هزيمة 1967، ولم أعد إليها إلا بعد ست سنوات. درست خلالها وحصلت على الدكتوراة، وعملت في جامعتي أكسفورد ولندن، وقررت بعدها أنه لم يعد لدي أي مبرر للبقاء بعيدا عن مصر فعدت. عدت عام 1979 وبعد ست سنوات لم أزر خلالها مصر مرة واحدة. وتلقيت صدمة حياتي، وبقيت شهورا أعاني من وقع تلك الصدمة المروعة، وصعوبة استيعاب ما أراه أمامي كل يوم. عشت شهورا على حافة انهيار عصبي من هول ما شاهدت من تغيرات. كنت أقول للجميع إما أن هذه بلد أخرى، وإما أنني نسيت كلية. وكانت أكثر الأجوبة التي تلقيتها حكمة هو جواب صديقي القديم إدوار الخراط الذي قال «إنه مزيج من الإثنين: هي بالفعل بلد أخرى، وأنت أيضا نسيت، نحن تلقينا تغيراتها على جرعات صغيرة، أما أنت فيبدو أنك تغصّ لأن الجرعة كبيرة». كان في الجواب شيء من حكمة إدوار الخراط الماكرة، وخاصة في الشق الذي يقول وأنت أيضا نسيت، وكأنه يريد أن يوحي لي بأن تلك القاهرة الشائهة التي عدت إليها، تمد جذورها بشكل أو آخر في القاهرة التي تركتها: قاهرة عبدالناصر، وما بعد هزيمة 1967.

كانت الجرعة كبيرة وكدت أغصّ بها، لأن أكثر ما هالني – وأنا دارس لعلم الاجتماع وشغوف باستقصاءاته - هو انقلاب سلم القيم الاجتماعية والأخلاقية كلية في ست سنوات. تلك القيم التي انفق المجتمع المصري قرونا بل ألفيات في تعميدها بالجهد والعرق: قيم الصح والخطأ، الخير والشر، الجمال والقبح، الصدق والكذب، الجدية والفهلوة، العلم والجهل، النبل والسفالة، الصراحة والمداهنة .. إلى آخر هذه الثنائيات المتعارضة. كل هذه القيم التي كانت أول كل ثنائية فيها على قمة السلم وثانيتها في أسفله، انقلبت تماما وأصبحت الثانية في قمة السلم والأولى في الحضيض. وجدت مجتمعا قضى التضخم الاقتصادي الذي تواصل فيه طوال تلك السنوات الست وبمعدل ما يقرت من 40% سنويا على الطبقة الوسطى، وأجهدها وعصف بكل قيمها أمام أعينها الكظيمة الحزينة العاجزة، ينتشر فيه الجهل والشر والقبح والرياء والفهلوة وكل السفالات التي أصبحت بعد ذلك هي القانون، وكل ما عداها استثناءات تستقطب السخرية. مجتمع تسود فيه شريعة الغاب، بعدما تخلت الدولة فيه عن كل أدوارها تقريبا، من التعليم وحتى الصحة، وكانت قد تخلت عن دورها في الثقافة قبل سفري بقليل بوقف النشر وإغلاق عشر مجلات ثقافية محترمة واستبدلت بها مجلتين متخلفتين (الثقافة) و(الجديد).

وكانت المفارقة المرة التي لم تدهشني، هي أن المجتمع الذي انقلبت فيها القيم، انتشر فيه التأسلم وانسدل فيه الحجاب على وجوه النساء، وعلى عقول الرجال وعقولهن. وبدأ فيه زحف الوهابية البغيض على مختلف الممارسات الاجتماعية، مصحوبا بعملية تسييد الحلول الفردية، وهي ليست بأي حال من الأحوال حلولا، بل آلية جديدة لتفاقم المشكلات من أهونها شأنا حتى أشدها خطرا. كنت أسمع فيه كل يوم صنوف الزراية بالتعليم وبأصحاب الشهادات، وأنا الذي انفقت عمري في التعليم الذي كان قيمة كبرى من قيم المجتمع المصري. باختصار شديد وجدت بلدا أخرى، ولكنه لم ينسني البلد الذي كانه قبل أن يصيبه التشويه. إذا كان هذا كله من الناحية الاجتماعية، فإن أهم ما لاحظته بعد غيبة السنوات الست تلك من الناحية السياسة هو انهيار هيبة الدولة وبدايات تفككها. كان أنور السادات يُشتم علنا في الشوارع، وهو أمر ما كان ممكنا في عصر عبدالناصر، إلا همسا وبين أخلص الأصدقاء وأكثرهم ثقة. والواقع أنني وبعد سنوات من الحياة في الغرب، اعتبرت تضعضع هيبة الدولة هو الظاهرة الإيجابية الوحيدة في تلك السنوات الست. لكنها كانت إيجابية اعتبرتها تافهة إذا ما قورنت بالكارثة السياسية التي حققها السادات أيضا والتي دعوتها في مقال نشرته في ذلك الوقت بانتصار الهزيمة، ألا وهي رفع علم دولة الاستيطان الصهيوني في سماء القاهرة.

لأنني وقد شاهدت كل فصول حرب اكتوبر في بريطانيا، كانت لدي فكرة دقيقة عما جرى، ولم أكن ككثيرين من المصريين من ضحايا الشعارات الطنانة الكاذبة عن العبور وانتصار أكتوبر الذي لم يدم أكثر من تسعة أيام، انقلب بعدها كل شيء. كما أنني لم أكن قد برئت بعد، ولا أحسبني سأبرأ أبدا، من كوابيس تلك التقارير المتشفية التي شاهدتها أيامها على شاشات التليفزيونات الغربية بعد عبور شارون المضاد، فيما سمي سياسيا بالثغرة، وردمه لقناة السويس بسرعة تعادل تلك التي دمرنا بها خط بارليف، وأنشأ causeway أي طريقا كاملا عبر القناة تعبر عليها دباباته للضفة الغربية، حيث أخذ يرتع كما شاءت له غفلة التخطيط العسكري للخطوط الخلفية، وصولا إلى الكيلو 101  الشهير، أي على بعد 101 كليومترا من مدينة القاهرة. وكانت التقارير التي ظلت كوابيسها تطاردني أكثر من ليلة أثناء تلك الحرب تصف المشهد بلغة توراتية مستقاة من سفر الخروج. وكيف ان ضابط جيش الدفاع الصهيوني أصبح بديلا للفرعون، يقف بكل جبروته، بينما يخرج المصريون الآن من المدنيين وفلاحي القرى الواقعة في قرى غربي القناة بمنطقة الثغرة (التي كانت مساحتها بالكيلومتر المربع ضعف المساحة التي ححرناها على الضفة الشرقية للقناة) متجهين غربا، وقد حملوا امتعتهم على حميرهم وجروا أبقارهم هاربين، والصهاينة يسومونهم الهوان.

كان كل شيء قد انقلب بالفعل، الاستعارة التوراتية، والقيم الاجتماعية وهيبة الدولة، ومكانة رئيسها. وهي مكانة حدث عن تدهورها ولا حرج. فقد فقد نظام السادات شرعيته حينما خرجت مظاهرات 18 و19 يناير عام 1977 من شواطئ بحيرة ناصر جنوبا حتى شواطئ المتوسط شمالا تنادي بسقوطه، وتنزع عنه شرعيته. فذهب بعدما جرده الشعب من شرعيته يبحث عن شرعية زائفة بالارتماء في أحضان العدو الصهيوني، وحماته في الولايات المتحدة التي كان يعلن أن في يدها 99% من أوراق اللعبة. وهو الأمر الذي واصله سلفه وبضعة منقطعة النظير حتى خلعته ثورة 25 يناير المصرية. وخلال العامين اللذين قضيتهما بمصر قبل أن أخرج من جديد، وإثر حادث عاصف قضى فيه صلاح عبدالصبور قهرا حينما واجهه ضميره بلا رحمه في آراء بهجت عثمان فيما أضطر لاقترافه، عقب توقيع السادات لمعاهدته المشؤومة مع العدو الصهيوني، شاهدت استمرار هذا التردي واستوعبت جرعاته الصغيرة والمتتالية. لذلك حينما خرجت من جديد، قررت ألا أبقى بعيدا عن مصر أبدا لأكثر من عام، وأن أتردد عليها بانتظام، ومن الأفضل مرتين في العام، كي استوعب جرعات التردي الصغيرة في كل مرة، ولا يصيبني هول ما اصابني عام 1979.

ولأنني عشت كل تلك الفترة منذ خروجي الثاني عام 1981 وحتى الآن في الغرب، بين أوروبا وأميركا، أدرّس في جامعاتها وأحتك بعدد من المهتمين بالمنطقة العربية أو المتخصصين في بعض شؤونها من مختلف المشارب والخلفيات، فإنني كنت دائما ما أواجه بالسؤال التقليدي عقب عودتي من كل زيارة: ما هي أحوال مصر؟ أو كيف رأيت مصر؟ ووجدت نفسي طوال تلك المدة، وهي بمحض الصدفة كل مدة حكم الرئيس الفاسد المخلوع، فقد مات صلاح عبدالصبور كمدا قبل شهرين من اغتيال السادات، أكرر طوال الأعوام العشرين الأولى، كالاسطوانة المشروخة الجواب التقليدي: من سيء إلى أسوا! ولا يتغير الأمر إلا في رصد التفاصيل التي تؤيد هذا الحكم. وكنت استشهد كثيرا لا بما أسمعه من سائق التاكسي كما يفعل جل الصحفيين وأغلب المستشرقين، وإنما بما يدور في مصر من تغيرات اجتماعية واقتصادية وعمرانية، وما أسمعه من شكايات متنوعة حول تدهور كل شيء. وفي السنوات العشر الأخيرة أخذت أضيف إلى هذه الإجابة التقليدية، أن الوضع التي شاهدته في مصر untenable أي لا يمكن الاستمرار فيه، ولا يمكن الدفاع عنه أو حتى عقلنته وفق الطرق المنطقية التقليدية لمناقشة الأمور. والواقع أنني بدأت أضيق بزيارة مصر في السنوات الأخيرة وأقلص فترة بقائي بها، وأعود مغموما من كل زيارة. لكن كان هناك دائما بصيص من الضوء في النفق المعتم. وكان هذا البصيص يتجسد في الأعمال الإبداعية التي كنت أعود محملا بها من كل زيارة، وكنت كلما قرأتها كلما أدركت أكثر أن الوضع في مصر untenable وأنه لابد وأن يتغير إن عاجلا وإن آجلا.

ولم يكن هذا اليقين باستحالة استمرار الأوضاع مجرد حدس أو رغبة شخصية، ولم يكن حتى نتيجة لما أجمعه من معلومات عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والعمراني، لأن أغلب دراسات العلوم الاجتماعية عن مصر وقتها كانت مليئة بالتشاؤم، أو مفرطة لغرض أو مرض في التفاؤل الساذج، بل كان هذا اليقين نتيجة قراءاتي الموسعة للأدب المصري الذي كتب في تلك الفترة الطويلة ومن مختلف الأجيال، وخاصة أدب الجيل الجديد الذي لم يعرف في حياته كلها غير زمن التردي والانهيارات والهوان. لأن هذا الجيل كان قد نشأ في عالم القيم المقلوبة، وتنامي المدن العشوائية إلى الحد الذي أصبح يعيش فيها 40% من سكان المدن. وتفاقم الأزمة الاقتصادية وانتشار البطالة بين الشباب، وخاصة المتعلمين منهم، وتفاوت الدخول بشكل صارخ، وحياة 40% من المصريين تحت خط الفقر. وتكون الهرم الاجتماعي المنبعج، على شكل ديناصور ضئيل الرأس وكبير الجسد، بصورة لم يعد الرأس الصغير فيها قادرا على التحكم في هذا الجسد ناهيك عن إدارته والسيطرة عليه. لذلك حينما كتب هذا الجيل عن تجربته جاءت كتابته مغايرة كلية لما كتب قبله، ومؤكدة استحالة استمرار الواقع الذي صدرت عنه. ولا أريد أن أقول أن هذا الأدب تنبأ بما حدث بالضبط، وإن كانت فيه الكثير من النبوءات التي يمكن تأويلها على أنها استشراف للثورة، ولكنه اكد استحالة استمرار الحال على ما هو عليه، لأن أي قراءة له، وقد كتبت أكثر من قراءة له بالعربية والانجليزية، كانت تفضي دائما إلى ما دعوته بجماليات الأفق المسدود.(1) 

لكن قبل الحديث عن هذا الأدب الجديد .. نبوءاته وجمالياته، دعنا نتعرف على ما كتبته الأجيال السابقة عليه أولا، وإذا ما كانت تلك الكتابات قد استشرفت الثورة التي وقعت في مصر أو حتى أكدت استحالة استمرار ما يدور فيها من تناقضات. والواقع أن أي متابع لما يكتب في مصر يعرف أن الأدب المصري الذي سبق له أن استشرف الهزيمة قبل وقوع نكستها المدوية عام 1967 قد واصل استبصاراته الكاشفة لا عن حقيقة الواقع فحسب، وإنما عن اتجاهات مستقبله. ففي السنوات الأخيرة من عقد السبعينات كتب عبدالحكيم قاسم روايته النبوءة (المهدي) والتي سجل زحف التأسلم السياسي على وجه الواقع وآثاره المدمرة على كل صنوف الحياة فيه. وكتب معها عجز السلطة العنينة ممثلة في عمدة القرية والمشغولة بمغامراتها الجنسية الفاشلة لاستعادة حيويتها، تعويضا عن فقانها لفاعليتها، أو التعامل بحزم مع جرائم التأسلم السياسي. كما كان جميل عطية إبراهيم أول من نبه في (النزول إلى البحر) إلى الخطر الذي ينطوي عليه تنامي عالم الهامش بعد إهمال عصر السادات الكلي للفقراء، وكتب تجربة الحياة في المقابر المحيطة بمدينة القاهرة، والتي كانت بداية النمو السرطاني للمدن العشوائية والأفق المسدود. وكان إبراهيم أصلان قد كتب في (مالك الحزين) ثم بعد ذلك في (وردية ليل) و(عصافير النيل) انسحاق الإنسان الشعبي الفقير القادم من الريف يبحث عن حياة أفضل في المدينة، فإذا بها تسحقة بقسوة وشراسة غير مسبوقين، وكانه يستشرف هو الآخر، وخاصة في (عصافير النيل) كل ما يدور في المدن العشوائية من شظف العيش في أفق مسدود.

وكان صنع الله إبراهيم قد كشف في (ذات) عن التناقضات الاجتماعية والسياسية المدمرة في تلك السنوات العصيبة، وكيفيه تدميرها للطبقة الوسطى المصرية، باعتبارها مستودع القيم التي جرى العصف به وقلب سلمها. وكيف عهر الواقع الجديد الناجم عن سلم القيم ا لمقلوبة شبابها في (شرف) عبر آليات قهرها الجهنمية التي تتضافر فيها العناصر الداخلية مع العناصر الخارجية، ودمرت فيهم أي إحساس بالمقاومة أو الكرامة الشخصية. وكان بهاء طاهر بدأ بالكتابة عن قسوة المناخ الطارد الذي تخلق في هذه المرحلة في (الحب في المنفى) وكشف عن التحالف المشبوه بين الوهابية والصهيونية وأثره في تدمير أي تطلع عربي للتقدم في مصر خاصة، لكنه ما أن عاد إلى تناول الواقع المصري بعدها في (نقطة النور) حتى كشف عن مدى يتم الجيل الجديد وتشتت بوصلته، وانسداد الأفق أمامه. وكان محمد البساطي قد واصل في سردياته الشعرية الشفيفة تقديم قسوة الحياة على من يعيشون في القاع الاجتماعي، وكيف يحافظون برعم الفقر الجارح على كرامتهم في عالم لا يأبه بأي كرامة في (بيوت وراء الأشجار) أو (جوع) أو (غرف للإيجار) وكيف أدت تطورات الواقع العربي الجديد إلى تجذير نوع من آليات العبودية الطوعية أو المختارة في نفوسهم في (دق الطبول) أو (الخالدية) وصولا إلى تخليق آليات هذا السجن الكبير الذي تعيش فيه مصر كلها في (أسوار) والذي لاسبيل أمامها إزاء آلياته الجهنمية والاحتفاظ بها فيه غير الجنون. وقد شاركته رضوى عاشور هذا التصور حول السجن المصري الكبير في روايتها الجميلة (فرج)، والتي سجلت كيف شتت تجربة السجن والاعتقال السياسي بوصلة أجيال ثلاثة من المصريين وتركت قروحها التي لاتندمل عليهم. وكانت رضوى عاشور قد كشفت قبل ذلك عن الخراب الذي عشش في الجامعات التي تعلم فيها هذا الجيل في (أطياف) وعن تدهور مدينته وتحولها إلى مباءة للقبح والتناقض بعدما كانت (قطعة من أوروبا).

سأكتفي هنا بهذا القدر من التناول السريع لصورة العالم الذي جسدته كتابات جيل الستينات، وهي الصورة التي نجد تنويعات ثرية عليها في كتابات الجيل التالي لهم كما هو الحال في أعمال محمود الورداني، أو يوسف أبورية، أو محمد المنسي قنديل أو إبراهيم عبدالمجيد. كي اتريث قليلا عند الجيل الذي تكون في تلك الحقبة الكئيبة من تاريخ مصر، والذي ولد أغلب كتابه قبيل الهزيمة أو بعدها، ولم يعرفوا سوى نظامي السادات ومبارك الفاسدين. وقد عاش هذا الجيل كل تناقضات تلك المرحلة الصعبة من تاريخ مصر، وعاني من الشعور المستمر بأن طاقاته عاطلة وغير مستغلة، كما يعاني من تفاقم الأزمات الاجتماعية. وشاهد فصول النهب المنظم أو السرقتاريا cleptocracy  التي بدأت منذ عهد السادات، ولم تتوقف حتى اليوم. وتكون وعي هذا الجيل في عصر تكريس الهزيمة والاعتراف بالعدو الصهيوني، وتفشى أشكال التطرف الاقتصادي الحادة التي تجعل القلة تلعب بالملايين، بينما ملايين الشباب لايجدون العمل ولا المأوى، ولا يستطيعون تدبير حياة كريمة أو زيجة موفقة. ولا يمكن إغفال الربط بين حالة القهر والإحباط المتفشية في نصوص هذا الجيل الجديد وبين المناخ الاجتماعي والاقتصادي الذي نشأ في ظل تناقضاته. فقد أكمل جل شبان هذا الجيل تعليمهم في جامعة نخرها الفساد، وتخلى فيها عدد كبير من الأساتذة عن دور المعلم ليمارس دور تاجر المذكرات الغثة، أو سارق الامتحانات المغشوشة، أو متملق سراة الطلبة، أو مزور درجات أولاده ليرثوا وظيفته، أو مروج الأفكار الضحلة. وبدأ شبانه في الدخول إلى معترك الحياة الاجتماعية في الثمانينات والتسعينات، فاصطدموا بشبح البطالة المروّع. فكل إحصائيات تلك الفترة تؤكد تغير تركيبة البطالة في مصر، وظهور ما ينعت بـ«البطالة المستحدثة» والتي حلت مكان «البطالة المقنعة» التي كانت تسود الريف المصري في الخمسينات والستينات، أو حتى تلك البطالة التي كانت تسود في صفوف غير المتعلمين، لأن تلك البطالة التي عاشها هذا الجيل هي بطالة شبابية ومتعلمة.

ولا يقتصر التغيير الذي عاشه هذا الجيل على الجوانب الحضارية وحدها، ولكنه يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى علاقة الإنسان بالمكان التي تغيرت هي الأخرى بتغير جغرافياه ذاتها. إذ يرتبط تصور الإنسان لنفسه وللعالم المحيط به بفهمه لكل من الزمان والمكان وللعلاقة المعقدة بينهما، وهو تصور مهم في فهمنا لما يكتبه هذا الإنسان عن نفسه وعن العالم الذي يعيش فيه. لأن تصورالعلاقة بين الزمن والمكان محكوم بالممارسات المادية لعملية إعاداة انتاج القيم الاجتماعية، وبمدى تنوع هذه القيم وتغايرها تاريخيا وجغرافيا. فالمكان والزمان من المحددات الأساسية للوجود الإنساني، وللمتخيل القومي على السواء. وقد كان المكان في مدينة القاهرة مثلا يتكون من نوعين: المدينة القديمة بطابعها الإسلامي، والمدينة الحديثة التي بدأها الخديوي إسماعيل على غرار باريس هاوسمان، والتي استمر نموها العمراني، في توسعات المعادي ومصر الجديد ومدينة نصر والمهندسين مبنيا على مبادئها منذ ذلك الوقت وحتى نهاية مرحلة عبدالناصر. والواقع أن تكون وعي هذا الجيل يرافقه تكون مدينة ثالثة لا تنهض على أي تخطيط عمراني، أو ما يعرف في مصر باسم المدينة العشوائية التي غيرت جغرافيا المدينة، وخلقت في فضائها واقعا جديدا. فبعدما كفت الدولة يدها عن توفير إسكان اقتصادي للفقراء عقب النكسة أقام هؤلاء الفقراي خارج النطاق الرسمي أحياء كاملة للإسكان العشوائي، كما استشرت في نفس الفترة ظاهرة الإسكان الهامشي وإسكان المقابر. وانتشر الإسكان العشوائي انتشارا سريعا مع تفاقم أزمة الإسكان بصورة أحاطت معها الآن أحزمة الإسكان العشوائي بالمدينتين السابقتين إحاطة السوار بالمعصم، وحاصرت القاهرة بحزاميها الشرقي (دار السلام واسطبل عنتر والدويقة ومنشاة ناصر) والغربي (إمبابة والمنيرة وناهيا وبولاق الدكرور والوراق والهرم والقصبجي)، هذا فضلا عن إسكان المقابر والإسكان الهامشي الذي يتركز في الداخل، وفي قلب أحيائها القديمة. كما أن العقدين الأخيرين، وبالتحديد منذ النصف الثاني لتسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، شهدا انبثاق مدينة رابعة أخرى خارج تلك المدن الثلاثة هي مدينة منتجعات الأثرياء المسوّرة،(2) وهي أقرب إلى المستوطنات الغريبة على المدينة، والتي ستدير فيها واحدة من روايات هذا الجيل المهمة، وهي رواية (يوتوبيا)(3) لأحمد خالد توفيق، التي تعمد لمرارة المفارقة إلى تقديم Dystopia أي يوتوبياها المقلوبة، أو بالأحرى الكشف عن أنقلاب هذه المجتمعات التي تتغيا بناء عالم مثالي، ولكنه يظل محتويا في داخله على كوابسيه الدالة والمستشرفة للكثير ما جرى.

هذا المناخ الحضاري والمكاني المتفاقم، والذي ولد حالة ماقبل الثورة، حالة استحالة استمرار الأمور، وضرورة الانفجار، والثورة، طبع الرواية الجديدة التي كتبها هذا الجيل برؤيته وبنيته معا. لأننا إذا ما تأملنا رواية التسعينات المصرية سنجد أن ثمة نوعا من التناظر بين التغير العمراني وما نتج عنه من جغرافيا حضرية جديدة وغريبة معا، يعاني إنسانها من ضيق التنفس الاجتماعي، وبين الفضاء النصي وما انتاب طوبوغرافياه من تحولات. فإذا كانت المدينة الثانية ـــــ والتي تمتد من العتبة حتى وسط البلد وجاردن سيتي والزمالك، تميزا لها عن المدينة الأولى وهي القاهرة المعزية والتي تمتد من الجمالية حتى السيدة زينب وابن طولون والقلعة ـــــ قد نشأت بدافع التقدم والتحديث يرودها حلم الخديوي إسماعيل في أن يجعل القاهرة مدينة تضاهي أجمل الحواضر الأوروبية، وهو دافع يروده العقل وصحوة الاستنارة العقلية التي بدأت مع الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده من ناحية أخرى؛ فإن المدينة الثالثة قد نشأت عشوائيا وبدافع اليأس من أي أمل في مستقبل مناسب. بمعنى أنها تنطوي على رد فعل قصير النظر لأزمة خانقة. وهو أمر يتم فيه تغليب الآني على العقلاني، والمؤقت على المستمر، كما تنطلق من يأس من أن تقوم الدولة، وقد نخرها الفساد واستمرأت التبعية، بدورها في رعاية مواطنيها. فالعشوائية التي نشأت بها هذه المدينة بعيدا عن كل تخطيط عقلي وعلمي ليست مجرد منطق ظهورها، ولكنها جوهر وجودها ذاته. فكل شيء في هذه المدينة تتغلغل فيه العشوائية حتى النخاع. ولذلك تبدو هذه المدينة العشوائية بحزاميها الشرقي والغربي وكأنها تجسد على صعيد البنية المكانية لعملية حصار المشروع العقلي التنويري المنظم الذي لاتزال ثمارة مرقوشة عمرانيا وجماليا في وسط البلد، بحزام من الارتداد العمراني إلى الريف، فيما يدعوه البعض بعملية ترييف المدينة، والعودة بمسكنها ومناخها كله إلى ما ينطوي عليه المسكن الريفي من بدائية وتخلف، أو بالإحرى إلى مرحلة ما قبل عملية التمدين نفسها. وهذا نفسه لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن الارتداد الفكري إلى مشروع ما قبل الاستنارة العقلية والعمرانية والدعوة إلى تقليد السلف والتخلي عن «تقليد الغرب».

لذلك نجد أن الرواية التسعينية تتسم هي الأخرى، كالمكان الذي صدرت عنه بضيق الرقعة من حيث طول النص، وضيق العالم الروائي معا. والواقع أن من يقرأ هذه الروايات يلاحظ وعيها المستمر بعملية التقويض التي تنتاب بنية المدينة وبنية الواقع كله. ففي رواية مي التلمساني (دنيازاد)(4) تحتل عملية تقويض البيت القديم الجميل، وبناء عمارة قبيحة محله مكانا محوريا في الرواية. وهذا الوعي بالتقويض المكاني نجده كذلك في رواية أحمد زغلول الشيطي (ورود سامة لصقر) التي كانت من أولى روايات الجيل الجديد إرهاصا بالخراب وتسجيلا لجنيولوجياه، ورواية منى برنس (ثلاث حقائي للسفر)(5)، ورواية مصطفى الناغي (دم فاسد)(6)، ورواية عادل عصمت (هاجس موت)(7)، ورواية حسني حسن (أسم آخر للظل)(8)، وغيرها. وبالإضافة إلى الوعي بالتقوض، فإن هناك وبمفارقة له هذه الرغبة الملحة في التناول التفصيلي للمكان، أو بالأحري التشبث به. وهي رغبة تنطوي على تجسيد مدى صلابة المكان والأشياء وتماسكها بالمقارنة بمدى هشاشة الفرد عامة، والذات الراوية خاصة من ناحية، وتمكننا من ناحية أخري من استنتاج بعض أبعاد شخصية الراوي النفسية ــــ الذي يقدم هذا الوصف المكاني عبرها ـــــ  من ناحية أخرى. لكنه رصد تفصيلي لايستهدف تمكين القارئ من استعادة المكان، أو إعادة تشييده في ذهنه، أو حتى مضاهاته بما يعرف من أمكنة، بل العكس من ذلك تماما. لأن تقديم المكان في عدد من هذه الروايات، مثل رواية وائل رجب (داخل نقطة هوائية)(9) أو روايتي منتصر القفاش (تصريح بالغياب) و(أن ترى الآن)(10) أو رواية إبراهيم فرغلي (كهف الفراشات)(11) يتعمد تغريبه عن القارئ، بصورة يستحيل معها إعادة تشييده في ذهنه لكثرة ما به من تناقضات. فلا نستطيع التمييز في لحظات سردية كثيرة بين المكان الخارجي والفضاء الداخلي، النفسي أو الروحي، للشخصية. وما كتابة الجسد إلا نوع من التجلي النصي لهذه النزعة المتناقضة في التعامل مع المكان، والنابعة بطبيعة الحال من تناقضية المكان ذاته. فبينما يؤكد النص انغماسه في تفاصيل حقيقية ملموسة، وكتابته عن جسد ما يعرفه جيدا، هو في كثير من الأحيان جسد الذات الكاتبة نفسها، فإنه ولحدة المفارقة يبرهن في الوقت نفسه على القطيعة الجوهرية والكيانية بين السردي والواقعي، ويفعل ذلك بطريقة تؤطر هذه القطيعة وتنمذج عدم الاستمرارية والانقطاع بين صيغة وجودنا كبشر، وبين صيغ الوجود النصي المختلفة، والتي تتسم بقدر أكبر من الصلابة والديمومة.

وينقلنا هذا إلى سمة أخرى من سمات النص الجديد لها علاقة بعشوائية المدينة الثالثة وبمنطق التجاور فيها. فإذا كانت هذه المدينة قد بنيت بطريقة لها منطقها دون شك، ولكنها لاتعتمد على التخطيط التقليدي للشوارع والميادين والحدائق المفتوحة. وإنما تنطوي على منطق براجماتي قميء تتجاور فيه البيوت بشكل عشوائي ودون تخطيط عمراني مسبق يعتمد على المنطق وبعد النـظر؛ فإن الرواية الجديدة تبدو وكأنها لا تعتمد على تخطيط منطقي مسبق له تقاليده ومواضعاته السردية المعروفة؛ كما كان الحال من قبل. إذ تتحرر من تقاليد الرواية التقليدية والحديثة معا، وتضرب عرض الحائط بقوانين السرد والتطور المنطقي للأحداث. وإذا كانت المدينة الثالثة، وقد ضربت عرض الحائط بقوانين العمران الحضري القديمة قد تكاثرت فيها القاذورات والحفر، وزكمت شوارعها روائح المجاري والتكدس والعفن، فإن هذا هو ما يبرر ولع الرواية الجديدة بما يعرف بالمقبرية  macabre، ألم تبدأ المدينة الثالثة تلك بسكنى المقابر، وما تنطوي عليه هذه المقبرية من فئران وغربان وجثث وهياكل عظمية، وما يشيع فيها من انتهاك ـــــ فظ أحيانا ـــــ للمواضعات والتقاليد وولع بالشذوذ والعفن كما في (دم فاسد) أورواية محمد حسان (عبّاد القمر)(12). لكن هذا الغياب الظاهري للتخطيط لا ينفي وجود بنية ما للنص الروائي الجديد، ومنطق ما لعلاقات أجزائه بعضها بالبعض الآخر، كما هو الحال في المدينة الثالثة. فالرواية الجديدة أقرب إلى المتاهة النصية التي لادليل تخطيطي أو عمراني لها كالمدينة التي صدرت عنها. ولعل عنوان رواية مصطفى ذكري الأولى (هراء متاهة قوطية)(13) أن يكون التجسيد الطبيعي لهذه المتاهة عنوانا وبنية. وهي ليست متاهة معرفية كالمتاهة البورخيزية في «مكتبة بابل» أو المتاهة الكافكاوية في «المحاكمة»، وإنما متاهة من نوع آخر أقرب ما تكون إلى المتاهة الوجودية أو الكيانية. وهذه البنية القريبة من بنية المتاهة نجدها هي الأخرى في رواية منتصر القفاش (تصريح بالغياب)، ورواية عادل عصمت (هاجس موت)، ورواية أحمد غريب (صدمة الضوء عند الخروج من النفق)(14) . والمتاهة، وهي بنية فقدان السيطرة، هي أنسب الصيغ للتملص من سطوة السلطة. فإذا كانت المدينة الثالثة تستبعد منها السلطة وقد بنيت في غيابها النسبي، فإن الرواية التسعينية هي الأخرى تستبعد من ساحة السرد فيها كل سلطة، بما في ذلك سلطة المؤلف على النص، بل توشك أن تكون معادية لمفهوم السلطة وما يتبعه من تراتب في علاقات القوة. ففي رواية أحمد غريب مثلا نجد أن سلطة المؤلف المركزية على النص قد انفرطت تماما، وحلت محلها عملية أقرب ما تكون إلى التأليف الجمعي، لأن النص يسمح لأصدقاء المؤلف ـــــ وهم جميعا من كتاب جيله ـــــ بكتابة «الفقرات الخاصة بهم في القصة» كما يثبت النص في بدايته، بصورة لم يعد معها لأي منهم سلطة مطلقة على النص، كما كان الحال في روايات الكاتب العليم بكل شيء.

ومن المفارقات المؤسية حقا أن الواقع المكاني الضاغط في هذه المدينة الثالثة، وفي الحقبة التسعينة التي أكتملت فيها سماتها، يرافقه إحساس مفارق بالزمن، يجعل الشباب يشعر بأنه ـــــ حسب تعبير عزيز علي إدوار سعيد ـــــ «خارج المكان» باستمرار، برغم ضغط المكان الخانق عليه. فقد تقلص الزمن، أو بالأحرى انكمش الإحساس البديهي أو الفطري به. فلم يعد للماضي ثقله ولا استمراريته، فقد تبددت تقاليده، وعصفت التغيرات السريعة بقيمه ورواسيه. وفقد إرثه العتيد ثقله ومكانته. ولم يعد للمستقبل أهميته، ففقد الإنسان إحساسه بأنه جزء من صيرورة تاريخية أعرض لها ماضٍ ومستقبل. مما أدى إلى شعور الإنسان بأنه محاصر في الحاضر أو واقع في أحبولته. فقد تحول الحاضر المبهظ الثقيل إلى سجن لا انفلات منه. لأن أهم ما يتسم به الزمن في روايات التسعينات الجديدة هو أنه زمن قصير الأمد. لا يعرف له ماضٍ عريق يمتد في الزمن إلى أجيال وعهود كما كان التصور التقليدي الثابت للزمن، ولايملك ترف التفكير في مستقبل ممتد. لقد تقلص الزمن تصوريا وتعرضت امتداداته الراسخة في الماضي والمستقبل معا للانهيار. فلم يعد باستطاعة الماضي وما ترسخت فيه من رؤى وتقاليد أن يمنح الحاضر أي إحساس بالأمن والاستقرار. ولم يعد باستطاعة الحاضر المزعزع أن يصوغ توقعات محتملة في المستقبل، أو أن يجسر على الحلم بأي شيء خارج لحظته الراهنة. وهذا ما رسخ الشعور لدى إنسان التسعينات بأنه محاصر في الحاضر trapped in the present، كما تقول نورا أمين. ذلك لأن السمة الأساسية التي يجمع عليها هذا الأدب هي انسداد الأفق كلية وخاصة أمام الجيل الجديد من شباب مصر الذي يجد نفسه مهمشا وليس مركزيا، وتعصف كل الظروف المحيطة بإرادته، بل تزري بها كل تناقضات الحياة اليومية في مصر. حيث يتعرض الشباب خاصة لشتى صنوف الهوان والعنف الرمزي والفعلي على السواء. فكلما ازداد وعي هذا الشاب بما يدور في الواقع المحلي، والعالم من ورائه، حوله كلما ازداد إحساسه باستحكام الأزمة القومية والشخصية على السواء، وتعمق وعيه بتناقضات الواقع الاجتماعي والاقتصادي من حوله، وتفاقم شعوره بالإحباط والعجز واليأس والمهانة. في هذا المناخ يشعر الشباب ـــ وعن حق ــــ بانسداد الأفق أمامهم كلية. فكل كل شيئ حوله يهمشه ولا يعبأ به. ويجعله يحس بانعدام إمكانيات تحقيق إرادته إلى أقصى حد، إلا في حدود تدمير الذات، أي في حدود السيطرة على جسده فحسب. وهذا هو السر في تنامي كتابة الجسد بين هؤلاء الشبان لأنها المنطقة الوحيدة التي يستطيع هذا الجيل تحقيق إرادته فيها. ومع إنسداد الأفق بدأت القطيعة مع كل مصادرات النزعة الإنسانية التي يعي هذا الجيل، أكثر من غيره من أجيال الرواية العربية منذ محمد حسين هيكل وحتى جيل الستينات، عيوبها وجنوحها إلى إضفاء طابع مثالي وكلي على التجربة، وتغليب الأمل عى اليأس فيها. فأي نزعة إنسانية يمكن تبنيها في عالم تسوده قوانين الغابة وحدها، وتتفشى فيه كل صنوف البلطجة والبذاءات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على السواء.

فثمة ـــ لدى هذا الجيل ــــ إحساس طاغ بأن التجربة الموحدة التي كانت تؤمن بها الجموع قد تناءت إلى منطقة بعيدة عن إدراك الذات الحديثة، وأن ثمة نوع من المرض أو قل الفساد قد تسرب إلى بنية الثقافة ذاتها، وأدى إلى تفشي نوع من الإحساس المؤلم بالذنب دونما جريرة. ولذلك فهو ذنب عبثي إلى حد ما، لأنه لا جريرة للذات فيه ولا مسئولية لها عنه. ويتخلل هذا الإحساس المر بالذنب كل كتابات هذا الجيل الشعرية منها والنثرية، ولكنه أوضح ما يكون في الرواية المصرية الجديدة. حيث الإنسان فيها مجرد (الصفر الحادي والعشرون)(15) يأكل الخوف روحه، وتدفعه مواضعات الواقع خارج الزمن ولا يكاد يعثر لنفسه إن كان محظوظا على (دكة حشبية تسع اثنين بالكاد)(16) ، أو يتخبط في (هراء متاهة قوطية) أملا في الارتفاع (فوق الحياة قليلا)(17) ويتحرك (داخل نقطة هوائية) في (مدينة اللذة)(18) الكابوسية الخاوية. والمرأة في هذا العالم الغريب ليست إلا (قميص وردي فارغ)(19)  في عالم لايعد بأي امتلاء، يريد أن يدفعها من جديد إلى (الخباء)(20) الذي توهمت المرأة قبلها أنها قد تحررت منه. في هذا العالم الجديد لم يعد ممكنا اللجوء إلى بنية نسقية ذات تطور منطقي، ولم يعد الخاص انعكاسا للعام، بل أصبح نوعا من الصدام المستمر معه بعدما استحال التوفيق بينهما. وأصبحت ثمة حاجة إلى نزعة جديدة هي نزعة الرفض التمردية التي يؤكد عبرها الخاص رفضه للعام، أو يعلن عبرها على الأقل عدم إذعانه له، ورفضه للوقوع تحت سلطانه.

فبدلا من البنية القديمة «بداية ــــ وسط ـــــ نهاية» استبعدت البنية الجديدة الوسط من حسابها، مما يؤدي إلى الإخلال بتوازن العالم المقدم وطرح إشكالياته الكيانية في المقدمة. لكن الانشغال بالهاجس الكياني في هذه الأعمال ليس توجها محسوبا، ولكنه أقرب إلى الارتجال العفوي أو الهم الحدسي، منه إلى الشاغل العقلي المبرمج. فمع فقدان الهاجس المعرفي لمركزيته، والمتون الفكرية الكبرى grand narratives لمصداقيتها ومشروعيتها، لم يعد بمقدور الذات الكاتبة الجوء إلي منطق التراتب القيمي والمعنوي والذي تعتمد عليه بنية التسلسل المنطقي السببية لأن الأساس المعرفي الذي ترتكن إليه هذ البنية ذاتها فقد هو الأخر مصداقيته، وما عاد باستطاعة الذات الكاتبة الاستكانة إلى صلابته. ومن هنا أصبح علي الكاتب التعامل مع سرود عديدة متصارعة تستهدف تقديم الواقع أو احتيازه أو تمثيله، فيما يعرف في السرد الحديث بمصطلح competing  representations of reality  التي لايمكن الاعتماد فيها على علاقات التراتب القديمة، وإنما على علاقات التجاور الذي لا يعرف الكاتب قبل راويه منطق وجودها ولا سلطان له عليها، أو لاقدرة له على التحكم فيها. فالذات الكاتبة لم تعد صاحبة الوعي المركزي المضمر المسيطر على النص، كما كان الحال مع المنطلق المعرفي للرواية. لأن فقدان الثقة في النزعة الإنسانية قد عبر عن نفسه فكريا في جل هذه النصوص من خلال الانتقال على الصعيد الفلسفي أو على صعيد المصادرات المنطلقية من الانشغال بالهاجس المعرفي epistemological  إلى التعامل مع الهاجس الكياني ontological ـــــ أو الوجودي بالمعنى الفلسفي المطلق الذي يتعلق بوجود الشيئ وكينونته. وأصبح النص الجديد مشغولا بنوع آخر من الأسئلة الأنطولوجية أو الكيانية المتعلقة بكينونة العالم والإنسان معا: ما هو العالم؟ أي عالم هذا؟ وكيف يتكون هذا العالم؟ ولماذا يتكون بهذا الشكل؟ وهي الأسئلة المزلزلة التي فتحت الباب أمام الثورة، ومهدت لمنطقها المغاير والرافض لكل ما في الواقع الذي اكدت بمنطق النص وبنيته استحالة استمراره.

 

هوامش

(1) راجع بالعربية،  "جماليات الرواية الجديدة: القطيعة المعرفية والنزعة المضادة للغنائية" مجلة ألف: التي تصدر عن الجامعة الأمريكية في القاهرة، عدد 21 عام 2001، ص 184 – 246. وبالإنجليزية Sabry Hafez, “The New Egyptian Novel: Urban Transformation and Narrative Form, The New Left Review, Issue 64 July-August 2010, pp. 47 – 64.
(2) للمزيد من التفاصيل عن هذه الظاهرة راجع Diane Singerman and Paul Amar (eds), Cairo Cosmopolitan: Politics, Culture and Urban Space in the New Globalised Middle East (Cairo, American University in Cairo Press, 2006) and Mona Abaza, The Changing Consumer Cultures of Modern Egypt: Cairo’s Urban Reshaping (Cairo, The American University in Cairo Press,2007).
(3) صدرت عن دار ميريت بالقاهرة عام 2004
(4) مي التلمساني (دنيازاد)، القاهرة، دار شرقيات، 1997
(5) منى برنس، (ثلاث حقائب للسفر)،  القاهرة، مركز الحضارة العربية، 1998
(6) مصطفى الناغي، (دم فاسد)، القاهرة، مطبوعات الجراد، 1998
(7)عادل عصمت، (هاجس موت)،  القاهرة، دار شرقيات، في القاهرة،1995
(8) حسني حسن، (إسم آخر للظل)،  القاهرة، دار شرقيات، في القاهرة، 1995
(9) وائل رجب ،(داخل نقطة هوائية)، القاهرة، دار شرقيات، في القاهرة، 1996
(10) منتصر القفاش، (تصريح بالغياب)، القاهرة، دار شرقيات، 1997، وأن ترى الآن، القاهرة، 2002
(11) إبراهيم فرغلي، (كهف الفراشات)، القاهرة، 1998
(12) محمد حسان (عباد القمر)، القاهرة، دار حور، 1999
(13)  مصطفى ذكري، (هراء متاهة قوطية)، القاهرة، دار شرقيات، 1997
(14) أحمد غريب (صدمة الضوء عند الخروج من النفق)، القاهرة، نوارة للترجمة والنشر، 1996
(15)  هذا هو عنوان رواية محمود حامد الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة، 1997
(16) هذا هو عنوان رواية شحاته العريان الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة، 1998
(17) هذا هو عنوان رواية سيد الوكيل الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة، 1996
(18)هذا هو عنوان رواية عزت القمحاوي الأولى، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة، 1997
(19)هذا هو عنوان الرواية الأولى لنورا أمين، صدرت عن دار شرقيات، في القاهرة، 1997
(20) هذا هو عنوان الرواية الأولى لميرال الطحاوي، صدرت عن دار شرقيات، في القاهرة، 1997